درس السيرة النبوية - رُسُل رسول الله ﷺ: حريث بن زيد - 2 -

للاستماع إلى الدرس

من دروس السيرة النبوية التي يلقيها العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، ضمن دروس الدورة التعليمية الحادية والثلاثين بدار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية، رُسُل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مواصلة الحديث عن الصحابي حُرَيث بن زيد - 2 -

عصر يوم الجمعة: 16 محرم 1447هـ

الصحابي حريث بن زيد الخير:

  • - ابن الصحابي الجليل زيد الخير (الذي كان يُلقّب بـ "زيد الخيل" قبل إسلامه)
  • - بعثه النبي ﷺ إلى يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة (مدينة ساحلية كان يجتمع فيها حجاج الشام ومصر).
  • - بعد رسائل النبي ﷺ، أسلم يوحنا ووفد معه إلى النبي ﷺ.
  • - كان مما ورد مع الغنائم ديباج مذهب أُعجب به الناس، فذكّرهم النبي ﷺ بأن مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منه.

 

نص الدرس مكتوب:

تذكرنا من أهل هذه الأخلاق، كان سيدنا زيد الخير وولده هذا الحُريث بن زيد، الذي تولاه النبي ﷺ بعض الرسائل، أرسلها على يده. استطردنا إلى ذكر والده سيدنا زيد، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.

طلب زيد الخير ووفاته

وقال سيدنا زيد: "يا رسول الله، أعطني ثلاثمائة فارس أغير بهم على قصور الروم".

فقال له: "أيُّ رجل أنت يا زيد! ولكن أمُّ الكلبة تقتلك"، يُشير إلى الحُمَّى.

وخرج زيد الخير من عنده ﷺ راجعًا إلى قومه، وبعد ذلك قطع له النبي ﷺ مكانًا يقال له فَيْدَة، موضع بشرقي سَلْمَى، أحد جبال بني طيء، وأراضيه. وكتب له بذلك كتابًا، وكتب معه الرسول صلى الله عليه وسلم لبني نبهان بفَيْدَك - مكان آخر بجنبه - كتابًا مفردًا.

خرج من عند النبي ﷺ، وعندما خرج قال النبي: "لن ينجو زيد من أمِّ ملْدَم" يعني الحُمَّى، وفي لفظ قال: "أيُّ رجل إن سَلِم من آطام المدينة!"، جاوزها وهو بخير، ما جاءته الحُمَّى.

قال: فلما انتهى من بلاد نجد إلى ماء من مياهه يقال له "فَرْدَة"، أصابته الحُمَّى، اشتدت عليه فمات، عليه رضوان الله.

أبيات زيد الخير عند موته

فلما أحسَّ بالموت قال:

أَمُرتحل قومي المشارقَ غُدوةً * وأُترَكُ في بيتٍ بفَرْدَةَ مُنجِدِ 

سقى اللهُ ما بين القُفيرِ فطابة * فما دون أرمامٍ فما فوقَ منشدِ 

هنالك لو أني مرضتُ لعادني * عوائدُ من لم يُشفِ منهنَّ مجهدِ 

فليت اللواتي عُدنَني لم يَعُدنَني * وليت اللواتي غِبنَ عني عُوَّدي

لا إله إلا الله.. فقامت امرأته - مسكينة لجهلها - فأخذت الكُتُب التي معه وأحرقتها.

إرسال علي بن أبي طالب لهدم صنم طيء

بعد ذلك، في شهر ربيع الآخر من السنة التاسعة نفسها، أرسل ﷺ سيدنا علي بن أبي طالب في سَرِيَّة إلى ديار طيء، وأمره أن يهدم صنمهم هذا الذي يقولون له "الفَلس". فسار إليهم فأغار عليهم وغنموا سبى، وكسروا الصنم.

