(535)
(363)
(339)
درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.
﷽
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45)الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46))
الحمد لله، وثاني جُمعةٍ من الشهر الكريم تأتينا، بارك الله لنا ولكم فيها وللأمة أجمعين، وثُلُثٌ من الشهر يَنقَضي علينا، فقد ذَهَبَ أوله وما معنا إلا أوسطه وأواخره، فعسى حُسن اغتنامها، وبعد مضي الثلث الأول ينبغي أن يتجدد عندنا الإقبال على الله عز وجل، مستشعرين أن قد فَقدنا غنائم كبيرة وخيراتٍ وفيرة، فنطلب العِوَضَ فيما فاتنا في العشر الأولى أن نتداركه في العشر الثانية، وسط الشهر الكريم، في "شَهْر أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ"، اللهم اجعلنا من خواص أهل رمضان، من أَسعَدِ أمة نبيك محمد بشهر رمضان، لياليه وأيامه وما فيه من جودك وإكرامك وإنعامك على محبوبيك من عبادك يا أرحم الراحمين.
وفيما نغتنم أيضاً من تدبر كلام ربنا -جلّ جلاله- الذي كان بداية إنزاله في مثل هذا الشهر الكريم، مررنا على آياتٍ وفيها:
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) ما قال دخل جنتيه، جنته فقط!؛ لأنه لا يمكن إلا أن يكون في واحدة، إذا دخل يدخل على واحدة لايمكن أن يدخل على الاثنتين معًا، لا يمكن أن يَنقَسِم يكون هنا وهناك، يدخل في هذه ثم يدخل إلى الثانية.
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35)):
وهذه إيحاءات الغرور إلى عقليات البشر، كل من استند منهم إلى مُلكِنا أو إلى سُلطتنا أو إلى مالنا توهم: (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا) انظر مِثلها مئات، لا.. ألوف، لا.. ملايين قد أُبيدت، وأنتَ تظن أن جنّتك لن تبيد ؟!
كانوا يُقولوا: لو دامت لِغَيرَك ما وَصَلَت إليك، وفي بعض الآثار أن الله تعالى -للاعتبار والإدِّكار- أَنطَقَ أرضاً كان يتنازع عليها بعض الناس ويشتد نزاعهم فوق الأرض، يخرجون ويقولون: مُلكي! وهذا يقول: مُلكي! فأنطق الله الأرض، قالت: لا تكثروا النزاع عليّ، فقد مَلَكَني قَبلكم خلق كثير ممن اسمه أحمد فقط سبعون واحداً، وغير الأسماء الأخرى، سبعون ممن اسمهم أحمد فقط قد مَلَكوني، ماتوا كلهم! تتنازعون فوقي!! وسيكون مصيركم وسطي! سبحان الله الدائم، والمُلك الكبير في الجنة، اللهم اجعلنا من أهل جنتك.
وذَكَر لنا سبحانه: نوع المُحاورة ما بين الرجل المؤمن والآخر، وفيه أن أمثال ذلك هو الذي يَدور بين المُوَفَقين المَخذولين، بين المؤمنين والكافرين، بين الذين أُكرِموا بإدراك الحقيقة وخَرَجوا من الانحصار في هذه المظاهر والاغترار بها، وبين من يغتر بها.
(فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42))، لَيتَني سَلَكتُ طريق الصاحب ذاك الثاني، كان أعقل مني، وهذا هو المُؤَدى الذي يقول به في مَنطِقِهِم، عامة المجتمعين في القيامة: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10] ما آلهتنا الحياة التي سرعان ما مَرَت بنا.
ويُذكَرُ أن سيدنا نوح -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-، هو أطول الأنبياء أعماراً، سأله جبريل: كيف رأيت الدنيا يانبي الله نوح؟ قال: "كدار لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر"، مثل دار لها بابان، دخلت من باب وخرجت من الآخر، مُدَة إنذاره لقومه فقط ودعوته لهم تسعمائة وخمسين سنة، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) [العنكبوت:14] تسعمائة وخمسين سنة هذا مدة البلاغ، قبلها كم عاش؟ وبعدها هَلَكوا وروحوا، وعاش على الأرض، فهو عُمِّر نحو الألف ومائتي سنة، وبعدين، ألف ومائتي سنة.
قال: "كدار لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر" وأعمارنا كم نسبتها من نسبة لهذه الألف والمائتين سنة؟ لا أحد منا يُعَمَر نصفها ولا رُبعها ولا خُمسها ولا عُشرها. فعسى البركة في الأعمار هذه القصيرة لتنتج إن شاء الله نتائج مباركة.
من أَجله الذي من أمة محمد، يقال له: هيا أدخل أولاً أنت، هم محبوسين إلى أن تدخل الأمة، "وإن الجنة حرامٌ على الأنبياء حتى أدخلها أنا، وحرامٌ على الأمم حتى تدخلها أمتي"، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فهذا هو عمرك القصير الذي لايساوي شيء، سيأتي في القيامة قوم؛ منهم من عبد الله أربعمائة سنة، منهم من عبد الله خمسمائة سنة، منهم من عبد الله ثمانمائة سنة، منهم من عبد الله تسعمائة سنة، وصام في تسعمائة سنة، ويقول: أخّروهم، من أجل محمد وأُمَتُه وكرامة أمته في القيامة، دعوا هؤلاء أولا يدخلون، أصحاب العمل القليل، دعوهم يدخلون أولا ثم الآخرين؛ إكرامًا من الله لحبيبه ومصطفاه، ولقد قال لنا: "أنا حظُّكم مِن الأنبياءِ وأنتم حظِّي مِن الأُمَمِ"، "أنتم حظي من الأمم، وأنا حظكم من الأنبياء"؛ فَنِعم الحظ حظنا.
ذَكَر لنا الحق سبحانه وتعالى هذه الحقائق، يقول: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا) أحسن جزاءً من أي شيء آخر، بتتعامل مع أي أحد، مع أي شيء، ما أحد بيُحسن لك الجزاء مثل الرب إذا تعاملت معه، (وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)) أحسن عاقبة ومصير ومآل.
(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..(45)) يقول الله لنبيه:
قد قال قبله سيدنا نوح نفس الشيء، كلموه الجماعة المشركين، قالوا: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ)، وفي قرآءة: (فعُمَّتْ)، (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۚ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) [هود:27-29]، (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ) [هود:31]، (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء:114]، (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّي ۖ لَوْ تَشْعُرُونَ) [الشعراء:113]، ما لكم حق أنتم في هذا العالم، أنتم مخلوقين مثل المخلوقين، تريدون تَلغوا غيركم، تُنزِلوا نظيركم في الخَلق منزلة دون منزلتكم لماذا؟! بأي حق؟ هذا طغيان الإنسان، هذا تعالي الإنسان على أخيه الإنسان، هذا تَنكُّر لوحدة الخالق.
سيدنا عمر بن الخطاب يقول لعمرو بن العاص لما وَلّاه في مصر ويأمره بالعدل بين الرعية، ويقول: واعلم أن الناس أحد اثنين:
أخوك في الدين يعني مسلم، واحد مثلك أخوك في الدين، ونظيرك في الخَلق، مثل الأقباط هؤلاء الذين كانوا هناك في مصر، قال: مَخلوق مثلك، آدمي، فأقم أمر الله فوق الكل، ويقول له: واعلم أني وَلَيتُكَ عليهم وأنا فوقك، والله فوق الجميع، انتبه، احسب حسابك، لا تغتنم فرصة عندك ولاية في مكان تروح تلعب فيها وتعبث فيها وتُقَدِم أغراضك أو مصالحك وهكذا؛ هذا هو العدل.
تعجب منه اليهود مع تناقضاتهم، أرسل النبي إليهم أول سنة سيدنا عبد الله بن رواحة لكي يَخرُص الثمر- يُقَدِّر كم يخرج النخيل الذي استعملهم النبي عليه-، بعد كل الخيانات والأذايا التي عملوها، قالوا: أين نذهب؟ اتركتنا هنا، قال: تقيمون في الأرض، ثم يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "نُقِرُكُم ما شاء الله، فإذا أردنا أن تخرجوا تخرجون"، يعني إذا استقامت أموركم في سلوككم، أما مادام رجعتم إلى الأسلوب الأول بالأذى نُبعدكم من هذا المكان؛ وهذا ضمان العيش لكم، هذه الثمر قوموا بها، والثمر نصف بيننا وبينكم، خذوا لكم نصفاً وسلموا النصف.
