(535)
(387)
(610)
الدرس الرابع والأربعون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: تكملة شرح الأصل العاشر: ذكر الموت (4)
في مسجد الحسين بن طلال، عمّان، ضمن دروس الدورة العلمية في موسم شهداء مؤتة الأبرار، الأردن
فجر السبت 3 جمادى الأولى 1447هـ
رحلة في مراتب الإدراك: من المحسوسات إلى المتخيلات، إلى الموهومات، حتى تُفتح للروح أبواب الملكوت.. يبيّن الحبيب عمر بن حفيظ كيف يخرج الإنسان من حدود البهيمية إلى فضاء الإنسانية، ليرى بعين بصيرته ما وراء الحواس، ويشهد من أنوار الغيب ما لا تدركه الأبصار؛ دعوة للارتقاء عن أسر الحس إلى مشاهدة الحقيقة!
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
فصل
في تفصيلٍ ما ذكرَهُ المُصنِّفُ عن عذابِ القبرِ
"لعلَّكَ تقولُ: قد أبدعتَ قولاً مخالفاً للمشهورِ، مُنكَراً عندَ الجمهورِ؛ إذ زعمتَ أنَّ أنواعَ عذابِ الآخرةِ تُدرَكُ بنورِ البصيرةِ والمشاهدةِ إدراكاً مُجاوِزاً حدَّ تقليدِ الشَّرائعِ، فهل يُمكِنُكَ -إن كانَ كذلكَ- حصرُ أصنافِ العذابِ وتفاصيلِهِ.
فاعلمْ: أنَّ مخالفتي للجمهورِ لا أُنكِرُها، وكيفَ تُنكَرُ مخالفةُ المسافرِ للجمهورِ، والجمهورُ يَستقِرُّونَ في البلدِ الذي هوَ مَسقَطُ رؤوسِهِم ومحلُّ ولادتِهِم، وهوَ المنزلُ الأوَّلُ مِنْ منازلِ وجودِهِم، وإنَّما سافرَ منهُمُ الآحادُ؟!
واعلمْ: أنَّ البلدَ منزلُ البدنِ والقالَبِ، وإنَّما منازلُ الرُّوحِ الإنسانيِ عوالمُ الإدراكاتِ؛ فالمحسوساتُ منزلُهُ الأوَّلُ، والمُتخيَّلاتُ منزلُهُ الثَّاني، والموهوماتُ منزلُهُ الثَّالثُ.
وما دامَ الإنسانُ في المنزلِ الأوَّلِ.. فهوَ دودٌ وفَراشٌ؛ فإنَّ فَراشَ النَّارِ ليسَ لهُ إلَّا الإحساسُ، ولو كانَ لهُ تخيُّلٌ وحفظٌ للمُتخيَّلِ بعدَ الإحساسِ.. لَمَا تهافَتَ على النَّارِ مرَّةً بعدَ أُخرىٰ وقد تأذَّىٰ بها أوّلاً؛ فإنَّ الطَّيرَ وسائرَ الحيوانِ إذا تأذَّى في موضعٍ بالضَّربِ.. يَفِرُّ منهُ ولم يُعاوِدْهُ؛ لأنَّهُ بلغَ المنزلَ الثَّانيَ، وهوَ حفظُ المُتخيَّلاتِ بعدَ غيبوبتِها عنِ الحِسِّ.
وما دامَ الإنسانُ في المنزلِ الثَّاني بعدُ.. فهوَ بهيمةٌ ناقصةٌ، إنَّما حدُّهُ أن يحذرَ عن شيءٍ تأذَّى بهِ مرَّةً، وما لم يَتأذَّ بشيءٍ فلا يدري أنَّهُ يحذرُ منهُ.
وما دامَ في المنزلِ الثَّالثِ -وهوَ الموهوماتُ- .. فهوَ بهيمةٌ كاملةٌ؛ كالفَرَسِ مثلاً؛ فإنَّهُ قد يحذرُ مِنَ الأسدِ إذا رآهُ أوَّلاَ وإن لم يَتأذَّ بهِ قطُّ، فلا يكونُ حذرُه موقوفاً على أن يَتأذَّى بهِ مرَّةً، بلِ الشَّاةُ ترى الذِّئبَ أوَّلاً فتحذرُهُ، وترى الجملَ والبقرةَ وهما أعظمُ منهُ شكلاً وأهولُ منهُ صورةً.. فلا تحذرُهُما؛ إذ ليسَ مِنْ طبعِهِما إيذاؤُها.
وهؤلاءِ إلى الآنَ في مشاركةِ البهائمِ.
وبعدَ هٰذا يَترقَّى الإنسانُ إلى عالَمِ الإنسانيَّةِ، فيُدرِكُ أشياءَ لا تدخلُ في حِسّ ولا تخيّلٍ ولا توهُّمٍ، ويحذرُ بهِ الأمورَ المستقبلةَ، ولا يَقتصِرُ حذرُهُ على العاجلةِ اقتصارَ حذرِ الشَّاةِ على ما تشاهدُهُ في الحالِ مِنَ الذِئبِ، ومِنْ ها هنا يصيرُ إلى حقيقةِ الإنسانيَّةِ.
