الأربعين في أصول الدين - 47 | ذكر الموت (7) تكملة بيان عذاب الآخرة وخصائص الروح الإنسانية

للاستماع إلى الدرس

الدرس السابع والأربعون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي. القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: تكملة شرح الأصل العاشر: ذكر الموت (7)

 في مسجد الحسين بن طلال، عمّان، ضمن دروس الدورة العلمية في موسم شهداء مؤتة الأبرار، الأردن

مساء الأحد 4 جمادى الأولى 1447هـ

في ختام بيان أصناف عذاب الآخرة، يوضح الحبيب عمر بن حفيظ أصل الروح وتعلقها بالعالم العلوي، وسبب آلامها حين تُقيَّد بالشهوات، ويظهر الفرق بين من أُعتِق بالذكر ومن أُسِر بالشهوة، مبيّناً أن أصل النجاة هو صفاء القلب وكثرة الذِّكر..

 

نص الدرس المكتوب: 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

"فكذلكَ الرُّوحُ الإنسانيُّ مِنَ العالَمِ الرُّوحانيِّ الإلهيِّ بأصلِ فطرتِهِ، فلهُ بحكمِ الطَّبعِ حنينٌ وشوقٌ إلى عالَمِ العُلْوِ، وهوَ عالَمُ الأرواحِ، وإلى مرافقةِ الملأ الأعلى، ولٰكنَّ أغلالَ الشَّهَواتِ وسلاسلَها تَجذِبُهُ إلى أسفلِ السَّافلينَ؛ وهيَ شهَواتُ الدُّنيا التي هيَ صفةٌ عارضةٌ قهرَتِ الصِّفةَ الطَّبيعيَّةَ، ومنعَتْها عن نيلِ مقتضاها، والألمُ يَتولَّدُ مِنْ بينِهِما.

والنَّارُ أيضًا إنَّما تؤلمُ للمُضادَّةِ؛ فإنَّ الملائمَ للتَّركيبِ بقاءُ الاتِّصالِ، والنَّارُ تُضادُّ الاتصالَ بالتَّفريقِ بينَ الأجزاءِ، ولو لم تكنْ قد رأيتَ النَّارَ، فحُدِّثتَ بأنَّ شيئًا لطيفًا ليِّنًا يُماسُّ بدنَكَ فيؤلمُكَ.. لاستنكرتَهُ، وقلتَ: شيءٌ لا صلابةَ فيهِ كيفَ يؤلمُ باللَّمسِ؟!

واعلمْ: أنَّ التَّضادَّ مؤلمٌ، سواءٌ كانَ بسببٍ خارجٍ أو داخلٍ؛ فإنَّ سُمَّ العقربِ يبقى في العضوِ، ويؤلمُ لفرطِ برودتِهِ المُضادَّةِ لحرارةِ البدنِ؛ فلا تظنَّنَّ أنَّ الآلامَ كلَّها تدخلُ مِنْ خارجٍ".

 

الحمد لله مكرمنا بأنوار الفهم التي تُخْرِج العباد من ظلمات الوهم، له الحمد وله المنة، كم وهب من منة وفطنة تُدرَك بها حقائق المِنّة، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، أرسل إلينا عبده سيد أهل النفوس المطمئنة بالهدى وحُسْن البيان لما أوحاه إليه وأمره بتبليغه للإنس والجان والقاصي والدان، فأحسن التبيين والتوضيح لما جاء به عن رب العالمين وترك الأمة على المَحجّة البيضاء، فجزاه الله عنها خيرًا، وصلى وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحبه الذين أقرضوا الله قرضًا حسنًا فأحسنوا قرضًا، وعلى من والاهم واتبعهم سنة وفرضًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أكرَمِ من لطُرق الحق والهدى أضاء، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحمُ الراحمين.

 

وبعد، فيتحدث الشيخ -رضي الله عنه- عن: خصائص "الرُّوحُ الإنسانيُّ"  الذي هو من عالم الأمر، ومن الشأن "الرُّوحانيِّ الإلهيِّ بأصلِ فطرتِهِ"، قال تعالى: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء:85]، وقال تعالى للملائكة عن آدم: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:29]. 

 

قال: وهذا الروح الإنساني الذي هو بأصله من ذلك العالم، "فلهُ بحكمِ الطَّبعِ حنينٌ وشوقٌ إلى عالَمِ العُلْوِ، وهوَ عالَمُ الأرواحِ، وإلى مرافقةِ الملأ الأعلى" من الملائكة وأرواح النبيين والصديقين والمقربين؛ فإن هذا الروح الذي هو من عالم الأمر عظيم الشأن، وقد كان يسكن في السماء قبل الأرض، ويشير إليه ما جاء من ذكر الأَسْوِدَة التي رآها نبينا ﷺ ليلة الإسراء والمعراج بالنسبة لبني آدم، الأرواح التي لم تخرج بعد إلى عالم الأرض، وأَسْوِدَةٌ عن يمينه وأَسْوِدَةٌ عن يساره، إذا نظر إلى من عن يمينه ضحك، وإذا نظر إلى من على يساره بكى، فسأل ﷺ جبريل فقال: هذه نَسَمُ بنيه، أهل الجنة عن يمينه، وأهل النار عن يساره، فإذا نظر إلى من يدخل الجنة من ذريته فرح وضحك، وإذا نظر إلى من يدخل النار من ذريته حزن وبكى.

فهذه في السماء، جميع أرواح الموجودين الآن في الأرض كانت في السماء، فإذا كُوِّن لها الجسد المُعيَّن لها في بطن الأم، أمر الله الملك أن يأخذها فينفخها في ذلك الجسد بعد أن يتحول من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى هيكل عظمي ثم يُكسى لحمًا، ثم يؤمر الملك فينفخ فيها الروح، فتنحبس الروح في هذا القفص وأصلها مطلقة، وكانت مع الملأ الأعلى.

لذلك خاطب الإمام الحداد روح الإنسان يذكرها بمعهدها الأصيل، فقال:

يا أَيُّها الروحُ هَل تَرضى مُجاوَرَةً *** عَلى الدَوامِ لِهَذا المَظلِمِ الكَدَرِ

فَأَينَ كُنتَ وَلا جِسمًا تُساكِنُهُ *** أَلَستَ في حَضراتِ القُدسِ فَاِدَّكِرِ

تَأوي مَعَ المَلَأِ الأَعلى وَتَكرَعُ مِن *** حِياضِ اُنسٍ كَما تَجني مِنَ الثَمَرِ

حَتّى جُعِلْتَ بِأَمرِ اللَهِ في قَفَصِ *** لَيَبتَليكَ فَكُن مِن خَيرِ مُختَبَرِ

 

فالروح تحن إلى عالمها الأصيل، ولكن بسبب هذا الحبس في الجسد وما سُلِّط على الإنسان في عالم الدنيا من الشهوات التي أول ما ينازله منها  شهوة الطعام، وقد ظل من حين نفخ الروح إلى وقت وضعه وخروجه من بطن أمه يُغذَّى بواسطة السرة من غذاء الأم، لا يأكل شيئًا، ولكن بمجرد ما يخرج من بطن أمه يستعد لأن يمص اللبن وأن يمضغ. 

  • فأول ما يُسلَّط عليه شهوة الطعام، فيألفها ويتدرج في أخذ الأطعمة من اللبن إلى ما هو فوق ذلك من الحلاوات، إلى أن يستطيع أن يمضغ اللحم وتهضمه معدته، وهكذا في أنواع المطعومات، ويتعلق بها، لمّا يشاهد الناس من أول ما يأتيه التمييز، وهم يتصنع بعضهم ببعض ويجامل بعضهم بعضًا ويُرائي بعضهم بعضًا، وفي نفس الوقت يحسد بعضهم بعضًا، ويبغض بعضهم بعض، ويكذب بعضهم على بعض، فيأخذ من هذه الخِلال ومن هذه الأخلاق الساقطة ما يزيدُ في حجاب روحه عن عالمها الأصيل. 
  • ثم تُركّب له بعد ذلك أيضًا شهوة اللهو واللعب والمناظر والصور.
  •  ثم تتركب له شهوة النكاح.
  •  ثم تأتي له شهوة الجاه وشهوة الحكم والسلطان، وكلها مُثقِّلات لروحه وحاجبات لها عن أصلها.

 

لهذا، يقول: لها "حنينٌ وشوقٌ إلى عالَمِ العُلْوِ"، "ولٰكنَّ أغلالَ الشَّهَواتِ وسلاسلَها تَجذِبُهُ إلى أسفلِ السَّافلينَ؛ وهيَ شهَواتُ الدُّنيا التي هيَ صفةٌ عارضةٌ قهرَتِ الصِّفةَ " الأصِيلَة "الطَّبيعيَّةَ، ومنعَتْها عن نيلِ مقتضاها، والألمُ يَتولَّدُ مِنْ بينِهِما" من هذا التضاد. 

قال: "والنَّارُ أيضًا إنَّما تؤلمُ للمُضادَّةِ؛ فإنَّ الملائمَ للتَّركيبِ بقاءُ الاتِّصالِ، والنَّارُ تُضادُّ الاتصالَ بالتَّفريقِ بينَ الأجزاءِ، ولو لم تكنْ قد رأيتَ النَّارَ، فحُدِّثتَ بأنَّ شيئًا لطيفًا ليِّنًا يُماسُّ بدنَكَ فيؤلمُكَ.." ويهلك بدنك، فإن لم تعرف النار وطبيعتها، قلت: إذا كان شيئًا لطيفًا فكيف يؤثر في بدني؟ إن شي قاسي قوي سوا، أما الأمر اللطيف كيف بيؤثر على بدني لا بيؤلمني؛ ولكن قد عرفت النار وأنت مُسلِّم بهذا الأمر.

