(383)
(609)
(535)
الدرس السادس والأربعون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي. القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: تكملة شرح الأصل العاشر: ذكر الموت (6)
في مسجد الحسين بن طلال، عمّان، ضمن دروس الدورة العلمية في موسم شهداء مؤتة الأبرار، الأردن
فجر الأحد 4 جمادى الأولى 1447هـ
تأمّل حال من أُتيح له القرب من الله ثم آثر الدنيا؛ يشرح الحبيب عمر بن حفيظ كيف تتحوّل الغفلة عن الطاعة إلى حسرة لا تنقطع، ويبيّن أن أشد عذابٍ للروح هو أن تُحجب عن لذة القرب ومعرفة الله، يُقارن بين من اغتنم عمره في الطاعة وبين من أضاعها في اللهو، وذكر مثالٍ بديعٍ عن من سخر من الحاملين للأحجار في الظلمة ورأى أنها جواهر بعد فوات الأوان..
بسم الله الرحمن الرحيم
وبِسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
"الصِّنفُ الثَّالثُ: حسرةُ فواتِ المحبوباتِ:
فقدِّر نفسَكَ معَ جماعةٍ مِنْ أقرانِكَ دخلتُم في ظلمةٍ، فكانَ فيها حجارةٌ لا تُرىٰ ألوانُها، فقالَ أقرانُكَ: احمِلْ مِنْ هذا ما تطيقُ؛ فلعلَّهُ يكونُ فيهِ ما يُنتفَعُ بهِ إذا خرجنا مِنَ الظُّلمةِ، فقلتَ: وماذا أصنعُ بها؟ أتحمَّلُ في الحالِ ثقلَها، وأَكُدُّ نفسي فيها، وأنا لا أدري ما عاقبتُها؟! ما هٰذا إلَّا جهلٌ عظيمٌ؛ فإنَّ العاقلَ لا يتركُ الرَّاحةَ نقداً بما يَتوقَّعُهُ نسيئةً ولا يستيقنُهُ؟!
فأخذَ كلُّ واحدٍ مِنْ أقرانِكَ ما أطاقَ أخذَهُ، وأعرضتَ عن ذلكَ تستحمِقُهُم وتَستجهِلُهُم وتَسخَرُ بهِم؛ لأنَّهُم يَنُوءُونَ تحتَ أعبائِهِ وثقلِهِ، وأنتَ مُرَفَّةٌ في الطَّريقِ، تعدو وتضحكُ منهُم ، فلمَّا جاوزوا الظُّلمةَ.. نظروا، فإذا هيَ جواهرُ ويواقيتُ، يساوي كلُّ واحدٍ ألفَ دينارٍ، فأقبلوا علىٰ بيعِها، وتوصَّلوا بها إلى الجاهِ والنِّعمةِ، وأصبحوا ملوكَ الأرضِ، فأخذوكَ واستسخروكَ لتعهّدِ دوابِهِم، يُنفِقونَ عليكَ كلَّ يومٍ قدراً يسيراً مِنْ فَضَلاتِ الطَّعامِ!!
فكيفَ ترى اشتعالَ نيرانِ الحسرةِ في قلبِكَ وبدنُكَ بمَعزِلِ عنهُ؟! وكم تقولُ: يا حسرتي على ما فرطتُ في جنبِ اللهِ، ويا ليتَنا نُرَدُّ فنعملَ غيرَ الذي كنَّا نعملُ، وتقولُ لهُم: أفيضوا علينا ممَّا أُفيضَ عليكم، فيقولونَ لكَ: هٰذا حرامٌ عليكَ، ألم تكنْ تَسخَرُ منَّا، وتضحكُ علينا؟! فلا بدَّ أن نَسخَرَ اليومَ منكَ كما كنتَ تَسخَرُ منَّا.
فلا يزالُ ينقطعُ نِياطُ قلبِكَ مِنَ التَّحسُّرِ، ولا ينفعُكَ التَّحسُّرُ، ولكنْ تَتسلَّى وتقولُ: الموتُ يُخلِّصُني مِنْ هٰذا كلِّهِ".
لا إله إلا الله، الحمد لله القوي المتين الذي خلق الدنيا والآخرة ليختبر عِباده المؤمنين والكافرين، فيُبوِّئ المؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من النعيم المُقيم والمُلك الدائم، ويُبوِّئ الكافرين والصادِّين عن سبيله والرافضين لدعوته على أيدي رسله سوء الجحيم والعذاب الأليم المُهين العظيم -أجارنا الله من عذابه-.
نشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، القول قوله والمُلك مُلكه، قوله الحق وله المُلك يوم يُنفخ في الصور، عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المُنير، المُبيّن لحقائق الحال والمصير، والداعي إلى مسلكِ مرضاة العليم القدير. فصلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم يا ربِّنا على عبدك الهادي الذي دعانا إليك على بصيرة، وجاءنا مِنك بالشريعة العظيمة اليسيرة، وعلى آله وصحبه أهل المراتِب الكبيرة، وعلى من سار في دربهم على بصيرة، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورُسلك، وعلى أهل الدرجات العلية الخيّرة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد، فيُواصل الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكر نماذج مما يكون ناراً وعقارِب وحيّات لباطِن الإنسان ولروحه دون أن يمسّ جسده شيء من الخارج.
وذكر لنا في هذا الباب والمجال ما يكون من حُرقة فُرقة المُشتهيات، وما يكون من خزي خجْلة الفاضِحات، ويذكر الآن الصنف الثالث: وهو "حسرةُ فواتِ المحبوباتِ"، ولذلك آلام شديدات كبيرات على باطِن الإنسان، تكون كذلك في الآخرة على كلّ من ضيّع الطاعة، وعلى كل من أُتيحت له فُرصة الإقبال على الحق فلم يصدُق في الإقبال، وأُتيح له فُرصة الأعمال الصالحة فلم يعمل تلك الأعمال، وأُتيح له فُرصة التقرُّب إلى الرحمن -تبارك وتعالى- فأعرض اشتغالاً بشيء من التُّرَّهات والبطالات والشهوات الفانيات، فإنه يتعرّض للحسرات الكبيرات، ويتعرّض لحسرة ما فات عليه مما لا يُمكن التدارك فيه، ولا يمكن الرجوع فيه، ولا يمكن التعْويض عنه.
فهكذا شأن العقلاء، يُدرِكون هذه الحقائق ويسلِكون مسالك خير الطرائق، يغنمون الأعمار القصيرة و يملؤونها بما يوجب الفوز في حياة الخلد الكبيرة.
يقول: "فقدِّر نفسَكَ معَ جماعةٍ مِنْ أقرانِكَ دخلتُم في ظلمةٍ، فكانَ فيها حجارةٌ.." فقال الجماعة: لعل في هذه الأحجار ما ينفع ويفيد، فيأخذ كلٌّ منها ما يستطيع، فإذا جئنا إلى النور أبصرناها، فإن كانت ذات فائدة ومنفعة استفدنا، وإلا فما علينا شيء من حملها، فاسْتهزأت بهم واستسخرت منهم وقلت لهم: مجانين، تُحمِّلون أنفسكم هم الأحجار الثقيلة ولا تنفعكم ولا فيها فائدة، وتوقعكم الفائدة فيها نسيئة، لكن الآن تتعبون بها في حملها في الطريق، وأنا أحسن لي ألا أحمل شيئاً من هذه الأحجار وأمشي خفيفاً وأنا مُترفِّه وأنتم مع تعبكم. وأخذت تستهزئ بهم وتسخر بهم، وحمل كل منهم ما يستطيع وأنت لم تحمل شيئاً. ومضيتم حتى أشرق النهار وجاء النور فإذا بها جواهر غالية كبيرة كريمة، كل واحدة بألف دينار. فتقول: هاه ها! ومضوا يبيعونها وصاروا ذوي أملاك. قلت لهم: ألا تعطوني شيئاً؟ قالوا: ما نعطيك، أنت كنت تستهزئ وتضحك بنا! بنرحمك بأن سخَّرناك مع الدواب، ونستأجرك مع الدواب ترعى لنا الدواب، نعطيك شيئاً من هذا. ويقول: أفيضوا عليّ شيئاً من هذا، فيقولون لك: تضحك علينا وتستهزئ بنا وتسخر بنا، فالآن هذا ممنوع عليك، ما لك شيء من هذا النصيب. قال: هذا مثال من الأمثلة.
فإذا قال: كيف ترى اشتعال الحسرة في قلب هذا الإنسان؟ وبدنه بمعزل عن المُنكِّدات، ويقول: (يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) [الزمر:56]، يا ليتني أُردُّ إلى المكان هذاك، كيف الطريق لرُجوعنا؟ ما عاد يمكن الرجوع إلى المكان الذي كنّا فيه، خلاص انتقلنا عنه انتِقالاً أبديّاً، ما عاد يمكن نرجع إليه. آخذ قليل من هذا الذي أخذتم؟ ولا عاد شيء.
فيقولون كما جاءت لنا به الآيات الكريمة: (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) [الاعراف:50]، يقول الكفار للمؤمنين، (قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) أنتم كنتم تستهزئون بالرسل و بالأنبياء وبما جاء عن الله تعالى، واليوم تقولون أعطونا مما عندكم.
وكذلك يقول: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر:37] قال: "ينقطعُ نِياطُ قلبِكَ مِنَ التَّحسُّرِ، ولا ينفعُكَ التَّحسُّرُ" وذلك لأنه يفيض على أهل المعرفة والطاعة من أنوار جمال الوجه وما يحصل به من لذّة مبلغاً لا يوازيه نعيم الدنيا أصلاً.
وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
"فاعلمْ: أنَّ حالَ تاركِ الطَّاعاتِ في الآخرةِ كذلكَ يَنكشِفُ لهُ، ولكنْ لا مطمعَ في الموتِ المُخلِّصِ، بل هيَ حسرةٌ أبديَّةٌ دائمةٌ، وألمُها يتضاعفُ كلَّ يومٍ وإن كانَ البدنُ بمَعزِلِ عنها، وعنهُ العبارةُ بقولِهِ تعالى: (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ) [الأعراف:50].
وذلكَ لأنَّهُ يُفيضُ على أهلِ المعرفةِ والطَّاعةِ مِنْ أنوارِ جمالِ الوجهِ ما يَحصُلُ بهِ مِنَ اللَّذَّةِ مبلغٌ لا يوازيهِ نعيمُ الدُّنيا أصلاً، بل يزيدُ عليهِ ما لا يدخلُ تحتَ الحصرِ، لا نسبةَ بينَهُما إلَّا مِنْ حيثُ المشاركةُ في الاسمِ، بل يُعطى آخرُ مَنْ يَخرُجُ مِنَ النَّارِ مثلَ الدُّنيا عشرَ مرَّاتٍ، كما وردَ بهِ الخبرُ، لا بمعنى تضاعفِ المقدارِ بالمِساحةِ، بل بتضاعفِ الأرواحِ، كما أنَّ الجوهرةَ تكونُ عشرةَ أمثالِ فرسٍ، لا بالوزنِ والمقدارِ، بل بروحِ الماليَّةِ؛ إذ قيمتُها عشرةُ أمثالِهِ.
واعلمْ: أنَّ تحريمَ تلكَ اللَّذَّاتِ وإفاضتَها عليهِم ليسَ مِنْ جنسِ تحريمِ الرَّجلِ نعمةً على عبدِهِ بغضبٍ أو باختيارٍ حتَّى يُتصوَّرُ تغيُّرُهُ، بل هوَ كتحريمِ اللهِ تعالى على الأبيضِ أن يكونَ أسودَ في حالةِ البياضِ، وعلى الحارّ أن يكونَ بارداً في حالةِ الحرارةِ، وذلكَ لا يُتصوَّرُ فيهِ التَّبديلُ.
بل مثالُ ذلكَ: أن يقولَ للعالِمِ الكاملِ رجلٌ شيخٌ هَرِمٌ مِنَ الجُهَالِ، كانَ بليداً في أصلِ الفطرةِ، ولم يُمارِسن قطُّ علماً، ولم يَتعلَّمْ لغةً: أفضْ على قلبي مِنْ دقائقٍ علومِكَ، فيقولُ: إنَّ اللّه تعالىٰ حرَّمَهُ على الجاهلينَ".
لا إله إلا الله الحق القوي المتين لا إله إلا الله الحق النور المبين، رزقنا الله اغتنام العمر القصير بما يوجب الفوز في الخلد الكبير والنعيم المُقيم العظيم، يقول: "حالَ تاركِ الطَّاعاتِ في الآخرةِ" يشبه ما ضُرب من هذا المثل، "يَنكشِفُ لهُ، ولكنْ لا مطمعَ في الموتِ" صاحِب الدنيا هذا يقول: خلاص الآن فاتتني الفرصة، ولكن سأتخلص منها، سأموت وأنسى هذه المشكلة؛ لكن صاحب الآخرة، ما عاد هناك موت، (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) [الزخرف:77]، (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ) [الاعلى:13]، خلاص ما عاد فيها موت، فهو في حياة أبديّة وحسْرة سرمديّة، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-، لفوات ما ضيّع وأهمل أيام كان في عمر هذه الحياة الدنيا.
لهذا فاعلم أنه ما هناك عُملة ولا جواهر أغلى من الطاعة في الوجود، لا والله لا شيء أغلى من هذه العُملة، عُملة مملكة ملِك المُلوك، مُستمّرة القيمة والقدر، ما يمكن تنزل أبداً ولا تنْحط.
ولذا قال: "مَن كانت عندَه مَظلَمةٌ لأخيه مِن عِرضِه ومالِه فلْيستحِلَّه اليومَ قبْلَ أنْ يأخُذَه به حينَ لا دينارَ ولا درهمَ". أي: تبطُل عُملات مُلوككم ودُوَلِكم التي اختُبِرتم وافتُتِنتم وابتُليتم بها في أيام الحياة الدنيا، وبقيت العملة الوحيدة: عملة دولة ملك المُلوك الذي لا ينقضي ولا يموت. قال: "فلْيستحِلَّه اليومَ قبْلَ أنْ يأخُذَه به حينَ لا دينارَ ولا درهمَ"، بطلت العُملات وإنما هي "إلّا الحَسَناتُ والسَّيِّئاتُ". فإذا جاء بمظلمة قيل له: هاتِ حقه. يقول: من أين أعطيه حقه يا رب؛ وقد بطلت الأموال والعملات ولا عاد لها قيمة؟ يقول: هاتِ من حسناتك، هاتِ صلواتك وهاتِ زَكواتك أعطها مُقابل ما ظلمته. فإن فنيت حسناته أُخذ من سيِّئاتهم فطُرِحت عليه. "من كان عنده لأخيه مظلمة فليتحلله اليوم قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات".
