(535)
(339)
(363)
الدرس الثاني والأربعون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: تكملة شرح الأصل العاشر: ذكر الموت (2)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر السبت 7 ربيع الأول 1447هـ
من طولِ الأمل إلى صدقِ الاستعداد: طريقًا عمليًّا لذكر الموت بخلوةٍ وتفكّرٍ في المصير، ووظيفةَ الذكر في قطع طولِ الأمل، وآثاره في تفريغ القلب من التعلّق بالدنيا والتهيؤ للقاء الله، يتبع ذلك لمحاتٌ عن أحوال البرزخ وبقاء الروح، ومعنى "لو كُشف الغطاء ما ازددتُ يقينًا".
بسم الله الرحمن الرحيم
بسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
فَصَلٌ
[في أنَّ ذكرَ الموتِ سمةُ العارفينَ]
"اعلمْ: أنَّ الموتَ عظيمٌ هائلٌ، وما بعدَهُ أعظمُ منهُ، وفي ذكرِهِ منفعةٌ عظيمةٌ؛ فإنَّهُ يُنغِّصُ الدُّنيا، ويُبغِّضُها إلى القلبِ، وبغضُها رأسُ كلِّ حسنةٍ، كما أنَّ حبَّها رأسُ كلِّ خطيئةٍ.
وللعارفِ في ذكرِهِ فائدتانِ:
إحداهُما: النفرةُ عنِ الدُّنيا.
والأخرى: الشَّوقُ إلى الآخرةِ؛ فإنَّ المُحِبَّ -لا محالةَ- مُشتاقٌ.
ومعنى الشَّوقِ في المحسوساتِ: استكمالُ الخيالِ بالتَّرقِّي إلى المشاهدةِ؛ فإنَّ المُشتاقَ إليهِ مُدرَكٌ -لا محالةَ- بالخيالِ، وغائبٌ عنِ الأبصارِ، وأحوالُ الآخرةِ ونعيمُها، وجمالُ الحضرةِ الرُّبوبيَّةِ.. مُدرَكٌ كلُّ ذلكَ للعارفِ، يَعرِفُهُ كأنَّما يَنظُرُ إليهِ مِنْ وراءِ سِترِ رقيقٍ في وقتِ الإسفارِ وضَعفِ النَّور.
فهوَ مُشتاقٌ إلى استكمالِ ذلكَ بالتَّجلِي والمشاهدةِ، ويَعلَمُ أنَّ ذلكَ لا يكونُ إلَّا بالموتِ، فلذلكَ لا يكرهُ الموتَ؛ لأنَّهُ لا يكرهُ لقاءَ اللهِ تعالىٰ، ولا سببَ لإقبالِ الخَلْقِ على الدُّنيا إلَّا قلَّةُ التَّفكُّرِ في الموتِ.
وطريقُ الفِكْرِ فيهِ: أن يُفرِغَ الإنسانُ قلبَهُ عن كلِّ فِكْرٍ سواه، ويجلسَ في خلوةٍ، ويُباشِرَ ذكرَ الموتِ بصميمِ قلبِهِ، ويَتفكَّرَ أوّلاً في أخدانِهِ وأشكالِهِ الذينَ مضَوا:
فيَتذكَّرُهُم واحداً واحداً، ويَتذكَّرُ حرصَهُم وأملَهُم، وركونَهُم إلى الجاهِ والمالِ.
ثمَّ يَتذكَّرُ مَصارعَهُم عندَ الموتِ، وتحسُّرَهُم على فواتِ العمرِ وتضييعِهِ.
ثمَّ يَتفكَّرُ في أجسادِهِم كيفَ تَمزَّقَتْ في التُّرابِ، وصارَتْ جِيفةً يأكلُها الدِيدانُ.
ثمَّ يَرجِعُ إلى نفسِهِ، ويَعلَمُ أنَّهُ كواحدٍ منهُم؛ أملُهُ كأملِهِم، ومَصرعُهُ كمَصرعِهِم.
ثمَّ يَنظُرُ في أعضائِهِ، ويَنظُرُ كيفَ تَتفتَّتُ، وإلى حدقتِهِ كيفَ يأكلُها الدُّودُ، وإلىٰ لسانِهِ كيفَ يَتهرَّأُ ويصيرُ جِيفةً في فيهِ.
فإذا فعلتَ ذلكَ.. تَنغَّصَتْ عليكَ الدُّنيا، وكنتَ سعيداً؛ إذ السَّعيدُ مَنْ وُعِظَ بغيرِهِ؛ ولذلكَ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "أَيُّهَا النَّاسُ؛ كَأَنَّ ٱلْمَوْتَ فِيهَا عَلَىٰ غَيْرِنَا كُتِبَ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا عَلَىٰ غَيْرِنَا وَجَبَ، وَكَأَنَّ ٱلَّذِينَ نُشَيِّعُ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ سَفْرٌ عَمَّا قَلِيلٍ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ؛ نُبَوِّئُهُمْ أَجْدَاثَهُمْ، وَنَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ، كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ، قَدْ نَسِينَا كُلَّ وَاعِظَةٍ، وَأَمِنَّا كُلَّ جَائِحَةٍ، طُوبَىٰ لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ".
فصلٌ
[في أنَّ مَنْ طالَ أملُهُ.. ساءَ عملُهُ]
أصلُ الغفلةِ عنِ الموتِ: طولُ الأملِ، وذلكَ عينُ الجهلِ؛ ولذلكَ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ لعبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُما: "إِذَا أَصْبَحْتَ.. فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِٱلْمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ.. فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِٱلصَّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ، وَمِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ؛ فَإِنَّكَ -يَا عَبْدَ اللهِ- لَا تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَداً".
وقالَ ﷺ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَىٰ أُمَّنِي خَصْلَتَانِ: ٱتِّبَاعُ ٱلْهَوَىٰ، وَطُولُ الْأَمَلِ".
واشترى أسامةُ -رضيَ اللهُ عنهُ- وليدةً إلى شهرينِ بمئةٍ، فقالَ عليهِ السَّلامُ: "أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ أُسَامَةَ ٱلْمُشْتَرِي إِلَىٰ شَهْرَيْنِ؟! إِنَّ أُسَامَةَ لَطَوِيلُ الْأَمَلِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ مَا طَرَفَتْ عَيْنَايَ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ شُفْرَيَّ لَا يَلْتَقِيَانِ حَتَّىٰ يَقْبِضَ ٱللهُ عَزَّ وَجَلَّ رُوحِي، وَلَا رَفَعْتُ طَرْفِي وَظَنَنْتُ أَنِّي وَاضِعُها حَتَّىٰ أُقْبَضَ، وَلَا لَقِمْتُ لُقْمَةً إِلَّا ظَنَنْتُ أَنِّي لَا أُسِيغُهَا حَتَّىٰ أَغَصَّ بِهَا مِنَ ٱلْمَوْتِ".
ثمَّ قالَ: "يَا بَنِي آدَمَ؛ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.. فَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ ٱلْمَوْتَىٰ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؟ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ، وَمَا أَنْتُمْ بمُعْجِزِينَ".
وقالَ ﷺ: "نَجَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِٱلْيَقِينِ وَالزُّهْدِ، وَيَهْلِكُ آخِرُ هَذِهِ ٱلْأُمَّةِ بِٱلْبُخْلِ وَٱلْأَمَلِ".
وقالَ ﷺ: "أَكُلُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ؟" قالوا: نعم، قالَ: "قَصِّرُوا آمَالَكُمْ، وَاجْعَلُوا آجَالَكُمْ بَيْنَ أَبْصَارِكُمْ، وَاسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ ٱلْحَيَاءِ".
الحمد لله ُمكْرِم المُقبلين عليه بحُسن التَّذكُر وجميل التَّبصُر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُمد أهل القلوب المُتوجهة إليه بالتدبُر، ونشهد أن سيِّدنا ونبينا مُحمَّد عبده ورسوله خير مُتبصّر مُبَصِّر، وداعٍ إلى الحق -تبارك وتعالى- بالجهر والسّر، أزهد الخلق في ما عدا الخالق، سيِّد أهل الهدى والحقائق، اللَّهم أدم صلواتك على عبدك المُنيب الصَّادق، سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وأصحابه وكل متابع موافق، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين سادات أهل الصِّدق المُقربين وعلى آلهم وصحبهم والتابعين، وعلى ملائكتك المُقربين، وجميع عبادك الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيُذكِّر الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- بمزايا ذكر الانتقال من الحياة؛ وهو أمرٌ حتميٌّ ضروري، كائنٌ لا بُدّ منه، وفي الغفلة عنه كثير من التّمادي في التُّرَّهَات والبَطالات، وتصديقِ الخيالات والأوهام، وفي تذكُّرِه حماية من الانحرافِ والانجراف وراء المُلهيات والمُغريات الموقِعَة في موجِبِ الحسراتِ والنَّدامات.
وقال: إنه أمر "عظيمٌ هائلٌ"، مع كونه مكتوبًا على الأواخر والأوائل، "وما بعدَهُ أعظمُ منهُ" من شأن الوقوف بين يدي الله تعالى، وما يكون من السؤال في القبر وعذابه ونعيمه، وما يكون من عرْض الجنَّة أو عرْض النَّار على كل من خَرَج من الدُّنيا في كل غدوٍّ وعشيّة إلى وقت النَّفخة الأولى في الصّور، ثم صَعقُ الجميع ما بين النَّفختين، ثم القيام بعد النَّفخة الثَّانية والحضور في موقف الحشر، ونشر الكتب ووضع الموازين، ومقابلة ربّ العالمين، والمرور على الصِّراط ما بين ناجٍ وهالك إلى دار الكرامة، هذا أمر ما أعظمه وما أجلَّه!