"ولو لم تكنْ قد رأيتَ النَّارَ، فحُدِّثتَ بأنَّ شيئًا لطيفًا ليِّنًا يُماسُّ بدنَكَ فيؤلمُكَ، لاستنكرتَهُ، وقلتَ: شيءٌ لا صلابةَ فيهِ كيفَ يؤلمُ باللَّمسِ؟!" أشوف الهواء قدامي لا يؤلمني ولا شيء، ولا تعرف إلا إنه لطيف، وما يعرف طبيعة النار وماذا تعمل بالجسد، فيها مضادة.

 

 قال: "التَّضادَّ مؤلمٌ". وكذلك تتألم الروح بانقطاعها عن عالمها واشتغالها بما يضاد ذاك العالم من قبيح الصفات وخبيث الأقوال والأفعال.

 قال: وهذا يؤلم "سواءٌ كانَ بسببٍ خارجٍ أو داخلٍ؛ فإنَّ سُمَّ العقربِ" بعد أن يلسعك العقرب ويذهب، "يبقى في العضوِ، ويؤلمُ لفرطِ برودتِهِ المُضادَّةِ لحرارةِ البدنِ؛ فلا تظنَّنَّ أنَّ الآلامَ كلَّها تدخلُ مِنْ خارجٍ"، هناك آلام داخلية وربما كانت أشد.

وهكذا، و استجب لنداء روحك وهي تتشوق لعالمها الأول ومرافقة الملائكة والأرواح الطاهرة. 

وإنما يكون التلبية لنداء هذه الروح: 

  • بتخفيف العلائق بالفانيات. 
  • وبكثرة الذكر لرب البريات جل جلاله.

 

فبكثرة الذكر يظهر سر ما في الغيوب، (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]. (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:35]. 

لذا تجد من انحطاط الأمة أنه ما بين غافل عن الذكر من أصله، وما بين غافل في الذكر، يأخذون له نصيب من الأذكار في يومه وليلته، فرادى أو جماعات، مع ذلك ربما كان يذكر والقلب غافل، يذكر بذكر اللسان، فما أثَّر الذكر وما ظهرت الآثار لهذا الذكر، وإلا فمن شأنه أن يزيح الحُجب ويكشف الران ويبعد الران عن القلب ويطهره، فتنفتح عين البصيرة ويشرق نور القلب فيدرك الحقائق، ولكن لمّا يذكر وهو غافل يصير شأنه مثل هذا. 

 

ويُروى أن النبي موسى -عليه السلام- قال له بعض أمته: إن لي مطلبًا وحاجة من الله، فعلمني دعاءً أدعو الله به فيجيب دعائي. فعلمه، فأخذ يلح سنة وما رأى أثر الإجابة، فجاء إلى سيدنا موسى قال: يا كليم الله، لي سنة وأنا أدعو بهذا الدعاء وما انقضت حاجتي. قال: إذا كلمت ربي أسأله عنك. فلما كلم ربه قال: يا رب، عبدك فلان له سنة يدعوك وما انقضت حاجته. وأنا عبد من عبادك بما أعطيتني من رحمة، لو كانت حاجته إليَّ وسألني لأعطيته إياها، وأنت أكرم الأكرمين. فأوحى الله له: يا موسى، إن هذا يسألني ويدعوني وقلبه عند غنمه، طول السنة يدعوني ولكن قلبه مع الغنم، فلو دعاني مرة وقلبه معي لأجبته، لو مرة واحدة يدعوني وقلبه معي لأجبته؛ ولكنه يدعوني وقلبه عند غنمه.

فصار إصابة المسلمين بالانحطاط الكبير:

  •  إما بعدم الذكر.
  • وإما بالغفلة في الذكر عن المذكور جل جلاله.

ولو عملوا بالحضور مع الله في الذكر لأثمر لهم الذكر تنويرًا وتطهيرًا وخيرًا كبيرًا.

لذا كان يذكُر بعض الأحباب، أن بعض أهل النور والعلم في الشام كان في سوريا، وكان يَشْغَلُ من جاءه بالذِّكر لله تبارك وتعالى؛ فيتوصل إلى تطهير بواطنهم، قال: حتى جاءه بعض النصارى فقال له: اكتب لي إيش  تعتقد، عقيدة كذا الثالوث… اكتب لي كل ماتعتقده، فكتبه؛ فقال له: خلاص، الآن ادخل إلى الخلوة هذه؛ شغلك اسم الله فقط الله الله، ولا تشتغل بغيره، والشيخ يراقبه ويدعو له، أول يوم.. وثاني يوم.. وثالث يوم.. اخرج، خرجوه من الخلوة جاء، فقال له: خذ هذه عقيدتك، فقال: أستغفر الله أستغفر الله هذا ضلال. قال: كيف؟ أنت كتبته بيدك. قال: هذا ضلال، هذا ضلال، الله واحد، ما يكون معه إله غيره، هو على كل شيء قدير. تغير حاله من خلال الذكر، بس مشغول بالذكر ثلاثة أيام تحت نظر هذا الشيخ، فتغيرء وخرج من النصرانية ورجع إلى الإسلام من دون ما يكلمه الشيخ عن شيء ولا يحدثه عن شيء، ولكن ذكر الله جل جلاله.

لا إله إلا الله، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

وهو الذي قال لسيدنا معاذ بن جبل: "يا معاذ، إني أحبك فلا تَدعنَّ أن تقول بعد كل صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". 
فاعلم أن الذكر ما هو مجرد حركة اللسان، بل بطلب المعونة عليه؛ أعنِّي على ذكرك، أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. كما كان يقول سيدنا عمر في الدعاء: إني لا أحمل همّ الإجابة، ولكن أحمل همّ الدعاء، كيف أدعو؟ وعلى أي حال؟ وكيف أؤدي هذا الدعاء؟ وما حالي مع الله فيه؟ هذا الهمّ، أمّا الإجابة (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60] جل جلاله، ولهذا قال: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) [النمل:62] جل جلاله وتعالى في علاه.

 

وهكذا نعلم شؤون هذه الأرواح وما فيها، ومفاتيح الاتصال برغباتها وشوقها وتطلُّباتها العلوية، ومفتاح ذلك بواسطة الحضور مع الله وكثرة الذكر لله -جل جلاله وتعالى في علاه-، حتى تذهب القساوة وترتفع الغشاوة، ويتنوّر الطريق، ويُشَمُّ العبيق والمسك العتيق من حقائق جود الرحمن -سبحانه وتعالى-، ويُسقى صاحبه من أحلى رحيق، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

 

قال بعض الصحابة لنبينا: إن شرائع الإسلام كثُرتْ عليَّ، فمُرْنِي بعمل أتشبث به. قال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله".   

 

وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

"فإن قلتَ: إنَّ العقربَ إنَّما لدغَتْ مِنَ الخارجِ.

فاعلمْ: أنَّ ألمَ السِّنِّ وألمَ العينِ لا يقصرُ عنهُ، وإنَّما سببُهُ انصبابُ خَلْطٍ داخلٍ مُضادٍّ لمِزاجِ العينِ والسِّنِّ، وليسَ ذلكَ بأهونَ مِنْ لدغِ الحيَّةِ والعقربِ.

واعلمْ: أنَّ تضادَّ الصِّفاتِ على القلبِ يؤلمُ القلبَ إيلامًا لا يَنقُصُ عمَّا يؤلمُ السِّنَّ والعينَ، ومثالُهُ في أضعفِ الصِّفاتِ: أنَّ البخيلَ المرائيَ إذا طُلِبَ منهُ عطيَّةٌ علىٰ ملأٍ مِنَ النَّاسِ عندَ مَنْ يريدُ أن يعرفوهُ بالسَّخاءِ.. يَتألَّمُ قلبُهُ لتضادِّ صفتينِ؛ إذ البخلُ يتقاضاهُ ألَّا يُعطيَ، وحبُّ الجاهِ يتقاضاهُ أن يُعطيَ، وقلبُهُ بينَ هاتينِ الصِّفتينِ كشخصٍ يُنشَرُ بِمِنشارٍ نصفينِ.

فهذا مثالُ حسرةِ الفوتِ، وعِظَمُها بقَدْرِ ما يَنكشِفُ مِنْ جلالةِ قَدْرِ الفائتِ، ولا تعلمُهُ بالحقيقةِ في هٰذا العالَمِ، بل في عالَمِ الكشفِ، وهوَ نبأٌ عظيمٌ أنتُم عنهُ مُعرِضونَ.

 

واعلمْ: أنَّ هٰذهِ الأصنافَ الثَّلاثةَ لها ترتيبٌ:

فالصِّنفُ الأوَّلُ الذي يلقاهُ الميِّتُ المُعذَّبُ: هوَ حُرْقةُ فُرْقةِ المُشتهَياتِ؛ وذلكَ تِنِّينُ حبِّ الدُّنيا، ولذلكَ أُضيفَ ذلكَ إلى القبرِ، وإنَّما سبقَ هٰذا لأنَّ أغلبَ الأشياءِ على قلبِ الميِّتِ في الحالِ فِراقُ ما يفوتُهُ في الدُّنيا؛ مِنْ جاهٍ ومالٍ ومنصبٍ ونعمةٍ.