قال الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: وقف على بابي يدق في آخر الليل رجل من الصالحين: أهلاً وسهلاً ما جاء بك في هذا الوقت؟ قال: أمر كبير وعظيم -مصيبة-: ماذا؟ قال: مررت البارحة بمزرعة وأعجبتني فيها سُنبلة، قطفتها ثم فرَكتها حتى أُخرج ما فيها من الطعام، فتذكرت أنها ليست مُلك لي وأنّها حق من حقوق صاحِب مالكها. قال: فرميت الحُبوب والتِّبن حقها في الأرض ومشيت. فنمت فرأيت القيامة قد قامت، وإذا رجل يجري ورائي ويطالبني يقول: يارب خذ لي حقي من هذا! هذا صاحب السنبلة، حقي! قال: قلت: من أنت؟ قال: أنا صاحب الزرع، مررت البارحة على زرعي وأخذت سنبلة. قال: قلت: أنا قد أرجعتها. قال: ذهب التبن حقها والفائدة -تطاير-. فجِع وقام من الفجع والفزع والموت، وجاء عند الشيخ قال: الآن هات لي حلاً. قال: الآن آخر الليل وصاحب الزرع نائم، اقعد هُنا نذكر الله وسبّحه، وسنصلي أنا وأنت الفجر وبعد الفجر نذهب إلى صاحب المزرعة حتى تتحلل منه قبل ما يجيء اليوم هذا الذي قد أراك الله تعالى منه نموذجاً حتى تتنبّه، هذا من لطف الله بك. قال: صلّى معي الفجر وذهبنا، -ودققنا على الرجل- وقال: هذا البارحة مر على زرعك وأخذ منه كذا وكذا، والآن يطلب المُسامحة. قال له: مُقابِل كم؟ قالوا: كم السُنبلة الواحدة؟ قال: احسبوا. -حسبوا- قال: يمكن تجيء كذا قال: ضاعفها. ضاعفها مرات، قل: أعطه كذا كذا مُدًّا من الطعام. سامحه من قلبك. بس هذا الرجل الآن سامحك، والذي بينك وبين الله تستغفر وتتوب وتتنبَّه ألا ترجع إلى هذا.
وهذا على سنبلة سحَقَها ورماها هي وتِبْنها في نفس المكان، ولا طعم منها شيئاً. (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]. لا إله إلا الله، (وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ). قال: ماذا تتصور في حِاسابك عن المُحاسبين في الدنيا، والذي يُحاسِبك من لجان الحِساب والترتيبات والمتابعات؟!
(وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ).. حِسابه جلّ جلاله (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) [سبأ:3]، فعسى يُسامحنا ويعفو عنا ويتجاوز عنّا، اللهم هب لنا حقك، وارض عنا خلقك، اللهم هب لنا حقك، وارض عنا خلقك، اللهم هب لنا حقك، وارض عنا خلقك إنك حليم قدير غفور شكور، يا بر يا رحيم يا الله.
وهكذا يقول: "أنَّ حالَ تاركِ الطَّاعاتِ.." فإنه "يُفيضُ على أهلِ المعرفةِ والطَّاعةِ مِنْ أنوارِ جمالِ الوجهِ" الحق -سبحانه وتعالى- "ما يَحصُلُ بهِ مِنَ اللَّذَّةِ مبلغٌ لا يوازيهِ نعيمُ الدُّنيا أصلاً" من يوم خُلقت الدنيا إلى يوم القيامة بجميع مَطعوماتها ومشروباتها ومنكوحاتها ومَلبوساتها ومَسكوناتها ومَركوباتها ومُلكها وَجاهها، من حين خُلقت إلى أن تقوم الساعة، ما يساوي لذّة معرفة الرحمن -جلً جلاله-.
وما يُنازل أربابها؛ حتى في الدنيا يُنازَل الخواص من هذا لذّة فوق هذا كله. ويقولون: إن كان الملوك على ما نحن فيه في الليل، إنهم لفي عيش طيب. بل يقولون: لو يعلم المُلوك ما نحن فيه بالليل لجادلونا عليه بالسيوف. وإن كان أهل الجنة في نعيمهم على مثل ما نحن فيه في الليل، إنهم لفي عيش طيب. العيش الطيب: هو هذا. -فيتصوّرون- قال: إن كان الجنة كذا، فنِعم الجنّة -لا إله إلا الله-.
وأما ما يُذاق في الآخرة فألذُّ، ألذ ألذ وأطيب وأعلى، يقولون: إن الدنيا من أسباب زُهد العارِفين فيها أنّها لا تسع عطايا الله لهم، ما آتاهم مِن قُدرة وانبِساط وسِعة روح، وذاقوا ملذّات القُرب والمعرِفة الخاصة به، لازال خزائن وراء هذا من العطاء ما تسعها الدنيا، وما يقوون على حملها ما داموا في هذه الحياة فلهذا كان من أسباب زُهدهم فيها، ولهم من العطايا والمِنح عند الله -سبحانه وتعالى- "مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ".
قال: "بل يزيدُ عليهِ ما لا يدخلُ تحتَ الحصرِ"، (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17]. "لا نسبةَ بينَهُما إلَّا مِنْ حيثُ المشاركةُ في الاسمِ" المُشاركة في اسم اللذّة، اسم النعيم، اسم الحلاوة فقط، وأما الواقع أين هذا من هذا؟ وماذا يساوي هذا عند هذا؟ هناك اللذّة، هناك الحلاوة.
وهكذا أخبرنا الحق ورسُله، فصدق الله وصدق رسُله، ورزقنا كمال تصديقهم والعمل بمقتضى ذلك. قال سبحانه وتعالى: (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) اللهم أجعلنا منهم (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:21] جلّ جلاله.
قال: "بل يُعطى آخرُ مَنْ يَخرُجُ مِنَ النَّارِ مثلَ الدُّنيا عشرَ مرَّاتٍ" وهذا المسمى بجُهينة، آخر خارج من النار، حتى أن أهل الجنة يتذاكرون أخبار المُتخلِّفين، وكل ساعة وصلت طائفة من الموّحدين الذين ماتوا على الإيمان وكانوا يُعذّبون بالنار، وكل ساعة تصل منهم طائفة، وما الأخبار؟ يقولوا: كذا وكذا، ولاقينا كذا، والحمد لله تخلّصنا وردّنا الله الآن إلى الجنة. يقولون: عند جهينة الخبر اليقين.. الخبر اليقين، آخر الأخبار تصل من النار عند جُهينة. حتى يصل هذا آخر من يخرج من النار، وما عاد يصل الجنة إلا بعد مُدّة، يشتد الأمر عليه والعذاب، فيُعذّب بمِقْدار سبعة آلاف عام ثم يُخرجه الله. وهو يسأل يقول: يا ربّ، يا ربّ يا ربّ. يقول: مَا لك؟ يقول: أسألك مسألة واحدة لا أسألك غيرها. قال: تُعَاهِدُنِي ما تسأل غيرها؟ يقول: نعم -وأخذ يعطيه العهود والمواثيق-. يقول: ماذا؟ يقول: أخرجني من النار. فيأمُر بإخراجه بعد انقضاء هذه المُدّة؛ خرج وهو مُقابل النار، يقول: الحمد لله، ما أحد مُنعم عليه مِثلي -يوم خرج من النار ويراها لكن يبقى ما شاء الله أن يمكث- ثم يقول: يا رب، مسألة. يقول: أما عاهدتني ألا تسألني غيرها؟ يقول: بس هذه وَلا أسألك غيرها. قال: تعاهدني؟ -قالوا: يعطيه العهود والمواثيق ألا يسأله غيرها- ماذا؟ قال: اصرف وجهي عن النار، آذاني قشيبها -قاعد أتذكر أيام كنت فيها وأسمع صراخ أهلها؛ أبعدني منها-. قال: فيأمر الحق يُولَّى وجهه إلى جهة الجنة. فيرى عجائب من نعيم .
ثم يقول: يا رب، مسألة! ، أسألك مسألة لا أسألك غيرها. يقول: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك! ما أطمعك! أما عاهدتني ألا تسألني غيرها؟ يقول: هذه و لا أسألك غيرها يا رب. يقول: فماذا؟ تعطيني العهد والميثاق ألا تسألني؟ يقول: نعم -يعطيه العهود والمواثيق ألا يسأل غيرها-؛ قال: قرّبني من الجنة، أنا من بعيد أراها وأشتاق لها، فقرِّبني. فيأمر الله يقرُب إلى الجنّة ويشُمّ ريحها ويراها، يشتد شوقه، يصبر مُدّة: يا رب، مسألة لا أسألك غيرها. يقول: ويحك يا ابن آدم ما أطمعك! ما أغدرك! أما عاهدتني وأعطيتني العُهود والمواثيق ألا تسألني غيرها؟ يقول: فقط هذه وحدها يا رب ما عاد أسألك غيرها.
