(535)
(363)
(339)
من دروس السيرة النبوية التي يلقيها العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، ضمن دروس الدورة التعليمية الحادية والثلاثين بدار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية، رُسُل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مواصلة الحديث عن الصحابي واثلة بن الأسقع - 2 -
عصر يوم الخميس: 29 محرم 1447هـ
ملخص من الدرس:
الحمد لله، وكنا نتكلم على رُسُل سيدنا رسول الله ﷺ، آخر مَن ذكرنا سيدنا واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، وعلمنا أنه جاء قريب خروج النبي ﷺ إلى غزوة تبوك، وهداه الله تبارك وتعالى للإسلام، وهاجر إلى رسول الله ﷺ، واختار الهجرة الباتّة، عليه رضوان الله تبارك وتعالى، ولحق بالنبي فجاء ووجده قد خرج، فلحق به في غزوة تبوك.
وأنه جلس عند أهل الصُّفَّة بقية عُمر النبي ﷺ، وأنهم كانوا يتعرضون كثيراً للجوع وقِلّة الثياب وما إلى ذلك، وهم محتسبون صابرون مُقبلون خاشعون شاكرون، عليهم رضوان الله.
آخر ما ذكرنا قصته لما اشتد مرة الجوع على أهل الصُّفَّة، ثم قالوا: يا واثلة، اذهب إلى رسول الله فاستطعِم لنا، هل من طعام؟ هل من خبر؟ اشتدّ الجوع عليهم، ولهم من الأكل أيام، قال: فأتيت رسول الله ﷺ وقلت: يا رسول الله، إن أصحابي يشكون الجوع، أنا وإياهم الذين في الصُّفَّة هؤلاء.
فقال رسول الله ﷺ: "يا عائشة، هل عندك من شيء؟" قالت: ما عندي إلا فتات خبز وشيء من لبن. قال: "هاتيه"، فجاءت بجراب، فدعى رسول الله ﷺ بصحفة، قال: "هاتي الصحفة". ففتَّ الكسر فتاً رقيقاً، هذه الكُسَر وفتَّها رسول الله ﷺ بيده الشريفة، وصبَّ عليها اللبن، يُسقّي لهم الطعام، ثم حمله بيده، حتى جعله كالثريد، ثم جعل يُصلح الثريد بيده وهو يربو حتى امتلأت الصحفة.
امتلأت الصحفة، قال يا واثلة: "اذهب فَجِئ بعشرة من أصحابك، أنت عاشرهم". فذهبت وجئت بعشرة من أصحابي، كنت عاشرهم - التسعة وأنا العاشر - وجئنا عنده. قال: "اجلسوا وكلوا باسم الله، خذوا مِن حواليها ولا تأخذوا مِن أعلى - يعني وسطها- فإن البركة تنحدر من أعلاها إلى الأطراف". فيُكره الأكل من وسط الصحفة، ولكن من الأطراف، والبركة تنزل على الوسط فتميل إلى الأطراف.
قال: فأكلوا حتى شبعوا، قال قاموا وفي الصحفة مثل ما كان فيها، رأيتها نفسها، وجعل يصلحها بيديه وهي تربو، قال: "يا واثلة، اذهب فَجِئ بعشرة من أصحابك"، قال: فجئت بعشرة، قال: "اجلسوا"، فأكلوا حتى شبعوا ثم قاموا. قال: "واثلة، اذهب وَجِئ بعشرة من أصحابك"، قال: فذهبت وجئت بعشرة، - صاروا ثلاثين - قال: "هل بقي أحد؟" قال: نعم، عشرة. بقي عشرة، كانوا تلك الليلة موجودين أربعين في الصُّفَّة.
قال: "اذهب فَجِئ بهم". قال: فذهبت فجئت بهم. قال: "اجلسوا"، فجلسوا فأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا وبقي في الصحفة مثل ما كان، هي نفسها كان لما بدأنا أول طائفة، أول جماعة جلسوا عليها، والآن هي نفسها. ثم قال: "يا واثلة، اذهب بهذا إلى عائشة" رضي الله تبارك وتعالى عنها.