كان مُقَلِّدين الصنم سيفين ممتازين! صنم! لكن عقائد الناس إذا اختلَّت تصوراتهم وعقائدهم يعملون مثل هكذا، واضعين سيفين ممتازين قويين، واحد يقال له "مُخدّم" والآخر "رسُوب". أخذهما سيدنا علي وحملهما إلى رسول الله ﷺ.

حُريث بن زيد الخير رسولاً

أما هذا حُريث بن سيدنا زيد الخير، فحمَّله صلى الله عليه وسلم كتابًا، ذكر ه الإمام ابن حجر في الإصابة، يقول روى الواقدي أن حُريث بن زيد الخير كان صلى الله عليه وسلم بعثه إلى نجبة من زربة وأهل أَيْلَة.

أَيْلَة غير إيلياء - بيت المقدس - أَيْلَة بلد أخرى في ساحل البحر المالح، كان يجتمع بها حُجَّاج الشام وحُجَّاج مصر والمغرب، يجتمعون هناك، والتجارات فيها، وسُميت بأَيْلَة بنت مَدْيَن، وهذه القرية مذكورة في القرآن حاضرة البحر: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ)، هذه كانت حاضرة البحر.

يقول ابن حجر: فقد بعثه إلى يُوحَنَّا بن رُؤْبَة الأَيْلي النصراني صاحب أَيْلَة، وكان يسكن في سلطانه عدد من المسلمين في أَيْلَة معه ومَقْنَا، حيث يسكن مَقْنَا جماعة من المسلمين.. مواطن في تلك البقعة، وبعض اليهود كانوا يسكنون هناك.

كتاب النبي إلى يُوحَنَّا بن رُؤْبَة

فكتب صلى الله عليه وسلم مع حُريث بن زيد الخير ومن صحبه من رُسله صلى الله عليه وسلم كتابًا إلى يُوحَنَّا أمير هذا، ومن في مَقْنَا من اليهود والمسلمين.

وذكر ابن سعد في الكتاب أنه كتب صلى الله عليه وسلم: "إلى يُوحَنَّا بن رُؤْبَة وسروات أهل أَيْلَة: سِلمٌ أنتم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، فإني لم أكن لأقاتلكم حتى أكتب إليكم، فأَسْلِم أو أعط الجزية، وأطع الله ورسوله" ، لا تصُدّ دعوة الله تعالى، ولا تمنع الناس من دخول دين الله، وابقى محلَّك على مُلكك، ما علينا منك ومن مُلكك، وسلِّم الجزية واترك الناس آمنين مطمئنين في أماكنهم، ودعوة الله تنتشر، وابقى أنت على ما تختار إليه.

 يقول: أسلِم، فأَسْلِم، وأعطِ الجزية، وأطِع الله ورسوله ورُسُل رسوله، وأكرمهم واكسُهم كسوة حسنة، غير كسوة الغُزاة، واكسُ زيدًا كسوة حسنة، فمهما رضِيَت رُسُلي فإني قد رضيتُ. وقد عُلِمَ الجزية.

قال: فإن أردتم أن يأمن البَرُّ والبحر، فأطِع الله ورسوله، ويُمنع عنكم كل حق كان للعرب والعجم إلا حق الله وحق رسوله"، ما عليكم إلا ما فرض الله ورسوله هو هذا الحق، ولا عليكم حق، ولا أحد سيأخذ عليكم شيء، ولا تأخذون على أحد شيء.

 "وإنك إن رددتهم ولم تُرضِهم، لا آخذ منك شيئًا حتى أقاتلكم، فيُسبى الصغير ويُقتل الكبير. فإني رسول الله بالحق، أؤمن بالله وكُتُبه ورُسُله، وبالمسيح ابن مريم أنه كلمة الله، وإني أؤمن به أنه رسول الله"، كان نصراني، "وأتي قبل أن يَمَسَّكم الشر، فإني قد أوصيتُ رُسُلي بكم"، يُحسنوا إليكم ويتعاملوا معكم بما ينفع. قال:" وأعطِ حَرْمَلَة ثلاثة أوسُق شعيرًا، وإن حَرْمَلَة شفع لكم، وإني لولا الله وذلك لم أراسلكم شيئًا حتى ترى الجيش"، بسبب صَدِّكم وإبائكم، حتى ترى الجيش.