ويُرِيك حال الإنسان وكرم الرحمن كيف يكون مُعاملته! الإنسان بهذه الحالة وهذه المثابة. فيقول: ماذا؟ يقول: أدخلني الجنّة، قرِّبني -خلنا منها وداخل بدل خارج السور خلنا ادخل-. يقول: أما يرضيك أن نُعطيك في الجنّة مثل مُلك ملِك من مُلوك الأرض؟ يقول: نعم يارب، يقول: أدخل فإن لك ذلك ومثله معه، لك في الجنة مثل الدنيا عشر مرات، -عاده يقول أدخل- يقول: يارب إنها ملأى! ، يقول: أدخل فإن لك فيها مثل الدنيا عشرة مرات، -أي: في قيمتها- قال: فيطوف في أماكنه التي أعدها الله له مِقدار ألف عام حتى يستوعب رؤية الأماكن التي أعدّها الله -سبحانه وتعالى- له في هذا المقدار. ويقف على رأسه كل يوم ثلاثمائة من الولدان لخِدمته، ويُزوّج باثنتين وسبعين. وإنّه لأقلّهم، يرى نفسه أعلى أهل الجنة وهو أقلهم درجة وأقلهم منزلة. لكن ما في الجنة قليل (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20]. وهذا حظ آخر واحد، يعني الذين قبله كلهم فوق هذا معهم، وأعظم من هذا معهم -لا إله إلا الله-.
فكيف بأهل الدرجات العُلا؟! كيف بأهل عليين؟! بأهل المزيد؟! بأهل الفردوس؟! وكيف أحوال الأنبياء؟! وكيف أحوال المُقرّبين؟! الذي خبّأ هذا النعيم وأبى أن تُحيط به نفسٌ لا من الملائكة ولا من الإنس ولا من الجن، (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة:17]. هو وحده العالم، هو وحده يعلم بما أعد. "أعددت لعبادي الصالِحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". ما يخطر أبدًا.
والعجب أن هذا يستمر، كيف يستمر؟ بعد ما يُفيض الله عليهم ويُعطيهم، يُفاجئهم في كل وقت يمر بشيء ما كان يخطُر على بالهم هم أنفسهم -الله الله-! ويستمر الأمر كذلك، ومن كل وقت إلى وقت عطاء ما كان خاطر على بالهم هم أنفسهم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم)، لأن الذي أخفاه: صاحِب العظمة والجبروت الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-. فما أكرم ربي وما أعظم القُرب منه.
اللهم لا تحرِمنا خير ما عِندك لشرِّ ما عِندنا، وقرِّبنا إليك زُلفى فيه عوض عن كل شيء، وليس في شيءٍ عِوِض عن الله، ليس في شيء عِوِض عن الله يكفي من كل شيء، وليس شيء يكفي منه -عز وجل-. رزقنا الله كمال الإنابة إليه والصدق معه واغتنام هذه الأعمار.
بركة العمر إذا عمرك مضى وأنت طائع *** تعبد الله دائم وأنت خاشع وخاضع
قالوا: فلو فرضنا اثنين استوت درجتهم في الإيمان وفي الأعمال الصالحة، إلا أنه أحدهما عنده زيادة تسبيحة واحدة، لكان فوق صاحبه في درجة، والدرجة كما بين السماء والأرض. يقول: لو التسبيح ذي معك، كان ستطلع عنده هناك فوق، واحدة تسبيحة نقصت عليك من أعمال هذا. -لا إله إلا الله- كل شيء بحِسابه عند الله، (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزله:7-8].
اللهم أرنا في الدارين ما يسرنا ولا تُرنا ما يغُمُّنا
قال: لا بمعنى تضاعفِ المقدارِ بالمِساحةِ، بل بتضاعفِ -القيمة المعنوية- الأرواحِ،. قال: مثل "الجوهرةَ" يقول لك واحدة هذه تساوي "عشرةَ أمثالِ فرسٍ" ليس معناه في وزنها ولا في حجمها! معناه قيمة العشرة أفراس لو بِعْتها ما تساوي قيمة هذه الجوهرة الوحيدة -هذه قيمة مالية-، قال: وتلك قيمة روحية، قيمة روحية، ما تساوي الدنيا عشر مرات مثل النفائس ما عند هذا من المُتع والنعيم الذي عنده في منزِلته في الجنة.
قال: "واعلمْ: أنَّ تحريمَ تلكَ اللَّذَّاتِ" المُتعلِّقة بالمعرفة ليست أمر مُتعلِّق بالمنع بواسطة الغضب أو بأي شيء من الاختيارات يمكن تصوُّره، بل من خرج من الدنيا ولم يُحْظى بمعرفة الله، فذاته غير قابِلة لهذا النعيم أصلًا، مثل إذا جعل الله لون، لون أسود أو لون أبيض أو لون أحمر في ذات المُلوَّن، ما يمكن تغييره، ذاته هكذا، ومهما طرحت عليه من صبغ يبقى هو اللون هو نفسه، قالوا: كذلك الذّات التي لم تحظَى بمعرفة الله في الدنيا تخرج من الدنيا غير قابلة لنعيم المعرفة ولا للذّة المعرفة أصلًا، -والعياذ بالله، تبارك وتعالى-. ليس مثل شيء بخارج يمنع يمكن فك المنع عنه، لذا أكبر ما نقدر نُحصلّه في الدنيا: معرفة الله.
ولهذا تحسّر بعض العارِفين وقال: مساكين أهل الدنيا، جدّوا واجتهدوا وخرجوا ولم يذوقوا ألذّ شيء فيها. قالوا: ما ألذّ شيء فيها؟ قال: معرفة الله. حُرموا ذلك مساكين. هو أعلى ما يمكن تحصيله في هذا العالم وفي هذه الدنيا. -الله أكبر-. بل ذكر لنا المثال لذلك، قال: "رجلٌ شيخٌ هَرِمٌ مِنَ الجُهَالِ، كانَ بليداً في أصلِ الفطرةِ"، بليد وشاخ وكبُر وهرِم، جاهل ومع ذلك في أصله البلادة ولم يُمارِسن قطُّ علماً، ولم يَتعلَّمْ لغةً، ثم يقول للعالِم الكامل الذي تعلّم وفاض عِلمه: أفِض، "أفضْ على قلبي مِنْ دقائقٍ علومِكَ، فيقولُ: إنَّ اللّه تعالىٰ حرَّمَهُ على الجاهلينَ" -مرّ عمرك كامل وما تعلمت وفيك بلادة من أين يصل العلم! كيف أوصل علمي إليك! قال: فكذلك، قول أهل الجنة لأهل النار: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50].
آمنا به وكفرتم، صدّقنا به وكذّبتم، اتّبعنا رسُله وخالفتم، الآن كيف نعمل لكم؟ ما عندكم استعداد أصلًا! ، ما في ذواتكم قابِلية لهذا النعيم. (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50] والعياذ بالله، تبارك وتعالى.
فتزداد حسرتهم وهم مع شِدّة ما هم فيه من العذاب. جعل الله لهم أوقات يُجَمِّع مداركهم فيها لشيء من أجل تزيد حسراتهم:
نسألك أن تجعلنا من أصحاب جنتك، وأهالينا كلهم وأولادنا كلهم، ومن في بيوتنا وأرحامنا، وأن تثبت المؤمنين على الإيمان حتى تجمعنا وإياهم في أعلى الجنان يا كريم يا رحمن.
وقال المؤلف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
"معناهُ: أنَّ الاستعدادَ لقَبُولِهِ إنَّما يُكتسَبُ بذكاءٍ فطريٍّ، وممارسةٍ طويلةٍ للعلمِ، بعدَ تعلُّمِ اللُّغةِ والعربيَّةِ، وأمورٍ أُخَرَ كثيرةٍ، وإذا بطلَ الاستعدادُ وفاتَ.. استحالَتِ الإفاضةُ؛ كما يستحيلُ إفاضةُ الحرارةِ على الباردِ معَ بقاءِ البرودةِ.
فلا تظنَّنَّ أنَّ اللهَ تعالىٰ يغضبُ عليكَ فيعاقبُكَ انتقاماً، ثمَّ تَخدعُ نفسَكَ برجاءِ العفوِ فتقولُ؛ لِمَ يُعذِّبُني ولم تضرَّهُ معصيتي؟ بل يلزمُ العذابُ مِنَ المعصيةِ كما يلزمُ الموتُ مِنَ السُّمِّ.
واعلمْ أيضاً: أنَّ هٰذهِ الحسرةَ دائمةٌ؛ لأنَّ مَنشأَها تَضادُّ صفتينِ لا يزولُ تضادُّهُما أبداً.
مثالُهُ: أنَّ الذي يُعلِّقُ الخيطَ في عنقِهِ أو رِجْلِهِ.. إنَّما يَتألَّمُ لتضادّ الصِّفتينِ، لا لصورةِ الحبلِ والتَّعليقِ، لكنْ صفتُهُ الطَّبيعيَّةُ تطلبُ الهُوِيَّ إلىٰ أسفلَ، والمنعُ القهريُّ بالحبلِ يمانعُ الصِّفة الطَّبيعيَّةَ، فيتولَّدُ الألمُ فيهِ مِنْ تمانعِهِما".
-لا إله إلا الله-
يقول: إن أثر المعصية من العذاب وما إلى ذلك يجري مجرى ما جعل الله من الثمر مثلًا الشوك، تغرس بذوره في الأرض فيطلع شوك، فلا معنى للذي زرعه هذا أن يجيء يقول: لماذا أنا حقي يطلع شوك؟ لماذا هذا زرعه يطلع تفاح؟ هذا يطلع زرعه رمان، وأنا يطلع شوك! ماذا بذرت أنت؟! يقول: لا، كلنا سوا، أنا بذرت وهم بذروا في أرض واحدة وسقينا الماء، لكن طلع حقي شوك وحقهم فواكه، هم بذروا بذور الفواكه فطلعت فواكه، وأنت بذرت بذر الشوك تبغى تطلع فاكهة؟! كيف تطلع الفاكهة وأنت بذرت هذا البذر؟! يقول: فهكذا الأعمال السيئة، هذا ثمرتها، هذا ثمرتها المُتعلِّقة بها .
ومع ذلك كله يأتي تدخّل جود الله وكرمه بعفوه بتبديل السيئة لحسنة، والمسامحة والعفو، وإلا لا ثمرة! ثمرة عملك إلا هو هذا، ما يمكن للسيئة أن تثمر خيرًا قط، ولا أن تثمر نعيمًا قط -ما يتأتى-، فهو كذلك. وكذلك الطاعات تثمر الخيرات، وكما جعل الله تعالى السُّنة في الأرض، أن يقول قائل بلهجتهم الدارجة العامية: من زرع بُر جاء له بُر، أو شوك جاه، أو شوك جاه، يجي له الشوك حقه، زرع بُر يطلع بر، تزرع شوك يطلع شوك، وأنت تزرع شوك وتريد بُر ما يتأتى، -ولا يتأتى- لايمكن لزارع البُر أن يتحوّل إلى شوك، إلا أن هو يدور له شيء من بذر الشوك ثاني يدخل رياء يدخل عجب، هذا بذر ثاني، هذا بذر حقه هو، أما نفس الحسنة ما يمكن تتحوّل إلى سوء ولا تتحوّل إلى ثمرة خبيثة قط، من حيث هي حسنة كدرتها، وصلحت لها تهجين -كما يحصل- وخبّطتها، فأنت وكسبك، وأنت وبذرك، وكلٌّ يجني ما زرع. فالله يبارك لنا فيما نزرع في هذه الحياة القصيرة ويُهيّئنا للمُلك الكبير والنعيم المُقيم الدائم.
وكما أشار أيضًا الشيخ، هناك أنواع من النعيم في الجنة مرتبطة بالنعيم الروحي هذا، النعيم الداخلي، وأما أهل جنة المزيد فيتجردون للشهود ورؤية الرحمن -جلّ جلاله-، حتى لا يتسّعون لشيء من بقية أنواع النعيم كلها، وتتضاءل عندهم أنواع هذا النعيم، ويبقون في هذا الحال، مثل حال الكروبيين من الملائكة في هذا العالم، هذا شغلهم، حتى لا يتفرّغون لشيء من ما جعل الله لكثير من الملائكة من تدبير الأمور والتعامل مع الأجسام والأخذ والعطاء، ويبقون عاكفين على حضرة الربوبية، وأهل الكمال يجمعون بين هؤلاء مثل الأنبياء والمُرسلين وكُمَّل الصدِّيقين -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، فلهم من أنواع النعيم الظاهِر والباطِن والحسِّي والمعنوي، يجدون به جودًا من جود الله -تبارك وتعالى- وفضلًا من فضله عليهم، وهو المُتفضِّل الكريم.
بارك الله لنا ولكم في أيامنا وليالينا، وجعلها سلالم نرقى بها في مرضات بارينا ومعرِفته الخاصة ومحبته الخالِصة، حتى يهب لنا من نعيم الدارين ما لا عين رأت ولا أُذن سمِعت ولا خطر على قلب بشر. اللهم لا تحرِمنا خير ما عِندك لشرِّ ما عِندنا، وزِدنا من فضلك ما أنت أهله، في خير ولطف وعافية برحمتك يا أرحم الراحمين.
وتدارك اللهم أحبابنا المسلمين في غزّة والضِفّة الغربية وأكناف بيت المقدِس وفي جميع فلسطين، وجميع الشام من الأردن ولبنان وسوريا، وجميع أقطار الشام، وجميع أقطار الحرمين الشريفين وما تعلّق بها، وجميع أقطار اليمن وما تعلّق به، والشرق والغرب، تدارك الأمة يا مُغيث، وأغثِهم بالغياث الحثيث، ورُدّ عنهم شرّ كل خبيث، وحوّل الأحوال إلى أحسنها، وأرِنا في الأمة ما تقرّ به عين حبيبك المُصطفى محمد ﷺ، وأدِم في هذه البلدة أمنًا واستقرارًا وطمأنينة وتوفيقًا لمرضاتك، وإحياءً للحق والهدى وسنّة المُصطفى ﷺ فيما خفي وفيما بدا، ورُدّ كيد المُعتدين والظالمين والفاسقين والغاصِبين وأعداء الدين، ولا تُبلّغهم مُرادًا فينا ولا في أحد من المسلمين، أصلح شؤوننا بما أصلحت به شؤون الصالحين.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
21 جمادى الأول 1447