ثمَّ بعدَ ذلك تَنكشِفُ لهُ أرواحُ الأعمالِ وحقائقُها القبيحةُ؛ وذلكَ عندَ الانغمارِ التَّامِّ في الموتِ، وبُعدِ العهدِ بغِشاوةِ صفاتِ الدُّنيا، وكلَّما كانَ إمعانُهُ في الموتِ أشدَّ.. فهوَ للكشفِ أقبلُ، فيَفيضُ عليهِ عندَ ذلكَ خزيُ الفضيحةِ، ولذلكَ أُضيفَ هٰذا إلى القيامةِ؛ لأنَّهُ وسطٌ بينَ منزلِ القبرِ وبينَ دارِ القرارِ؛ ولذلكَ قالَ اللهُ تعالى: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ) [التحريم:8]؛ أي: يومَ القيامةِ.

 

الله  يجعلنا معه والذين آمنوا كثير؛ لكن الذين (آمَنُوا مَعَهُ) لا يُخزَون، (آمَنُوا مَعَهُ) هذا يحتمل المعاني: 

  • (آمَنُوا مَعَهُ) وهم معه بقلوبهم وبوجهاتهم ونياتهم. 
  • (آمَنُوا مَعَهُ) -صلى الله عليه وصحبه وسلم- وهم الذين عاشوا في الجوار المعنويّ له والقرب منه بالأرواح. 
  • (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) فيكونون في الآخرة معه.

فلا خزي عليهم أصالة، ولا خزي عليهم تبعية له ﷺ، وهم المتحققون بحقائق لا إله إلا الله.

 

يقول: "تضادَّ الصِّفاتِ على القلبِ يؤلمُ القلبَ"، ويقول: إذا قلت العقرب لو لدغته لكنها من الخارج تأتي، قال: عندك ألم السِّن تعرفه!؟ وألم العين تعرفه!؟ حتى إن مِن كثير منّا ممن أصيب بألم السِّن يقول: أشد أشد الأوجاع وجع السِّن؛ وكثير ممن أصيب بوجع العين يقول: ما وجع إلا وجع العَين؛ ولا هم إلا هم الدَّين؛ لأنه هو الذي ذاقه، ما ذاق الأشياء الثانية، وهو يفوق ألم لدغة العقرب، ألم العين إذا جاء، من أين جاء؟ جاء من تضادّ أمور في الداخل. 

يقول سيدنا الإمام الغزالي وهو يحلل ويشخص المرض، يقول: "انصبابُ خَلْطٍ داخلٍ مُضادٍّ لمِزاجِ العينِ -ومضادّ لمزاج- السِّنِّ، -وهذا- ليسَ بأهونَ مِنْ لدغِ الحيَّةِ والعقربِ". لكن "تضادَّ الصِّفاتِ على القلبِ يؤلمُ القلبَ إيلامًا لا يَنقُصُ عمَّا يؤلمُ السِّنَّ والعينَ"

قال: "مثالُهُ في أضعفِ الصِّفاتِ"، لو فرضنا بخيل ولكن مرائي يحب أن الناس يثنون عليه بأنه سخي، وأنه كريم، وهو بخيل، قلبه يحب المال ويشق عليه بذله، ولكن يحب أيضًا الجاه وأن يقال إنه سخي. فإذا سُئل بحضرة من يحب أن يُعرَف بينهم بالسخاء، يعتصر قلبه ألمًا، البخل يقول له: لا تخرّج، ومحبة الجاه تقول له: خرِّج، خلَّهم يمدحونك، يحس بعصرة وسط باطنه وألم من مضادّة الصفتين، تضادّ هاتين الصفتين. بخلاف السخي يلتذ؛ يلتذ بالعطاء. ولذا ضرب النبي المثل للبخيل وللسخي، وأن ذاك عليه جُبّة وضيقة وحلقة تمسك في حلوقه، هذا حال البخيل، والثاني واسع، الأمر له فهو يلتذ بالعطاء وبالسخاء، وهكذا.

حتى قال ابن الوردي -عليه رحمة الله تعالى-:

 أعذب الأشياء قولي لك خذ *** وأمَرُّ القول نطقي بلعلّ

 

وهكذا يقول: تضادّ الصفات الذي هو يورث الآلام.

قال: "مثالُ حسرةِ الفوتِ، وعِظَمُها بقَدْرِ ما يَنكشِفُ مِنْ جلالةِ قَدْرِ الفائتِ". قال: "ولا تعلمُهُ بالحقيقةِ في هٰذا العالَمِ، بل في عالَمِ الكشفِ". وهو نبأ، يقول: "وهوَ نبأٌ عظيمٌ أنتُم عنهُ مُعرِضونَ". ولكن من أقبل وتوجّه، عرَف وتنبه، ثم صُفّي وصُقّل مرآة قلبه فواجه الأمر مع من واجه وأدرك الحقيقة.