"وإنكم إن أطعتم رُسُلي فإن الله لكم جار، ومحمد ومن يكون منه، وإن رُسُلي: شُرَحْبِيل وأُبَي وحَرْمَلَة وحُريث بن زيد الطائي، فإنه مهما قاضوكم عليه فقد رضيته. وإن لكم ذمة الله وذمة محمد رسول الله، والسلام عليكم إن أطعتم، وجَهِّزوا أهل مَقْنَا إلى أرضهم". فيهم مسلمون وفيهم يهود.

كتاب النبي إلى أهل مَقْنَا

وكتب إلى أهل مَقْنَا من اليهود والمسلمين. قال ابن سعد: كتب رسول الله ﷺ إلى بني جَنْبَة - وهم يهود بمَقْنَا - وإلى أهل مَقْنَا. قال: مَقْنَا قريب من أَيْلَة.

"أما بعد، فقد نزل عليَّ أيّتُكم - يعني رُسُلكم - راجعين إلى قريتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون، ولكم ذمة الله وذمة رسوله، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم وكل ذنوبكم" ، ما سبق منكم من الأذى والذنب، لسامحناكم فيه.

يقول صلى الله عليه وسلم: "وإن لكم ذمة، لا ظُلم عليكم ولا عِداء"، ما أحد يعتدي عليكم.. "وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه" ، "فإن لرسول الله - رسوله صلى الله عليه وسلم- بَزَّكم - يعني الجزية التي صالحكم عليها - وكل رقيق فيكم، والكُراع والحَلْقَة، إلا ما عفا عنه الله أو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم".

" وإن عليكم بعد ذلك رُبع ما أخرجت نخلكم، ورُبع ما صادت عُروقكم، ورُبع ما اعتزل نساؤكم، وإنكم بَرِئتم بعد من كل جزية أو سُخْرَة، فإن سمعتم وأطعتم، فإن على رسول الله أن يُكرم كريمكم ويعفو عن مُسيئكم".

"أما بعد، فإلى المؤمنين والمسلمين: من أطلع من أهل مَقْنَا بخير فهو خير له، ومن أطلعهم بشر فهو شر له، وأن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله. والسلام".

قدوم يُوحَنَّا على النبي 

فقدم يُوحَنَّا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه خاف، رأى العرب وقد ذَلُّوا لسيف الإسلام وأسلموا، ودخلوا في دين الله أفواجًا، فقدم يُوحَنَّا بن رُؤْبَة على النبي صلى الله عليه وسلم مع سيدنا خالد بن الوليد.

وكان يُوحَنَّا ملك أَيْلَة أشفق أن يبعث إليهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا يقاتلهم ما يقدر عليهم، كان له عبرة من أنه كل من يقابل جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم انهزموا.

قصة أُكَيْدِر صاحب دومَة الجَنْدَل

كما بعث النبي إلى أُكَيْدِر صاحب دومَة الجَنْدَل، حيث كان بعث خالد بن الوليد إليه، قتل أخاه حسان، وبعث بغنائمهم إلى رسول الله، ثم قدم أُكَيْدِر على النبي ﷺ، فحقن له دمه وصالحه على الجِزية.

ما أوسع كرمه صلى الله عليه وسلم! قاتلهم وتمكَّن منهم، وجاءوا بالأمير حقَّهم وقتل أخوه، وجاءوا بالأمير إلى عند النبي، حقن دمه وقال ترجع، جِزية واجلس محَلَّك هناك، ولكن لا تمنع دعوة الله، لا تصدّ عنهم سبيل الله، وامشي على هذه الشروط.