ففي تذَكُّرِ هذه الحقائق "منفعةٌ عظيمةٌ؛ فإنَّهُ يُنغِّصُ الدُّنيا" وهي كل ما يشغلك عن الله تعالى وعن طاعته من كل معصية، ومن كل مكروه، ومن كل مفوِّت لواجبٍ وخير، ويُبغِّض ذلك إلى القلب، فلا تلوي إلى غشٍ، ولا إلى مكرٍ، ولا إلى خديعة، ولا إلى مخالفةٍ للشّريعة في شيءٍ من المعاملات أو كسب الأموال وما إلى ذلك، ولا يحملك طلب جاهٍ ولا منزلة بين النَّاس عن أن تكذب، أو أن تغش، أو أن تسلك مسلكًا غير لائق، إذا تذكرت هذا المصير. وحينئذٍ عند تنغيص هذه القواطع من الدُّنيا وتبغيض القلب؛ يكون ذلك "رأسُ كلِّ حسنةٍ" وسبب الحرص على أنواع الطاعات والقُربات والصِّفات الحميدات، "كما أن حبها" أي حب الدُّنيا، وحب كل ما ألهى، وحب كثرة التَّمتُّع بشهواتها "أصل كل خطيئة"؛ يحملك على الغش، وعلى الكذب، وعلى الخيانة، وعلى السَّرقة، وعلى ما تتوصل به إلى تلك الأغراض من المُحرّمات.
قال: "وللعارفِ في ذكرِهِ فائدتانِ:
"فإنَّ المُشتاقَ إليهِ مُدرَكٌ -لا محالةَ- بالخيالِ، وغائبٌ عنِ الأبصارِ". قال: "وأحوالُ الآخرةِ ونعيمُها، وجمالُ الحضرةِ الرُّبوبيَّةِ.. مُدرَكٌ كلُّ ذلكَ للعارفِ، يَعرِفُهُ كأنَّما يَنظُرُ إليهِ لكن مِنْ وراءِ سِترِ رقيقٍ في وقتِ الإسفارِ"؛ بداية الضوء وقبل أن يستكمل، فلا سبيل له لأن ينتقل من هذه الحالة إلى حالة إبصارٍ تام كمَن يُبصر الشَّيء بعد شروق الشَّمس في حال اجتماع شوقه ومن دون وجود مُنغِّصاتٍ له، لا يستكمل هذا إلا بالموت.
قال: "فهوَ مُشتاقٌ إلى استكمالِ ذلكَ بالتَّجلِي والمشاهدةِ، ويَعلَمُ أنَّ" هذا التجلي بهذا المستوى لا يُعطيه الله تعالى لأحد على ظهر الأرض في الحياة الدُّنيا، وأنهم لا يطيقون ذلك بتكوينهم الذي كوّنهم عليه بهذه المثابة التي هم عليها. لو تجلّى لهم بشيءٍ من ذلك لاضمحلّوا، وقد صار الطُّور دكًّا لمَّا تجلى عليه سنا ذلك النٌّور! وإلى هذا يُشير قوله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم: وعليه حجاب الكبرياء -جلّ جلاله-، لو كشف الحجاب لأحرق نوره كُل مَا انتهى إليه بصره، وهو يبصر كل شيء -جلّ جلاله- أي: لم يثبت بذلك شيء، وانتهت الأشياء؛ ولكن يُمد الله بقوةٍ أرباب الجنَّة في الجنَّة لينالوا من سرَّ هذا التجلي ما هو غاية آمالهم، وفوق آمالهم.
قال: "وهوَ"؛ أي: العارف "مُشتاقٌ إلى استكمالِ ذلكَ بالتَّجلِي والمشاهدةِ، ويَعلَمُ أنَّ ذلكَ لا يكونُ إلَّا بالموتِ، فلذلكَ لا يكرهُ الموتَ؛ لأنَّهُ لا يكرهُ لقاءَ اللهِ تعالى" وإنما سبب إقبالِ الخَلْقِ على الدُّنيا .. قلَّةُ التَّفكُّرِ في هذه الغاية وهذا المصير الحتمي الضروري.
قال: "وطريقُ الفِكْرِ فيهِ: أن يُفرِغَ الإنسانُ قلبَهُ عن كلِّ فِكْرٍ سواه"، ويجتمع بوجهته، "ويجلسَ في خلوةٍ، ويُباشِرَ ذكرَ الموتِ بصميمِ قلبِهِ، ويَتفكَّرَ أوّلاً في أخدانِهِ"؛ أصدقائه، وزملاؤه وأصحابه، "وأشكالِهِ" الذين هم على مثل حاله سواءً في السِّن أو القوة أو الصحة أو الوظيفة أو المكانة الاجتماعية.. كم أشكاله وأمثاله مضوا؟ يعرف واحد أو اثنين؟ زد… يعرف ثلاثة أو أربعة؟ زد… يعرف من هؤلاء خمسة أم ستة؟ زد… يعرف سبعة أم ثمانية؟ وعشرة وعشرين من أشكاله يعرفهم، "مضَوا"؛ فارقوا الحياة، خرجوا من هذه الدُّنيا، فلان، وفلان، وفلان، وفلان. هذا قريبه، وذاك جاره، ومَن في بيته، ومَن في دولته، ومَن في الدولة الثانية، وفلان، وفلان، وفلان… أشكاله تمامًا، راحوا؛ لكي يبقى هو أم ماذا؟ حتى يتبعهم ويكون له نفس المصير.
"فيَتذكَّرُهُم واحداً واحداً، ويَتذكَّرُ" كيف كان "حرصهُم"، وكم كان "أملهُم"، وكم كانوا-"ركونَهُم إلى الجاهِ والمالِ" ثم تركوا كل ذلك ولم ينقذهم منه شيء، ولم يبقهم على ظهر الحياة منه شيء، كيف لقوا "مَصارعَهُم" وتحسروا على ما فات من عمرهم؟ فيتصوّر كيف تحسروا على أوقات كانوا يقدرون على صرفها في الطاعة، لم يصرفوها.. وعلى أوقات صرفوها في الغفلات وفي التُرّهات، فضلًا عمَّا صرفوه من العمر في المعاصي؟ كيف حسرتهم الآن عليه؟! كيف توجّع قلوبهم وألمهم على ذلك؟
"وأجسادِهِم كيفَ تَمزَّقَتْ في التُّرابِ، وصارَتْ جِيفةً يأكلُها الدِيدانُ". ما ينجو من ذلك إلا قليل، كأحد الخمسة الذين ورد النص في بقاء أجسادهم بحيث لا يأكلها التراب وهم:
فهؤلاء الخمسة، جاءت النصوص بأن أجسادهم لا تأكلها الأرض، ولا يتمكّن الديدان ولا الحيتان من أن تنخر شيئًا منها إلى وقت القيامة وتعود.. ولكن هذه الأجسام بعد نزع الروح منها، تبقى جُثثًا هامدة في أماكنها التي جعلها الله، وتتشرف بهم الأماكن التي وضعوا فيها، وتتنزل عليهم الرَّحمة، والنعيم أيضًا يبقى لأرواحهم، وإن كان هناك اتصالٌ دقيقٌ رقيقُ خفيٌّ بين الروح والجسد. ومن هنا قالوا عن العذاب في القبر أنه قد يشترك الجسد فيه كذلك، والنعيم كذلك، كما هو في الآخرة.
"ويَرجِعُ إلى نفسِهِ، ويَعلَمُ أنَّهُ كواحدٍ منهُم، أملُهُ كأملِهِم، ومَصرعُهُ كمَصرعِهِم. ثمَّ يَنظُرُ في أعضائِهِ، ويَنظُرُ كيفَ تَتفتَّتُ، وإلى حدقتِهِ كيفَ يأكلُها الدُّودُ"، إذا فعل ذلك؛ تنغص عليه الالتفات للدُّنيا والغفلة عن الله والنسيان؛ وصار سعيدًا أنه وُعِظ بغيره. فالشقيّ من لم يتعظ بغيره حتى صار هو عبرة يتعظ به غيره. "السَّعيدُ مَنْ وُعِظَ بغيرِهِ" ومَن اتعظ بغيره؛ فانتبه وصار نموذجًا حيًّا يُتذكر منه صدق الإقبال وحسن الاستعداد، فما يصير عبرة لكن يصير تذكرة حسنة.
وأما الشقي مَن لم يعتبر لا بهذا ولا بذاك، حتى صار هو واحد ممَن يُعتبر به، فوّت وتعرَّض للندم والحسرات، صار هو بنفسه عبرة، فهذا شَّقي، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
وقال، جاء في الحديث في رواية البيهقي في شُعب الإيمان: "كَأَنَّ ٱلْمَوْتَ فِيهَا"؛ أي في هذه الدُّنيا "عَلَىٰ غَيْرِنَا كُتِبَ"، نرى النَّاس يُصرعون دائمًا وكأن الموت فقط للغير ولا دخل لنا فيهم ، كيف لا دخل لنا فيه؟! (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185]، (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:34-35]، "كَأَنَّ ٱلْمَوْتَ فِيهَا عَلَىٰ غَيْرِنَا كُتِبَ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا عَلَىٰ غَيْرِنَا وَجَبَ، وَكَأَنَّ ٱلَّذِينَ نُشَيِّعُ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ سَفْرٌ"؛ يعني: ناس مسافرين، يروحون مكان، ويرجعون إلينا، "عَمَّا قَلِيلٍ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ"؛ الأمر ليش هكذا! الأمر نهاية العلاقة بالدنيا، ومقابلة لرب الدُّنيا والآخرة، وتهيؤ للقيامة، (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:100]، "نُبَوِّئُهُمْ أَجْدَاثَهُمْ"؛ نوصلهم إليها ونُسكنهم فيها، "وَنَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ"؛ ما خلّفوا من أموال من بعد، "كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ، قَدْ نَسِينَا كُلَّ وَاعِظَةٍ، وَأَمِنَّا كُلَّ جَائِحَةٍ، طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ".
وأما مَن غفل عن هذا الموت؛ فيطول به الأمل، فلا يكاد ترعوي نفسه عن غيّها، وما تتعلَّق به من البطالات والمعاصي كأنه لن يموت بسبب طول الأمل ونسيان هذا الموت، وكان يقول: "إِذَا أَصْبَحْتَ .. فَلَا تُحَدِثْ نَفْسَكَ بِٱلْمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ .. فَلَا تُحَدِثْ نَفْسَكَ بِٱلصَّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ، وَمِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ؛ فَإِنَّكَ -يَا عَبْدَ اللهِ- لَا تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَداً". شقيّ أو سعيد، ما اسمك؟ ناجٍ أو هالك؟ مرضيّ عنه أم مغضوب عليه؟ انتبه لنفسك واستعد، فإنه لا يجمع على العبد أمنين ولا خوفين، إن أمّنه في الدُّنيا أخافه يوم القيامة، وإن أخافه في الدُّنيا أمّنه يوم القيامة. يقول: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَىٰ أُمَّتي خَصْلَتَانِ: ٱتِّبَاعُ ٱلْهَوَىٰ، وَطُولُ الْأَمَلِ". لا إله إلا الله…
ولمَّا "اشترى -سيِّدنا- أسامةُ" بن زيد وهو حِبُّ رسول الله وابنُ حِبِّه، ابن زيد بن حارثة، "وليدةً" والأجل "إلى شهرينِ بمئةٍ"، قال رسول الله: "أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ أُسَامَةَ ٱلْمُشْتَرِي إِلَىٰ شَهْرَيْنِ؟! إِنَّ أُسَامَةَ لَطَوِيلُ الْأَمَلِ"، لا إله إلا الله!.. ثم ذكر توقُع الموت في كل لحظة من اللحظات، ويقول: إنكم "إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ .. فَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ ٱلْمَوْتَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؟ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ، وَمَا أَنْتُمْ بمُعْجِزِينَ"؛ لا تستطيعون تأخير شيء ولا تقديمه دون أمر الله -جلّ جلاله-، ولا أحدٌ منكم يمكن أن يتخلّص من الموت أصلًا.
قال ﷺ: "نَجَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِٱلْيَقِينِ وَالزُّهْدِ، وَيَهْلِكُ آخِرُ هَذِهِ ٱلْأُمَّةِ بِٱلْبُخْلِ وَٱلْأَمَلِ"؛ طول الأمل وتجاوز الحد وكأنهم مخلّدون ثم يبخلون، يبخلون بأعمارهم، ويبخلون بنفوسهم، ويبخلون بأموالهم، ويبخلون بقدراتهم أن يبذلوها في سبيل الله؛ فيهلكون بذلك.
وقالَ: "أَكُلُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ؟" قالوا: نعم، قالَ: "قَصِّرُوا آمَالَكُمْ، وَاجْعَلُوا آجَالَكُمْ بَيْنَ أَبْصَارِكُمْ، وَاسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ ٱلْحَيَاءِ". وفي الحديث: "مَن اسْتحيا من اللهِ حقَّ الحياءِ فلْيحفظِ الرأسَ وما وعى، ولْيحفظِ البطنَ وما حوى، ولْيذكرِ الموتَ والبِلا، ومن أراد الآخرةَ ترك زينةَ الحياة الدُّنيا".
فصلٌ
[في قولِ العارفِ: لو كُشِفَ الغطاءُ .. ما ازددتُ يقيناً]
اعلمْ: أنَّ العارفَ الكاملَ المُستهتَرَ بذكرِ اللهِ تعالى .. مُستغنٍ عن ذكرِ الموتِ، بل حالُهُ الفَناءُ في التَّوحيدِ، لا التفاتَ لهُ إلى ماضٍ ولا إلى مستقبلٍ، ولا إلى حالٍ مِنْ حيثُ إنَّهُ حالٌ، بل هوَ ابنُ وقتِهِ؛ بمعنى: أنَّهُ كالمُتَّحدِ بمذكورِه، لستُ أقولُ: مُتَّحِداً بالذَّاتِ، فلا تغفُلْ فتغلطَ، أو تسيءَ الظَّنَّ.
وكذلكَ يُفارِقُهُ الخوفُ والرَّجاءُ؛ لأنَّهُما سوطانِ يسوقانِ العبدَ إلى هذهِ الحالةِ التي هوَ ملابسُها بالذَّوقِ.
وكيفَ يذكرُ الموتَ وإنَّما يُرادُ ذكرُ الموتِ لقطعِ علاقةِ قلبِهِ عمَّا يُفارِقُهُ بالموتِ؟
والعارفُ قد ماتَ مرَّةً في حقّ الدُّنيا، وفي حقّ كلّ ما يُفارِقُهُ بالموتِ؛ فإنَّهُ قد تَرفَّعَ وتَنزَّهَ عنِ الالتفاتِ إلى الآخرةِ أيضاً، فضلاً عنِ الدُّنيا، بل قد تَنغَّصَ عليهِ ما سوى اللهِ تعالى، ولم يبقَ لهُ مِنَ الموتِ إلّا كشفُ الغطاءِ؛ ليزدادَ بهِ وضوحًا، لا ليزدادَ يقينًا، وهوَ معنى قولِ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ: "لو كُشِفَ الغطاءُ .. ما ازددتُ يقيناً"؛ فإنَّ النَّاظرَ إلى غيرِهِ مِنْ وراءِ سِترِ لا يزدادُ برفعِ السِّترِ يقينًا، بل وضوحًا فقطْ.
فإذًا؛ ذكرُ الموتِ يَحتاجُ إليهِ مَنْ لقلبِهِ التفاتٌ إلى الدُّنيا؛ ليَعلَمَ أنَّهُ سيُفارِقُها، فلا يَعتكِفُ بهمَّتِهِ عليها؛ ولذلكَ قالَ ﷺ: "إِنَّ رُوحَ ٱلْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي: أَحْبِبْ مَا أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَعِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ".
فصلٌ
[في كونِ الروحِ مِنْ أمرِ اللهِ]
لعلَّكَ تشتهي أن تَعرِفَ حقيقةَ الموتِ وماهيتَهُ، ولن تَعرِفَ ذلكَ ما لم تَعرِفْ حقيقةَ الحياةِ، ولن تَعرِفَ حقيقةَ الحياةِ ما لم تَعرِفْ حقيقةَ الرُّوحِ؛ وهيَ نفسُكَ وحقيقتُكَ، وهيَ أخفى الأشياءِ عنكَ.
ولا تطمع في أن تَعرِفَ ربَّكَ قبلَ أن تَعرِفَ نفسَكَ. وأعني بنفسِكَ: رُوحَكَ التي هيَ خاصِيَّةُ الإِنسِ، المضافةَ إلى اللهِ تعالى في قولِهِ: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء:85]، وفي قولِهِ: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) [الحجر:29]، دونَ الرُّوحِ الجسمانيِّ اللَّطيفِ؛ الذي هوَ حاملُ قُوَّةِ الحسِّ والحركةِ التي تنبعثُ مِنَ القلبِ، وتنتشرُ في جملةِ البدنِ في تجاويفِ العروقِ الضَّواربِ، فيَفيضُ فيها نورُ حِسِّ البصرِ على العينِ، ونورُ السَّمعِ على الأُذنِ، وكذا سائرُ القُوىٰ والحواسِ؛ كما يَفيضُ مِنَ السِّراجِ نورٌ علىٰ حيطانِ البيتِ إذا أُديرَ في جوانبِهِ؛ فإنَّ هذهِ الرُّوحَ تشاركُ البهائمَ فيها، وتَنمحِقُ بالموتِ؛ لأنّها بخارٌ اعتدلَ في نضجِهِ عندَ اعتدالِ مِزاجِ الأخلاطِ، فإذا انحلَّ المِزاجُ.. بطلَ كما يَبطُلُ النُّورُ الفائضُ مِنَ السِّراحج عندَ انطفاءِ السِّراحج بانقطاعِ الدُّهنِ عنهُ أو بالنَّفخِ فيهِ، وبانقطاعِ الغذاءِ عنِ الحيوانِ تَفسُدُ هٰذهِ الرُّوحُ؛ لأَنَّ الغذاءَ لهُ كالدُّهنِ للسِّراجِ، والقتلَ لهُ كالنَّفخِ في السِّراجِ.
وهٰذهِ هيَ الرُّوحُ التي يَتصرَّفُ في تعديلِها وتقويمِها علمُ الطِبِّ، ولا تَحمِلُ هٰذهِ الرُّوحُ المعرفةَ والأمانةَ، بِلِ الحمَّالُ للأمانةِ الرُّوحُ الخاصِّيَّةُ للإنسانِ ونعني بالأمانةِ: تقلُّدَ عهدةِ التَّكليفِ؛ بأن يَتعرَّضَ لخطرِ الثَّوابِ والعقابِ بالطَّاعةِ والمعصيةِ.
وهٰذهِ الرُّوحُ لا تموتُ ولا تفنى، بل تبقى بعدَ الموتِ: إمَّا في نعيمٍ وسعادةٍ، أو في جحيمٍ وشقاوةٍ؛ فإنَّها محلُّ المعرفةِ، والتُّرابُ لا يأكلُ محلَّ الإيمانِ والمعرفةِ أصلاً، كما نطقَتْ بهِ الأخبارُ ، وشهدَتْ لهُ شواهدُ الاستبصارِ.
ولم يأذنِ الشَّرعُ في ذكرِ تحقيقِ صفتِهِ؛ إذ لا يَحتمِلهُ إلَّا الرَّاسخونَ في العِلْمِ، وكيفَ يُذكَرُ ولهُ مِنْ عجائبِ الأوصافِ ما لم تَحتمِلْهُ عقولُ أكثرِ الخَلْقِ في حقّ اللهِ تعالى؟! فلا تطمع في ذكرِ حقيقتِهِ، وانتظرْ تلويحاً يسيراً مِنْ ذكرِ صفتِهِ بعدَ الموتِ.
فصلٌ
[في أنَّ الرُّوحَ لا تفنى ولا تموتُ]
هٰذهِ الرُّوحُ لا تفنى ألبتَّةَ ولا تموتُ، بل يَتبدَّلُ بالموتِ حالُها فقطْ، ويَتبدَّلُ منزلُها، فتَترقَّى مِنْ منزلٍ إلى منزلِ، والقبرُ في حقِّها: إمَّا روضةٌ مِنْ رياضِ الجنَّةِ، أو حفرةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ؛ إذْ لم يكنْ لها معَ البدنِ علاقةٌ سوى استعمالِها البدنَ، واقتناصِ أوائلِ المعرفةِ بهِ بواسطةِ شبكةِ الحواسِّ؛ فالبدنُ آلتُها ومَركَبُها وشبكتُها، وبطلانُ الآلةِ والمَركَبِ والشَّبكةِ لا يُوجِبُ بطلانَ الصَّائدِ.
نعم؛ إن بطلَتِ الشَّبكةُ بعدَ الفراغِ مِنَ الصَّيدِ.. فبطلانُها غنيمةٌ؛ إذ يَتخلَّصُ مِنْ حملِها وثقلِها؛ ولذلكَ قالَ النَّبيُّ ﷺ: "ٱلْمَوْتُ تُحْفَةُ ٱلْمُؤْمِنِ".
