(535)
(363)
(339)
من دروس السيرة النبوية التي يلقيها العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، ضمن دروس الدورة التعليمية الحادية والثلاثين بدار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية، رُسُل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مواصلة الحديث عن الصحابي واثلة بن الأسقع - 3 -
عصر يوم الجمعة: 30 محرم 1447هـ
ملخص من الدرس:
وكنّا نذكرُ من أخبار رُسُل رسول الله ﷺ أخبار واثلة بن الأسقع، وقلنا أنه بعد وفاة الحبيب ﷺ خرج إلى الشام، وكثيرٌ لم تَطِب لهم الإقامة لِما يعتلج في صدورهم من تذكُّره والحزن على فراقه، وكل شيء في المدينة يُذكّرهم به: طُرقها وديارها ومساجدها وأوانيها، فكان يشتدّ عليهم الأمر، فخرجوا، فمنهم واثلة بن الأسقع.
كما خرج سيدنا بلال عليه الرضوان، امتنع عن الأذان ولم يؤذّن، ثم شقّ عليه المقام في المدينة، فاستأذن من سيدنا أبي بكر أن يخرج إلى الشام فأذِن له وخرج، ثم جاء زائراً.
وهكذا يقول هذا - واثلة - أقام بالشام عليه رحمة الله، كان ينزل بيت المقدس حتى تُوفي هناك. وكان أيضاً بعد رسول الله ﷺ يشهد المغازي ويمرّ بدمشق وحمص، وكان مقصداً للتابعين يأتونه للسماع منه - سماع الحديث منه والتلقّي عنه - عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
يقول مكحول: "دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع، فقلنا له: يا أبا الأسقع، حدِّثنا بحديث سمعته من رسول الله ﷺ" ، قال فيحدّثهم.
وجاء أيضاً في تاريخ دمشق، يقول كِلاب بن أُمية: "قدم علينا واثلة بن الأسقع فنزل دار أم خالد بنت أبي هاشم، فأتيناه نُسلّم عليه. قال بعضنا: حدِّثنا يرحمك الله بحديث سمعته من رسول الله ﷺ ليس فيه زيادة ولا نقصان. قال: فغضب حتى عرفنا الغضب فيه، فقال: إن مصحف أحدكم لكتابه ليكون عند رأسه فينظر فيه كل يوم وهو يزيد وينقص، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله؟ عسى ألّا نكون سمعناها منه إلا مرة واحدة! حسبكم إذا جئناكم بالحديث على معناه، تسألوننا أن نُحدّثكم بحديث قد أتى له كذا وكذا من الزمان لا زيادة ولا نقصان؟"
قال: فلما سُرّي عنه الغضب حدّثنا.. لا إله إلا الله!
يقول أبو الخطّاب: "رأيت واثلة بن الأسقع يُملي على الناس الأحاديث وهم يكتبونها بين يديه"، عليه رضوان الله.
ومنه ما روى الخطيب البغدادي، أنه ذكر مسح رسول الله ﷺ بيده على رأسه، ثم مسحه على يد التابعي معروف، ومسح معروف أيضاً على أُبَي.
يقول: "حدّثنا أُبَي، قال حدثني معروف، قال: حدّثني واثلة بن الأسقع، قال: أتيت رسول الله ﷺ فمسح يده على رأسي. قال معروف: ومسح واثلة يده على رأسي. قال أُبَي: ومسح معروف يده على رأسي". فتسلسل فيه مسح الرأس باليد.
وهكذا يروي الطبراني عن يحيى بن الحارث الذِّماري يقول: "لقيت واثلة بن الأسقع فقلت: بايعتَ بيدك هذه رسول الله؟" قال يدٌ لَمست بها يد حبيب الرحمن؟ بايعته؟ قال: "نعم". قال: "أعطني يدك أُقبّلها". قال: "فأعطانيها فقبّلتها". قال رجاله ثقات إلا واحد لم يعرفه الطبراني.
وهكذا كان يبرز في فناء البيت بغداه وعشائه يدعو من يمرّ ومن جاء إليه يتغدّى معهم ويتعشّى، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
يقول أبو المُصعب مولى ابن يزيد: "رأيتُ واثلة بن الأسقع يتغدّى ويتعشّى بفناء منزله ويدعو الناس إلى طعامه". قال: "وكان يُصفِّر لحيته".
وجاء في مسند الإمام أحمد عليه رحمة الله تبارك وتعالى عن شدّاد بن عبد الله يقول: "سمعت واثلة بن الأسقع وقد جيء برأس الحسين يوم مقتله - في مثل هذا الشهر، عليه رضوان الله وسلامه، الحسين بن علي - قال: فلقيه رجل من أهل الشام فتكلّم في الحسين ولعن أباه. قال: فغضبُ واثلة، فقام وقال: والله لا أزال أحبّ علياً وحسناً وحسيناً وفاطمة أبداً بعد إذ سمعت رسول الله ﷺ وهو في منزل أم سلمة يقول فيهم ما قال".
وقد تقدّم معنا شهوده لتغطيتهم له بردائه عليه الصلاة والسلام وشمله إياهم بكسائه، صلوات ربي وسلامه عليه.
يقول واثلة: "رأيتني ذات يوم وقد جئتُ رسول الله ﷺ وهو في منزل أم سلمة، وجاء الحسن فأجلسه على فخذه اليمنى وقبّله، وجاء الحسين فأجلسه على فخذه اليسرى وقبّله، ثم جاءت فاطمة فأجلسها بين يديه، ثم دعا بعليّ فجاء، ثم أغدقَ عليهم كساءً خيبرياً كأني أنظر إليه، ثم قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)".
قال "فما الرِّجس؟ قال الشكّ في الله عز وجل" أو قال: "الشكّ في دينه". وهو عامٌّ في أنواع الأرجاس.
اللهم طهِّرنا تطهيراً، ونقِّنا من الأرجاس والأدناس، وأعد علينا عوائد محبة كل من تحبّ يا حيّ يا قيّوم. نسألك حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ عمل يُقرّبنا إلى حبّك، وإلا فالأهواء والنفوس تدعو الناس إلى أن يبغضوا على غير ميزان صحيح، وأن يُحبّوا على غير ميزان صحيح، فقد يُحِبّون من أبغض الله، وقد يُبغضون من أحبّ الله، فيخسرون بذلك ويبعدون عن الله جل جلاله.
فما شأن المؤمن إلا أن يُحبّ كل مؤمن عامّة، وخاصّتهم خاصّة، ومن خُصَّ من المؤمنين بتقوى أو وَرَع أو علم أو عمل أو قِدَم إسلام أو قِدَم هجرة أو صحبة للنبي أو قُربة له، يخصّهم بالمحبة والمودّة والتعظيم، ولا يستثني من ذلك أحداً، وإلا فقد وقع في النقص وتعرَّض للحسرة والخسران (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
والأهواء والنفوس لعبت بالناس من القرون الأولى، فذا يحبّ ذا ويبغض ذا، ويرفع ذا وينزل ذا.. ولو تأمَّل إرشادات الرحمن وتوجيهات رسوله لعلِم أن هذا كله باطل، ولا يجوز أن يتّخذه الناس مسلكاً ولا ديناً، ولكن يحبّ المؤمنين عامّة وخاصّتهم خاصّة، ويتأمّل قول سيد أهل الحضرة: "اللهم إني أسألك حبّك وحبّ من يحبّك، وحبّ عمل يُقرّبني إلى حبّك". فكيف بمن جاءت النصوص فيهم كالصحابة وآل البيت الطاهر؟ (قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ) يقول جل جلاله.
وكان سيدنا واثلة شديد الحرص على عمارة ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، ويروي حديثاً فيه قراءة مائة مرة من سورة الإخلاص في هذا الوقت.
حتى يقول عن أسماء بنته، قالت: "كان أبي إذا صلّى صلاة الصبح جلس مستقبل القبلة لا يتكلّم حتى تطلع الشمس، فربما كلّمته في الحاجة فلا يُكلّمني. فقلت: ما هذا؟ فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من صلّى صلاة الصبح ثم قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) مائة مرة قبل أن يتكلّم، فكلّما قال (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) غُفر له ذنب سنة".
والحديث الآخر في عمارة هذا الوقت عند الترمذي وغيره، يقول ﷺ: "من صلّى الصبح في جماعة ثم قعد في مُصلّاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلّى ركعتين أو أربعاً، انقلب إلى بيته بحَجَّة وعمرة تامّة تامّة تامّة". نعمة من الله! تحجّ وتعتمر كل يوم، لك ثواب الحجّ والعمرة يأتيك بهذا الاتّباع للحبيب ﷺ.
ثم روى ابن حبّان في صحيحه قصة عيادة سيدنا واثلة بن الأسقع لما مرض يزيد بن الأسود، مرض يزيد بن الأسود وكان في كِبَره عمي سيدنا واثلة.
يقول حيّان بن النضر: "خرجتُ عائداً ليزيد بن الأسود، فلقيت واثلة بن الأسقع وهو يريد عيادته، فدعاني واثلة بن الأسقع وقد ذهب بصره، قال: يا حيّان، قُدني إلى يزيد بن الأسود الجُرَشي، فإنه بلغني أنه عليل".
"فقُدته حتى أتينا منزل يزيد بن الأسود، فإذا البيت مشحون عُوّاداً. قالوا: وإذا الرجل يجود بنفسه". وهو سكرات الموت. "فلما رأى أهل البيت واثلة صاحب النبي ﷺ، تحركوا حتى جعلوا له طريقاً وشقّوا عنه".
قال: "فأدخلته إلى عنده، فثنَّيت له وسادة عند رأس يزيد بن الأسود. فقلتُ لواثلة: إن يزيداً لا يعقل، في الغمرات الآن لا يحس، قال: فنادوه. فنادينا أصواتاً: يا يزيد بن الأسود! فإذا هو لا يُجيب ولا يسمع. فقلت: هذا أخوك واثلة".
قال: "فبقي مِن عقله ما عرف اسمه" واثلة، لما قلت واثلة رفع رأسه وتحرّك، عرف اسم هذا الصحابي، ويذكر ما كان بينه وبينه في المجالس وما كان يُحدّثه عن رسول الله ﷺ وصحبته له.
قال: وإذا به أيضاً يقول بيده هكذا، كأنه يلتمس، عرفنا ما يريده.. قال: "فأخذت يد واثلة فوضعتها في يد يزيد، فلما وجد مسّها، قال: وضعها على عينيه مرة وعلى فؤاده" قال: واشتد بكاء أهل البيت عند صنعه لهذا، ولموضع يد واثلة من يد رسول الله ﷺ، قال: "وإنما أراد أن يضع يده في يد واثلة ذاك لموضع يد واثلة من رسول الله ﷺ".
فقال له واثلة: "كيف ظنُّك بالله؟" قال: فجعل يضعها مرة على صدره، مرة على فيه، مرة على عينيه، ويقلِّب يده، يتمسّح بها ويتبرّك، لأن الصحابة والتابعين من رآهم في هذا الحال، يقول بعض المبتدعة هؤلاء صوفية وعلى كل حال هم هكذا! هم هكذا عرفوا الدين، وهم هكذا عاملوا رب العالمين جل جلاله، واتّبعوا النبي الأمين صلوات ربي وسلامه عليه، وجعل يده ساعة على عينيه وساعة على فيه وساعة على صدره.
وقال له: "وكيف ظنّك بالله؟" قال: "ظنّي بالله والله حسن". قال: "فأبشر، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله جل وعلا: أنا عند ظنّ عبدي بي، إن ظنّ خيراً فله، وإن ظنّ شرّاً". وجاء في رواية هذا الحديث: "فليظنّ بي ما شاء، وأنا معه حين يذكرني، ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم وأطيَب".
وكان يُصلّي على الجنائز أيام الطاعون،" كنا إذا أشرف على المقبرة قال: السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، كُنتم لنا سلفاً ونحن لكم تبع، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون".
يقول عمرو بن مهاجر: "صلّيت خلف واثلة بن الأسقع على ستّين جنازة" - أيام الطاعون - يقول: "ماتوا من الطاعون، فجعل الرجال مما يليه، والنساء مما يلي القبلة، صفّهم صفّاً للرجال مما يليه، وصفّ النساء بين يدي صفّ الرجال، وقام وسطاً فكبّر أربع تكبيرات، ثم سلّم عن يمينه"، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
وهكذا في رواية حُميد بن مسلم يقول: "رأيت واثلة بن الأسقع صلّى على جنائز رجال ونساء في طاعون أصاب الناس بالشام، فجعل الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة"، عليهم رحمة الله تعالى ورضوانه.
وكان عليه رضوان الله تعالى من الشجاعة بمكان، وهو سبب فتح مرج الصُّفّر في زمن مع سيدنا خالد بن الوليد، ودخل دمشق صُلحاً بعد قصة له تأتي إن شاء الله معنا، وبقية آخر أيام حياته ووفاته عليه رضوان الله.
جعلنا الله من أهل الإقبال الصادق وأهل التوجّه إليه بالكلّية في كل شأن من الشؤون، في الظهور وفي البطون، حتى يُثبتنا فيمن يهدون بالحق وبه يعدلون. ووقانا الأسواء والآفات، وبلَّغنا الأمنيات في عافية، والحمد لله رب العالمين.
يسير بنا خير سبيل، ويُلحِقنا بخير جيل، ويسقينا من أحلى سلسبيل، وينظمنا في سلك الهادي الدليل، ويُدخلنا في دائرته، ويحشرنا في زُمرته، ويُصلح أحوالنا، ويرزقنا حُسن متابعته، وإحياء سُنّته على الوجه الأرضى له والأحبّ إليه والأنفع لعباده، في خير ولُطف وعافية.
وإلى حضرة النبي محمد، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، الفاتحة.
13 صفَر 1447