(535)
(363)
(339)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49))
الحمد لله العظيمِ فضلُه، الوسيعِ طَولُه، وصلى الله وسلَّم على عبده المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأهل محبَّته واقترابه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله وآلهم وأصحابهم، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى ملائكة الله المُقرَّبين وجميع عباده الصالحين، وعلينا معهم وفيهم.
وبعد،،،
ونحن في العمل بأقوى أسباب كسب اليقين:
فنسأل الله أن يَهَبنا جميعًا حُسن اليقين، وأن يُرزقنا التَّمكين في علم اليقين وعين اليقين، ويُلحقنا بأهل حقّ اليقين، يا أكرم الأكرمين.
ونُصغي إلى الحقّ -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-، وقد ضرب لنا المثل لهذه الدنيا، وضرب لنا الأمثلة في الغايات والنِّهايات لشؤونها وأحوالها، وقال:
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا): جزاءً ومثوبةً. (وَخَيْرٌ أَمَلًا) خيرُ ما أمَّل العاقل والمؤمن، ما عَقَد له من الأمل على العمل الصالح والباقيات الصالحات، فإنَّ كلٌ يؤمِّل في ما يسعى وفي ما يعمل وفي ما يُرتِّب..
(وَخَيْرٌ أَمَلًا) هذا أحسن الأمل، هذا الأمل العظيم الباقي المُحَقَّق الدائم، إذًا، كلٌ يؤمِّل: المؤمن والمنافق والكافر والقريب والبعيد؛ ولكن هذا خيرٌ أملًا! (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)).
(وَيَوْمَ تُسَيَّرُ الْجِبَالَ.. (47))؛ أي تذكَّر يا نَبِيَّنا وذكِّر من حولك باليوم العظيم الذي يُقبِلُ عليهم؛ وهو يومٌ في قراءة: (تُسيَّر فيه الجبال)، في قراءة: (نُسيِّر فيه الجبال)، ننقُلها من مكانها؛ سبحان الخلّاق! هذه الأوتاد التي رسَّى بها الأرض، تُقلع وتُدك ببعضها وبالأرض؛ حتى تتفتت فتصيرَ كالعِهن المنفوش، ثم تَضْمَحلُّ فتُنسف نسفًا:
(يوم تُسيَّر الجبال..) هذا غاية ما يراهُ الإنسان في هذا العالم من متانة ومن صلابة ومن قوة، إذا هو مُسيَّر، وإذا به مهزوز ومُتساقِط ومُتناثِر ثُمّ ينتهي؛ سبحان الله!
وهي من مظاهر القوة التي أبداها الله في الوجود، وترتَّب عليها أمور؛ فكانت من معاني جند الله -تبارك وتعالى-، ولا يحيط بجند الله إلا هو (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31].
ولكن مِن أَشَدِّها.. وقد جلس قومٌ يتذاكرون عن أَشَدِّ جنود الله التي تبلغها أنظارهم أو أفكارهم:
فذَكَروا أشياء.. فمرَّ سيدنا عليٌّ، فحوَّلوا السؤال إليه: ياأمير المؤمنين، ما أشد جنود الله؟
فلو سُلِّط عليك من جنود الله: هَمِّ.. لَما استطعت أن تنام! الهمُّ يغلب النوم.. (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31] على وجه الإحاطة..
يقول: (وَيَوْمَ تُسَيَّرُ)، تذكَّر هذا اليوم، و ذكِّرهم به، يقول: ابعدوا عن هذه الطَّلبات في التَّفريقات، وبَعِّد هؤلاء الضُعاء، اشتغلوا عن هذه السفاسِف التي تتعلَّق بها نفوسكم بالأمور القبيحة التي أنتم مُقبلون عليها، والأمور العظيمة التي لا بُدَّ لكم منها..
ما لكم تنصرفون عن العظيم والمُهم؟! وتُحبَسون في هذا: أنا فوق هذا، وأنا بعد هذا، وفرِّغ لي مكان وحدي ومستقل، وطلّع ونزّل؟!
قال: (وَيَوْمَ تُسَيَّرُ الْجِبَالَ) إذًا بعد تسيير الجبال ماذا؟ قال: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ) [الحاقة:14-16] حتى السَّماوات تَتَشقّق؛ سبحان القوي..
إذا سُيِّرت الجبال؛ (تَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً):
(وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً..)؛ ظاهرة واضحة بيِّنة، الله..
(وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ): جمعناهم؛ من آدم إلى آخر من يولد، وآخر من يموت من بني آدم، والجنُّ معهم،! من أول من خلقنا، إلى من تقوم عليهم الساعة..
قال: (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)) لا يُمكن بين الأعداد الكبيرة هذه؛ أنَّ واحدًا يَفْلِت! لايمكن! وإلَّا واحد يضيع.. ولا يقول واحد: لن يرونا، كما يعملون في عالم الدنيا عندما يتخفون من شيء وسط الجمع، يدخلون ويقولون: لن ينتبه إلينا أحد، أو يمشون هكذا..
ما من واحد يفلت، ما من واحد يغيب! (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا..) لا صغير لا كبير، لا ذكر لا أنثى، لا أبيض لا أسود، لا أحمر لا عربي لا عجمي، (فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا..) الله الله الله…
(وَيَوْمَ تُسيَّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا)، (عُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ) هذا عرضٌ أكبر، شأنه شأن في أنّ الجبار الأعلى بنفسه يتولى الحساب ويخاطب كل فرد بما كان منه. "ما منكم من أحد إلا وسيُكلِّمُه ربه ليس بينه وبينه تَرجمان".
ولا يبقى إلّا المحجوبين! والمحجوبون يُصيبَهم من هول عظمة الجبَّار ما يُدركون به أمره؛
وإلّا فالمُكلَّفون كُلُّهم عُرضةٌ للوقوف بين يديه، ولمحاسبَتِهِ، ومكالمَتِهِ مباشرة؛ ليس بينه وبينه ترجمان.. هذا الذي خلقك؛ سيوقفك!
(وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا)، قيامًا، كل واحد قائم. فإمّا لأنَّ الله يأمُرُ الملائكة أنْ يصفُّوهم؛ لأجل الحساب.. ففي لحظات يصطفُّ الملايين، الأولون والآخِرون، صفوفًا قيامًا.. فيُجري الحقُّ الحساب معهم، كل واحد يرى الحق يخاطبه وحده! (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [البقرة:202]؛ وما هو إلا وقتٌ يسير وقد خاطب كل واحد، وأُمِرَ بهذا إلى النار وهذا إلى الجنة، وقد نودي على كل واحد منهم:
هذا عرض كبير، هذا العرض الأكبر على الله. وإلّا فتسبق ذلك عروضٌ؛ نحن في أيامنا وليالينا لنا في كل يوم وليلة عرضٌ لأعمالنا على بارينا، عرضٌ في الصباح، عرضٌ في المساء.
صَلّينا الصُّبح، فصعدت ملائكة الليل معها ما كان مِنَّا البارحة: هذا راح هنا، وهذا جلس هنا، هذا دخل البيت الفلاني، هذا دخل المحل الفلاني، هذا راح الدكان الفلاني، هذا كلّم فلان بن فلان، وهذا جلس مع فلان بن فلان، وهذا كان في كلامه طِيبة، وهذا كان في كلامه خَبَثٌ، وهذا كان في كلامه ما لا يليق، وهذا كانت له نظرة كذا، وهذا كانت له نية كذا…الله الله الله، عرضٌ مشى الآن..!
يأتي وقت العصر، والملائكة الذين معنا الآن، المُوَكَّلين بالنهار، وبمصاحبتنا في النهار، يكتبون ما نصنع.
في العصر، سيطلع من هم معنا الآن من ملائكة النهار بما كان مِنّا.. بالنسبة لنا: ما كان في درسنا، وما كان مِنَّا في مجلسنا، وما كان مِنَّا في مصافحتنا وتلاقينا هذا، وما كان مِنَّا وقت الضحى، ومن صلَّى الرَّكعتين، ومن صلَّى أربعًا، ومن لم يصلِّ. كُلُّ العمل؛ يُعرض.
والذهاب ونومه، ولماذا ذهب لنومه؟ نام بنية أو ما له نية، ينام طبيعي تلقاه عادي؛ مثلما ينام الحيوان! أو نام له نيةٌ في النوم، له أدبٌ في النوم، له بسملةٌ عند النوم: "باسْمِك ربّي وضعتُ جنبي وباسْمك أرْفَعُه"
وهل ينوي التَّقوي بهذا النوم؛ من شأن أن يقوم وقت الظهر نشيط، ويقرأ القرآن، ويحضُر الصلاة في الجماعة، ويحضُر الدرس بعد الظهر؟ وإلَّا ما له نية من مثل هذا؟ بنيته بحسب ما عنده. وكله يُكتب.. وإلى الظهر وإلى العصر، ويُعرَض عرضٌ ثاني ينحصر..
في اليوم التالي تصعد الملائكة الذين نزلوا إلى الأرض بمناسبة ليلة القدر حتى يكونوا في الأرض أكثر عددًا من الشجر والحجر، ويصعدون في اليوم التالي في عرض: كيف وجدتم عبادي؟ يا رب، فلان بن فلان العام الماضي كان كذا، هذا العام كذا كذا. فلان بن فلان العام الماضي كان كذا، هذا العام كذا كذا. هذا كان مُدبِرًا أصبح هذا العام مُقبلًا، وهذا بالعكس. ويكون عرضٌ على الله -تبارك وتعالى-.
أنت تعرف الدَّهشة التي تُصيبك لمَّا تأتي عند أشخاص غرباء عليك أو أعزاء في ذهنك! ولا تعرف كيف تخاطبهم، أو لهم مكانة تعرف أن فيها سطوة وفيها قوة، فترتعش مرتبكًا.
في مجمع عادي بين الناس تدخل فيهم يأتيك الدَّهش، لا تدري كيف تقول لهم، أين تجلس..! فكيف إذا قالوا لك: تعالَ عند جبَّار السماوات والأرض، خالق كل شيء، رب العرش العظيم؟! يقولون: تعال قابل، كيف تكون المقابلة؟ يا الله!
ولا أعظم من الله، ولا أكبر من الله، ولا أهيب من الله، ولا أجلَّ من الله. فالسعيد من ثبته الله.. اللهم ارحمنا ساعة العرض عليك، ويوم الوقوف بين يديك.
(وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا ۖ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ…(48))؛ أيّ يُخاطب من يُخاطب منهم، من مثل هؤلاء الذين يُكذِّبون بالرسول ﷺ، وما جاء به عن الله، ولا يَنقادون ولا يخضعون:
(جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فرد واحد، يُحشرون حُفاةً عُراةً غُرْلًا؛ كما خُلقوا!
يقول: (لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا (48))؟! ما حدَّثناكم عنه من خبر لقائنا والرجوع إلينا؛ كنتم تتشككون فيه وتنكرونه وتكذبونه! (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا).
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ) وُضِع الكتاب! وُضِعَ إمَّا في الأيدي، إمَّا باليمين أو بالشمال، من وراء الظهر، أو وضِع، نُصِبَ بين يدي الله -تبارك وتعالى-؛ ليُحاسَب العبد على ما كان في كتابُه.
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ) -خائفين وَجِلين-(مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ) -لايترُكُ- (صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً) -مِن أعمالنا وأقوالنا وأحوالنا- (إِلَّا أَحْصَاهَا)!
كان يُمثِّل سيدنا -عبد الله بن عباس- يقول: لا يُغادر صغيرة مثل الابتسامة، فيقال: فيم ابتسمت في يومك هذا؟ لماذا ابتسمت؟ عن أيّ دافع؟ عن أيّ نيّة؟ ابتسامة كانت في مكانها أم لا؟ مثل الابتسامة، ولا كبيرة مثل القهقهة، الضحك بصوت عالٍ، مثل هذه.
(لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49))؛ ما يُجَرَّمُ أحد بذنب لم يعمله، لا يمكن.. ولا يُطرَح ذنب أحد فوق آخر..
(وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ) ولا يُنقَص شيء من الحسنات التي عملها!
(وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)! -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
هذا خبرٌ عن المصير الذي إليه نصير، ونسأل الله أن يجعلنا في ذلك اليوم ممّن يُنجيهم، وممّن يعفو عنهم ويُسامحهم، وممّن يُكرمهم ويُعاملهم بفضله..
اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
17 رَمضان 1434