وهكذا عاش بقية أيامه غير ملتفت إلى ملابس ولا مسكناً ولا مالاً، حتى يقول عليه رضوان الله: رأيت ثلاثين رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ يصلون خلف رسول الله ﷺ في الأُزُر وأنا منهم، ما عندي إلا إزار.. لا إله إلا الله! فبقي مِن ما قبل الإسلام وقبل غزوة تبوك إلى العاشرة وإلى الحادية عشرة، فقريب من الثلاث سنين التي أدرك فيها رسول الله ﷺ وتلقى عنه، وله عدد من الروايات يرويها عن رسول الله ﷺ.
سيدنا واثلة بن الأسقع في صحيح ابن حبان وعند الطبراني والبخاري في التاريخ الكبير يروي بعض القصص، عن واثلة في بيت علي بن أبي طالب وبيت السيدة فاطمة، يقول: قال سألت عن علي في منزله، فقيل لي: ذهب يأتي برسول الله ﷺ. ذهب ليجيء بالنبي، وفي لفظ الطبراني: قالت فاطمة: انطلق إلى رسول الله ﷺ يدعوه حتى يأتي، ذهب إلى عند النبي سيجيء به إلى هنا.
قال: فجاء رسول الله ﷺ وعلي، فدخلا، قال واثلة: فدخلت معهما. قال: فجلس على الفراش، فدعا رسول الله ﷺ حسناً وحسيناً، فجلس كل واحد منهما على فخذه - واحد على الفخذ الأيمن والأيسر - قال: وأدنى فاطمة من حجره عن يمينه، وعلي عن يساره، ثم لفَّ عليهم ثوبه.
قال: وأنا شاهد مستند في ناحية البيت، وقال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). "اللهم هؤلاء أهلي، هؤلاء أهلي أحق".
قال سيدنا واثلة: قلت من ناحية البيت: وأنا يا رسول الله مِن أهلك؟ قال: "وأنت من أهلي". قال سيدنا واثلة: إنها لمن أرجى ما أرتجي، وفي لفظ يقول: فوالله إنها لأوثق عملي عند ربي.. تلك الساعة التي دخلت فيها ذاك البيت، وعمل النبي ﷺ هذا العمل، وناديت عليه وقال لي، قال ما أجد في أعمالي أرجى لي عند الله من تلك الساعة وذلك الموقف، عليه رضوان الله.
سبحان الله! وربما أسلم قبله كثير ما حصل لهم مثل هذا.. سبحان الله! فسبحان المعطي المُقسِّم السعادات والفضل كما يشاء، يختصُّ برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وفي لفظ عند الديلمي يقول ذكره في كنز العمال، يقول: جمع فاطمة وعلي وحسن والحسين تحت ثوبه وقال: "اللهم قد جعلت صلواتك ورحمتك ومغفرتك ورضوانك على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، اللهم هؤلاء مني وأنا منهم، فاجعل صلواتك ورحمتك ومغفرتك ورضوانك عليَّ وعليهم".
قال سيدنا واثلة: وكنتُ على الباب، قلت: وعليَّ يا رسول الله، بأبي أنت وأمي. قال: "اللهم وعلى واثلة"، اللهم وعلى واثلة.. الله أكبر!
وهكذا دخل عليه مرة خالد بن معدان في يوم عيد، يقول لسيدنا واثلة: تقبَّل الله منا ومنك، قال: نعم، تقبَّل الله منا ومنك، لقيت رسول الله ﷺ يوم عيد فقلت: تقبَّل الله منا ومنك، فقال لي النبي: "نعم، تقبَّل الله منا ومنك"، فهو أجاب بالجواب الذي سمعه من رسول الله ﷺ لما عاوده، هنَّأه بالعيد، فقال لخالد بن معدان نفس الجواب لما هنَّأه بالعيد. الله أكبر!
ويقول أنه شهد إجراء خيول المسلمين في المُحصّب بمكة لما حضر مع النبي في حجّة الوداع، قال: أجرى رسول الله ﷺ فرسهُ الأدهم في خيول المسلمين - تتسابق مِن ناحية منى إلى المُحصب - قال: فجاء فرسه سابقاً، - فرس النبي ﷺ سبق الخيول كلها التي معه ووصل - قال: فجثا على ركبتيه حتى إذا سُرَّ به قال: "إنه لبحر". الله أكبر!
من أخباره أيضاً في الحج مع النبي ﷺ لما حج حجة الوداع، يقول كما جاء في الطبراني وفي مِسند الشاميين وفي المعجم وغيره، قال عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو جالس في نفر من أصحابه في مسجد الخيف.