قال: والصفات "الأصنافَ الثَّلاثةَ لها ترتيبٌ":

"فالصِّنفُ الأوَّلُ الذي يلقاهُ الميِّتُ المُعذَّبُ: هوَ حُرْقةُ فُرْقةِ المُشتهَياتِ؛ وذلكَ تِنِّينُ حبِّ الدُّنيا، ولذلكَ أُضيفَ ذلكَ إلى القبرِ،" لأنه أول المنازل من منازل الآخرة القبر أقربها إلى الدنيا. "لأنَّ أغلبَ الأشياءِ على قلبِ الميِّتِ في الحالِ فِراقُ ما يفوتُهُ في الدُّنيا؛ مِنْ جاهٍ ومالٍ ومنصبٍ ونعمةٍ" وما إلى ذلك. 

"ثُمَّ تَنكشِفُ لهُ أرواحُ الأعمالِ"، وإذا به يشاهد نفسه أنه كيف كان ملطخ بالخبائث والقبائح وشنائع الأقذار. يعني يبدو له قذر الكذب، قذر الخيانة، قذر النظرة الحرام، قذر الشرب المسكر، قاذورات كانت مغيب عنه قذرها، "تَنكشِفُ لهُ" فيشوف نفسه مثل الذي كان يظن نفسه نظيف طيب، ما يشعر إلا جابوا له مرآة قدامه ملطخ بالأوساخ وجهه و.. يشمئز من الأمر أيش هذه القباحة التي أنا فيها!. فالقبور تنكشف قبائح المعاصي بأصنافها، على قدر بعدها عن الله وغضب الله على أهلها. يبدأ ذاك الحين يحس بألم، ألم خزي ظهور الفضائح والقبائح التي هو فيها.

 

"تَنكشِفُ لهُ أرواحُ الأعمالِ وحقائقُها القبيحةُ؛ وذلكَ عندَ الانغمارِ التَّامِّ في الموتِ، وبُعدِ العهدِ بغِشاوةِ صفاتِ الدُّنيا، وكلَّما كانَ إمعانُهُ في الموتِ أشدَّ.. فهوَ للكشفِ أقبلُ، فيَفيضُ عليهِ عندَ ذلكَ خزيُ الفضيحةِ"، ولهذا قال: "ولذلكَ أُضيفَ -أكثره- إلى القيامةِ؛ لأنَّهُ وسطٌ بينَ منزلِ"، لأنه هذا الوسط ما بين الدار اللي يبقى فيها وما بين الدنيا وقت القيامة، فهناك تنكشف (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ‎) [الطارق:9]. و(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ)‎ [الحاقة:18] .

لا إله إلا الله.

والحق تعالى باسط يده يقول له: القاذورات التي فيك والخبائث، تُرِيدني أطهرك منها وأكفيك شرها. "إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ". فطهّر نفسك قبل ما يفوت الأوان، وبعدين تفتضح وتظهر فيك. فهو من كرمه وجوده أنه سبحانه وتعالى باسط فضله وإحسانه ليصفينا من قاذوراتنا بأصنافها، صغائرها وكبائرها، إذا تُبنا إليه ورجعنا إليه جل جلاله. حتى أكبر الكبائر من مثل الشرك -والعيأذ بالله تعالى- ومن مثل السحر ومن مثل أكل مال اليتيم، ومن قتل النفس، إذا تاب إليه التائب وصدق، كفّرها وغفرها له -جل جلاله- قبل ما يُفضَح بها في القيامة. لا إله إلا هو، ما أعجبه من ستّار كريم غفار!. 

 

فلا يهلك على الله إلا هالك، الذين ما استحوا من ربهم ولا عرفوا قدر عظمته وبارزوه وماتوا مصرين على الذنوب -والعياذ بالله تبارك وتعالى- هم الهالكون، وهم الذين يُفضحون في القيامة.

وفي أدعية سيدنا علي زين العابدين قال: ولا تفضحنا يا مولانا في حاضر القيامة بموبقات الآثام، واعفُ عنا ما ارتكبنا من الحرام.

هذا خوفهم وهم في مراتب الصديقية الكبرى -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-. يقول: ثَبِّت به عند اضطراب جسور  جهنم يوم القيامة زلة أقدامنا، ونجنا من كُرَب يوم القيامة وشدائد أهوال يوم الطامة، وبَيِّض به عند القيام وجوهنا إذا اسودت وجوه العصاة في موقف الحسرة والندامة. (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران:106].

الله يجعلنا في ذلكم اليوم في ستره الجميل وفضله الجزيل ومرافقة حبيبه الجليل، اللهم آمين.

 

يقول: "أُضيفَ هٰذا إلى القيامةِ؛ … قالَ اللهُ تعالى: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ) [التحريم:8]؛ أي: يومَ القيامةِ".

  • (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم:8].
  • اللهم اجعلنا معه ظاهراً وباطناً، (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖنُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) [التحريم:8].