أرسل إليهم عبد الله بن رواحة يقيس كم يَخرُج الثمر حتى يُضمنهم النصف، فكان يقيس قياس دقيق، و النبي ما اختاره يقيس إلا وهو يعرف أنه صاحب خبرة، فأرادوا أن تلاعبوا كعادتهم في شأن المال، عملوا ترغيب وترهيب، عملوا اغراء لعبد الله بن رواحة، وعملوا أيضاً له تهديد من هناك بعثوا للنبي محمد، قالوا: هذا صاحبك يُبالِغ ويُقَدِر ثمر زائد على الذي نُحَصِله، النبي يعرفه ويعرف أمانته، وكلموه، جاء إلى عندهم وعرضوا عليه مال مقابل أن ينقص التقدير، يعني يقصّر في التقدير؛ من أجل أن يكون الذي يضمنونه من الثمرة أقل، الذي يسلمونه للرسول ويأخذوا الأكثر. قال: ها!! "أتغروني بالمال لأخوَنَ الله ورسوله؟! والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليّ، وإنكم لأبغض إليّ من عِدَّتِكم قِرَدَة، -قال: أنتم أبغض إليّ من عِدَّتِكم قردة-، والله ما يحملني حبي إياه وبُغضي إياكم على أن أزيد حبة ولا أن أنقص حبة"،
جئتكم من عند أحب الناس إليّ، وأنتم أبغض إليّ من عِدَّتِكم قردة، ولكن والله ما يحملني حبي إياه وبغضي إياكم على أن أَزيد حبة ولا أن أنقص حبة، قال بعض علمائهم هناك -سمعوه يتكلم هذا الكلام ويقف هذا الموقف-: بهذا العدل قامت السماوات والأرض. هذا جاء من عند رجل عادل، من عند رجل مُرَبي، من عند عدل حق، قال له: أنا حتى مهما كنت أبغضكم لأفعالكم وأعمالكم وكفركم، لكن ما أَحيفُ، ما أَحيفُ، ولا أخرج عن العدل أبداً، ولا أظلمكم في تمرة واحدة، -لا يحملني حبي إياه وبغضي إياكم على أن أزيد حبة أو أنقص حبة- آخذ الحق -رضي الله عنه-، هذه تربية محمد، وهذه مدرسته صلى الله وسلم عليه وعلى آله، ما أحوج العالَم إليها! العالَم محتاج إليها، بكل أصنافه وأشكاله.
يقول: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) كَلِّم أصحابك هؤلاء الذين يقولون لك: أبعِد الفقراء، اجعل لنا مكان مستقل، اجعل لنا يوم مستقل، اجعل لنا وقت مستقل، قال: أنا جئت من عند رب الكل إلى الكل، تريدونني أن أحَقِّر واحد أو أرفع واحد؟! هذا غير مقبول، مرفوض في مبادئ الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-.
يقول: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أعطهم مثل آخر لا يغترون به؛ من مال ومن جاه ومن مظهر في الدنيا (كَمَاءٍ) -أي هي مثل ماءٍ- (أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ) -أي بواسطته- (نَبَاتُ الْأَرْضِ) تشابَك وقوي وظَهَر بالمظهر الطيب بواسطة هذا الماء الذي نَزَل، فَتَماسَك وطَلَّع؛ فصار منظر جميل وبنضارة وبهاء، شيء يُعجِب: (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ..(45)) الله! وما لبث أن يَبِس و صار:
قال في الآية الأخرى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس:24] الله! الله! الله! الله! وكم رأينا أمثلة ذلك في حياتنا!، ورأينا الذين اغتروا بأي شيء كان.
قال:
وعَبَدوا الناس حتى أصبحوا ذُلُلاً *** لأمرهـم بين مَغـلوبٍ ومُمْتَهَـــنِ
وجَمَعوا المال واستصفوا نفائسه *** لمتعة النفس في مستقبل الزمنِ
رقـوا منابرها قــادوا عساكرهــا *** سَلُّوا صوارمها للبغي والضَّغَنِ
وعملوا ماعملوا ..
حتى إذا امتلأوا بِشْراً بما ظفروا *** ومُكِّـنـوا من عُـلاها أبلـغَ المِكَـنِ
ناداهـــم هــادمُ الـلـذات فاقـتحمــوا *** سُبُلَ الممات فأضحوا عِبرةَ الفَطِنِ
فأضحوا عِبرةَ الفَطِنِ!
تلك القبور وقد صاروا بها رِمماً *** بعد الضخامة في الأجسام والسِّمَنِ
بعد التَشهِّي وأكلِ الطيبات غَدا *** يأكلهـم الدود تحت التربِ واللَّبِنِ
تغيرت منهم الألوان وانمحقت *** محاسن الوجه والعينين والوَجَـنِ
وعافهم كل من قد كان يألفهم *** من الأقـارب والأهـلين والخَـدَنِ
خَلَت مساكهـم عنهـم و أسلمهـم *** من كان ينصرهم في السر والعلنِ
الله، الله
هذه الغاية، الحَقيقة أمام أعيننا نشاهدها وكأنها ليست موجودة، حتى كان سيدنا علي يقول: "ما رأيت يقين أشبه بالشك من الموت"، الكُل يتيقن أنه يموت، وأكثرهم كأنه شاك، كأنه لن يموت، لا يستعد ولا يتهيأ للموت ولا يعد عدته له، وهو يقين عنده، يعرف أنه لا يمكن أن يبقى، هو متيقن، ولكن كأنه شَك، "ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من الموت"، كلهم يستيقنونه، والذين يستعدون له قليل، والذين يتهيأون له قليل، والذين يعملون له قليل، سبحان الله!
(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45)) فالذَّرة من أعمال البر التي يقبلها الله وتبقى لك إلى الدوام والأبد، لا يساويها كل مظاهر هذا العالم وما يجري فيه.
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..(46)) جعلناها زينة للحياة الدنيا؛ المال والبنون:
(قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر:15].
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) بهذا نعرف أيضًا أن:
نفهم من هذا قوله لما كان ﷺ يَخطب، وأقبل سيدنا الحسن وهو طفل وعنده قميص يتعثر فيه، فخرج من المنبر وحمله وارتفع وهو يقول: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال:28] يعني هذا مظهر نجاح في الاختبار، يعني أُختُبِرَ بالأولاد الذين هم أولاد ابنته ﷺ، فأدى حق الله فيهم في تربيتهم وإعطائهم ما استحقوا من الرحمة، وأعطائهم ما استحقوا من العطف والحنان، ومنه خروجه من المنبر حتى يحمل الولد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وفي يومٍ و كان عنده تمرة من تمر الصدقات، وهو طفل صغير، سيدنا الحسن في أول طفولته -يَحبي-، جاء وأخذ تمرة يحطها في فمه، فجاء ﷺ مباشرة يقول له: كخ كخ كخ، وأدخل أصبعه وأخرج التمرة من فم الصبي، وقال: كخ كخ! إنها أوساخ الناس، إنها لا تَحِل لمحمد ولا لآل محمد. طفل صغير، ما يعرف، مع محبته وحنانه عليه، ما رضي أن تدخل التمرة وسط جوفه أبدًا، هو ناجح في الاختبار ﷺ، وأدى الحق تماماً للأهل وللأولاد. وقام بالأمر كما ينبغي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فقوله: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال:28] وهو يَحمِل الحسن؛ إشارة إلى المَسلك القويم الذي يتعامل به الوالد مع الأولاد، كيف ينبغي أن يكون.
يقول: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..(46))؛ ولهذا يقول عن أصناف الكفار: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ)، كرر الحق ذلك ويقول: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [التوبة:55]:
يقول الله:
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) ما هي الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ؟ كل ما يبقى ويدوم، حتى يقول بعض العارفين، الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، يقول سيدنا قَتادة: كل ما قُصد به وجه الله، كل ماقصدت به وجه الباقي فهو من الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ. لها مظاهر كثيرة، الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ:
وفي رواية الإمام أحمد وغيره عن النبي ﷺ قال: "ألا وإن سبحانَ اللهِ، و الحمدُ للهِ، ولَا إلهَ إلَّا اللهِ، واللهُ أكبرُ؛ لَمِنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ".
وجاءت أحاديث، يقول بعض الصحابة: أسلمتُ فعلمني رسول الله ﷺ:
وقال: "هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ"، المراد بالْبَاقِيَات الصَّالِحَات؛
"لأن أقول: سبحانَ اللهِ، و الحمدُ للهِ، ولَا إلهَ إلَّا اللهِ، واللهُ أكبرُ، أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس"، تطلع الشمس على أين؟ كل الذي -في بالك ممتاز- تطلع عليه الشمس، ما الذي في بالك ممتاز؟ الملوك تطلع عليهم الشمس، البترول تطلع عليه الشمس، الذهب تطلع عليه الشمس؛ "أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس: سبحانَ اللهِ، و الحمدُ للهِ، ولَا إلهَ إلَّا اللهِ، واللهُ أكبرُ" باقيةٌ.
ويُذكر أن سيدنا النبي سليمان في مُلكِه كان مارًا على الهواء ومعه جنده؛ طير و إنس وجن. و، واحدٌ مزارعٌ رأى سيدنا سليمان في الهواء يَمشي، قال: سبحان الله! لقد أُوتِيَ ابنُ داؤود ملكاً عظيماً! ونَقَلت الريح صوته إلى أُذُن سيدنا سليمان، قال: قِفي، وجاء إلي عنده، يسَلم عليه، يقول: ماذا قلت لما رأيتني مقبلاً بهذا المُلك؟ قال: يا نبي الله، ما قلتُ شيئاً، قلتُ: سبحان الله! لقد أُوتِيَ ابنُ داؤود مُلكاً عظيماً!. قال: والله إن قولك سبحان الله هذه خير مما أُوتِيَ ابنُ داؤود ومثله معه؛ لأنه قال: انظر، هذا المُلك الذي رأيته سيذهب، هذه الكلمة هي التي ستُحفَظُ لك، وصَدَق. راح مُلك سيدنا سليمان، لكن هذه الكلمة محفوظة لصاحبها، هو يتنعم بها من ذاك الوقت إلى الآن في البرزخ، وما زال جزاؤها في القيامة مُقبِل.
وغراس الجنة:
وفي الحديث أن سيدنا النبي إبراهيم في ليلة الإسراء والمعراج، وهو راجع، قال لسيدنا محمد: "أقرِئ أمتك مني السلام"، فسيدنا إبراهيم يُسَلِّم على الأمة المحمدية، "أقرئ أمَّتَكَ منِّي السَّلامَ وأخبِرْهُم أنَّ الجنَّةَ طيِّبةُ التُّربةِ، عذبةُ الماءِ، وأنَّها قيعانٌ، وأنَّ غِراسَها: سبحانَ اللهِ، و الحمدُ للهِ، ولَا إلهَ إلَّا اللهِ، واللهُ أكبرُ"، يعني لِقائلها بكل مرة غَرسه في الجنة، وحده من شجر الجنة يُعطونه إيّها ، "سبحانَ اللهِ، و الحمدُ للهِ، ولَا إلهَ إلَّا اللهِ، واللهُ أكبرُ"، الله أكبر!.
الحمد لله على هذا الفضل! واغرسٌ لك الذي تريده من الشجر، وهذه الشجر عجيب، تقولها هكذا، ويَقبلها الله منك، لا تحتاج منك سقياً ولا حراسة، ولا أحد يأخذها عليك، ثاني يوم، ولا ينقص منها شيء، وتبقى مستمرة دائمة، إذا وصلت إليها تأكل منها إلى الأبد، تعرف إلى الأبد؟ إلى الأبد، كلما أخذت ثمرة نبتت مكانها أحسن منها، وهكذا بلا انقطاع، الحمد لله على هذا الفضل، "إنما خَلَقَ العِبادَ ليربحوا عليه، لا ليربح عليهم" جل جلاله.
اللهم بارك لنا في إقبالنا عليك ووجهتنا إليك، وارزقنا حسن الأدب معك، وبارك لنا في يوم الجمعة، وفي ساعة الإجابة في يوم الجمعة، اجعلنا من أسعد الناس بهذا اليوم ياربنا، وهب لنا المزيد من فضلك، يا ربي مضت لنا الأيام العشر من رمضان، فبارك لنا فيما بقي من لياليه وما بقي من أيامه، واجعلنا عندك من خواص أهليه، أن نرقى في كل يوم فنكون خيراً من اليوم الذي قبله، حتى نسعد بأعظم السعادة ونحوز الحسنى وزيادة، واكتبنا في ديوان المحبوبين من عبادك المقربين المقبولين، وأنت راضٍ عنا يا أكرم الأكرمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ
الفاتحة
17 رَمضان 1434