وخرج من بيته معه سؤال يريد يسأل النبي ﷺ ويريد يقابله، فدخل ووجده حوله جماعة من الصحابة، فجاء يتقدّم إلى وسط الحلقة دخل ليقابل النبي ﷺ، مقابل النبي، يقول: فجلست وسط الحلقة، فقال بعضهم: يا واثلة، قم من هذا المجلس فإنا قد نُهينا عنه - أي نهينا أنه إذا في حلقة يجيء واحد يجلس وسطها - قال: تنحَّ عن وجه النبي ﷺ.
فقال رسول الله ﷺ: "دعوا واثلة، فإني أعلم بالذي أخرجه من منزله" - معه سؤال جاء ليسألني، قال: "واثلة، إن شئت أنبأتك بما جئت تسأل عنه، وإن شئت فسأل"، قال: قلت: بل نبِّئني يا رسول الله، ما الذي أخرجني من منزلي، فإنه أطيَب لنفسي.
قال: "خرجتَ تسأل عن البِرّ من اليقين والشك"، قال: والذي بعثك بالحق، ما أخرجني غيره! هذا هو الذي خرجت لأسألك عنه.
قال: "فإن البرّ ما استقرَّ في النفس واطمأنَّ في القلب، والشك ما لم يستقر في النفس ولم يطمئن إليه القلب، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أفتاك المُفتُون".
أحسِن المعاملة مع ربك بالصدق، وما علم به النبي في قلبه من معرفة وإدراك، قال انتبه لهذا السر بينك وبين الله، ولا تغترَّ بفتوى المُفتين ولا كلام الناس، اصدق مع الله في وجهتك.
فقلت: وكيف لي بِعلم ذلك؟ قال: "تضع يدك على فؤادك، فإنّ القلب يسكن للحلال ولا يسكن للحرام، وإن ورع المسلم يدع الصغير مخافة أن يقع في الكبير".
قلتُ: بأبي أنت وأمي، ما العصبيّة؟ هل من العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال ﷺ: "لا، ولكن العصبية - أي العصبية المذمومة - ولكن العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم". هذه العصبية، ولكن أن يحب قومه، يحب جماعته، يحب قبيلته، ليس فيه إشكال، وهو يحبهم وعليه ينصحهم.. ولكن أن يساعدهم على الظلم؟ هذه العصبية الممقوتة، فلا يعينهم على ظلم، أو على ترك واجب، أو على فعل مُحرم.
قلت: فمن الحريص؟ - هذا صاحب الحرص المذموم - قال ﷺ: "الذي يطلب المكسبة من غير حِلِّها" هذا الحريص.
قلت: فمن الورع يا رسول الله؟ قال: "الذي يقف عند الشبهة". إذا اشتبه الأمر توقف.
قلت: فمن المؤمن؟ قال: "مَن أمِنَه الناس على أموالهم ودمائهم".
قلت: فمن المسلم؟ قال: "من سلم الناس من لسانه ويده".
قلت: فأي الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حق عند إمام جائر"، وفي لفظ: "كلمة حُكم عند إمام جائر".
جاء في مروياته في صحيح الإمام مسلم، يقول: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ".
وفي رواية غير صحيح مسلم زيادة قال: "فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشقُّ عنه الأرض، وأول شافع وأول مُشَفَّع" صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن له اتبع.
وهكذا، ولابن حبان والطبراني أيضاً يروِيان عن سيدنا واثلة بن الأسقع: يقول: خرج علينا رسول الله ﷺ فقال: "تزعمون أني من آخركم وفاة، وإني من أولكم وفاة، - قرُب أجله كان - وتتّبعوني أفناداً يضرب بعضكم رقاب بعض".
قال ستعملون بعدي مقتلات ومُضاربات، قد عُرِضت عليه ﷺ وعلَّمه الله الحِكمة فيها، فعلم من علم الله ما لم يعلم غيره، وعرف أنها ماضية كما أراد الله.. لا إله إلا الله!
وهكذا في صحيح الإمام البخاري مِما يروي عن سيدنا واثلة، يقول: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: "إنّ من أعظم الفِرى - يعني الافتراء والفِرية - أن يدَّعي الرجل إلى غير أبيه" - ينتسب إلى إنسان غير أبيه - "أو يُري عينه ما لم ترَ" - يقول: أنا رأيت في النوم كذا، أنا رأيت كذا، كذب! هذا من أعظم الفِرية! والذي يقول هكذا يؤتى بشعيرتين من نار يوم القيامة، يُكلَّف أن يعقد بينهما، يُعذَّب يُعذَّب يُعذَّب، ما يقدر يعقد بين شعيرتين! أنت تقول إنك رأيت وما رأيت، مِن الخطر أن يُري عينه ما لم ترَ -
قال: "أو يقول على رسول الله ما لم يَقُل"، يجيء بحديث من عنده يصنعه وينسبه إلى النبي.. فهذه أعظم الفِرى، ثلاث: أن يدَّعي إلى غير أبيه، أو يُري عينه ما لم ترَ، أو يقول على رسول الله ﷺ ما لم يقُل، ليس هناك أكبر فِرية من هذه، والعياذ بالله تبارك وتعالى، فيجتنبها المؤمن.
وهكذا أيضاً في مسند الإمام أحمد، قال عن بشر بن حيان قال: جاء واثلة بن الأسقع ونحن نبني مسجدنا، قال: فوقف علينا فسلَّم، ثم قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: "من بنى مسجداً يُصلَّى فيه، بنى الله عز وجل له في الجنة أفضل منه".
وهكذا يروي أبو نُعَيم وابن عدي في الكامل عن سيدنا واثلة في علامات الساعة، يقول سيدنا واثلة: "لا تقوم الساعة حتى يمشي إبليس في الطُّرُق والأسواق يتشبَّه بالعلماء، يقول: حدثني فلان بن فلان عن رسول الله ﷺ كذا وكذا".. يعمل نفسه عالم! إشارة إلى أن الناس يتظاهرون بمظهر العلم ومظهر الحديث وهم من إنس إبليس ومن شياطينه، قال لا تقوم الساعة حتى يمشي إبليس في الطرق والأسواق يتشبه بالعلماء، يقول: حدثني فلان بن فلان عن رسول الله.. لا حول ولا قوة إلا بالله!
وفي رواية الحاكم وصححه الذهبي، أيضاً عن واثلة يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب، والدجال، والدُّخان، ونزول عيسى بن مريم، فيأجوج ومأجوج، والدابة تخرج من جبل الصفا، معها عصا وخاتم، تضع العصا على المؤمن فينكتب في جبينه مؤمن، وتختم بخاتم سليمان على المنافقين، يطلع في جبهته يكتب منافق.. أعوذ بالله! ما تُدرَك إذا مشت ولا يفوتها من سبق، من هرب منها تمسكه، فإذا رآها المنافقين يخافون تفضحهم، يهربون فتمسكهم، تختم عليه، ينكتب في جبينه منافق" والعياذ بالله تبارك وتعالى.
هذا من أواخر علامات الساعة، أشار إليها في القرآن الكريم.. لا إله إلا الله! يقول سبحانه وتعالى: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ).
وقال: "ونزول الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، تحشر البَرَّ والنمل"، لا إله إلا الله!
وفي مروياته أيضاً عند أبي نعيم أنه قال: قال النبي ﷺ: "لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني، ومن رأى من رآني، ومن رأى من رأى من رآني"، يعني أكثر الفتن والفساد والضر يحصل بعد القرون هذه، بعد مرور هذه الأجيال الثلاثة: من رآني وصاحبني، ومن رأى من رآني، ومن رأى من رأى من رآني، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وكذلك أيضاً ابن حبان في صحيحه والحاكم في مروياته عن واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "قال الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء". يا ما أعظمه من رب! قال إن المطَّلع على سرك وجهرك، ماذا تظن فيه؟ إذا عظَّمتني ورجعت إليَّ مهما كنت، وصدقت معي، إن ظننت بي المغفرة أغفر لك ، وإن ظننت بي الجود أجود عليك، وإن ظننت بي الإحسان، أُحسن إليك، فليظن بي ما شاء. الله أكبر!
وفي مروياته أيضاً عند الإمام الترمذي وعند الطبراني يقول: قال رسول الله ﷺ: "لا تُظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك"، وفي لفظ: يرحمه الله ويبتليك، إذا واحد أُصيب بمصيبة ظاهرة أو باطنة لا تشمت عليه، فإن أظهرتَ الشماتة هو سيُعافى والذي وقع فيه أنت ستقع فيه، وسيقع لك مثله، لأنك قليل أدب، تشمت بناس الله أوقعهم فيما أوقعهم فيه، أو ابتلاهم بما ابتلاهم، ماذا لك أنت؟ تأدَّب وخف من الله أن يبتليك بشيء من ذلك، إن عندك رحمة ارحم، إن عندك نصيحة انصح على وجهها، ولا تشمت، أما تشمت؟ أما إذا شمّتت فالعافية عليهم والبلاء ينزل عليك، والعياذ بالله تعالى.
وهكذا مِما رواه ابن عساكر عن سيدنا واثلة بن الأسقع يقول: "مِن بركة المرأة تبكيرها بالأنثى، أما سمعت قول الله تعالى: (يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ)، بدأ بالإناث قبل الذكور"، والمراد: أنهُ لا ينبغي للمؤمن أن يتشاءم بمجيء الإناث له أو تبكير زوجته بالأنثى، فإنّ في ذلك أيضاً خيراً، كما أن في مجيء الأبناء خير فكذلك في مجيء البنات.
وفي أيضاً عند أبي نعيم في كتاب معرفة الصحابة، يروي عن واثلة بن الأسقع يقول: قال رسول الله ﷺ: "أربعة دعوتهم مستجابة: الإمام العادل - وقليل ما هم - والرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب" - ولهذا قال: مِن أفضل الرغائب دعاء الغائب بالغائب، أن يدعو المؤمن لأخيه الغائب، ومن تعرفونه من إخوانكم المؤمنين تذكرونهم بالدعاء في المجالس والمجامع بعد الصلوات، دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب - "ودعوة المظلوم - اتّقِ دعوة المظلوم ولو كان كافراً، لو حتى كافر دعا عليك يستجيب الله، لأنه ما يحب الظلم،"إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" لا إله إلا الله.. ورجل يدعو لوالديه، فإن الله يقبل منه لأنه يحب البر بالوالدين.
وكما أنه جاء في الأحاديث الأخرى أنّ دعاء الوالد لولده كدعاء النبي لأمته، يكون مقبولاً.
وأيضاً عند الطبراني مِن المرويات عن سيدنا واثلة يقول: إن رسول الله ﷺ قال: "يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم". قبيلة كاملة بني تميم، أعداد منهم، مئات الألوف، ملايين.. قال واحد من أمتي يشفع يوم القيامة فيدخل الجنة بشفاعته عدد بني تميم. سبحانه! (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ)، (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، فيأذن.
فالواحد من الأمة هذه يشفع في هذا، وقال عن سيدنا أُوَيْس القرني: قيل له يوم القيامة: قِف، فيشفّع في عدد ربيعة ومُضَر - هذه أكبر قبائل العرب، ربيعة ومُضَر، ملايين - واحد، أُوَيْس، يشفع فيهم يوم القيامة. ما شاء الله!
ومن مروياته أيضاً عند الطبراني وأبو يعلى، يقول أنه سمع النبي ﷺ يقول: "خير شبابكم من تشبَّه بكهولكم". فإن الكهول جاوزوا سن الشباب، أهل وعي وإدراك وفهم للحقائق، ينأون بأنفسهم عما لا يليق، ويحبون الوقار والسكينة والصدق. يقول: الذي يتشبَّه بهم من الشباب، هم خير الشباب. "خير شبابكم من تشبَّه بكهولكم، وشر كهولكم من تشبَّه بشبابكم"، كهل يقفز كالشباب، يعمل نفسه شاب، قد قطعت المرحلة.. اعقل! هؤلاء شر الكهول من يتشبَّهون بالشباب، وخير الشباب من يتشبَّهون بالكهول.
ثم إنه حيَّ مدة بعده صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله، انتقل من المدينة إلى الشام، وتُلُقِّي عنه كثير من الأحاديث، وحصلت له بعض الوقائع.
فالله يرضى عن أصحاب سيدنا رسول الله أجمعين، وعنا بهم، ويُرينا وجوههم في البرزخ والقيامة ودار الكرامة، ويجمعنا بهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً، يا خير رفيق هم والله.
اللهم لا تقطعنا عنهم، ولا تُبعدنا منهم، ولا تُخلِّف أحداً منا عن ركبهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
13 صفَر 1447