وتلكَ الحقيقةُ: هيَ الرُّوحُ المنسوبةُ إلى اللهِ تعالى في قولهِ: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) [الحجر:29]، وفي هٰذا العالَمِ يُفتَحُ لهُ بابُ الملكوتِ، فيشاهدُ الأرواحَ المُجرَّدةَ عن غِشاوة القوالب؛ وأعني بهذهِ الأرواحِ: الحقائقَ المحضةَ المُجرَّدةَ عن كسوةِ التَّلبيسِ وغِشاوةِ الأشكالِ، وهذا العالمُ لا نهايةَ لهُ".
الحمد لله تعالى، مختص الإنسان بخصائص يظفَر بها الصادق الخالص، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يحيط بعجائب قدرته محيط، له الحمد وله الشكر، وله الثناء على كل حال من الأحوال في كل مركّبٍ وكل بسيط.
ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أعلم الخلائق بعجائب أسراره في الملك والملكوت، وسيد أهل الإنابة إليه سبحانه وتعالى، ومفتاح أبواب الرحموت، صلِّ اللهم وسلم وبارك وكرم على الكنز المطلسم، سيدنا الحبيب الأعظم محمد ابن عبد الله، رحمتك الكبيرة ومنّتك العظيمة الوفيرة، وعلى آله وأصحابه ومن والاه فيك واتبعه على بصيرة، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك سادات أهل الحظيرة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
تحدث الإمام الغزالي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- عن شأن الموت الذي جعله الله حتمًا على كل حي وعلى كل نفس، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185]، يشمل هذا الحكم أهل السماوات وأهل الأرض من كل ذي نفس وروح في الأولين والآخرين، بل (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27] ،جلّ جلاله.
وحدثنا أن الموت عبارة عن انتقال الإنسان والحيوان من حالة إلى حالة، وأنّ ما خصّ الله به المكلفين من الجن والإنس من مدارك يدركون بها عظمته في هذه الحياة ويحملون أنفسهم على امتثال أمره واجتناب نهيه تحقيقًا للعبودية له، وعلى الإقبال الصادق بالكلية عليه ليحظوا بقربه الخاص ووصله سبحانه وتعالى، وما جعل من الاختصاص للخواص -جلّ جلاله وتعالى في علاه- واختلفت مراتبهم في ذلك.
وحقَّ على الذين أعرضوا عن الله من هؤلاء المكلفين ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها أن يحق عليهم العذاب، ولهم النكال في الحال والمآب، نعوذ بالله من غضب رب الأرباب جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وأخبرنا أن ما حدّث به الأنبياء والمرسلون وسيدهم محمد ﷺ من عذاب القبر ونعيمه حق، وأن ما بعده كذلك من أخبار القيامة وأهوالها وما فيها حق.
وأخبر أنّ ما أخبر به ﷺ شؤون غيبية ومعنوية أُمر الجميع بالإيمان بها، (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [البقرة:2-3]، ولكن أيضًا هذه الغيبيات لها مدارك عند البصائر، كما أن للمحسوسات مدارك عند الأبصار؛ فتبصر العين، وتسمع الأذن، ويذوق اللسان، وتحس اليدُ بأنواع من هذه المحسوسات والمنظورات والمسموعات والمبصَرات والمطعومات وما إلى ذلك.
وأن هذا الحد الذي يكون فيه الخلق من إنس وجن ومن بهائم كذلك وحيوانات، ولكن وراء هذا الحِس روحٌ وبصيرة، كما أشار الحق تعالى أن الشأن شأن البصيرة لا البصر المحسوس، فقال: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46]، وأن هذه البصيرة إذا تجلّت وإذا انفتحت، صار الإنسان يدرك من جملة الحقائق التي تحدث بها رسول الخالق وأخبر بها الخالق في كتابه، يدرك منها ما تهيأ له صفاؤه ونقاؤه، فيشاهد بالبصيرة مشاهدةً ما حُدِّث عنه من الأمور الغيبية، فبمشاهدته البصيرية يكون في قوة من الشهود والنظر أقوى من رؤية البصر إلى المحسوسات التي جعله الله سبحانه وتعالى مدركًا لها ورائيًا لها، وكذلك يسمع من تلك المعاني والحقائق ما لا تسمعه الأذن في عالم المحسوسات، فيكون أقوى: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) [مريم:38]، (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22].
يقول: قد يقول القائل: "إذ زعمتَ أنَّ أنواعَ عذابِ الآخرةِ تُدرَكُ بنورِ البصيرةِ والمشاهدةِ إدراكاً مُجاوِزاً حدَّ تقليدِ الشَّرائعِ، فهل يُمكِنُكَ -إن كانَ كذلكَ- حصرُ أصنافِ العذابِ وتفاصيلِهِ."، قال: فإنك جئت بقول مخالف للمشهور الذي يتكلم به الجمهور. يقول سيدنا الغزالي: أردت بالجمهور عامة المتكلمين وعامة المتحدثين، أنا أحدثك عن خواصّهم وعن الخصائص التي أوتيها الخواص من ذلك… فنعم، أنا لهؤلاء الجمهور مخالف لأني جاوزت ما عندهم، ولكن هذا التجاوز هو الذي دُعينا إليه ونُدبنا إليه لتتنور بصائرنا وندرك هذه الحقائق العظيمة.
وكما أن الناس غالبًا يستقرون في منازلهم والبلدان التي ولدوا فيها وينشأوون فيها، وفيهم الآحاد الذي يفارق الموطن الذي نشأ فيه ويسافر، فكذلك في عالم الأرواح ما يشابه هذا.
فإن الخلق أول ما ينتقلون إلى هذا العالم في إخراج الروح التي جعلها الله تعالى مخلوقةً من قبل إلى بطن الأم وحبسها في هذا القفص وفي هذا الجسد، ويخرج من بطن أمه حينئذٍ في هذا العالم، يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78].
ثم يبدأ الفهم ويبدأ الإدراك للأشياء، ويبدأ من حين التمييز، ومن حين ما يفتح الله تبارك وتعالى على الطفل منا إدراك هذا وهذا. فأول ما يسبق وأول ما يستقر فيه ويولد فيه هذا الطفل منا:
وهذه كلها تكون للإنس والجن وللحيوانات، والحيوانات الأخرى والنباتات ليس فيها الميزة الإنسانية، ليس فيها الخصوصية للإنسان، هو في هذه الأشياء يشاركه فيها أنواع الحيوانات الموجودة، فالحس موجود، والخيال عند بعض الحيوان موجود، وشيء من التوهّم عند بعض الحيوان موجود، ولكن مجاوزة ذلك خاصية الإنسان.
وأكثر الناس ينحصرون إما في المحسوسات، أو في المتخيلات، أو في الوهم فقط، ولا يجاوزون ذلك. فهؤلاء الجمهور قال: أنا أخالفهم، جاوزت هذا، فضروري أن أخالفهم، ولي الشرف والكرامة أني خالفتهم بهذا، ولكني وصلت إلى ما حدانا إليه الشارع من الترقي إلى علم اليقين وعين اليقين.
يقول: "البلدَ منزلُ البدنِ والقالَبِ، وإنَّما منازلُ الرُّوحِ الإنسانيِ عوالمُ الإدراكاتِ"؛ أولها المحسوسات، ثم المتخيلات ثم الموهومات، قال: "وما دامَ الإنسانُ في المنزلِ الأوَّلِ" يدرك المحسوسات فقط، فهو يشبه من الحيوانات الدود والفَرَاش، فإنها ترى السراج والشمعة مشتعلة فترمي بنفسها فيها، فقد تنجو بألا تقع في عين النار فترجع ثاني مرة، مع أن كثيرًا من أخواتها احترقن ورحن وسط النار، ولكنها ما تدرك هذا، لِمَ؟ لأنها واقفة عند الحس، حتى ما تتخيل. إذا مشت ترجع ثاني مرة، وترى أن هذه النار -التي أحرقت أخواتها وهي نجت منها بأعجوبة- أنها عبارة عن منفذ تنفذ منه إلى ما وراءه، مثل الضوء لما يدخل من كوة وتنفذ من هذه الكوة إلى خلفها، فهي ما تحس إلا هذا الحس فقط، وإن نجت أول مرة ترجع ثاني مرة، وإن نجت ثاني مرة ترجع ثالث مرة، حتى تحترق بهذه النار الموقدة قبلها.
وبهذا حدّث ﷺ عن عامة الأمة وقال: مَثَلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا فجعل هذا الفَرَاش يتهافت عليه، فأنتم تتهافتون على النار "وأنا آخذٌ بحُجَزِكم". ﷺ، يدعونا إلى أن نرتقي إلى الخيال، إلى الوهم، إلى علم اليقين، إلى عين اليقين، إلى حقائق الإنسانية، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، لننجو من الوقوع في النار.
قال: "وما دامَ الإنسانُ في المنزلِ الأوَّلِ" وهو عالم المحسوسات فهوَ يشبه الدودٌ والفَراشٌ؛ "فإنَّ فَراشَ النَّارِ ليسَ لهُ إلَّا الإحساسُ، ولو كانَ لهُ تخيُّلٌ وحفظٌ للمُتخيَّلِ بعدَ الإحساسِ.. لَمَا تهافَتَ على النَّارِ مرَّةً بعدَ أُخرىٰ"؛ يكفي أن أصحابي قد هلكوا وخلاص أنا سلمت، وما عاد برجع إلى هذا المكان! الخيال هذا ليس عنده؛ ما يتخيّل.. ثاني مرة كما أول مرة، وثالث مرة كما ثاني مرة، ورابع مرة كما ثالث مرة، وهكذا يجيء ويروح لأنه ما هو إلا في الحس فقط محصور، فهذا أقل الحيوانات إدراكًا، ولو انحصر الإنسان في هذا لكان مثل هذا الحيوان.
قال: "ولو كانَ لهُ تخيُّلٌ وحفظٌ للمُتخيَّلِ بعدَ الإحساسِ.. لَمَا تهافَتَ على النَّارِ"، "وقد تأذَّىٰ بها أوّلاً؛ فإنَّ الطَّيرَ وسائرَ الحيوانِ إذا تأذَّى في موضعٍ بالضَّربِ" مثلًا "يَفِرُّ منهُ ولم يُعاوِدْهُ" بل لو ضربه إنسان معين، إذا شافه ثاني مرة إن كان يقدر يستعدي عليه.. يستعدي عليه وإلا يهرب منه، بقي خيال عنده، ما هو مثل الفراش والدود، عنده بقي خيال، فهو إذًا أحسن في الإدراك من الفراش.
فهذه أنواع الحيوانات الأخرى مثل الطير ومثل الأنعام تدرك هذا، يعني تتجاوز الحس إلى الخيال."لأنَّهُ بلغَ المنزلَ الثَّانيَ، وهوَ حفظُ المُتخيَّلاتِ بعدَ غيبوبتِها عنِ الحِسِّ".
قال: "وما دامَ الإنسانُ في المنزلِ الثَّاني" وهو المتخيلات "فهوَ بهيمةٌ" مثل البهائم الناقصة، يحذر من شيء تأذى به مرة ، وأما ما لم يتأذى به من قبل فما يعرف يفرق، ما يعرف، لأنه ما عنده التوهّم، عنده فقط الحس والخيال، فهذا يحتاج كل شيء يجربه أولًا، وأما قبل التجربة ما يعرف ولا يدرك شيء، فهو محصور في الخيال والحِس وليس عنده التوهم، هذا حيوان ناقص، بهيمة ناقصة.
وإذا وصل الإنسان إلى المنزل الثالث ولم يتجاوزه، فهو مثل البهيمة لها كمال في بهيميتها، يصير مثل الفرس مثلًا، الفرس وإن لم يرَ أسدًا أكل فرسًا أمامه، ولم يسبق أن أكله الأسد عاده ما أُكِل، لكن بمجرد ما يشاهده يعلم أن في هذا قوة تعرّض حياته للخطر، وأنه يمكن أن يعتدي عليه، فيفر منه، هذا جاوز حد الحس والخيال إلى حد التوهم، فيدرك وإن كان ما له تجربة سابقة معه، ولكن يدرك أن هذا وراءه خطر وأنه يمكن أن يعتدي عليه ويعدمه حياته، فهو يفر منه.
"فإنَّهُ قد يحذرُ مِنَ الأسدِ إذا رآهُ أوَّلاَ وإن لم يَتأذَّ بهِ قطُّ"، فما يقف على ما يتأذى به، حتى إن الشاة ترى الذئب فتحذره، وترى الجمل أكبر من الذئب ما تفر منه ما تحذره، "ترى الجملَ والبقرةَ وهما أعظمُ منهُ شكلاً وأهولُ منهُ صورةً.. فلا تحذرُهُما"، عندها وهم للأشياء فوق الحس والخيال، تدرك هذا يضر وهذا ما يضر، فما هي واقفة لا عند حدود الأشكال ولا الهيئات ولكن تغوص على أين الضر؟ أين الآفة؟.. فهو إذًا مرتبة فوق الحس والخيال.
قال: وهؤلاء إلى الآن من الناس الذين وقفوا عند الحس والذين جاوزوا الحس إلى الخيال، والذين جاوزوا الخيال إلى الوهم في حدود البهائم، لا زالوا في حدود البهائم، ما جاوزوا البهيمية إلى شرف الإنسانية، لذا قال الله عن الذين رضوا بهذا وما كلفوا أنفسهم أن يجاوزوا هذا الحد، (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الفرقان:44].
(لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا)؛ يعني: خصائص الإنسان ما شغلوها، هي مجمدة فيهم، وقفوا فقط عند حس وخيال ووهم فهم مثل الأنعام، (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ)؛ ما أحسنوا استخدامها ولا استعمالها على ما ينبغي، (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179]، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- عن الحقيقة، الغافلون عن الحق والغافلون عن الحقيقة.
قال: "وبعدَ هٰذا يَترقَّى الإنسانُ إلى عالَمِ الإنسانيَّةِ، فيُدرِكُ أشياءَ لا تدخلُ في حِسّ ولا تخيُّلٍ ولا توهُّمٍ، ويحذرُ بهِ الأمورَ المستقبلةَ، ولا يَقتصِرُ حذرُهُ على العاجلةِ" والفانية والحياة المنقضية، ما يقتصر "اقتصارَ حذرِ الشَّاةِ على ما تشاهدُهُ في الحالِ مِنَ الذِئبِ، ومِنْ ها هنا يصيرُ إلى حقيقةِ الإنسانيَّةِ".
قال هذه الحقيقة الإنسانية؛ هي خاصية الروح المضافة إلى الله إضافة تشريف، (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:29]، وأضيفت إلى الرحمن تعالى إضافة تشريف وتكريم لها لما تميزت به، ولأنها بهذه الميزة تدرك من عظمة الله وجلاله وجماله ومعرفته الخاصة ما لا تدركه بقية الحيوانات، إذا أحسنت استخدام هذه الميزة وهذه الخصوصية وهذه الخاصية التي أتاها الله تعالى الإنسان في هذه الروح.
يقول: "وتلكَ الحقيقةُ: هيَ الرُّوحُ المنسوبةُ إلى اللهِ تعالى"؛ أي: تشريفًا لها "في قولهِ: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) [الحجر:29]، وفي هٰذا العالَمِ يُفتَحُ لهُ بابُ الملكوتِ"، باب الملكوت ما تجاوز المدارك بالحواس الخمس إلى الغيب.
لهذا قال الله لسيدنا إبراهيم: (وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، لا حسها ومعناها الظاهر ولكن ما بَطَن فيها من الدلالات والإشارات، وما حملته من أسرار الدلالة على موجِدها ومكوِّنها وما بث فيها من سر قدرته وإرادته وتكوينه وتدبيره وعلمه وإحاطته سبحانه وتعالى: (نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام:75].
اللهم اجعل لنا نصيبًا من إراءتك لنا لملكوت السماوات والأرض حتى نظفر بيقين تام يا ذا الجلال والإكرام.
قال: هذه الخاصية "يشاهدُ الأرواحَ المُجرَّدةَ عن غِشاوة القوالب"؛ و"الحقائقَ المحضةَ المُجرَّدةَ عن كسوةِ التَّلبيسِ وغِشاوةِ الأشكالِ، وهذا العالمُ" فسيح (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء:85].
نعم عالم الأرواح خيرٌ من الجسمِ *** وأعلى ولا يخفى على كل ذي علمِ
فإذا كان عالم الحس ما تستطيع أن تستوعب فيه المحسوسات في جسدك فضلًا عن البلدان في شرق الأرض وغربها، ما تستطيع أنك تحيط بها.. واسعة، ومن عالم المحسوسات حتى الفضاء وحتى ما فيه من الكواكب كلها محسوسات، وحتى السماء بالنسبة لجِرمها وسمكها من جملة المحسوسات، وأنت ما تحيط بها، عالم وسيع..
أما إذا انفتح لك باب الملكوت وأبصرت الروح، فالعالم أكبر والعالم أفسح والعالم أجل وأعظم من ذلك وأنى تحيطُ بذلك!. وهكذا الآن ابتدأت تصير إنسان أو تتحقق بالإنسانية، صرت متحققًا بالإنسانية، فالله يوفر حظنا من هذا العطاء ومن هذا المَنح، ولا يجعل حياتنا محبوسين في مستوى الحيوانات وهذه البهائم. رقّانا الله مراقي الإنسانية الكريمة الشريفة، ووفر حظنا من الفهم عنه والوعي لما أوحاه.
"أمَّا عوالمُ المحسوساتِ والمُتخيَّلاتِ والموهوماتِ.. فمتناهيةٌ؛ لأنَّها مجاورةٌ للأجسامِ، ومُلتصِقةٌ بها، والأجسامُ لا يُتصوَّرُ أن تكونَ غيرَ متناهيةٍ.
والسَّيرُ في هذا العالَمِ مثالُهُ الخياليُّ: المشيُ على الماءِ، ثمَّ يَترقَّىٰ منهُ إلى المشي في الهواءِ، ولذلكَ لمَّا قيلَ لرسولِ اللهِ ﷺ: إنَّ عيسىٰ عليهِ السلامُ مشى على الماءِ.. فقالَ: نَعَمْ، وَلَوِ ازْدَادَ يَقِينا.. لَمَشَىٰ عَلَى ٱلْهَوَاءِ.
وأمَّا التَّردُّدُ على المحسوساتِ.. فهوَ كالمشيٍ على الأرضِ، وبينَها وبينَ الماءِ عالَمٌ يجري مَجرى السَّفينةِ، وفيها تَتولَّدُ درجاتُ الشياطينِ، حتَّى يُجاوِزَ الإنسانُ عوالمَ البهائمِ، فينتهيَ إلى عالَمِ الشَّياطينِ، ومنهُ يسافرُ إلى عالَمِ الملائكةِ، وقد ينزلُ فيهِ ويستقرُّ، وشرحُ ذلكَ يطولُ.
وهٰذهِ العوالمُ كلُّها منازلُ الهدى، ولكنَّ الهدى المنسوبَ إلى اللهِ تعالىٰ يُوجَدُ في العالَمِ الرَّابعِ؛ وهوَ عالَمُ الأرواحِ، وهوَ معنىٰ قولِهِ تعالىٰ : (قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللهِ) [آل عمران:73].
ومَقامُ كلِّ إنسانٍ ومحلُّهُ ومنزلُهُ في العُلْوِ والسُّفْلِ.. بقَدْرِ إدراكِهِ، وهوَ معنى قولِ عليّ -رضيَ الله عنهُ-: النَّاسُ أبناءُ ما يُحسِنونَ؛ فالإنسانُ: بينَ أن يكونَ دوداً، أو حماراً، أو فرساً، أو شيطاناً، ثمَّ يُجاوِزُ ذلكَ فيصيرُ مَلَكاً.
وللملائكةِ درجاتٌ: فمنهُمُ الأرضيَّةُ، ومنهُمُ السَّماويَّةُ، ومنهُمُ المُقرَّبونَ المُترفِّعونَ عنِ الالتفاتِ إلى السَّماءِ والأرضِ، القاصرونَ نَظرَهُم علىٰ جمالِ الحضرةِ الرُّبوبَّيةِ، وملاحظةِ الوجهِ خاصَّةً، وهم أبداً في دارِ البقاءِ؛ إذ ملحوظُهُم هوَ الوجهُ الباقي، وما عدا ذلكَ فإلى الفَناءِ مصيرُهُ؛ أعني: السَّماءَ والأرضَ، وما يَتعلَّقُ بهِما مِنَ المحسوساتِ والمُتخيَّلاتِ والموهوماتِ؛ وهوَ معنى قولِهِ تعالىٰ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27].
وهٰذهِ العوالمُ منازلُ سفرِ الإنسانِ؛ ليَترقَّى مِنْ حضيضِ درجةِ البهائمِ إلى يَفاع رتبةِ الملائكةِ، ثمَّ يَترقَّىٰ مِنْ رتبتِهِم إلىٰ رتبةِ العُشَّاقِ منهُم، وهُمُ الكَرُوبِيُّونَ العاكفونَ علىٰ ملاحظةِ جمالِ الوجهِ، يُسبِّحونَ الوجةه ويُقدِّسونَهُ باللَّيلِ والنَّهارِ لا يَفتُرونَ.
فانظرِ الآنَ إلىٰ خِسَّةِ الإنسانِ وشرفِهِ، وإلى بُعدِ مراقيهِ في معارجِهِ، وإلى انحطاطِ درجاتِهِ في تسفُّلِهِ، وكلُّ الآدميِّينَ مردودونَ إلىٰ أسفلِ السَّافلينَ، ثمَّ الذينَ آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ يَترقَّونَ منها، فلهُم أجرٌ غيرُ ممنونٍ؛ وهوَ ملاحظةُ جمالِ الوجهِ.
وبهذا يُفهَمُ معنىٰ قولِهِ تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖإِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72]؛ لأنَّ معنى الأمانةِ: التَّعرُّضُ للعُهْدَةِ والخَطَرِ، ولا خطرَ على سُكَّانِ الأرضِ؛ وهُمُ البهائمُ؛ إذ ليسَ لهُم إمكانُ التَّرقِّي مِنَ المنزلِ الثَّالثِ، ولا خطرَ على الملائكةِ؛ إذ ليسَ لهُم خوفُ الانحطاطِ إلى حضيضٍ عالَمِ البهائمِ.
وانظرْ إلى الإنسانِ وعجائبِ عوالمِهِ كيفَ يَعرُجُ إلى السَّماءِ العُلْوِيِّ رُقِيّاً، ويهوي إلى أرضِ الحقارةِ هُوِيّاً مُتقلِّداً هذا الخطرَ العظيمَ الذي لم يَتقلَّدْهُ في الوجودِ غيرُهُ؟!
فيا مسكينُ؛ كيفَ تُهدِدُني بالعاقبةِ، وتُخوِّفُني بمجاوزةٍ الجمهورِ، ومخالفةِ المشهورِ، وبذلكَ فرحي وسروري؟!
إنَّ الذي يكرهونَ منِّي.. ذلكَ الذي يشتهيهِ قلبي، فاطوِ طُومارَ الهَذَيانِ، ولا تُقَعْقِعْ بعدَ هٰذا بالشِّنانِ."
حتى يقولون شنة للجلد الذي بَلي.
يقول -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: إذا أكرم الله الإنسان وخرج عن حدود البهيمية، فهناك مجال لا نهاية له، لأن عوالم المحسوسات والمتخيلات مهما كثرت وكبرت، في النهاية هي محصورة، ولكن لا حصر لعوالم المعاني والروح، فشؤونها واسعة لا تقبل الانحصار. لهذا قال الحق تعالى في جزائهم: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة:17]. فإذا لم ينحصر ما أُخفي لهم، فكيف ينحصر ما أوتوا من الوعي والفهم عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
قال: في عالم الخيال السير في هذا العالم المعنوي الروحاني، مثاله في عالم الخيال: الناس يمشون على الأرض، هذا أمر حسي، كل واحد يمشي على الأرض بأرجلنا وبسياراتنا ودراجاتنا، نمشي على الأرض، لكن هناك مشي على الماء، هذا أمر غريب، الإنسان يغرق في الماء؛ إذا دخل الماء يغوص فيه، ما يقدر يمشي على الماء؛ ولكنها رتبة جعل الله فيها من جعل، ومشى فيها سادتنا الصحابة -عليهم رضوان الله تعالى- في عالم الحس هذا، لما جاؤوا بقيادة العلاء الحضرمي ودخلوا البحرين يمشون فوق الماء، يقول: فما هو إلا أن تقدم فضرب البحر فكأنه يضرب في حجر، فمشى الجيش خلفه، ثلاثة آلاف منهم، لِمَا عندهم من يقين وإيمان ما استوعروا الأمر ومشوا وراءه، وقال: سخرت البحر لموسى، فسخره لنا نحن من أصحاب نبيك محمد، خرجنا نجاهد، والكفار حرقوا السفن علينا، فنمشي في الماء. فمشوا فوق الماء يقول أبو هريرة وكان معهم: والله ما ابتلّ لنا خفٌّ ولا حافر، قال أخفاف الجمال وحوافر الخيول ما ابتلت، خرجت من البحر يابسة مابها بلل.
وهكذا كان من عادة سيدنا عيسى وغيره يمشون على الماء، وأورد هذا الحديث الذي رواه المروزي من حديث معاذ بن جبل يقول ﷺ: عن سيدنا عيسى "لو ازداد يقينًا لمشى على الهواء" والمشي على الماء والمشي على الهواء هذا خارج عن المألوف في الحس، ففي الحس يمشي الناس على الأرض، (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) [الملك:15].
قال: "وأمَّا التَّردُّدُ على المحسوساتِ.. فهوَ كالمشيٍ على الأرضِ، وبينَها وبينَ الماءِ عالَمٌ" بين المشي على الأرض والمشي على الماء، وسط بينها، عالم الشياطين، الشياطين هم بأجسامهم يطيرون من محل إلى محل. ومثاله أيضًا كما ذكره عالم الشياطين فيما أحدث لنا من الآلات هذه الطائرات التي جاءت تطير بنا في الهواء وتمشي بنا في الماء، هي بين المشي من دون هذه الأسباب وهذه الترتيبات الحسية، مشي الإنسان على الهواء مثلًا أو على الماء، وبين المشي… وكذلك السفينة جعل الله الخشب من خاصيته أنه ما يقبل الغوص في الماء حتى إذا حملت فوقها حمول كثيرة حملته ولا تغوص في الماء، نوع من المخلوقات، خشب!..
يقول: بين ارتفاع الإنسان من عالم المحسوسات والخيالات إلى عالم الروح والملكوت برزخ وحاجز فذاك يمشي على الماء برجليه ولكن ذا يدخل في سفينة ويمشي في الماء، بين ذا وبين ذا… مشى على الماء نعم لكن بواسطة حسية. وكذلك المشي على الهواء، يمشي بنفسه على الهواء هكذا، وبين يدخل في طائرة ويتخذ له شي من الأسباب التي ترفعه، بين هذا وبين هذا…
قال: الشياطين عندهم شي من البينية هذه، فهم يطيرون من طرف الأرض إلى طرفها ويروح ويجيء بما جُعِل من الخاصية في تكوينه وخلقه جعله الله سبحانه وتعالى كذلك، ولكن ليس المراد هذا ولكن المراد أن تنفذ من هذا إلى ما يشابه عالم الملائكة فليس طيران الملائكة كطيران الشياطين، الشياطين يطيرون من هنا لهنا، ولكن طيران الملائكة بتمكين ربانيّ رحماني رحيمي عظيم مصبوغ عليه الرضا والمحبة، فليس طيران هؤلاء مثل طيران هؤلاء، ومع ذلك فالملائكة أيضًا هم درجات، منهم الأرضيون ومنهم السماويّون ومنهم أعلى الملائكة في السماء: كروبيون، استغراقهم بشهود الحق تبارك وتعالى، ما عاد أبقى لهم وقت ولا فرصة أن يشتغلوا بالأجسام ولا بتسييرها ولا…. أُخِذوا؛ فهم من أعلى الملائكة.
يقول: "وهٰذهِ العوالمُ كلُّها منازلُ الهدئ، ولكنَّ الهدى المنسوبَ إلى اللهِ تعالىٰ يُوجَدُ في العالَمِ الرَّابعِ؛ وهوَ عالَمُ الأرواحِ"، ما هو عالم الأرواح؟ العالم الأول عالم المحسوسات، والثاني عالم المتخيلات، والثالث الموهومات، والرابع هذا العالم الرابع عالم الأرواح، شأن خصائص الروح "الهدى" المخصوص "المنسوبَ إلى اللهِ تعالىٰ"، ويهدي لنوره من يشاء في هذا العالم.
قال: (إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللهِ) [آل عمران:73]. ومَقامُ كلِّ إنسانٍ ومحلُّهُ ومنزلُهُ في العُلْوِ والسُّفْلِ.. بقَدْرِ إدراكِهِ، وهوَ معنى قولِ عليّ -رضيَ الله عنهُ-: النَّاسُ أبناءُ ما يُحسِنونَ." وقدر كل امرئ ماكان يحسنه، ما الذي تحسنه؟ فأنت من ذلك، يقول: "الناس أبناء مايحسنون"، وروي هذا أيضًا عند ابن عبد البر في بيان فضله:
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
فالإنسان بين أن يكون في مرتبة الدود أو يرتقي للحمار أو فرس؛ أحسن إدراك منه، أو شيطان له بعض الغرائب، ولكن الشأن أن يجاوز هذا كله إلى أن يصير مثل الملائكة. ولذا لما خصّ الله آدم أبانا بالخصائص، أمر الملائكة أن تسجد له ورفع قدره بينهم.
والملائكة درجات:
كما أن الاتصال على وجه العموم مبذولٌ بين حملة العرش وبين من في الأرض من المؤمنين، (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) [غافر:7]. إلى آخر ما ذكر الله عنهم. فهناك علائق بين حملة العرش وبين من على ظهر الأرض من المؤمنين التائبين، ودعاء الملائكة لهم، ولكن هذه الصِّلة والعلاقة تتقوى كلما نال الإنسان هذه الخصوصية التي تلحقه بأفق الملائكة.
فإن الإنسان:
قال: "والسماء والأرض وما يتعلق بهما من المحسوسات والمتخيلات، فمصيرها الفناء". (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق:1-2]، (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ)[الانفطار:1-2]، هذه كلها تفنى. وهومعنى قوله: "(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27]. وهٰذهِ العوالمُ منازلُ سفرِ الإنسانِ؛ ليَترقَّى مِنْ حضيضِ درجةِ البهائمِ إلى يَفاع رتبةِ الملائكةِ، ثمَّ يَترقَّىٰ مِنْ رتبتِهِم إلىٰ رتبةِ العُشَّاقِ منهُم، وهُمُ الكَرُوبِيُّونَ العاكفونَ علىٰ ملاحظةِ جمالِ الوجهِ، يُسبِّحونَ الوجةه ويُقدِّسونَهُ" (وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:19-20]، عليهم سلام الله تبارك وتعالى.
قال: "فانظرِ الآنَ إلىٰ خِسَّةِ الإنسانِ وشرفِهِ، وإلى بُعدِ مراقيهِ في معارجِهِ، وإلى انحطاطِ درجاتِهِ في تسفُّلِهِ، وكلُّ الآدميِّينَ مردودونَ إلىٰ أسفلِ السَّافلينَ"، إلا "الذينَ آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ يَترقَّونَ منها، فلهُم أجرٌ غيرُ ممنونٍ"؛ وغير منقطع فيما يتعلق برضوان الحق عنهم وشهودهم لجماله "(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ) [الأحزاب:72]"؛ بعد هذا التهيؤ، من أعرض من هؤلاء الناس ومن أدبر ومن استكبر فهو الظلوم الجهول، هُيِّئَ لشأن عظيم فأبى إلا أن يسقط إلى أسفل سافلين، والعياذ بالله تعالى.
"لأنَّ معنى الأمانةِ: التَّعرُّضُ للعُهْدَةِ والخَطَرِ"، وسكان الأرض من البهائم ليس عليهم خطر، ولا تعرّضوا لهذه العهدة، ولا أوتوا ما يرقيهم، ولا حساب عليهم، تجاوزوا الخطر، "ليسَ لهُم إمكانُ التَّرقِّي مِنَ المنزلِ الثَّالثِ، ولا خطرَ على الملائكةِ"؛ لأنهم ليس لهم انحطاط عن الرتبة العلية التي هم فيها إلى "إلى حضيضٍ عالَمِ البهائمِ."، لكن الإنسان ممكن أن ينحط إلى حضيض البهائم، وممكن أن يرتفع إلى أوج الملائكة، فهذه من خصوصياته.
وهكذا يقول بعد ذلك: فكيف تهددني بقولك جاوزت الجمهور وخالفت الجمهور؟ قال: "بذلك فرحي وسروري"، إذا ما بقيت محبوس في الحس ولا في الخيال ولا في الوهم، وخلّنا أجاوزهم، أنا أحب مخالفة الجمهور هؤلاء. فـ (أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21] (وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [المائدة:103]. خلّنا أبتعد عن الأكثر؛ الجمهور حقك هذا، وأروح إلى الخواص، إلى أهل الاختصاص، إلى أهل الصدق والإخلاص، خلنا معهم. لماذا تريد أبقى مع الجمهور حقك المحبوس في هذا المكان! فما هذا إلا فرحي وسروري أن أجاوزهم.
"والذي تكرهه مني هو الذي يشتهيه قلبي"، فخلّنا أنطلق مع الخواص وخلِّ الجمهور حقك لك، (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام:116]. "فاطوِ طومار الهذيان، ولا تقعقع بعد هذا بالشِّنان"، بالجلد البالي تضرب به سيتقطع ويتكسر، ليس بشيء! وارتفِع إلى إدراك الحقيقة.
اللهم ألحقنا بخيار الخليقة، برحمتك يا أرحم الراحمين، وجودك يا أجود الأجودين، ونسأل الحق أن يوفر حظنا وإياكم.
رزقنا الله الإنابة والخشية والاستقامة، ووفّر الله حظنا من المِنن والمواهب، وكَشَفَ عنّا الحجب، ورفع لنا الرتب، وجعل لنا إدراك وفتح لنا بصائرنا. اللهم نوّر بصائرنا وصفِّ سرائرنا، واجعلنا من الذين سبقت لهم منك الحسنى، وتولنا بما أنت أهله في الحس والمعنى، وارفع درجات معلمينا ومشايخنا وذوي الحقوق علينا وآبائنا وأمهاتنا، واجمعنا بهم في دار الكرامة. واغفر لمؤسس المسجد والقائمين عليه والمتردّدين فيه والسابقين فيه. وخذ بيد ملك البلدة إلى ما هو أحب وأطيب، وتولَّ الراعي والرعية بما به ترفع عنا وعنهم وعن الأمة الكرب وسوء الحاضر والمنقلب، واصلح شأن المسلمين في المشارق والمغارب، وادفع عنا وعنهم جميع البلايا والآفات والمصائب، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأيقظ قلوبنا من كل غفلة وسِنة، بوجاهة حبيبك المحبوب، طب الأجسام والقلوب. ونقِّنا عن كل شوب، واسقِنا من أحلى مشروب.
نسألك اللهم أن ترقينا في مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وأن تجعل مستقر اليقين التام قلوبنا ومستقر أربابه ديارنا، وأن تجعل مستقر الورع الحاجز قلوبنا ومستقر أربابه ديارنا، وأن تجعل مستقر المعرفة بالله قلوبنا ومستقر أربابها ديارنا. اللهم ثبّتنا على الحق فيما نقول، وثبتنا على الحق فيما نفعل، وثبتنا على الحق فيما نعتقد، واختم لنا بأكمل الحسنى وأنت راضٍ عنا.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
20 جمادى الأول 1447