 

وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

"وأمَّا حسرةُ فواتِ المحبوباتِ. فيستولي عليهِ آخراً؛ عندَ دارِ القرارِ في النَّارِ، ففيها يقولُ: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ) [الأعراف:50].

وذلك: أنَّ بُعدَ العهدِ عنِ الدُّنيا ربَّما يُخفِّفُ عنهُ عذابَ النُّزوعِ إليها، وطُولَ العهدِ بالكشفِ يُوجِبُ خروجَهُ عن خزي الافتضاحِ؛ فإنَّ سَوْرةَ عذابِ الخزي تكونُ عندَ هجومِ الافتضاحِ، ثمَّ يألفُ الفضيحةَ والخزيَ إلفاً ما، ثمَّ عندَ فتورِهِما قليلاً تنبعثُ حسرةُ الفَوْتِ؛ إذ تظهرُ جلالةُ الفائتِ، ثمَّ تبقى حسرةُ الفَوْتِ آخراً، ويُشبِهُ أن يكونَ ذلكَ لا آخرَ لهُ.

وهٰذا كلُّهُ تَعرِفُهُ قطعاً إذا عرفتَ نفسَكَ، وعرفت أنَّكَ لا تموتُ، لكن تَعمىٰ عينُكَ، وتَصَمُّ أذنُكَ، وتُفلَجُ أعضاؤُكَ، فأمَّا الحقيقةُ التي أنتَ بها أنتَ.. فلا تفنى بالموتِ أصلاً، بل يَتغيَّرُ حالُكَ فقطْ، ويبقىٰ معَكَ جميعُ معارفِكَ، وإدراكاتِكَ الباطنةِ وشهَواتِكَ، وإنَّما تَعذُّبُكَ بفِراقِ ما أحببتَ، وافتضاحُكَ بظهورِ ما ينكشِفُ في تلكَ الحالِ، وتحسُّرُكَ على فواتِ ما تَعرِفُ عِظَمَ قَدْرِهْ بعدَ الموتِ لا قبلَهُ، وهذا كلُّهُ مُقدّماتُ العذابِ الحِسِّيِّ البدنيِّ، وذلكَ أيضاً حقٌّ، ولهُ ميعادٌ معلومٌ، كما وردَتْ بهِ الآيُ والأخبارُ".

 

هكذا وردت الآي والأخبار بشؤون العذاب الحسي مما يحصل من ضرب الملائكة، ومن جوع الناس في النار، ومن الحيات والعقارب، ومن حريق النار نفسها، ومن السلاسل ومن الأغلال ومن الضرب بالمقامع من حديد، كل هذا حاصل.

إلا أنه يكون فيه مقابلة بين الآلام الباطنة مع هذه الحسية فيجمع الأمرين، فلو كان واحد من الذين أصابهم ألم إما بسبب فراق شيء مما يحبه أو كان بسبب فضيحة، لو أضيف إليه أيضًا ضرب فوقه، لكان التعب مضاعف عليه، والألم بعده موجود في الداخل وعاد ألم من خارج الجسد يتضاعف.

فكذلك هذا من عند الموت يبدأ انكشاف الحقائق فيبدؤون يتألمون، وعاد المباشرة بضرب الأجساد هذا مقبل إلى وقت دخول النار، لكنهم في خلال أيام البرزخ حتى المشاهدة للنار والعياذ بالله يشاهدونها، (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ) كما قال الله في قوم فرعون، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر:46]. فهم تُعرض عليهم النار، كل هذا ما شيّ يمس الجسد الحين ولكن الروح متألمة.

ومن غير شك أنه من دون إيلام خارجي من الجسد، تألم الروح في الجسد يجعل الجسد كله أيضاً متألماً. ولكن إذا انضاف إلى هذا آلام من خارج الجسد تدخل عليه وآلام من داخله، اشتد الأمر. وهذا يكون بالوصول إلى النار، وإذا بالآلام داخلية وخارجية.

يشير إلى هذه الداخلية قول الحق لهم:(إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون:109-111] وهكذا.-

وكما أيضًا من الأمر المعنوي الداخلي فيهم إرادتهم الخروج (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا) [الحج:22]، فإرادة الخروج والتولع به ثم الرد عنه ، والصد وعدم الحصول عليه ألم فوق الألم وهكذا. وإلى جانب الأمور الحسية (وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف:29] (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد:15] والعياذ بالله تبارك وتعالى. فيشتد العذاب ويكون نهايته الوصول إلى النار. 

اللهم أجرنا من النار، (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [آل عمران:192]. اللهم أجرنا من النار. 

وقد علمنا ﷺ بعد صلاة المغرب سبعاً: اللهم أجرنا من النار، فإن مات في ليلته أجاره الله من النار. وبعد صلاة الفجر سبعاً اللهم أجرنا من النار، فإن مات من يومه أجاره الله تعالى من النار. ولا يجير من النار غير العزيز الغفار القهار جل جلاله.

اللهم أجرنا من النار، وأجر أهلينا ووالدينا وذوينا وأهل الحقوق علينا  برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

يقول: "حسرةُ فواتِ المحبوباتِ" تأتي في الأخير عندما يستقرون في النار، وعندها يقولون: "(أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)"، يحسون أيش الذي فاتهم من تسبيح أولئك، إيمان أولئك، صلاة أولئك، كانوا يستهزئون بهم في الدنيا، لكن رأوا صلواتهم كيف رجعت وصومهم كيف رجع وزكواتهم كيف رجعت وأيش حصلوا من فوائد وها فاتتهم، فيجيء هنا: "(أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50].

قال: وهكذا..

ثم يقول: تنبعث هذه الحسرات في النار والعياذ بالله تبارك وتعالى. "إذا عرفتَ نفسَكَ، وعرفت أنَّكَ لا تموتُ، لكن تَعمىٰ عينُكَ، وتَصَمُّ أذنُكَ، وتُفلَجُ أعضاؤُكَ"، تعرفه وتعرف الألم. "فأمَّا الحقيقةُ التي أنتَ بها أنتَ.. فلا تفنى بالموتِ أصلاً، بل يَتغيَّرُ حالُكَ فقطْ، ويبقىٰ معَكَ جميعُ معارفِكَ، وإدراكاتِكَ الباطنةِ وشهَواتِكَ". 

ولهذا خير ما يبقى من العلوم وينفع بعد الخروج من هذه الدنيا علمك بالله، علمك بصفاته، علمك باسمائه، هذا علم عجيب وينفعك، ويبقى مع الإنسان ويستمر معه، وينتفع به الإنسان ويرتفع ويتلذذ به. ثم العلم بأنبيائه ورسله وملائكته وصفاتهم، هذه العلوم العجيبة البديعة، يبقى صلة بعلوم الشرع وإن كان الكثير منها مجرى الحكم فيه مُناط بالدنيا، ولكن فيه صلة بأمر الله تعالى ونهيه، فيبقى معه نصيب أيضًا من الشرف، ولكن الأشرف هو المعرفة بالله، من كان أعمق في معرفة الله لله.

 

ولذا كان كثير من مسائل الأحكام حتى الصحابة يرجعون فيها إلى بعض التابعين أو يحولون عليه، لكن لما تجيء مسائل المعارف والذوق ما أحد يفوق الصحابة، لا تابعي ولا غيره، هم أعرف بها. 

قد سُقوا الكأس على يد سيد الناس، فهم أعرف بالله تبارك وتعالى، وأقوى إيماناً وإن كان غيرهم في العلوم الظاهرة في الأحكام يتوسع فيها بعض التابعين، وكانوا يحولون عليهم يقولون: اسألوا مولانا الحسن. اسألوا…، يقولون وهم صحابة! يقولون: اسألوا مولانا فلان من التابعين، يقولون ارجعوا إليهم، لكن المعارف والأذواق ما يتقدم فيها لا الحسن البصري ولا غيره على أحد من الصحابة، فهم أعرف لأنهم اتصلوا بيد المعرِّف الأكبر بالحق صلى الله وسلم عليه وعلى آله، فأدركوا من ذوق المعرفة، وإذا كان الواحد من ورثته تقع عينك عليه فتحس بمعرفة في قلبك، تحس بنور في قلبك، تجلس معه هو ساكت وأنت ساكت تحس بزيادة إيمان، وكيف هم مع الحبيب الاعظم؟ ومع ذلك صلوا وراءه وخلفه، وسمعوا قراءته، ومشوا معه، وجلسوا معه، كيف الحال؟ جلسوا صامتين وهو صامت وسمعوه يتكلم لما يتكلم ﷺ، فمن غير شك أنهم أقوى الأمة إيمانًا عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وجمعنا بهم في دار الكرامة يا أرحم الراحمين.

 

قال: إنما العذاب يكون "بفِراقِ ما أحببتَ، وافتضاحُكَ بظهورِ ما ينكشِفُ في تلكَ الحالِ، وتحسُّرُكَ على فواتِ ما تَعرِفُ عِظَمَ قَدْرِهْ بعدَ الموتِ لا قبلَهُ، وهذا كلُّهُ مُقدّماتُ العذابِ الحِسِّيِّ البدنيِّ"، ثم يأتي العذاب بالنار والعياذ بالله تعالى، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر:46].

اللهم أجرنا من العذاب ومن النار، ونعمنا بالمعرفة بك والقرب منك يا أرحم الراحمين.

 

بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ

إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ 

الْفَاتِحَة

تاريخ النشر الهجري

23 جمادى الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

14 نوفمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام