تفسير سورة الكهف(1434) -1- مقدمة عن السورة

تفسير سورة الكهف - الدرس الأول
للاستماع إلى الدرس

درس يلقيه الحبيب عمر بن حفيظ في تفسير سورة الكهف بعد الفجر ضمن دروس الدورة التعليمية التاسعة عشرة بدار المصطفى 1434هجرية.

نص الدرس مكتوب:

﷽ 

الحمد لله على إنعامه، وجزيل إفضاله وإكرامه، الحمد لله على تجلّيه بالفضل والجمال، الحمد لله على مُواصلته لإسداء النّعم في كل حال، الحمد لله مولانا العليّ الكبير المتعال، الحمد لله الذي أكرمنا بهذا التنزيل للكتاب العزيز والإنزال، الذي تلقاه قلب حبيبه محمد بدر الكمال، فَبَلّغه إلينا؛ فكان أعذب وأطيب المقال.

اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على النور المبين، السراج المنير، عبدك المصطفى سيدنا محمد، وعلى آله المقترنين بالقرآن لن يتفرّقا، وعلى أصحابه أئمة أهل الصدق والتّقى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الرّاقين إلى أعلى مُرتقى، وعلى مَن تبعهم بإحسان إلى يوم الوقوف بين يديك يا رب العالمين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وهنّأنا الله وإياكم بالشهر الكريم وبِساطهُ الذي يمدّه فيه لأهله، ويتجلّى به على مَن يرتضيه ويصطفيه، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

اللهم بارك في هذا الشهر لنا ولأمة نبيك قاصيهم ودانيهم، وصغيرهم وكبيرَهم، وذَكَرهم وأُنثاهم، بركة واسعة من عندك، متنامية تبقى خيراتها وتستمرّ آثارها أبد الآبدين، برحمتك ياأرحم الراحمين.

ونستعرض تأمّل بعض معاني سورة من أعظم سور القرآن، سورة الكهف، التي سمّاها الله باسم ذلك الغار الذي أوى إليه الفتية الصادقون المخلصون الذين: 

  • خرجوا من مجتمعات الجهل والغيّ والضلال،
  • وتركوا تيّارات الفسوق والغفلة عن الله تبارك وتعالى، بقرار صارم منهم أن يكونوا مع الله ولله، عبيداً لله على ما يرضاه. 

فكان من أمرهم ما قصّ علينا الحق، واعتنى بتلك القصة بنفسه جلّ جلاله، وقال لنبيّه: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ (13))

سورة الكهف التي تأتي في ترتيبها السورة الثامنة عشرة من سور القرآن الكريم، مكية، آياتها عشر ومائة آية.

ورد في فضلها أحاديث كثيرة، نذكر البعض منها في خلال دروسنا، في تأمُّل معاني هذه السورة، ومنها حديث الصحيحين، ما رواه الإمام أحمد والإمام البخاري والإمام مسلم والرّوياني وأبو يَعلى وغيرهم، من قصة سيدنا أُسَيْد بن حُضَيْر رضي الله تبارك وتعالى عنه. 

أُسَيْد بن حُضَيْر كان يقرأ ويتدبّر القرآن في لياليه، وهكذا كان شأن الجيل الذين ربّاهم سيدنا المصطفى، والرّعيل الأول من هذه الأمة، في رابطتهم بالقرآن وتأمّلهم لما فيه من المعانِ، وعِمارتهم أعمارهم بذلك القرآن، وخصوصاً آناء الليل وأطراف النهار؛ فكان يقرأ القرآن في ليلهِ، وبينما هو يقرأ هذه السورة -سورة الكهف- وإذا بغمامة فيها مثل أمثال المصابيح، وإذا بخَيلهِ جعلت تنفِر -أو تنقُز كما جاء في الروايات- حتى اشتغل بها، فقام يرى أمرها ويُصلح شأنها، ثم أصبح إلى النبي ﷺ، وجاء في البُكرة يُخبره الخبر بما شاهده في ليلهِ أمس. 

  • والحديث في رواية الإمام أحمد ورواية الإمام البخاري ومسلم: قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابّة فجعلت تنفِر، فإذا بضبابة غشيته، فذكر ذلك للنبي ﷺ، فقال:"اقرأ بها، فإنها السكينة تنزّلت للقرآن، اقرأ بهذه السورة، فإنها السكينة تنزّلت للقرآن".
  • جاء في رواية الطبراني عن محمود بن لُبيد عن أُسَيْد بن حُضَيْر رضي الله تعالى عنه أنّه قرأ وفرسهُ مربوطة، فأدار الفرس في رباطه، فانصرف، فذكر ذلك للنبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، قال: "اقرأ يا أُسَيْد، فإنّ الملائكة لم تزل تستمع لصوتك، فلو قرأت -يعني استمريت في القراءة ولم تشتغل بأمر الفرَس والقيام إليها-، فلو قرأت أصبح ظُلَّةً بين السماء والأرض يتراءاها الناس، وفيها الملائكة"، وفي هذا تقويم الأساس للأمة في عمارة الوقت بالقرآن والصِّلة بالقرآن وتلاوته وسط الديار  والمنازل

وفي أشرف المنازل، منازل نبينا ﷺ، ذكر الله السّاكنات فيها من أمهات المؤمنين: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) [الأحزاب:34]؛ فحقّ المؤمن أن ينظر قدسيّة بيته بحكم الإيمان، وما الذي يجري ويدور فيه، وأن يكون للقرآن نصيب وافٍ، وافرٍ من تدبره وتلاوته، من قِبَل الرّجال ومن قِبل النساء، في جميع بيوت المؤمنين. (وَاذْكُرْنَ) فإن البيت القدوة لنا، هو بيت الحبيب ﷺ وبيوت أزواجه أمهاتنا، أمهات المؤمنين أجمعين. يقول تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) [الأحزاب:34]  -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.

وفيه ورود الأحوال عند الإقبال والاستغراق في صالح الأعمال، ومن ذلك ما بدا من أمر الغيب والمعنى لسيدنا أُسَيْد بن حُضَيْر رضي الله تعالى عنه، فإنّ شأن الملائكة والسّكينة أمرٌ غيبيّ، برز في قالب حسيّ ومشهد عيانيّ، يشهده هذا الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه

ثم عند منازلات الأحوال، ما يتوجه على العابد وعلى الطّائع: 

  • أن يستمر ويدوم ولا ينقطع، ولا يقطع العمل لشيء ممّا نازله، أو لشيء ممّا شاهده أو عاينه عند قيامه بالعمل. 
  • وأنه إذا استمر ودام ولم ينقطع ولم يلتفت، ظهرت نتائجه بعد ذلك أكبر، عبّر عنها النبي أنه قال: "لو مضيتَ في قراءتك ولم تقطعها، لَأصبحت يتراءاها الناس ظُلَّةً وغمامة بين السماء والأرض فيها الملائكة"؛ 

فينتهي التجلّي على العامل والعابد وآثارها تمتد إلى غيره من الناس، إذا دام على ذلك العمل واستمر؛ ومن هنا عُلِم شأن المرابطة، وأسرار المخاطبة من الله لحبيبه بقوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب) [الشرح:7-8]. أي: داوم على العمل وانتقل من واحد إلى الآخر، (فَإِذَا فَرَغْتَ) -من طاعة وعبادة وعمل- (فَانصَبْ)، إلزم العمل الثاني والطاعة الأخرى، وتنقّل بين الطاعات والعبادات، (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب). 

  • وأنه ينبغي للمؤمن عند توجهه في العبادة، مهما نازله من خير، أن لا يركن إليه ولا يُعوّل عليه ولا يجعله مقصودَه، فإنه كما يفتتن الإنسان بالظلمات فقد يفتتن بالأنوار، وكما يفتتن بالشر فقد يكون بعض الخير فتنة له قاطعاً عن خير أكبر منه. 

فشأن العبد أن يعيش عمره عبداً لله، مُقيماً على ما يحبه منه ويرضاه، غير مُلتفت إلى مَن عداه سبحانه وتعالى، في حقيقة: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام:79].

كذلك مما ورد في فضل هذه السورة: 

  • ما جاء في رواية الإمام أحمد والإمام مسلم وأبي داود والنسائي والحاكم، عن أبي الدرداء رضي الله تبارك وتعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: "مَن حفِظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِم من فتنة الدجال"، انظر إلى أشدّ الفِتن، ما بين رسول الله إلى أن تقوم الساعة، أشدّ الفِتن فتنة الدجال، انظر إليها كيف تَضْمحل وتتلاشى برابطة بهذا الكتاب العزيز، وعمَل يسير يقوم به المؤمن فيُدفَع عنه شرّ تلك الفتنة مهما كبُرت ومهما كثُرت ومهما عظُمت. 

تعْلم أنّ ما يلحق الناس من الفتن نتائج عن ضعف علائقهم، وعن قصورهم في الوِجهات، وعن إهمالهم وإغفالهم للكنوز التي آتاهم الله والفضل الذي أفاضه الله عليهم، وأنّ الصادقين، المخلصين، المرتبطين، المتصلين، لا تُزعزعهم الفتن ولا تصل إليهم مهما كبرت، ومهما عاشوا في أيّ قرن -ولو ماجت الفتن في الدنيا أشدّ الموج- فإنهم وقلوبهم ومَن يدخل في دوائرهم وطاعتهم والانقياد لهم من أهلهم وأصحابهم، في سلامة من الفتن مهما تلوّنت ومهما عظُمت ومهما كبُرت. 

فهذا رسول الله ﷺ يُخبرنا أنه يُعصَم من فتنة المسيح الدجال -أشد الفتن- مَن تقرّب إلى الله بحفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، إلا أنّه ينبغي أن نُدرك أنّ حِفظ مثل ذلك ينبغي أن يكون مقروناً بمعنى من التعظيم والتصديق والإجلال، وحفظ المعنى، وحفظ العمل بالمقتضى، وأن يكون المعنى حاضراً في الذهن، راسخاً في البال والضمير، حتى يكون عصمة لصاحبه من جميع الظلمات والفتن، "مَن حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِم من فتنة الدجال".

  • جاء في رواية أبي عبيد وابن مردويه عن أبي الدرداء نفسه: "مَن حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف كانت له نوراً يوم القيامة"، وهذا يحثّنا على أن نحفظ هذه السورة وأن نعتني بحفظها، وخصوصاً أوائلها، والعشر الآيات الإوَل منها، الله أكبر!
  • كذلك نقرأ فيما جاء عن نبينا ﷺ، عن أبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهما، فيما رواه عنهما الإمام أحمد والإمام مسلم والنسائي وابن حبان -هؤلاء رَوَوْهُ عن سيدنا أبي الدرداء، ورواه عن سيدنا ثَوبان؛ النسائي والروياني والخطيب- قال أبو الدرداء، وقال سيدنا ثَوبان المحبّ -مولى رسول الله ﷺ- قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "مَن قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عُصِم من فتنة الدجال"، ننظر في الرواية الأولى حفظ العشر الآيات من أول السورة، وفي هذه قراءة عشر آيات من آخر السورة؛

والمعنى: الذي يحافظ على قراءتها، ففي كل يوم قرأ هذه العشر الآيات من آخر سورة الكهف فلن يستطيعه الدجال؛ ومعنى "لن يستطيعه الدجال": أنه لا تناله أشد الفتن، فكيف بما كان دونها؟ يكون أقرب إلى الحفظ إن شاء الله تبارك وتعالى؛ لكن نعتصم بهذه الآيات ونغوص على معناها ونتصل بها ونتذوّق ذلك المعنى الذي فيها، فإنها هِبَات من الله وتعرّفات من الرحمن تعالى في علاه، وروابط قلبيّة روحيّة سريّة برب البرية، أكرمنا الله بالنصيب الوافي منها؛ سمعنا قوله ﷺ: "مَن قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عُصِم من فتنة الدجال".

  • نقرأ كذلك في رواية الترمذي - وقال الترمذي: حسن صحيح - يروي عن أبي الدرداء أيضاً رضي الله تبارك وتعالى عنه، عن رسول الله ﷺ قال: "مَن قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عُصِم من فتنة الدجال". 

فنرى العلاقة بين فتنة الدجال وبين الكهف في حفظ عشر آيات من أولها، قراءة عشر آيات من آخرها، قراة ثلاث من أولها، كلها عِصَمٌ من فتنة الدجال. 

فإنّ فتنة الدجال تقوم على زعزعة الاعتقاد والإيمان بالحق -جلّ جلاله- وبرسوله، وهذه الآيات من أول سورة الكهف ومن آخر سورة الكهف، تنقُض عُرى الفساد الذي يتبناه ذلك المفسد الضال، ببيان الحقيقة، فمن اتصل بها عُصِم من شر ذلك الخبيث؛ فتح الله لنا آفاق الفهم فيها، والتعرف على معانيها، والإفادة مما فيها:

  • يقول أيضاً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فيما يتعلّق بالقضية، في حديث طويل يتحدث فيه عن هذه الفتنة الخبيثة العمياء الصمّاء، فتنة ظهور الدجال الخبيث وانتشار دعوته في الأقطار: 
    • حدثنا بحديث طويل يقول في أثنائه ﷺ، فيما رواه الإمام مسلم وغيره عن النّواس بن سمعان، النبي ﷺ حتى قال: "فمن أدركه منكم" -يعني داهمهُ الدجال ووصل إلى قريته أو مكانه أو محلّه-. 
    • "فإن المؤمنين الصادقين في ذلك الوقت على صوَر أو على مراتب، فمنهم مَن يفِرّ منه إلى الجبال، ومنهم من يلحقه الدجال؛ فإما أن يَفتتن، وإمّا أن يرميه فيما يرى أنّه نار فيتحوّل عليه نهر بارد عذب؛ فإنّ الذي يُسمّيه ويُظهر أنه نار يتحوّل إلى جنّة" -وهذا شأن الدّجل، والذي يسمِّيه جنة ويُصوّره أنّه جنة يتحول إلى نار- 
    • "فبعض الذين يؤمنون، يرميهم في ذلك النهر بين الأشجار الذي ظاهره جنة، فيحترقون ويموتون كفّاراً إلى نار الآخرة، والعياذ بالله تعالى، والذين يكفرون به ويؤمنون بالله ولا يُبالون بهذا التّحدّي الصّعب منه، ينتقلون إلى راحة معجّلة قبل الجنة في الآخرة".
  • والنبي ﷺ يرشد إلى الاستعانة على مثل هذه الأحداث بالكتاب المنزّل والاتصال بسرّه، ويأمر أنه إن داهمك، لن تشعر إلا وأنت أمامه وهو أمامك يدعوك إلى ذلك الكفر، قال: "فليقرأ فواتح سورة الكهف". 
  • يقول ﷺ: "فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارجٌ خَلَّةً بين الشام والعراق" -بُقعة ومنطقة يبدأ ظهوره منها- قال: "فعاث٠يميناً وشمالاً، يا عباد الله فاثبتوا". قال: يا رسول الله، ما لُبْثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوماً: يومٌ كسنة، ويومٌ كشهر، ويومٌ كجمعة" -يعني كأسبوع- "وسائر أيامه كأيامكم". هكذا في رواية الإمام مسلم. 
  • قالوا يا رسول الله، فذلك اليوم كالسنة، أفتكفِينا فيه صلاة يوم؟ - يطول بمقدار سنة، نصلّي صلاة يوم واحد، خمس صلوات؟ - قال ﷺ: "لا، اقْدُرُوا له قَدْرَه"، وما إسراعه في الأرض؟ قال: "كالغيث استدبرته الريح" -وفيه إشارة إلى بقاء بعض أسباب المواصلات في ذلك الوقت-؛
  • حتى يُسرع بالانتقال من بلد إلى بلد، فيدخل عامة بلدان الأرض إلا أماكن مخصوصة كمَكّة والمدينة، فإنه يريد دخول كل منهما فلا يقوى على ذلك، ويجعل الله على مداخلها ملائكة يصدّونه فلا يستطيع الدخول إلى مكة. 
  • فيخرج آخر أيامه نحو المدينة فينزل في البقعة التي حدّدها ﷺ عند تلك السباخ، حيث ينظر إلى المسجد النبوي من بعيد ويقول لمن عنده: ألا تنظرون ذاك القصر الأبيض؟ إنه قصر أحمد، ولا يستطيع الدخول إلى المدينة. 
  • وترجُف المدينة ثلاث رجفات بأهلها: فيخرج كل منافق، يخرج بعض المؤمنين الصادقين وفيهم هذا الشهيد الذي يقتله، وهو الوحيد الذي يُسَلَّط على قتله، ثم يحيى بإذن الله تبارك وتعالى.
  • أمّا البقية من تظاهره بإحياء الموتى، فتمثيل وسينما وصور من شياطين الجنّ يتصوّرون بصور الأموات، ويقومون أمام الناس بصور الذين ماتوا، حتى يقول هذا: هذا خالي، وهذا عمي، وهذا جدي فلان، وليس فيهم أحد منهم، وإنّما هم جانّ يتصوّرون بصورهم. 
  • فإنّ من فِتْنَتِه أن يأتي إلى القوم فيقول عند المقبرة: هل تريدون أن أنشر لكم هؤلاء الأموات وأُخرجهم الساعة من قبورهم لتعلموا أنّي ربّكم؟ يقولون: نعم؛ فيُشير، وإذا بالجانّ هؤلاء من جنده يخرجون على صور الموتى الذين ماتوا، حتى أحدهم يرى صورة جده، صورة عمه، صورة خاله الذي يعرف أنه قُبِر في هذه المقبرة، فيظنّون أنه أحياهم، وهو ما أحيا أحداً، فيتكلمون معهم ويقولون: نحن قد مُتنا قبلكم وهذا ربّكم، وما رأينا إلا هذا، فخذوا بهذا، فيَضِلُّ مَن يَضِلُّ، و(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ) [إبراهيم:27]؛ 

هذا من جملة مظاهرهِ في الفتنة، ومظاهرهُ كبيرة وشديدة، ونرى اليوم من الناس يفتتنون بالكلام الذي يُزيّن ويُروّج من هنا وهناك، من دون هذه العلامات ومن دون هذه الغرائب، فكيف إذا جاءت تلك الفتنة؟ يا مقلّب القلوب والأبصار، ثبّت قلوبنا على دينك، برحمتك يا أرحم الراحمين.

وفي قوله: "فاقْدُرُوا له" إشارة منه ﷺ إلى استعمال التقدير والحساب عند الحاجة لذلك فيما يتعلق بمواقيت الصلوات، وكذلك مواقيت الصوم، وبهذا يُعلم الحكم في بعض الأماكن والمواطن التي لا تطلع الشمس فيها شهراً أو شهرين أو ثلاثة أشهر، إلى بعض الأماكن إلى حدود الستة الأشهر تصير مثل الليل، والستة الأشهر تصير مثل النهار، في بعض أطراف الكرة الأرضية؛ فيُعلم أنّ مَن كان هناك فأراد كيف يصلي، كيف يصوم؟ "فاقْدُرُوا له"، فيستعمل الحساب إلى أقرب بقعة يكون فيها ليل ونهار ويبني مواقيته عليها، وإن كان في شمس مستمرة أو كان في ظلمة مستمرة، وكذلك يحسب لرمضان حسابه حتى يصوم بنفس التقدير ونفس التوقيت، "فاقْدُرُوا له"، هذا إرشادهُ عليه الصلاة والسلام.

  • كذلك يروي معاذ بن أنس، فيما روى عن الإمام أحمد والطبراني، عن رسول الله ﷺ أنه قال: "مَن قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه، ومَن قرأها كلها كانت له نوراً ما بين الأرض إلى السماء"

فما أعجب السورة وما أعجب ما فيها! إلى أحاديث أُخَر وردت عنه ﷺ نستعرض بعضها في أيامنا، ونشرع في تأمّل المعاني في أول السورة إن شاء الله تبارك وتعالى، ومنها روايات تتعلق بقراءة سورة الكهف في يوم الجمعة المقبل علينا بعد غدٍ إن شاء الله تعالى، كتب الله لنا ولكم التوفيق، وبسط لنا بساط الرحمة الواسع.

وكما بلَّغنا أول الشهر، نسأل أن يُبلّغنا آخره، ويجعلنا من خواصّ أهله، الفائزين بخيرات كل ليلة، وبركات كل يوم، والمُتحققين بحقائق الصوم. 

اللهم اجعل صومهم مقبولاً عندك، مربوطاً بصيام المحبوبين لديك، وأهل حقيقة التوحيد الذين تُضاعف أعمالهم إلى ما لا نهاية، مربوطاً كل ذلك بصوم خير مَن صام، خير الأنام، عبدك المصطفى عليه الصلاة والسلام. اللهم أفِض على صومنا من سرّ صومه ومن بركة صومه، واجعل لنا في الصوم تقوى، واجعل لنا في الصوم حُسن مراقبة لك في السر والنجوى. اللهم نسألك توفيقاً تاماً، ونسألك فيضاً وَجُوداً منك خاصّا وعامّا، ونسألك أن تختصّنا بفضلك وبرحمتك، يا مَن (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [آل عمران:74]، لا إله إلا أنت. 

اللهم لك الحمد على ما بلّغتنا هذا الشهر، فبارك لنا في لياليه وأيامه وساعاته وأنفاسه ولحظاته بركة واسعة، وفرّج كروب المسلمين. 

اللهم اجعله سببا لكشف الغُمَّة ودفع النّقمة عنّا وعن أهل الشام وأهل مصر وأهل اليمن وأهل الشرق وأهل الغرب، يا كاشف كلّ كرب، يا دافع كل بلاء، بحبيبك المصطفى والقرآن الذي أنزلته عليه، والشهر الذي أنزلت فيه القرآن، اكشف الغُمَّة عنا وعن أهل الإسلام والإيمان، وادفع الفتن والمحن في السّرّ والإعلان، ما ظهر منها وما بطن، يا كريم يا رحمن، وأصلح شؤوننا بما أصلحت به شؤون الصالحين، واجعل لنا أقوى الروابط بالقرآن وبمعاني القرآن وأسرار القرآن، واحشرنا في زمرة أهله، وأنت راض عنا. 

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد.

ولا تزالون تزدادون قوة إيمان وقربة ورضاءً من الرحمن، بتكرير ما أمرنا النبي بالإكثار منه في هذا الشهر: "فاستكثروا فيه -أي في رمضان- من أربع خصال: خصلتان لا غنى بكم عنهما وخصلتان ترضون بهما ربكم؛ فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فتشهدون أن لا إله إلا الله وتستغفرونه؛ وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتستعيذون به من النار".
نشهد أن لا إله إلا الله، نستغفر الله، نسألك الجنة ونعوذ بك من النار.
نشهد أن لا إله إلا الله، نستغفر الله، نسألك الجنة ونعوذ بك من النار.
نشهد أن لا إله إلا الله، نستغفر الله، نسألك الجنة ونعوذ بك من النار.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنا.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنا.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنا، يا كريم.

وقد وفّقكم، صلّيتم الفجر جماعة، فلم تزالوا في ذِكر الله في المُصلّى الذي صلّيتم فيه حتى طلعت الشمس، وهذا أول طلوع للشمس في رمضان، ولله عتقاء عند طلوع الشمس، وإذا جاء العتق فَلِلمستيقظين قبل النائمين، وللذاكرين قبل الغافلين، عتقنا الله وإياكم من النار ومن العار؛ ثم يُصلّي أحدكم ركعتين أو أربعاً، وإذا في أول يوم من رمضان، فثوابه حجة وعمرة تامة تامة تامة. 

والعمرة في رمضان، قال النبي: "وعمرةٌ في رمضان تعدل حجة معي". حجة معي! الله يجعلنا معه وفي داره، اعتكفنا وصلّينا جماعة وذكرنا الله وطلعت الشمس، ونعمل ما أرشدنا إليه، فنصلي ركعتين أو أربع، (وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) [الحج:47]، والله يكتب لنا القبول عنده، ويكتب لنا ثواب الحجة والعمرة؛ فنحن في أيام رمضان نحجّ ونعتمر من حيث الثواب الموعود من السيد المصطفى المحمود صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الحمد لله رب العالمين، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

تاريخ النشر الهجري

02 رَمضان 1434

تاريخ النشر الميلادي

10 يوليو 2013

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام