درس السيرة النبوية - رُسُل رسول الله ﷺ: حريث بن زيد - 3 -
من دروس السيرة النبوية التي يلقيها العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، ضمن دروس الدورة التعليمية الحادية والثلاثين بدار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية، رُسُل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مواصلة الحديث عن الصحابي حُرَيث بن زيد - 3 -
عصر يوم الخميس: 22 محرم 1447هـ
الصحابي حريث بن زيد - من رُسُل رسول الله:
حملة رسائل النبي ﷺ:
هؤلاء الذين صحبوا رسول الله ﷺ، ومنهم كنا نتحدث عن الذين حملوا رسائله عليه الصلاة والسلام. كنا قد ذكرنا قدوم يوحنّا من دومة وأيلة وتيماء وما حواليها إلى النبي ﷺ أيام غزوة تبوك، أيام خرج إلى تبوك. رأوا انتشار هذا الإسلام وغلبة أصحابه وتأييد الله لهم، وخافوا على أنفسهم، ورأوا العرب قد أسلمت.
قدوم يوحنا بن رؤبة إلى النبي ﷺ:
فقدم هذا يوحنا بن رؤبة على النبي ﷺ مع خالد بن الوليد، وكان هو ملك أيلة، أشفق أن يبعث إلى الرسول ﷺ جيش يقاتلهم، كما بعث إلى أكيدر صاحب دومة الجندل، وحصل أنه قُتِل أخوه أكيدر، وجاء قدم إلى النبي ﷺ وحقن دمه وصالحه على الجزية، فجاء من نفسه يوحنا إلى عند رسول الله ﷺ في غزوة تبوك.
قصة القباء المخوص بالذهب:
وذكرنا أنه كان في الغنائم التي قدم بها سيدنا خالد إلى النبي ﷺ قباء ديباج مخوّص بالذهب كان ليّن، وأنه تعجب المسلمون يلمسونه بأيديهم يتعجبون منه، فلاحظهم ﷺ، فقال: "أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا".
وكان يربط أفكارهم إلى السمو والعلو، أن يستحضروا في أذهانهم المآل الأكبر والمستقبل الأعظم دائماً، ولا يغيب ذلك عن أذهانهم، لأن في هذا خير لهم وحسن استعداد.
في صحيح مسلم: "أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين"، المنديل الذي يمسح به سعد، وماذا يمسحون؟ يمسحون عرق مثل رشح المسك، لأنه لا بول لهم ولا غائط في الجنة، وإنما رشحهم المسك، عرق، كالمسك يمسح به وجهه، لو أخرجناه إلى الدنيا، جميع الذهب في الدنيا والفضة يذهب مقابل هذا لن نجد قيمته، وهو أحسن وألين. الله أكبر! لمناديل سعد في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
اجتماع أهل أيلة والمناطق المجاورة:
فأهل أيلة وهذا ملكهم يوحنا، لما سمعوا الأخبار وما حصل، أقبل بنفسه ومعه من في مملكته من الشام واليمن عدد، ومن جربة ومن أذرح، فوصلوا إلى معسكر النبي ﷺ في تبوك مع سيدنا خالد بن الوليد، فأتوا النبي يطلبون الأمان، فاجتمعوا عند النبي ﷺ وقاضاهم على قضيته على دومة وتبوك وأيلة وتيماء، وصالحهم وقطع عليهم الجزية ثلاثمائة، يُسلمونها كل سنة ثلاثمائة دينار، وكتب لهم الكتاب.
هدية البغلة وتبادل الهدايا:
عرض النبي عليه السلام على يوحنا هذا - لم يُسلم - فتصالح معه، وحتى جاء في الخبر أنه أتى معه ببغلة أهداها إلى نبينا - يوحنا - قبلها النبي ﷺ، وصاروا يعرفون هذه البغلة، يقولون عنها: هدية ابن العَلمة، العلمة أُمُّه، أُمُّ يوحنا هذا، ابن العِلمة. يقولون: هدية ابن العِلمة. البغلة هذه اشتهرت بأنها هدية ابن العِلمة.
يقول سيدنا عبد الرحمن بن جابر: رأيت يوحنا بن رؤبة يوم أُتي به إلى النبي ﷺ، عليه صليب من ذهب وهو معقود الناصية، فلما رأى النبي ﷺ كفّر - يعني أومأ برأسه ووطّأ رأسه تحيتهم يحيون بها، كتحية للنبي ﷺ، فأومأ للنبي، قال له ﷺ: ارفع رأسك.
صالحه، مع أنه بالصليب، حامل صليب من ذهب وقاعد عند النبي ﷺ، والنبي يسع هذا كله ويصبر عليهم، عرض عليه الإسلام فأبى، فصالحه ﷺ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).
كتاب الأمان من النبي ﷺ:
وصالحه وأمر به بمنزل عند بلال، قال: خذوه عند بلال، عند الخيمة التي لبلال، لأن النبي في الصحراء في تبوك، قال أنزلوه هناك، لكي يكون محل لائق ينزل فيه عند سيدنا بلال عليه رضوان الله.
جاء في رواية الطبري وابن حبان والبيهقي أن قدوم يوحنا ﷺ في تبوك قدم إليه، وهذا معلوم، فإذن المكان الذي قالوا يقوم إلى المنزل.. ليس منزل، لا يوجد دار مع بلال هناك، بل خيمة.
كتب إليهم ﷺ: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمانة من الله ومحمد رسول الله ليوحنا بن رؤبة وأهل أيلة، سُفُنُهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً - اعتدى على أحد أو آذى أو ظلم - فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طَيِّب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يُمنعوا ماءً يريدونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر".
العدل والرحمة في المعاملة:
فكتب هذا الأمان ﷺ يرعى مصالح الناس عامة، المؤمنين خاصة، ومصالح الناس عامة في المنطقة. جاء له بصليبه من الذهب وكلّمه وتصالح معه ﷺ، ولا أكرهه على الدين، ومع ذلك قال هذا الصلح لكم؛ أمان في البر والبحر، نؤمِّن الطرق، من أراد منكم يمشي ما أحد يتعرض له، والمياه التي تريدونها لا يمنعونكم منها، أي جهة تريدون تتوجّهوا إليها امشوا، وذمة الله وذمة رسوله لكم. إلا من أحدث حدثاً فيؤخذ بمقدار جريمته وحده فقط، غير هذا لم يفتح باباً للجرائم ولا لعبة ولا اعتداء على أحد.
وإن كانوا على غير الملة: تتاجرون، تسافرون، تبيعون، تشترون، مؤمَّن لكم، امشوا في حياتكم، تكسبون المصالح والمال امشوا في طريقكم، وكتب هذا التأمين صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
إكرام النبي ﷺ ليوحنا:
وهكذا "هذا كتاب جهم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة كتبوه بإذن رسول الله ﷺ" . وأكرمه ﷺ وقومه وكساه برداً، فهذا البُرد بعد ذلك اشتراه منه بعض المسلمين، أعطوا فيه كم ألف، اشترى منه هذا البُرد تعظيماً لبُرد النبي ﷺ.
قالوا: وفيه أيضاً هذا من اللطائف أنه أعطى النبي بغلة وقبلها منه، والبغلة يعلو عليها ﷺ، فأعطاه البُرد، والبُرد يعلو على يوحنا يضعه فوق، فله العلو في الطرفين ﷺ: البغلة التي جاءوا بها يعلو عليها ويركب، والبُرد الذي أعطاهم يعلو فوقهم، فكانت هذه من اللطائف في أعماله صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
وقالوا: إنما قبل هذه البغلة منه لأنه جاء بها إليه لشخصه، لا دخل لها في القتال ولا في الجهاد، ولو كان الإمام محاصر قوم فتحصّل على شيء فهو غنيمة يُعطاها، ولكن هذا ليس، لم يكونوا محاصَرين، وجاءوا قاصدين وجاءوا لزيارته ﷺ، ولا دخل له فيما يستلم العمال ويخرجوه من هنا ومن هناك، قبل منه البغلة ﷺ تودداً له وترجِّياً لإسلامه، وأعطاها إياه لشخصه ﷺ.
قيمة البُردة وثبات الجزية:
هذه اشتراها - البُردة التي أعطاه إياها - بعد ذلك عبد الله بن محمد بثلاثمائة دينار، يعني ثلاثة آلاف درهم.
قال أيضاً: أنه وضع عليهم ﷺ الجزية مقطوعة ثلاثمائة دينار كل سنة، واستمر ذلك حتى إلى عهد سيدنا عمر بن عبد العزيز، وهم قد كثروا، وهم كانوا في تلك الأيام أيام النبي ﷺ نحو ثلاثمائة أهل المنطقة، فقال ثلاثمائة دينار في كل سنة والأمان بيننا وبينكم، ونؤمّن لكم الطرق ونضمن، امضوا على دينكم ولا تمنعوا دعوة الله تنتشر، ولا نُكره أحداً على الدين، امضوا ولكم الأمان، ويدفعون في السنة ثلاثمائة دينار.
فبقيت حتى في عهد سيدنا أبي بكر، سيدنا عمر، كثروا هم وما زادوا عليهم، إلى وقت سيدنا عمر بن عبد العزيز صاروا عدداً كثيراً، قال: النبي حدد ثلاثمائة ولا لنا كلام! أبقوها أدباً مع تحديد رسول الله ﷺ وتعيين رسول الله.
الدعاء:
رزقنا الله الاتباع والاقتداء والارتفاع والاهتداء والاطلاع والعطايا الوساع، والشُرب من كؤوس المحبة، والدخول مع الأحبة، وارتقاء شريف الرتبة، وربطنا بسيد الأحبة ربطاً لا ينحل، يقوى أبداً، ويجعلنا به من أسعد السعداء هاهنا وغداً، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
02 صفَر 1447