وإن بطلَتِ الشَّبكةُ قبلَ الصَّيدِ.. عَظُمَتْ فيهِ الحسرةُ والنَّدامةُ والألمُ؛ فلذلكَ يقولُ المُقصِّرُ: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)[المؤمنون:99-100].
بل إن كانَ أَلِفَ الشَّبكةَ وأحبَّها، وتَعلَّقَ قلبُهُ بها وبحُسْنٍ صورتِها وصَنعتِها وما يَتعلَّقُ بها.. كانَ لهُ مِنَ العذابِ ضِعفانِ:
أحدُهُما: حسرةُ فواتِ الصَّيدِ الذي لا يُقتنَصُ إلَّا بشبكةِ البدنِ.
والثَّاني: زوالُ الشَّبكةِ معَ تَعلُّقِ القلبِ بها وإِلفِهِ لها.
وهٰذا مبدأٌ مِنْ مبادئ معرفةِ عذابِ القبرِ، إنِ استقصيتَهُ .. تَحقَّقتَهُ قطعًا.
يقول عليه رحمةُ الله تبارك وتعالى: معنى قولِ بعض العارفين كسيِّدِنا أبي بكرٍ وسيدنا علي: "لو كُشفَ الغطاءُ ما ازددتُ يقينًا"، يقول: "أن العارفَ الكاملَ المُستهتَرَ -المستغرق- بذكرِ اللهِ تعالى .. مُستغنٍ عن ذكرِ الموتِ"، إنما يحتاجُ إليه عمومُ المؤمنين وعامة العارفين كذلك؛ أما خاصةُ العارفين وأكابرُهم، فإنهم أبعدُ عن الاحتياجِ لذكر الموت، لشُغلِهم بالمُحييِ المميت، الشُغلَ التام الكاملَ من جميع الجوانب، لأنَّ حالتَهم الفناءُ في توحيد الإله -جلَّ جلاله- و"لا التفاتَ لهُ إلى ماضٍ ولا إلى مستقبلٍ، ولا إلى حالٍ مِنْ حيثُ إنَّهُ حالٌ" بل قالوا عن الصوفيّ: أنه "ابنُ وقتِهِ؛ بمعنى: أنَّهُ كالمُتَّحدِ بمذكورِه"، طالبًا رضاه، عاملًا بما يَرضاه، مجتهدًا في تقديم ما هو أحبُّ إليه سبحانه وتعالى.
قال: وإذا قلت هذا، فاحذر أن تغلط وتقول إننا نقول شيئًا من الاتحاد بالذات العلية، فذلك غلط كبير وتخليط؛ ولكن قال: هذا الاتحاد اتحادُ فناءٍ في شهود في الحقِ الموجودِ جلَّ جلاله، واستغراقٍ في تحقيق العبودية له جلَّ جلاله، بمعنى أنه لم يبق له هوًى مُطاع، ولا مُرادٌ غير الحق تبارك وتعالى في كل وجهتِه، هذا ما أراده.
قال: حتى أن المقاماتِ الشريفة من الخوفِ والرَّجاءِ عند هذا الفاني المستغرق انتهى أمرُهما، لأن المراد بالخوف والرجاء أن يَسوقانه للوصول إلى هذا، فإذا وصل إلى هذه الحالة فلابسَها بالذوق، فليس هناك متعلَّق بالخوف ولا بالرجاء،
لا يُقال أنه لا يرجو ولا يخاف، بمعنى لا يَعرف الحقَ جلَّ جلاله، ولا يرجو قربَه ولا يخافُ البعد عنه؛ ولكن يكون مشغولًا بالمَخوف المَرجوّ الذي فيه رجوانا ومنه المهابةُ، جلَّ جلاله وتعالى في علاه، يشغلُه ذلك عن أن يستشعرَ كونه راجٍ أو كونه خائفًا، فهو مع المَرجوِّ المَخوف جلَّ جلاله، يُشاهدُ ويطالعُ مرادَه ويطلبُ رضاه جلَّ جلاله.
قال: "وإنَّما يُرادُ ذكرُ الموتِ لقطعِ علاقةِ قلبِهِ عمَّا يُفارِقُهُ بالموتِ؟"، "والعارفُ قد ماتَ مرَّةً في حقّ الدُّنيا، وفي حقّ كلّ ما يُفارِقُهُ بالموتِ"؛ أي: قد ترفَّعَ وتَنزَّه عن الالتفاتِ إلى أي شيء سوى الله -تبارك وتعالى- فهذا لم يبق عنده علاقةٌ بالدنيا حتى يقول له اذكر الموت، فهذا كل الدُّنيا لم تعد في باله ولا يلتفت إليها، فإنما يُرادُ ذكرُ الموت من أجل قطعِ العلائق بهذه الدنيا والركون إليها، وهذا ما عنده أخبار من الدنيا كلِّها، ماذا يفعلُ بذكر الموت؟! هذا محتاج إلى تمامِ الاستغراق في ذكر المُميتِ المُحيي، وليس في ذكر الموت، إيش يريد بالموت وهو مشغولٌ بالمُميت المحيي نفسِه جلَّ جلاله، فليَرقَ في مراقي المُطالَعةِ لِسَنا جَمالِه، وعظمةِ جلاله، وحقائق كماله، ولْيسعدْ بذلك، إيش يريد بذكر شيء غيره؟ ما له حاجةٌ لذكر غيره أصلًا، إنما استعنَّا بذكر الغير للوصول إليه، وإذا قد تمَّ الاستغراقُ فيه، إيش تريد بالغير؟ الغيرُ باطلٌ، فما لك حاجة به. فهؤلاء الأكابرُ من العارفين بهذه الحالة وبهذه الصورة.
وهو يقول: أن أحدَهم "قد تَنغَّصَ عليهِ ما سوى اللهِ تعالى"، ما له التفات إليه أيضًا، "ولم يبقَ لهُ مِنَ الموتِ إلّا كشفُ الغطاءِ؛ ليزدادَ بهِ وضوحاً، لا ليزدادَ يقيناً، وهوَ معنى قولِ عليٍّ"، وهو أيضًا منقول عن سيدنا أبو بكر الصديق، قولُهما: " "لو كُشِفَ الغطاءُ .. ما ازددتُ يقيناً"؛ "فإنَّ النَّاظرَ إلى غيرِهِ مِنْ وراءِ سِترِ لا يزدادُ برفعِ السِّترِ يقيناً، بل وضوحاً فقطْ" أما اليقين يقين، هو هو ما عاد شيء فوقه؛ ولكنَّ كمالَ الوضوح يحصلُ بذاك.
"فإذاً؛ ذكرُ الموتِ يَحتاجُ إليهِ مَنْ لقلبِهِ التفاتٌ إلى الدُّنيا؛ ليَعلَمَ أنَّهُ سيُفارِقُها، فلا يَعتكِفُ بهمَّتِهِ عليها"، ولا يغترُّ بها. وأمَّا مَن لم يبق في قلبه التفات للدنيا، إيش يحتاج من ذكر الموت؟ خلُّه مع المُميت جل جلاله، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2].
يقول : "إِنَّ رُوحَ ٱلْقُدُسِ -جبريل- نَفَثَ فِي رُوعِي"؛ أي: في باطني "أَحْبِبْ مَا أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَعِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ".
وقال في حقيقةِ المَوتِ وماهيّتِه: اعْرِفْ حقيقة الحياة، وما تَعرفُ حقيقةَ الحياةِ ما لمْ تَعرفْ حقيقةَ الرُّوح، وروحك "هي نفسك وحقيقتُك، وهيَ أَخفى الأشياءِ عنك."، فلا تطمعْ أن يتسعَ لك مجالٌ في معرفة الربِّ سبحانه وأنت ما عرفتَ نفسَك.
من هي نفسُك؟ "روحُك التي هي خاصيةُ الإنس"، يعني: الآلةُ المستعدةُ لقَبولِ المعرفة الخاصة، "المضافةُ" إضافةَ تشريفٍ إلى الرحمن بقوله: "(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء:85]، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي)[الحجر:29]".
قال: هذه الروحُ التي تحملُ سرَّ الأمانة والمعرفة، هذه التي قصدتُها، "دون الرُّوح الجِسْمانيِّ اللّطيف الذي هو حاملُ قوَّةِ الحِسِّ والحرَكةِ التي تنبعثُ من القلب"، هذا موجودٌ عند الحيوانات كلِها، "تَنبعِثُ من القلبِ وتَنتشرُ في جُملةِ البدن في تَجاويفِ العُروقِ الضَّوارب، يَفيضُ فيها نورُ حسِّ البصرِ على العينِ ونورُالسَّمع للأذن، وكذا سائرِ القُوى والحواس، كما يفيضُ من السراجِ نورٌ على حيطانِ البَيتِ إذا أُديرَ في جوانِبه".
"فإنَّ هذهِ الرُّوحَ" الحيوانية "تُشاركُ البهائم فيها، وتَنمحِقُ بالموتِ؛ لأنّها بخارٌ اعتدلَ في نُضجِهِ عندَ اعتدالِ مِزاجِ الأخلاطِ، فإذا انحلَّ المِزاجُ.. بطلَ، كما يَبطُلُ النُّورُ الفائضُ مِنَ السِّراحِ عندَ انطفاءِ السِّراحِ بانقطاعِ الدُّهنِ عنهُ أو بالنَّفخِ فيهِ"، خلاص ينقطع "وبانقطاعِ الغذاءِ عنِ الحيوانِ تَفسُدُ هٰذهِ الرُّوحُ؛ لأَنَّ الغذاءَ لهُ كالدُّهنِ للسِّراجِ، والقتل هُو كالنَّفخِ في السِّراجِ." كما أن السراج إذا نفختَ فيه الشمعة، أو انقطعَ عنه زيته ينطفئ، كذلك شأن هذا الروح الحيواني في الجسد، إذا قطعتَ عنه الطعامَ والشراب، أو تعرَّضَ للقتل، مثلُ ما يُنفخُ في السراج ويذهبُ نوره.
لكن "هذه الروحُ" الحيوانية، "يتصرفُ في تَعديلِها وتَقويمِها علمُ الطِّب" وهذه الروحُ ليست هي التي تَحملُ المعرفةَ ولا الأمانةَ، لا..هذه روحٌ حيوانية مثلُ ما هي موجودةٌ في الحيوانات الأخرى، ويتعلق بها علمُ الطب. "بِلِ الحمَّالُ للأمانةِ الرُّوحُ الخاصِّيَّةُ للإنسانِ،" خاصة، التي بها يعقَل عن الله سرَّ الخطاب، وينكشفُ له عظمةُ الجناب. قال: ما الأمانة؟ قال: "تقلُّد عهدةِ التَّكليفِ؛ بأنْ يَتعرَّضَ لخطرِ الثَّوابِ والعقابِ بالطَّاعةِ والمعصيةِ"، يحمل هذه الأمانة.
قال: "وهذه الروح" التي تحملُ الأمانة وتتهيأ وتصلُحُ للمعرفة، "لا تموتُ ولا تَفنى" أبدًا، بحكَمَ الخالقُ جل جلاله أن يبقيَها، "بل تَبْقى بَعدَ المَوتِ إمَّا في نَعيمٍ وسعادةٍ أو في جَحيمٍ وشقاوةٍ، فإنَّها محلُ المعرفة، والتُّرابُ لا يأكلُ محلَّ الإيمانِ والمعرفةِ أصلاً، كما نطقَتْ بهِ الأخبارُ، وشهدَتْ لهُ شواهدُ الاستبصارِ. ولم يأذنِ الشَّرعُ في ذكرِ تَحقيقِ صفتِهِ؛ إذْ لا يَحتمِلـهُ إلَّا الرَّاسخونَ في العِلْمِ، وكيفَ يُذكَرُ ولهُ مِنْ عَجائبِ الأوصافِ ما لم تحتمِلْهُ عقولُ أكثرِ الخَلْقِ في حقّ اللهِ تعالى؟!"، "فلا تطمعْ في ذكرِ حقيقتِهِ، وانتظرْ تلويحاً يسيراً مِنْ ذكرِ صفتِهِ بعدَ الموتِ".
قال: "هذه الرُّوحُ التي لا تَفنى ولا تموت، بلْ" فقط "بالموتِ يتبدَّلُ حالُها فقط، ويتبدلُ مَنزلُها، فتَترقَّى من منزلٍ إلى منزل" آخر، أفسحَ وأوسع وأكبر، فيصير "القبرُ في حقِّها إما رَوضةٌ من رياضِ الجنَّة أو حفرةٌ من حُفَرِ النار". والجسدُ في حقها كان مسكنًا لها، محبوسةً فيه، فإذا جاء الموت انطلقت هذه الروح إلى عالمٍ أفسح وانتقلت، لم يعد مسكنُها الجسد، فمسكنُها عالمٌ أكبرُ وأوسع من قفص الجسد.
أما الروحُ الثانية الحيوانية فتفنى، تنتهي كما السراج ينطفئ. لكنَّ هذه الروحُ الأمرية، الروح الخاصيَّة، التي هي خاصية الإنسان، يتبدلُ مكانُها، وحبسُها في الجسد تخرج عنه، ويتبدلُ فقط مكانُها، "فتَترقى من منزلٍ إلى منزلٍ،" ويعود "القبرُ في حقِّها إما روضةٌ من رياضِ الجنةِ أو حُفرةٌ من حُفرِ النار"؛ لأنه ما كانت علاقتها بالبدن إلا "استعمالِها البدنَ، واقتناصِ أوائلِ المعرفةِ بهِ بواسطةِ شبكةِ الحواسِّ"؛ التي جعلها الله في البدن، "فالبدنُ آلتُها ومَركَبُها وشبكتُها، وبطلانُ الآلةِ والمَركَبِ والشَّبكةِ لا يُوجِبُ بطلانَ الصَّائدِ". الصائد محلّه، إن تضررت شبكته أو جاءتها صاعقة، فهذا لايعني أنه مات، لكن شبكته روّحت تلفت.
فكان أول ما رُكِّبَ في هذا القفص، وأُمِر أن يتصيَّد بما أوتي هذا الجسد من سمعٍ وبصرٍ، يتصيّدُ المعارفَ لتقوى معرفتُه بالحق جل جلاله، فالذين لم ينصرفوا إلى طلب معرفة الله تبارك وتعالى، تبقى أرواحُهم محجوبةً ومحرومةً من نور المعرفة، فتتعرضُ للحجاب في الآخرة بالعذاب. قال تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المطففين:15].
قال: "فالبدنُ آلتُها ومَركَبُها وشبكتُها، وبطلانُ الآلةِ والمَركَبِ والشَّبكةِ لا يُوجِبُ بطلانَ الصَّائدِ.
نعم، إن بَطُلت الشبكةُ بعدَ الفراغِ من الصَّيد"، يعني: قد أخذ الروح نصيبَه من المعرفة، ونال فيها درجةً عالية، فما عليه بعدها؟ فليمت، كمثل من أكمل غرضه من الصيد وصاد الحيوان الذي يريده ثم تلفت شبكته، فيقول هذا أحسن لا أتحمّل بحملها والصيد قد حصلته، فأذهب وآكل صيدي وأنا مرتاح ما عاد لي حاجة بالشبكة.
قال: "إذا بَطُلت الشَّبكةُ بعد الفراغِ من الصَّيدِ، فبُطلانُها غنيمةٌ"، أحسنُ شيء خلاص تخفيف، "يتخلصُ من حِملِها وثِقَلِها، قال رسول الله ﷺ: "المَوتُ تُحفةُ المُؤمن". في رواية ابن المبارك في كتاب الزهد، ورواية الحاكم في المستدرك يقول: "المَوتُ تُحفةُ المُؤمن.". التحفة: يعني الهدية التي تُهدى إليه، والمزيةُ التي تحصِّلها هي الموت. ولهذا قال الإمام الحداد:
فالموتـُ للمحسِن الأوابِ تُحفتُه *** وفيه كلُّ الذي يَبغي ويَرتادُ
لقاءٌ كريمٌ تعالى مجدُه وسَما *** مع النَّعيمِ الذي ما فيه أنكادُ
يقول: "وإن بطلَتِ الشَّبكةُ قبلَ الصَّيدِ"، مضى عمرُه وما نال نصيبَه من المعرفة، المسكين! كان عنده سمعٌ وبصرٌ، ولكن (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأحقاف:26]؛ لأنهم ما استعملوها في اقتناصِ نور المعرفة، فمرَّت حياتُهم وما عرفوا ربَّهم، لم يعرفوا أنفسَهم، لم يعرفوا ربهم، فلهم الحسرة والعياذ بالله تبارك وتعالى.
"وإن بطلَتِ الشَّبكةُ قبلَ الصَّيدِ.. عَظُمَتْ فيهِ الحسرةُ والنَّدامةُ والألمُ؛ فلذلكَ يقولُ المُقصِّرُ: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فيما تَرَكْتُ) يُقال له كلا ما لك رجعة (كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون:99-100]. لكن عاده إن كان أضاف إلى هذا، أنه فقدَ وحُرِم الصيدَ والمعرفة، ومع ذلك أنِسَ بالشبكة وأنِس بالتفرج عليها، وفرحان بوجودها، فعندما تهلكُ الشبكة، تكون حسرتُه أكبر، المعرفةُ قد فاتته، وعاده عنده ألمٌ ثانٍ: فقدْ كان يأنس بالشبكة والآن فقدَ هذا الأُنسَ حتى بالشبكة، فتحسُّرُهُ أشد؛ وهذا حال الكافر حال المجرم، لا حصِّل معرفةَ الله، وأَنِس بدنياه، وما عادَ يريد أن يخرج منها أبدًا، ففاتته ، فألمُه شديد.
المعرفة ما هي عنده، وزاد عليه ثِقَلُ أُنسِه بالفانيات، وخلاص حيل بينه وبينها. (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ) [سبأ:54]. ما حصّلوا يقين ولا حصلوا معرفةً، شهواتُهم انحصرت في هذه الفانيات، فعند فواتها حسرتُهم كبيرة مساكين.. لا المعرفةَ حصلت،
وعاد ألمُ فراق ما أَنِسوا به. "وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ" [سبأ:54] لا إله إلا الله..
فيصير على الصائد هذا الذي تكسَّرت شبكتُه قبل أن يُحصِّل الصيد، "حسرةُ فواتِ الصَّيد"؛ ما حصل صيد، الذي ما يُقتنص إلا بهذه الشبكة، وكذلك "زوالُ الشَّبكةِ معَ تَعلُّقِ القلبِ بها وإِلفِهِ لها" ألم فوق الألم، "وهٰذا مبدأٌ مِنْ مبادئ معرفةِ عذابِ القبرِ"، ونعيمه، "إنِ استقصيتَهُ.. تَحقَّقتَهُ قطعاً".
يا ربِّ لا تعرضنا للحسرة ولا للندامة، ووفِّر حظَّنا من المعرفة، واجعل هوانا تبعًا لما جاء به سيدُ العارفين.
فصل
[في الموتِ وما يُفضي إليهِ]
لعلَّكَ تشتهي أن تَعلَمَ حقيقةَ الاستقصاءِ المُفضي إلى التَّحقيقِ.
فاعلمْ: أنَّ هذا الكتابَ لا يَحتمِلُهُ، فاقنغ منهُ بأُنمُوذحٍ يسيرٍ:
فافهمْ: أنَّ معنى الموتِ زَمانةُ البدنِ، وأنتَ تَعرِفُ أنَّ زَمانةَ اليدِ خروجُها عن طاعتِكَ معَ وجودِ شخصِها ببطلانِ القُوَّةِ التي بواسطتِها تُستعمَلُ اليدُ.
فافهمْ: أنَّ الموتَ زمانةٌ مُطلَقةٌ في جميعِ الأعضاءِ ببطلانِ قُواها، فيَسلُبُ الموتُ منكَ يدَكَ ورجلَكَ وعينَكَ وسائرَ حواسِّكَ وأنت باقٍ؛ أعني: حقيقتَكَ التي أنتَ بها أنتَ؛ فإنَّكَ الآنَ الإنسانُ الذي كنتَ في الصِّبا، ولعلَّهُ لم يبقَ فيكَ مِنْ تلكَ الأجسامِ شيءٌ، بلِ انحلَّتْ كلُّها، وحصلَ بالغذاءِ بَدلُها وأنتَ أنتَ، وجسدُكَ غيرُ ذلكَ الجسدِ.
فإن كانَ لكَ معشوقٌ تَفتقِرُ فيهِ إلىٰ حواسِّكَ.. عظُمَ عذابُكَ بفِراقِ معشوقِكَ، وجميعُ ما في الدُّنيا معشوقٌ، ولا يُنالُ إلَّا بالحواسِّ.
ولا فرقَ في عذابِ العاشقِ بينَ أن يُحجَبَ عنهُ معشوقُهُ، وبينَ أن تُفقَأَ عينُهُ، أو يُسلَبَ هوَ عنهُ؛ بأن يُحمَلَ إلىٰ موضعٍ حتّىٰ لا يراهُ؛ فإنّ ألمَهُ مِنْ عدمِ الرُّؤيةِ.
ومَنْ أحبَّ أهلَهُ ومالَهُ، وعَقارَهُ وفرسَهُ، وجاريتَهُ وثيابَهُ.. يَألَمُ بفِراقِها، سواءٌ سُلِبَتْ هذهِ الأشياءُ عنهُ، أو سُلِبَ هوَ عنها؛ بأن حُمِلَ إلىٰ موضعٍ آخَرَ، وحيلَ بينَهُ وبينَها. فالموتُ يَسلُبُكَ عن هٰذهِ الأشياءِ، ويحولُ بينَكَ وبينَها، فيكونُ عذابُكَ بقَدْرِ عشقِكَ لها.
والموتُ يُخلِي بينَكَ وبينَ اللهِ تعالىٰ، ويقطعُ عنكَ هذهِ الحواسَّ الشَّاغلةَ المُشوِّشةَ، فتكونُ لذَّتُكَ في القدومِ على اللهِ تعالى بقَدْرِ حبِّكَ لهُ وأُنْسِكَ بذكرِهِ، ولأجلِ هٰذا نبَّهَكَ وقالَ: "أنا بُدُّكَ اللَّازمُ، فالزمْ بُدَّكَ".
وأجمعُ العباراتِ عن نعيمِ الجنَّةِ قولُهُ تعالى : (لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ ۚ)[ الفرقان 16]
وأجمعُ العباراتِ لعذاب الآخرةِ قولُهُ تعالى: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)[سبأ:54]، ولا مُلِذَّ إلَّا الشَّهوةُ، ولكنْ عندَ مصادفةِ المُشتهىٰ، ولا مُؤلِمَ إلَّا الشَّهوةُ، ولكنْ عندَ مفارقةِ المُشتهى.
ولا ينبغي أن تغترَّ الآنَ وتقولَ: إن كانَ هٰذا سببَ عذابِ القبرِ .. فأنا في أمانٍ منهُ؛ إذ لا علاقةَ بيني وبينَ متاع الدُّنيا؛ فإنَّ هٰذا لا تُدرِكُهُ بالحقيقةِ ما لم تطرحِ الدُّنيا، وتَخرُج عنها بالكليَّةِ؛ فكم مِنْ رجلٍ باعَ جاريةً على ظنِّ أنَّهُ لا علاقةَ بينَهُ وبينَها، فلمَّا أخذَها المشتري.. اشتعلَ قلبُهُ مِنْ نيرانِ الفِراقِ، واحترقَ بها احتراقًا، ربَّما ألقى نفسَهُ في الماءِ والنَّارِ ليَقتلَ نفسَهُ ويَتخلَّصَ منها!!
فكذلكَ يكونُ حالُكَ في القبرِ في كلِّ ما يَتعلَّقُ بهِ قلبُكَ مِنَ الدُّنيا؛ ولذلكَ قالَ المصطفى ﷺ: "أَحْبِبْ مَا أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ".
ووراءَ هٰذا عذابٌ أعظمُ منهُ؛ وهوَ حسرةُ الحِرمانِ عنِ القُرْبِ مِنَ اللهِ تعالىٰ، والنَّظرِ إلىٰ وجهِهِ الكريمِ، ويَنكشِفُ بالموتِ عِظَمُ قَدْرِ ما فاتَ منهُ وإن كانَ لا يَعظُمُ قَدْرُهُ عندَكَ قبلَ الموتِ؛ لأنَّ الموتَ سببٌ لانكشافِ ما لم يكنْ يَنكشِفُ قبلَهُ، كما أنَّ النَّومَ سببٌ لانكشافِ الغَيبِ بمثالٍ أو غيرِ مثالٍ، والنَّومُ أخو الموتِ، ولٰكنَّهُ دونَهُ بكثيرٍ.
فهٰذانِ عذابانِ يَتضاعفانِ علىٰ كلِّ ميّتٍ كانَ غيرُ اللهِ تعالىٰ أحبَّ إليهِ مِنَ اللهِ تعالى، وكانَ أُنسُهُ بغيرِ اللهِ تعالى أكثرَ مِنْ أُنسِهِ باللهِ تعالىٰ، وهما ضروريَّانِ تَعرِفُهُما إن عرفتَ بالحقيقةِ الرُّوحَ، وبقاءَه بعد الموت وعلائِقَه ومايضادُّه بالطبعِ وما يُوافِقُه.
رزقنا الله خيرَ الحياة وخير الوفاة وخير ما بينهما، وأعاذَنا بفضلِه وقدرته وعِزّته من شرِّ الحياة وشر الوفاة وشر ما بينهما.
قال: هذا الكتاب "لا يَحتملُ الاسْتِقصاءَ المُفضي إلى التَّحقيق"، ولكن نعطيك أنموذج يسير. "المَوتُ زمانةُ البدن"، كيف زمانةُ البدن؟ كما تحصلُ الزمانة في شيءٍ من أعضائك، فما عاد تستفيد منه، يخرج عن طاعتك، نقول عنده زمانة. "وأنتَ تعرفُ أن زمانةَ اليدِ تُخرجُها عن طاعتِك، مع وجودِ شخصِها"، شخصها موجودة لكن ما تقدر تحرِّكَها، ما تقدر تستفيدَ منها. فالموت زمانة لجميع الأعضاء، ليس يد واحدة ولا رجل واحدة ولا أذن واحدة ولا عين واحدة، كلُّ البدن يصير مزمن، ما لك قدرة عليه ولايمكنك أن تستفيد منه.
"الموتَ زمانةٌ مُطلَقةٌ في جميعِ الأعضاءِ ببطلانِ قُواها، فيَسلُبُ الموتُ منكَ يدَكَ ورجلَكَ وعينَكَ وسائرَ حواسِكَ وأنت باقٍ؛ حقيقتك التي أنت بها أنت"، باقٍ، وهو الروح، "فإنك الآن الإنسانُ الذي كنتَ في الصِّبا"، أنت الآن كبير، أيام ولدتك أمك كنتَ أنت هذا أم واحد ثانٍ؟ لا ليس واحد ثان ، لكن الجسدَ غيرُ الجسد، واللحم غير اللحم، و الهيئة غير الهيئة. أيام ولادتك عن لما كبرت الآن تغيَّرَت هيئةُ المركب والجسد، لكن هو أنتَ أنت بنفسك، ما هناك واحد ثاني..
وبعد ذلك كلُّ الجسد يذهب وأنت أنت، أنت بنفسك، يقال: روحُ فلان الفلاني الذي كان يُسمى فلان بن فلان هو أنت، خلّ الجسد يروح، لكن أنت كما أنت، كما أنه تغيرَ من حالةٍ إلى حالة، ولكن أنت أنت نفسُك. كان نحيف صار سمين، أو كان سمين رجع صار نحيف، وهو نفسُه، ما يمكن أحد يقول: هذا ما هو ذاك! هذا تغير،بل هو هو نفسه إلا أن المركب تبدَّل وتغير، وإن خرج من المركب وقعد خارجه.. هو نفسه، أنت نفسك.
يقول: "ولعلَّهُ لم يبقَ فيكَ مِنْ تلكَ الأجسامِ" أيام كنت في الصَّبا "شيءٌ، بلِ انحلَّتْ كلُّها، وحصلَ بالغذاءِ بدلُها وأنتَ أنتَ". وفي الحديث يقول تعالى عن المريض: إذا رضيَ بقضائي ولم يشْكُني لعوَّاده أبدلتُه لحمًا خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه ، تعدَّل نعم لكن هو نفسُه، اللحم تبدل، والدم تبدل، ولكن الإنسان هو نفسه. لا إله إلا الله..
يقول: "فإن كانَ لكَ معشوقٌ تَفتقِرُ فيهِ إلىٰ حواسِّكَ"؛ وهي الفانيات، إذا بقي قلبُك خلال هذا العمر وأنت معلقٌ بهذه الفانيات، ومشدودٌ إليها، لضعفِ شوقِك إلى الرحمن وقربِه ومحبته ومعرفته ولقائِه، فعند الموت تقعُ لك حسرةٌ، حسرةُ تعلقِ القلب وافتقاركَ إلى المعشوق، وفراق هذا المعشوق.
قال: " جميع ما في الدنيا معشوق، ما يُنالُ إلا من خلال هذه الحواس"، والحواسُ تبطلُ عند الموت. "ولا فرقَ في عذابِ العاشقِ بينَ أن يُحجَبَ عنهُ معشوقُهُ، وبينَ أن تُفقَأ عينُهُ، أو يُسلَبَ هوَ عنهُ؛ بأن يُحمَلَ إلىٰ موضعٍ حتى لا يراهُ؛ فإنّ ألمَهُ مِنْ عدمِ الرُّؤيةِ".
قال: "ومَنْ" غلب عليه حب "أهلَهُ ومالَهُ، وعَقارَهُ وفرسَهُ، وجاريتَهُ وثيابَهُ"، هذا عند الموت يتحسر كثيرًا، لأن محبتها لم تكن لله!.. أما لو كان يحبها من أجل الله -تبارك وتعالى- فهذا ما يحسر شيء عند الموت، لأن المحبوب الحق الأصل الذي من أجله أحب هذه الأشياء قدّامه وصل إليه، فزاد فرحه وزاد أنسه. لكن الذي يحب أهله وماله وعقاره لغير الله بحُكمِ الطبعِ والتمتعِ، غافلٌ عن مراد الله تعالى في هذا الخلق وهذا الإيجاد، هذا الذي عند الموت يتحسر عليها كثير، ويألم بفراقها.
"سواءٌ سُلِبَتْ هذهِ الأشياءُ عنهُ، أو سُلِبَ هوَ عنها؛ بأن حُمِلَ إلىٰ موضعٍ آخَرَ، وحيلَ بينَهُ وبينَها"، فالموت يسلبك هذه الأشياء، فإن كنت تحب شيء في الدنيا لغير الله تعالى، فلك حسرة عند الموت على قدر محبّتك لغير الله. فإن لم يكن لك في الدنيا محبوب إلا من أجل الله، فما يبقَ لك محبوب إلا الله تعالى وما أحببته من أجله فقط، فهذا نوع علاقتك به نوع رفيع، صحيح، شريف، عند خروج الروح ما تتعرض للحسرة ولا للندامة؛ لأن الأصل في المحبة الذي من أجله أحببت هذا، صرت إليه أنت الآن، وحصل المقصود.. ما أحببت ولدِي إلا من أجل أن يقرّبني إلى الله تعالى، ويكون سببًا لرفع دَرجتي عند الله، والآن جئت إلى عند الله نفسه ويأجرني على ما يفعل ولدي وعلى ما يقوم به من الطاعات، وليس هناك حسرة، ومع ذلك يكرمني بالاجتماع به، ويعرض أحواله عليّ وأنا في البرزخ، وأجتمِعُ به في القيامة، وأجتمعُ به في الجنة إذا كنا من أهل الجنة، فما هناك حسرة!
لكن من يحب ولده من غير هذا القبيل، وغير هذا الباب، ولده الذي يتعزز به ويقول أنا وابني ويؤمن له المال ويدافع عنه، وعند الموت لا مال ولا دفاع فيتحسر على الولد كثير، وتشتد حسرته عليه. وكذلك الذي كان يحب شيء من المال ومتاع الدنيا لا لله تعالى، فعند الموت يبطُل، فيتحسر.
أما الذي ما كان يحبه إلا لأجل الله تبارك وتعالى، ما يضرّه شيء عند الموت تمام، الأصل المحبوب الذي أحببت هذا من أجله، وصلت إليه الآن، فأنت في حال أجمل وأفضل وأكمل. لا إله إلا الله.
قال: "فالموتُ يَسلُبُكَ عن هٰذهِ الأشياءِ، ويحولُ بينَكَ وبينَها، فيكونُ عذابُكَ بقَدْرِ عشقِكَ لها"؛ أي: من غير قصد وجه الله.
"والموتُ يُخلِي بينَكَ وبينَ اللهِ تعالى، ويقطعُ عنكَ هذهِ الحواسَّ الشَّاغلةَ المُشوِّشةَ"، إذًا؛ "فتكونُ لذَّتُكَ في القدومِ على اللهِ تعالى بقَدْرِ حبِّكَ لهُ وأُنْسِكَ بذكرِهِ" أيام كنت في الدنيا.
ولهذا يقول: ابن آدم "أنا بُدُّكَ اللَّازمُ، فالزمْ بُدَّكَ"، أنا الأمر المهم العظيم الذي لا غنى لك عني أصلًا، وأنا الذي أبقى دون سواي، فلو لزمت بُدَّك اللازم لم تحسر عند الموت، ولقلتَ حبيبٌ جاء على فاقة، ولقلتَ: واطرباه غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه! لكنك لمّا اشتغلت بغير بُدِّك، وبغير ما يعنيك، وبغير ما هو لازمك ففارقته، فتتحسر.
قال: قال: "وعَنْ نعيمِ الجنَّةِ قولُهُ تعالى: (لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ) [الفرقان:16]"، وقال: (لَهُم ما يَشاءونَ فيها وَلَدَيْنَا..)[ق:35]؛ الذي يشاءون كله استوعبوه خلاص، وعاد باقي فوق ما يشاءون أعطيهم من عندي، الله أكبر! فوق ما يشتهون يعطيهم... (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُن) [الزخرف:71]، ما تشتهي الأنفس غاية الأماني، وعاده تلذ الأعين؛ هذا شيء ما خطر على النفس، ما اشتهته النفس لأنها ما وصلت إلى إدراكه، تلذّ عينه به، الله أكبر! عطايا وافرة من الله تعالى، (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ) [يونس:26].
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) ويضاعفها وبعدين؟ (وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ) ليس بالحسنة ذا، بل من لدنه، (وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40]؛ هذا أجر لدُنِّي، مثل الفرق بين العلم المكتسب والعلم اللَّدُنِّي، والأجر كذلك؛ أجر مقابل عمل ومضاعفته، وأجر من لدنه مباشرةً أكبر وأجلّ وألذ، (وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) يضاعفها سبعمائة ألف إلى أي مضاعفة، لكن بعد هذا: (وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ) أجر فوق الخيال، فوق البال، لا مضاعفة أعمال ولا بشيء، (أَجْرًا عَظِيمًا). دمعت عيناه ﷺ لما قرأ هذا عنده ابن مسعود وقال: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ) [النساء:41] قال: "حسبك". فنظرت فإذا عيناه تذرفان صلَّى الله وعلى آله وصحبه وسلَّم.
قال: وقال عن الآخرين: "(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) [سبأ:54]" فمن أين يجدون لذة؟ ما عاد لهم لذة، لأنه لا لذة إلا بشهوة "ولكنْ عندَ مصادفةِ المُشتهىٰ"، الآن ليس هناك شيء من كل الذي يشتهونه، من الجاه، من المال، من المتع الدُّنيوية، لم يبقَ منها ولا ذرة. فمن أين تأتيهم لذة؟ ما بقي لهم لذة أصلًا.
ولذة في قرب الله ومعرفته ما عرفوه!.. ما اشتهوهُ لأنهم حُرموا هذا الأمر الذي هُيِّئوا له فأعرضوا عنه، فهم ما يشتهونه، خلاص كل الذي يشتهونه حيل بينه وبينهم، لم يبق لهم ما يشتهون، فما بقي لهم لذة أصلًا.
"ولا مُؤلِمَ إلَّا الشَّهوةُ، ولكنْ عندَ مفارقةِ المُشتهى"؛ فلهم الآلام كلها ولا لذة لهم. لكن الذين عرفوا الله وأنِسوا بقربه، لهم عند الموت اللذة كلها ولا ألم، خلاص.. لأن الذي كانوا يشتهونه لا يفارقهم منه شيء، لهم ما يشتهون كامل، خلاص.. فمن أين يجيء الألم؟ الألم يجيء من مفارقة المشتهى، والآن الذي يشتهونه حصّلوه كامل وفوقه زيادة، فمن أين يجيء الألم؟ ليس هناك ألم، كما أن أولئك لم يعُد لهم لذة، وهؤلاء لم يعُد لهم ألم. أولئك لم يعُد لهم لذة لأنه حيل بينهم وبين ما يشتهون، وهؤلاء لم يعُد لهم ألم لأنه (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق:35].
فاللذة بحصول المشتهى. والألم بفراق المشتهى.
فما بقي لهم إلا ألم بلا لذة. ولا لأهل الجنة إلا لذة بلا ألم. لا إله إلا الله…
قال: إذًا؛ "ولا ينبغي أن تغترَّ الآنَ وتقولَ: إن كانَ هٰذا سببَ عذابٍ القبرِ .. فأنا في أمانٍ منهُ؛ إذ لا علاقةَ بيني وبينَ متاع الدُّنيا"، قال: إن كنت صدقت ولم يبق لك معشوق ولا مشتهًى إلا الله وقربه، لا بأس؛ ولكن قد تتخيَّل هذا وهو ليس بصدق، مثل رجل كان عنده جارية ويحسب أنه ما له علاقة بها، فباعها، لما باعها ثارت في قلبه ونفسه… ورجع حتى بيرمي نفسه! لماذا؟ بسبب أنه ضاعت عليه، كان يدّعي أنه لا علاقة له بها، وهو عنده علاقة بها، والدنيا هكذ…ا بعضهم يقول ليس لي علاقة بالدنيا، وعند مفارقتها يظهر أنه كان مبطّن علاقة ما كان يُقِرُّ بها ولا يعترف بها. لا إله إلا الله..
قال: "فكذلكَ يكونُ حالُكَ في القبرِ في كلِّ ما يَتعلَّقُ بهِ قلبُكَ مِنَ الدُّنيا". "أَحْبِبْ مَا أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ"
قال: "ووراءَ هٰذا عذابٌ أعظمُ منهُ"، ما هو؟ ينكشف لجميع الكفار والمبعودون، ينكشف لهم عظمة ما لم يَشتهوا من قبل، وما فاتهم من لذاذة قرب الله والأنس به، ينكشف لهم… كانوا في الدنيا ما يحسون، لكن الآن بالموت انكشف لهم أن الذي فوّتوه والذي حُرموه، شيء كبير عظيم، أعظم مما كانوا يشتهون كله، فلا بقي لهم ما يشتهون، وحُرموا الأعظم والأجل منه لأنهم ما كانوا يلتفتون إليه، وانكشف الحجاب الآن فعلموا أن هذا أجلُّ، وأكبر، وأعظم، فتضاعف عليهم الألم، وتضاعفت عليهم الحسرة والعياذ بالله.. (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [مريم:39]، ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ۚ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * والله يقضي بالحقِّ) [غافر:18-19-20].
قال: "فهٰذانِ عذابانِ يَتضاعفانِ علىٰ كلِّ ميّتٍ كانَ غيرُ اللهِ تعالىٰ أحبَّ إليهِ مِنَ اللهِ تعالى"، وكل من "كانَ أُنسُهُ بغيرِ اللهِ تعالى أكثرَ مِنْ أُنسِهِ باللهِ تعالىٰ" فيفوته الذي يشتهي، وينكشف له الذي فاته في الآخرة، وأنه كان أعظم وأجلّ، وأنه كان يقدر أن يكتسبه وأنه أهمله، فتشتد عليه الحسرة، فيصير عنده العذابان متضاعفان.
قال: "وهما ضروريَّانِ تَعرِفُهُما إن عرفتَ بالحقيقةِ الرُّوحَ، وبقاءَهُ" الروح "بعدَ الموتِ، وعلائقَهُ، وما يُضادُّهُ بالطَّبعِ وما يوافقُهُ" فاعرف نفسك تعرف ربك. اللهم وفقنا لما تحب واجعلنا فيمن تحب يا أرحم الراحمين.
بقيت بعض الفصول من هذا الكتاب يمكنكم تدبّرها، ونجد الفرصة إن شاء الله في أيام الموسم للمرور على شرحها. وقد مر معنا عامة الكتاب وأكثره، فمن حضر هذه الدروس وتابعها لهم الإجازة في تأمّل هذا الكتاب وما فيه ومعانيه ودلالاته، وتكرير النظر فيه والعمل بمقتضاه ونشر ذلك، أجزناهُم في ذلك.
الله يثبّتنا ويرعانا بعين العناية، ولا يجعله آخر العهد منّا ولا منكم ولا من التفقّه في دين الله والتوجّه إلى الله، والاجتماع على مرضاته سبحانه وتعالى، والاستعداد لنيل النصيب الوافي من معرفته ومحبّته والأنس بذكره والقيام بشكره، والاستعداد للقائه.
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا، وزِدنا من فضلك ما أنت أهله، وكن مقصودنا أنت ومرادنا أنت، وشوقنا إليك وشغلنا بك واستغراقنا فيك، يا حي يا قيوم، حتى يكون الموت لكل منا تحفة تتحِفه بها يرقى بها إلى أعلى المراقي، ويرافق أهل المقام العالي من عبادك الصَّالحين وحزبك المفلحين، وسيّدهم سيد المرسلين، ووفِّر حظنا من لقائه، وفّر حظنا من رؤيته، وفر حظنا من محادثته ومكالمته ومسامرته، وفّر حظنا من الحضور في حضرته، وفّر حظنا من أنسنا به، وفّر حظنا من شريف محادثاته في المراتب العُلى، وكريم مرافقته في الحياة وعند الموت، وفي البرزخ، وفي مواقف القيامة، وفي دار الكرامة ومستقر الرحمة، واجعل حظنا من قربه، ومحبته، ومرافقته أكبر وأجلّ في ساحة النظر إلى وجهك الكريم يا كريم، في ساحة النظر إلى وجهك الكريم يا كريم، في ساحة النظر إلى وجهك الكريم يا كريم، في خيرٍ ولطفٍ وعافية يا أرحم الراحمين.
وفَّر الله حظنا من المِنن والمواهب والعطايا العجائب، والغيوث السواكب على ساحات القلوب المتوجّهة إلى الحق تعالى في اقتفاء أطيب الأطايب حتى يسقينا من أحلى المشارب، ويرفعنا إلى عليِّ المراتب، ويكشف عنا جميع المصائب والنوائب، وعن أمة حبيبه مُحمد في المشارق وفي المغارب، ويبارك لنا في أجتماعاتنا ولقائاتنا ويجعلها مذكورة في العالم الأعلى، خير ما ذكر ويذكر به مجامع ومجالس محبوبيه والمقربين إليه، ويجعل لها سبحانه وتعالى عظيم الأثر، وكبير الخبر فيما نستقبل من أيام في العمر وفي القبر والمحشر، وفي دار الكرامة والنظر، ولا يحرمنا خير ما عنده لشر ما عندنا، ويتولانا بما هو أهله في الحِس والمعنى، والبركة التامة للمولود عمر بن سقاف السقاف ويجعله في الهداة المهتدين، المَرعيين بعين العناية في كل شأن وحال وحين، والرقي في أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين، وأرسل البركة على أهله و ذويه، وأهل بلده وأهل زمانه والمسلمين، ويَمُنَّ بتمام الشفاء والعافية لمحمد يونس وجميع مرضانا ومرضى المسلمين، ويشفيهم من العِلل والآفات والأمراض الظاهرة والخفيات، ويَمُنَّ علينا بكمال حسن السابقة وكمال حُسن الخاتمة، ويكرم الكل منا بصحة في تقوى، وطول عمر في حُسن عمل، وأرزاق واسعة بلا عذاب ولا عتاب وَلا فتنة وَلا حساب. بِسِر الفاتحة إلى حضرة النَّبي محمد.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
اللهم صلِّ وسلم على سيدنا مُحمدٍ وعلى آل سيدنا محمد.
(بدء قصيدة)
رَشْفَةٌ مِنْ تَسْنِيْمِ مَشَارِبِهِمْ ... وَنَسْمَةٌ مِنْ نَسِيْمِ مَآرِبِهِمْ
وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْقُرْبَةِ ... وَفِي اتِّصَالِ الْقُوَّةِ الْكَسْبِيَّةِ
أَوْ انْعِطَافٍ فِي نَفْحَةٍ جَذْبِيَّةٍ ... تَرْفَعُ عَنْهُ كُلْفَةَ الْأَدْلَالِ
فَبَعْضُهُمْ مَا زَالَ فِي تَقَيُّدِ ... فِي جِدِّهِ وَزُهْدِهِ الشَّدِيْدِ
مُرَاقِبًا زَوَاجِرَ الْوَعِيْدِ ... مُرْتَقِبًا لِلْمَوْتِ وَالْمَآلِ
وَبَعْضُهُمْ فِي الْبَسْطِ فِي الْوُجُوْدِ ... فِي بَسْطَةٍ مِنْ نِعْمَةِ الْوُجُوْدِ
شَاهَدَ فَضْلَ الرَّبِّ فِي الْوُجُوْدِ ... فَعَمَّهُ مَوْلَاهُ بِالْإِفْضَالِ
وَبَعْضُهُمْ فِي كُلْفَةِ التَّكْلِيْفِ ... بَيْنَ تَرَجِّي الْفَضْلِ وَالتَّخْوِيْفِ
قَضَى بِذَاكَ الْعُمْرَ فِي شَرِيْفِ ... مِنْ صَبْرِهِ فَفَازَ بِالْآمَالِ
وَبَعْضُهُمْ إِذْ جَدَّ فِي اجْتِهَادِهِ ... أَعَانَهُ الْحَقُّ عَلَى مُرَادِهِ
بِجَذْبَةٍ فَانْحَلَّ عَنْ قِيَادِهِ ... وَنَالَ أَسْنَى الْفَتْحِ وَالْأَمَانِ
وَبَعْضُهُمْ فِي لَاعِجِ الْأَشْوَاقِ ... بِرَهْبَةٍ فِي غَايَةِ الْإِشْفَاقِ
أَوْ رَغْبَةٍ فِي حَالَةِ الْإِمْلَاقِ ... أَوْ نِسْبَةٍ فِي مُخْلَصِ الْأَعْمَالِ
وَبَعْضُهُمْ غَرِيْقُ بَحْرِ الْجُوْدِ ... شَهِيْدُ سَيْفِ الْكَشْفِ وَالشُّهُوْدِ
قَدْ صَارَ تَحْتَ الْعِزِّ كَالْمَفْقُوْدِ ... وَلَيْسَ عَنْهُ غَيْرُهُ بِجَانِ
وَبَعْضُهُمْ غَابَ عَنِ الْخَلِيْقَةِ ... وَذَابَ لَمَّا شَاهَدَ الْحَقِيْقَةِ
إِذْ عَلَّ مِنْ رَاحِ الْهَوَى رَحِيْقَهُ ... رَاحَ بِهَا بِطَلْعَةِ الْجَمَالِ
وَكُلُّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا لِلْعِصْمَةِ ... بَلْ حُفِظُوا بِحِفْظِهِمْ لِلْحُرْمَةِ
وَأُكْرِمُوا بِنِسْبَةٍ وَخِدْمَةٍ ... فَهُمْ رِجَالُ الْحَقِّ فِي الرِّجَالِ
لَيْسَ لَهُمْ وَحْيٌ وَلَا أَحْكَامُ ... إِلَّا عُلُوْمُ الدِّيْنِ وَالْإِسْلَامُ
نَعَمْ لَهُمْ مِنْ لُطْفِهِ إِلْهَامُ ... يَحُلُّ مَا قَدْ حَلَّ مِنْ أَحْوَالِ
وَرُبَّمَا طَافَتْ بِهِمْ لَطَائِفُ ... مِنْ عِلْمِ كَشْفِ الْحَقِّ وَالْمَعَارِفِ
تُوضِحُ مَعْنَى جَائِلٍ وَوَاصِفٍ ... فِي الْفَهْمِ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِنْزَالِ
وَرُبَّمَا بِهِمْ مِنْ نَظْرَةٍ قُدْسِيَّةٍ ... أَوْ مِنْ سَنَا فِرَاسَةٍ حِسِّيَّةٍ
رَأَوْا خَفَايَا حَالَةٍ نَفْسِيَّةٍ ... تَصِيْرُ فِي الْقَلْبِ بِلَا اسْتِعْمَالِ
وَقَدْ بَدَتْ مِنْ بَعْضِهِمْ خَوَارِقُ ... عَوْنًا لِكُلِّ مُسْتَجِيْبٍ صَادِقِ
وَحُجَّةً عَلَى مُعَادٍ مَارِقٍ ... تَكُوْنُ عِنْدَ الْهَمِّ فَعَّالِ
بَلْ كُلُّ مَا يَجُوْزُ مِنْ نَبِيِّهِ ... مُعْجِزَةً يَجُوْزُ مِنْ وَلِيِّهِ
كَرَامَةً بِصِدْقِهِ الْمَرْعِيِّ ... وَحُجَّةً لِلرُّسْلِ وَالْإِرْسَالِ
وَجُلُّهُمْ يَكْرَهُ فِعْلَ الْخَرْقِ ... لِأَنَّ فِيْهِ هَتْكَ سِتْرِ الْحَقِّ
لِأَنَّ بِالْأَسْبَابِ جَرْيُ الْخَلْقِ ... وَحِكْمَةُ الْعَادَاتِ نَظْمُ الْحَالِ
كَذَا كَمَا لَمْ تُطِقِ الْإِشَارَةُ ... وَلَمْ تَسَعْهُ رُتْبَةُ الْعِبَارَةِ
فَإِنَّهُ جَلَّى خَفِيَّ أَسْرَارِهِ ... بِشَرْعِهِ صَوْنًا عَنِ ابْتِذَالِ
وَمَنْ بِهَا بَاحَ اسْتَبَاحُوا دَمَهُ ... وَرُبَّمَا الشَّرْعُ أَبَاحَ دَمَهُ
وَحَسْبُهُ اللهُ لَهَا وَعِلْمُهُ ... وَحُسْنُ ظَنٍّ خَيْرُ مَا نُوَالِي
وَكُلُّ مَا يُنْقَلُ مِنْ مَجَالِهِ ... فِي الشَّرْعِ عَمَّنْ تُرْتَضَى خِصَالُهُ
رُدَّتْ بِحُسْنِ الظَّنِّ وَالْإِجَالَةِ ... وَصِيْنَ وَجْهُ الْحَقِّ عَنْ إِشْكَالِ
14 ربيع الأول 1447