فبُعِث بالأمن ﷺ وبالأمان، بالرحمة للقاصي والدان، صلوات ربي وسلامه عليه. وصالحه على الجزية ثم خلَّى سبيله، فرجع إلى قريته.

مناديل سعد في الجنة

وهكذا كان في الغنائم التي قدم بها سيدنا خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قَباء ديباج مَخُوّص بالذهب. فجعل يتعجَّبون منه أهل المدينة، ما رأوا مثل هذا! لا المهاجرين ولا الأنصار، ما هذا؟ فجعلوا يلمسونه بأيديهم يتعجَّبون منه.

لاحظهم صلى الله عليه وسلم، قال: "أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده، لَمَناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا". المنديل الذي يمسح به وجهه سيدنا سعد في الجنة،وأحسن من هذا وأغلى وألْيَن، اللهم صلِّ عليه وعلى آله.

حتى جاء في صحيح مسلم يقول: "أتعجبون من لِين هذه؟ لَمَناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألْيَن". الله أكبر، الله أكبر!

في الحديث الآخر يقول: "لَمنديل سعد في الجنة خير من الدنيا وما فيها".

هذا المنديل الذي يمسح به.. سعد بن معاذ مات شابًّا، شيء وثلاثين، قريب الأربعين، عليه رحمة الله تبارك وتعالى، وكان سيدًا من سادات الأنصار! كان سيد الأوس سعد بن معاذ، وصاحبه سيد الخزرج سيدنا سعد بن عُبادة.

وهذا الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: "إن للقبر ضغطة، لو نجا منها أحد نجا منها سعد بن معاذ، وقد اهتزَّ لموته عرش الرحمن فرحًا بقدوم سعد" رضي الله تعالى عنه.

طلب الصُّلح

فلما سمع أهل أَيْلَة بخبر ما فعل جيوش المسلمين بأُكَيْدِر، خافوا، وأقبل يُوحَنَّا ملك أَيْلَة، ومعه ممن في مملكته من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، ومن جَرْبَاء وأَذْرُح، وكان وصولهم إلى معسكر النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك مع وصول خالد بن الوليد حين قدِم بأُكَيْدِر.

فأتوا النبي يطلبون الأمان، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاضاهما على قضيَّته، على دومَة وعلى تبوك وعلى أَيْلَة وعلى تَيْماء، وصالحهم وقطع عليهم جزية معلومة.

واشترط عليهم قِراء من مرَّ بهم. فقال إذا مرَّ بكم أحد من المسلمين اكرموه، قربوا له غداء وعشاءوانزلوه، أي يمرُّ بكم للجهاد، يخرجون للجهاد.

صلى الله عليه وسلم رعى مصالح العباد والبلاد بنور وحي من الله سبحانه وتعالى، فما تجد الأمة نظامًا خيرًا من نظامه، ولا مسلكًا خيرًا من مسلكه ﷺ، للدول وللشعوب، وللمؤمن وللكافر، ما شيء أحسن من طريقته صلى الله عليه وسلم ونظامه الرباني الرحماني القويم، الله أكبر!

فعرض النبي عليه الإسلام - يوحنا - فلم يُسلم، قَبِل منه الجزية ليرجع مكانه، لكن يمشون على هذا المنهج، فما أعجبه وما ألطفه وما أهداه وما أقوَمه وما أقواه في الحق صلوات ربي وسلامه عليه! ما يترك ثغرة أحد يلعب بها من هنا ومن هناك، في رأفة وفي رحمة وعطف على الكل، ولكن في نُبْل ووعي، ما يترك ثغرات يلعب بهذا هذا على هذا، يلعبون بها على الإسلام ولا على الدين.

صلوات ربي وسلامه عليه، ورزقنا حُسن متابعته، وحشرنا جميعًا في زُمرته، وأسعدنا الله في الدنيا والبرزخ والآخرة برؤيته، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 

تاريخ النشر الهجري

30 مُحرَّم 1447

تاريخ النشر الميلادي

25 يوليو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام