تفسير سورة الكهف(1434) -11- من قوله تعالى:(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..(46))

تفسير سورة الكهف - الدرس الحادي عشر
للاستماع إلى الدرس

درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49))

الحمد لله العظيمِ فضلُه، الوسيعِ طَولُه، وصلى الله وسلَّم على عبده المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأهل محبَّته واقترابه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله وآلهم وأصحابهم، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى ملائكة الله المُقرَّبين وجميع عباده الصالحين، وعلينا معهم وفيهم.

وبعد،،،

ونحن في العمل بأقوى أسباب كسب اليقين:

  • وذلك الإصغاء والإنصات والاستماع إلى كلام الله -جلّ جلاله-؛ بالتَّعظيم والمحبَّة، وبالتذلُّلِ والخُضوع له -جلَّ جلاله-.
  • فإنَّ الإصغاء إلى آيات الله والإنصات والاستماع لها؛ من أقوى الأسباب التي يُكتسب بها اليقين؛ أي: قوة الإيمان و ثباته ورسوخه. 
  • ولم يَنزل من السماء إلى الأرض أشرف مَنَ اليقين.

 فنسأل الله أن يَهَبنا جميعًا حُسن اليقين، وأن يُرزقنا التَّمكين في علم اليقين وعين اليقين، ويُلحقنا بأهل حقّ اليقين، يا أكرم الأكرمين.

ونُصغي إلى الحقّ -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-، وقد ضرب لنا المثل لهذه الدنيا، وضرب لنا الأمثلة في الغايات والنِّهايات لشؤونها وأحوالها، وقال:

  • (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) مِنَ الوُجهات والنّيات والأقوال والأعمال المَرضِيّات التي يُقصد بها وجه الله؛ زينة المؤمن (خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)) .
  • وقد سَمِعنا قول قَتادة -رضي الله عنه- عندما سُئِل: ما هي الباقيات الصَّالحات؟ قال: "ما أُريدَ به وجه الله تعالى". كل ما أَخلَصَ صاحبَهُ في قصده للباقي؛ فهو من الباقيات الصَّالحات.

 (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا): جزاءً ومثوبةً. (وَخَيْرٌ أَمَلًا) خيرُ ما أمَّل العاقل والمؤمن، ما عَقَد له من الأمل على العمل الصالح والباقيات الصالحات، فإنَّ كلٌ يؤمِّل في ما يسعى وفي ما يعمل وفي ما يُرتِّب..

  • ولكن كل تلك الآمال، ما لم يتصل من السَّعي والكسب والعمل بإرادة وجه الله والقبول عند الله؛ فإنَّها آمال قصيرة وناقصة وهابطة ومُنقضية، ولا يتحقَّق الكثير منها..!
  • لكن من نوى نيَّةً صالحةً خالصةً لوجه الله حسنة، أو عمل عملًا صالحًا صحيحًا؛ قُبِل عند الله، أو قال قولًا حسنًا يُريد به وجه الله، فما يؤمَّل على هذه النية وعلى هذا الفعل وهذا القول؛ خيرُ الأمل. 

(وَخَيْرٌ أَمَلًا) هذا أحسن الأمل، هذا الأمل العظيم الباقي المُحَقَّق الدائم، إذًا، كلٌ يؤمِّل: المؤمن والمنافق والكافر والقريب والبعيد؛ ولكن هذا خيرٌ أملًا! (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)).

(وَيَوْمَ تُسَيَّرُ الْجِبَالَ.. (47))؛ أي تذكَّر يا نَبِيَّنا وذكِّر من حولك باليوم العظيم الذي يُقبِلُ عليهم؛ وهو يومٌ في قراءة: (تُسيَّر فيه الجبال)، في قراءة: (نُسيِّر فيه الجبال)، ننقُلها من مكانها؛ سبحان الخلّاق! هذه الأوتاد التي رسَّى بها الأرض، تُقلع وتُدك ببعضها وبالأرض؛ حتى تتفتت فتصيرَ كالعِهن المنفوش، ثم تَضْمَحلُّ فتُنسف نسفًا:

  • (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) [القارعة:5].
  • (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) [طه:105].

(يوم تُسيَّر الجبال..) هذا غاية ما يراهُ الإنسان في هذا العالم من متانة ومن صلابة ومن قوة، إذا هو مُسيَّر، وإذا به مهزوز ومُتساقِط ومُتناثِر ثُمّ ينتهي؛ سبحان الله!

وهي من مظاهر القوة التي أبداها الله في الوجود، وترتَّب عليها أمور؛ فكانت من معاني جند الله -تبارك وتعالى-، ولا يحيط بجند الله إلا هو (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31].

ولكن مِن أَشَدِّها.. وقد جلس قومٌ يتذاكرون عن أَشَدِّ جنود الله التي تبلغها أنظارهم أو أفكارهم: 

  • فقال بعضهم: إنّي أرى أنَّ أشَدَّ الجنود؛ الحديد. 
  • وقال آخر: إنّي أرى أَشَدَّ الجنود؛ الجبال. 

فذَكَروا أشياء.. فمرَّ سيدنا عليٌّ، فحوَّلوا السؤال إليه: ياأمير المؤمنين، ما أشد جنود الله؟ 

  • قال: عشرة.. مباشرة وكأنّها حاضرة في ذهنه! وقد استقرأَ الموجودات من حواليه.
  •  قال: الجبال، والحديد يكسِرُ الجبال؛ يعني فهو أشدّ، والنّار تذيب الحديد؛ أيّ فهي أشد، والماءُ يطفئُ النار -جنود الله- والسَّحاب يَحمِلُ الماء؛ يعني فهو أشد! قال: والرّيح تحمل السَّحاب.
  •  قال: وابن آدم يَسْتَتِر من الرّيح بثوبه أو بشيء فيمضي الى أمره، والنّومُ يغلب ابن آدم، والهمُّ يغلبُ النّوم.. فقط؟! انتهى؟ نعم.

 فلو سُلِّط عليك من جنود الله: هَمِّ..  لَما استطعت أن تنام! الهمُّ يغلب النوم.. (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31] على وجه الإحاطة..

يقول: (وَيَوْمَ تُسَيَّرُ)، تذكَّر هذا اليوم، و ذكِّرهم به، يقول: ابعدوا عن هذه الطَّلبات في التَّفريقات، وبَعِّد هؤلاء الضُعاء، اشتغلوا عن هذه السفاسِف التي تتعلَّق بها نفوسكم بالأمور القبيحة التي أنتم مُقبلون عليها، والأمور العظيمة التي لا بُدَّ لكم منها..

 ما لكم تنصرفون عن العظيم والمُهم؟! وتُحبَسون في هذا: أنا فوق هذا، وأنا بعد هذا، وفرِّغ لي مكان وحدي ومستقل، وطلّع ونزّل؟!

قال: (وَيَوْمَ تُسَيَّرُ الْجِبَالَ) إذًا بعد تسيير الجبال ماذا؟ قال: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ) [الحاقة:14-16] حتى السَّماوات تَتَشقّق؛ سبحان القوي..

إذا سُيِّرت الجبال؛ (تَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً)

  • إذًا فالأرض لا جبل عليها، لا شجرة فوقها، لا شيء يَستُر منها شيئ، بارزة صارت! 
  • ومع هذا البروز، فكثير مما في باطنها؛ مثل أجساد الموتى أو بعض ما فيها من المعادن، يُلقى إلى ظهرها وتُسوَّى؛ فتصير بارزة. 

(وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً..)؛ ظاهرة واضحة بيِّنة، الله..

 (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ): جمعناهم؛ من آدم إلى آخر من يولد، وآخر من يموت من بني آدم، والجنُّ معهم،! من أول من خلقنا،  إلى من تقوم عليهم الساعة..

 قال: (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)) لا يُمكن بين الأعداد الكبيرة هذه؛ أنَّ واحدًا يَفْلِت! لايمكن! وإلَّا واحد يضيع.. ولا يقول واحد: لن يرونا، كما يعملون في عالم الدنيا عندما يتخفون من شيء وسط الجمع، يدخلون ويقولون: لن ينتبه إلينا أحد، أو يمشون هكذا..

  • (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا) [النور:63].
  • يقول الله: هذا الجمع كله؛ (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93-95]. 

ما من واحد يفلت، ما من واحد يغيب! (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا..) لا صغير لا كبير، لا ذكر لا أنثى، لا أبيض لا أسود، لا أحمر لا عربي لا عجمي، (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا..) الله الله الله…

(وَيَوْمَ تُسيَّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا)، (عُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ) هذا عرضٌ أكبر، شأنه شأن في أنّ الجبار الأعلى بنفسه يتولى الحساب ويخاطب كل فرد بما كان منه. "ما منكم من أحد إلا وسيُكلِّمُه ربه ليس بينه وبينه تَرجمان".

 ولا يبقى إلّا المحجوبين! والمحجوبون يُصيبَهم من هول عظمة الجبَّار ما يُدركون به أمره؛

  •  أن يُساقوا أو يُؤخذوا إلى النار -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
  •  ولا يُقام لهم وزنٌ ولا حساب: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)) -كما سيأتي معنا آخر السورة-.

 وإلّا فالمُكلَّفون كُلُّهم عُرضةٌ للوقوف بين يديه، ولمحاسبَتِهِ، ومكالمَتِهِ مباشرة؛ ليس بينه وبينه ترجمان.. هذا الذي خلقك؛ سيوقفك!

(وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا)، قيامًا، كل واحد قائم. فإمّا لأنَّ الله يأمُرُ الملائكة أنْ يصفُّوهم؛ لأجل الحساب.. ففي لحظات يصطفُّ الملايين، الأولون والآخِرون، صفوفًا قيامًا.. فيُجري الحقُّ الحساب معهم، كل واحد يرى الحق يخاطبه وحده! (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [البقرة:202]؛ وما هو إلا وقتٌ يسير وقد خاطب كل واحد، وأُمِرَ بهذا إلى النار وهذا إلى الجنة، وقد نودي على كل واحد منهم:

  •  من أُمِرَ به إلى الجنة نودي عليه: "لَقَدْ سَعِدَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا".
  •  وَمَنْ أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ نودي عليه: "لَقَدْ شَقِيَّ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ شَقَاوَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا".
  •  فكلٌ منهم نودي عليه بعد المقابلة واللقاء؛ إمَّا بالسَّعادة وإمَّا بالشَّقاوة.

 هذا عرض كبير، هذا العرض الأكبر على الله. وإلّا فتسبق ذلك عروضٌ؛ نحن في أيامنا وليالينا لنا في كل يوم وليلة عرضٌ لأعمالنا على بارينا، عرضٌ في الصباح، عرضٌ في المساء.

صَلّينا الصُّبح، فصعدت ملائكة الليل معها ما كان مِنَّا البارحة: هذا راح هنا، وهذا جلس هنا، هذا دخل البيت الفلاني، هذا دخل المحل الفلاني، هذا راح الدكان الفلاني، هذا كلّم فلان بن فلان، وهذا جلس مع فلان بن فلان، وهذا كان في كلامه طِيبة، وهذا كان في كلامه خَبَثٌ، وهذا كان في كلامه ما لا يليق، وهذا كانت له نظرة كذا، وهذا كانت له نية كذا…الله الله الله، عرضٌ مشى الآن..!

يأتي وقت العصر، والملائكة الذين معنا الآن، المُوَكَّلين بالنهار، وبمصاحبتنا في النهار، يكتبون ما نصنع.

  • "وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ ‎* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الإنفطار:10-12].
  • "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ".
  • (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد:11]

 في العصر، سيطلع من هم معنا الآن من ملائكة النهار بما كان مِنّا.. بالنسبة لنا: ما كان في درسنا، وما كان مِنَّا في مجلسنا، وما كان مِنَّا في مصافحتنا وتلاقينا هذا، وما كان مِنَّا وقت الضحى، ومن صلَّى الرَّكعتين، ومن صلَّى أربعًا، ومن لم يصلِّ. كُلُّ العمل؛ يُعرض.

 والذهاب ونومه، ولماذا ذهب لنومه؟ نام بنية أو ما له نية، ينام طبيعي تلقاه عادي؛ مثلما ينام الحيوان! أو نام له نيةٌ في النوم، له أدبٌ في النوم، له بسملةٌ عند النوم: "باسْمِك ربّي وضعتُ جنبي وباسْمك أرْفَعُه"

 وهل ينوي التَّقوي بهذا النوم؛ من شأن أن يقوم وقت الظهر نشيط، ويقرأ القرآن، ويحضُر الصلاة في الجماعة، ويحضُر الدرس بعد الظهر؟ وإلَّا ما له نية من مثل هذا؟ بنيته بحسب ما عنده. وكله يُكتب.. وإلى الظهر وإلى العصر، ويُعرَض عرضٌ ثاني ينحصر..

  • وكل يوم عرضٌ؛ في الصباح وعرضٌ في المساء، بسم الله.
  • وفي الأسبوع عرضان؛ عرضٌ في الإثنين وعرضٌ في الخميس، حصيلة ما كان من الإثنين إلى الخميس ومن الخميس إلى الاثنين.. عرض ثاني! يا الله.
  • وعروضٌ في بعض أيام السنة وبعض الليالي، عرضٌ على الله -سبحانه وتعالى- في مثل: ليلة النصف من شعبان، في مثل:ما يَعقُب ليلة القدر..

 في اليوم التالي تصعد الملائكة الذين نزلوا إلى الأرض بمناسبة ليلة القدر حتى يكونوا في الأرض أكثر عددًا من الشجر والحجر، ويصعدون في اليوم التالي في عرض: كيف وجدتم عبادي؟ يا رب، فلان بن فلان العام الماضي كان كذا، هذا العام كذا كذا. فلان بن فلان العام الماضي كان كذا، هذا العام كذا كذا. هذا كان مُدبِرًا أصبح هذا العام مُقبلًا، وهذا بالعكس. ويكون عرضٌ على الله -تبارك وتعالى-.

  • ثم وفاة وموت لكل واحد!
  •  وعرض في البرزخ.
  •  ثم يأتيهم العرض الأكبر؛ قيامٌ، يُقال: 
    • ليقم فلان ابن فلان للعرض على الله، ليقم فلان ابن فلان للعرض على الله، ليقم فلان ابن فلان. 
    • فتصفهم الملائكة صفًّا. فإما يقومون صفًّا صفًّا صفًّا، أو معنى صفًّا: قيامًا. 
    • كل واحد منهم قائم شَاخِصٌ، لا يدري ما يُقال. 
    • فعنده ذلك العرض والخطاب، لا يدري كيف يتصرف ولا ماذا يقول؛ إلّا أن يُلقِّنه الله حُجَّتَهُ.

أنت تعرف الدَّهشة التي تُصيبك لمَّا تأتي عند أشخاص غرباء عليك أو أعزاء في ذهنك! ولا تعرف كيف تخاطبهم، أو لهم مكانة تعرف أن فيها سطوة وفيها قوة، فترتعش مرتبكًا.

 في مجمع عادي بين الناس تدخل فيهم يأتيك الدَّهش، لا تدري كيف تقول لهم، أين تجلس..! فكيف إذا قالوا لك: تعالَ عند جبَّار السماوات والأرض، خالق كل شيء، رب العرش العظيم؟! يقولون: تعال قابل، كيف تكون المقابلة؟ يا الله!

 ولا أعظم من الله، ولا أكبر من الله، ولا أهيب من الله، ولا أجلَّ من الله. فالسعيد من ثبته الله.. اللهم ارحمنا ساعة العرض عليك، ويوم الوقوف بين يديك.

(وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا ۖ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ…(48))؛ أيّ يُخاطب من يُخاطب منهم، من مثل هؤلاء الذين يُكذِّبون بالرسول ﷺ، وما جاء به عن الله، ولا يَنقادون ولا يخضعون:

  • (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام:94].
  • (لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، (لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
  • (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) -سبحانه- (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [النحل:78].

 (جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فرد واحد، يُحشرون حُفاةً عُراةً غُرْلًا؛ كما خُلقوا! 

  • قالت السيدة عائشة: كيف يحشر الناس يا رسول الله؟ قال: "حُفاةً عُراةً غُرْلًا". قالت: والنساء؟ قال: والنساء. قالت: ينظُر بعضهم إلى بعض؟ قال: "الأمرُ أكبر من أن يُهِمُّهم ذلك يا عائشة"! لهول الموقف، ما أحد ينظر إلى أحد!
  • وأولُ من يُكسى الخليل إبراهيم؛ فمن كسا لله كساهُ الله: "يُحشر الناسُ أعرى ما كانوا، وأجوعُ ما كانوا، وأعطشُ ما كانوا قط. فمن أطعم لله أطعمه الله، ومن سقى لله سقاه الله، ومن كسا لله كساهُ الله". 

يقول: (لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا (48))؟! ما حدَّثناكم عنه من خبر لقائنا والرجوع إلينا؛ كنتم تتشككون فيه وتنكرونه وتكذبونه! (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا).

(وَوُضِعَ الْكِتَابُ) وُضِع الكتاب! وُضِعَ إمَّا في الأيدي، إمَّا باليمين أو بالشمال، من وراء الظهر، أو وضِع، نُصِبَ بين يدي الله -تبارك وتعالى-؛ ليُحاسَب العبد على ما كان في كتابُه.

 (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ) -خائفين وَجِلين-(مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ) -لايترُكُ- (صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً) -مِن أعمالنا وأقوالنا وأحوالنا- (إِلَّا أَحْصَاهَا)!

كان يُمثِّل سيدنا -عبد الله بن عباس- يقول: لا يُغادر صغيرة مثل الابتسامة، فيقال: فيم ابتسمت في يومك هذا؟ لماذا ابتسمت؟ عن أيّ دافع؟ عن أيّ نيّة؟ ابتسامة كانت في مكانها أم لا؟ مثل الابتسامة، ولا كبيرة مثل القهقهة، الضحك بصوت عالٍ، مثل هذه.

 (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49))؛ ما يُجَرَّمُ أحد بذنب لم يعمله، لا يمكن.. ولا يُطرَح ذنب أحد فوق آخر..

 (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ) ولا يُنقَص شيء من الحسنات التي عملها!

  • (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40].
  •  في الحديث: "إياكم ومحقَّرات الذنوب، لا تستصغروا الذنوب الصغيرة، فإنّها -يقول ﷺ- كوصولكم إلى أرض قَفْرٍ، فتريدون أن تُنضجوا طعامكم، ليس عندكم حطب، فيأتي بهذا العود وهذا العود، فلا تلبثوا ان تُنضجوا طعامَكُم"! فكذلك الذنوب، تجد ذنبًا هنا وذنبًا هنا، فتسبب لك حريقًا.
  • بل جاء في رواية: أنه بعد رجوعه من غزوة حُنين، مرُّوا بأرض قَفْرٍ، فكان معه جماعة من الصحابة، قال: "اجمعوا ما هنا من الأعواد. الأرض قَفْرٌ ما فيها شيء يُرى". قالوا: مايجمعنا من الأعواد، وما هنا إلّا الحجر. قاموا بسرعة، قال: "فما لبثنا إلا وهو كَوْمٌ أمامنا. قال: إنما أضرب لكم مثلًا.. هذا شأن الذنوب ومحقّراتها تتراكم على العبد عندما يستسهل ويستصغر ذنبًا بعد ذنب بعد ذنب، فضربها لكم، فتجتمع عليه حتى تكبر عليه وتهلكه! إياكم ومحقّرات الذنوب". الله! 

(وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)! -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

هذا خبرٌ عن المصير الذي إليه نصير، ونسأل الله أن يجعلنا في ذلك اليوم ممّن يُنجيهم، وممّن يعفو عنهم ويُسامحهم، وممّن يُكرمهم ويُعاملهم بفضله..

 اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

17 رَمضان 1434

تاريخ النشر الميلادي

25 يوليو 2013

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام