الأربعين في أصول الدين - 40 | المحبة (2)
الدرس الأربعون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: تكملة شرح الأصل الثامن: المحبة (2)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
مساء الجمعة 6 ربيع الأول 1447هـ
كيف تُصبح المحبّةُ باعثًا للسلوك لا شعورًا عابرًا؟ يواصل الحبيب عمر بن حفيظ في الدرس بيان أصل المحبّة، وتوجيه القلب من محبوبات الحسّ إلى الحقيقة؛ وربطها بعمارة القلب والعمل، وشؤون محبّة الرسول ﷺ وأهلِ القُرب من الله، وذِكر علامات المحبّة.
نص الدرس المكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من كتاب "الأربعين في أصول الدين" للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، نفعنا الله به وبعلومه وبكم وبعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين. إلى أن قال رضي الله عنكم:
فصلٌ
[في ميل بصيرة الإنسانِ إلى المُنعِم جلَّ وعلا]
"إن قصُرتْ بصيرتك الباطنة عن إدراك الجلال والكمال، والميل إلى مطالعته، والفرح بهِ والعشقِ له.. فلا تقصُرْ عن الميل إلى المُنعِمِ المُحسِنِ إليكَ، ولا تكونَنَّ أقلَّ مِنَ الكلبِ؛ فإِنَّهُ يُحِبُّ صاحبَهُ الذي يُحسِنُ إليه.
وتأمل هذا في العالم، هل لأحدٍ إحسان إليك سوى الله تعالى؟ وهل لك حظ ولذَّةٌ، وتنعُّم في شيء، وحرصٌ على نعمة.. إلا والله تعالى خالقها ومُبديها ومُبقيها، وخالق الشَّهوة إليها والتَّلدُّذِ بها؟
وتفكَّر في أعضائِكَ، ولطف صنع الله تعالى بك فيها؛ لتُحِبَّهُ بإحسانِهِ إليكَ، فتكونَ مِنْ عوام الخَلْقِ إِن لم تَقدِرُ أن تُحِبَّهُ لجمالِهِ وجلاله، كما تُحِبُّه الملائكة لذلك، وامتثلْ قوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "أَحِبُّوا اللهَ تَعَالَى لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بحُبّ الله".
وعند هذا تكون كالعبدِ السُّوءِ، يُحِبُّ ويعمل للأجرةِ والنَّفقة، فلا جَرَمَ يزيدُ حبُّكَ ويَنقُصُ بزيادةِ الإحسان ونقصانه، وذلك ضعيف جدّاً.
بل الكاملُ: مَنْ يُحِبُّ الله تعالى لجلاله وجماله، ومحامد صفاتِهِ التي لا يُتصوَّرُ أن يُشارَكَ فيها؛ ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليهِ السَّلامُ: "إِنَّ أَوَدَّ الأودّاءِ إليَّ.. مَنْ عبدَني بغيرِ نوال، لكن ليُعطِي الربوبيَّةَ حقها".
وفي الزَّبُورِ: "مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ عبدَني لجنَّة أو نارٍ؟! لو لم أخلق جنَّةً ولا نارًا.. ألم أكن أهلاً أن أُطاعَ؟!".
ومر عيسى عليهِ السَّلامُ بطائفة مِنَ العُبَّادِ قد نحَلوا، وقالوا: نخافُ النَّارَ، ونرجو الجنَّةَ، فقال: مخلوقاً خفتُم، ومخلوقاً رجوتُم.
ومر بقوم آخرينَ كذلكَ، فقالوا: نعبده حبّاً له، وتعظيماً لجلاله، فقال: أنتُم أولياءُ اللهِ تعالى حقاً، ومعكُم أُمِرتُ أن أُقيم.
فصلٌ
[في المحبة عند العارف بالله]
العارف لا يُحِبُّ إلّا الله تعالى، فإن أحب غيرَهُ.. فيُحِبُّهُ للهِ؛ إذ قد يُحِبُّ المُحِبُّ عبد المحبوب وأقاربَهُ، وبلده وثيابَهُ، وصنعته وتصنيفه، وكلَّ ما هو منه وإليه بسبب، وكلُّ ما في الوجود.. صنعُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وتصنيفه، وكلُّ الخَلْقِ.. عبادُ اللهِ تعالى.
فإن أحبَّ الرَّسول .. أحبَّهُ لأَنَّهُ رسول محبوبِهِ
وإن أحبَّ الصَّحابة.. فلِأَنَّهُم محبوبو رسولِهِ، ولأنَّهُم مُحِبُّوه وعبيده، و المواظبون على طاعتِه.
وإن أحب طعامًا.. فلِأَنَّهُ يُقوّي مركبَهُ الذي بهِ يَصِلُ إلى محبوبه؛ أعني: البدن.
وإن أحبَّ الدُّنيا.. فلِأَنَّها زادُهُ إلى محبوبِهِ .
وإن أحبَّ النَّظر إلى الأزهار والأنهار، والأنوارِ والصُّورِ الجميلة.. فلِأَنَّها صنعة محبوبه، وهي دلالات على جماله وجلاله، ومُذكّرات لصفاتِ المحامد التي هي المحبوبة في ذاتها.
وإن أحبَّ المُحسِنَ إليه، والمُعلَّمَ إِيَّاهُ علومَ الدِّينِ.. فيُحِبُّهُ لأنَّه واسطة بينه وبين محبوبه في إيصال علمِهِ وحكمتِهِ إِليهِ، ويَعلَمُ أنَّهُ الذي قَيَّضَهُ لتعليمِهِ وإرشادِهِ، والإنفاق عليهِ مِنْ مالِهِ، وأَنَّهُ لولا تسليط الدَّواعي إليهِ واضطرارُهُ بسلسلة البواعث والأغراض إلى إرشادِهِ والإنفاق عليه.. لَمَا فعلَهُ.
وأعظمُ الخَلْقِ إحساناً إلينا.. رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وللهِ المِنَّةُ والفضلُ بخلقِهِ وبعثِهِ، كما قالَ: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) [آل عمران:164] ، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة:2] .
فما الرَّسُولُ إِلَّا عبدٌ مُسخَّرٌ مبعوث، محمول على تبليغ الرّسالة بالاضطرارِ؛ ولذلكَ قالَ اللهُ تعالى: ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ) [القصص:56].
وتأمل سورة النَّصر، وقوله تعالى: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر:2-3]، فقد أنزلَهُ منزلةَ النَّظَّارة، وقال: إذا رأيت عباد الله يدخلون في دين الله .. فقل بحمدِ اللهِ لا بحمدي، وهو معنى التسبيح بحمدِ ربِّهِ، فإن التفتَ قلبُكَ إلى نفسِكَ وسعيكَ فاستغفره ليتوب عليكَ، واعلم أنَّهُ ليس لكَ مِنَ الأمرِ شيءٌ.
ومن ها هنا نظر عمرُ -رضي الله عنه- حيث وصل كتاب خالد -رضي الله عنه- بعد فتح اليمامة: "مِنْ خالد سيف الله المسلول على المشركين ، إلى أبي بكر أمير المؤمنينَ".. فقال: أن نصر الله المسلمين.. نظر خالد إلى تلقيبِ نفسِه وتسميتها سيفاً مسلولاً على المشركين، ولو لاحظ الحقِّ كما هو.. لعَلِمَ أن ليس ذلكَ بسيفه، ولكن لله تعالى سِرّ في إرادتِهِ نُصْرَةَ الإسلام، فينصرُهُ بخطرةٍ واحدةٍ، وهوَ خاطرُ رعب يلقيه في قلب كافر فينهزم، وينظر إليه غيرُهُ فينهزِمُ وتَعُمُّ الهزيمة، فيَظُنُّ خالدٌ ومَنْ هوَ في مثلِ حالِهِ أنَّهُ أعلى كلمةَ الإسلام بصرامتِه وحِدَّة سيفه.
ويَطَّلِعُ عمرُ -رضي الله عنهُ- ومَنْ هوَ في مثل حالِهِ مِنَ الصِّدِّيقينَ والأولياء على حقيقة الحالِ، َويَعلَمُ حاجة خالد إلى الاستغفار، وأن يُسبّحَ بحمدِ ربّهِ إذا رأى ذلكَ، كما أُمِرَ بِهِ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
فإذاً؛ لا مُوجِبَ للمحبَّةِ إلَّا أمران:
أحدهما: الإحسان .
والآخَرُ : غاية الجلالِ والجمال بكمال الجود والحكمة، والعلم والقدرة، والتَّقديس مِنَ العيبِ والنَّقص.
ولا إحسان إلَّا منه، ولا جلال ولا جمال ولا قدسَ إِلَّا لَهُ؛ فكلُّ ما في العالَمِ مِنْ حُسْنٍ وإحسانٍ.. فهو حسنةٌ مِنْ حسناتِ جُودِهِ، يسوقها إلى عبادِهِ بخَطْرةٍ واحدةٍ يخلقها في قلبِ المُحسَنِ، فكلُّ ما في العالم من صور مليحة، وهيئة جميلة، تُدرَك بعين أو سمع أو شم.. فأثرٌ مِنْ آثارِ قدرتِهِ، ولَمَّةٌ مِنْ أنوارِ حضرتِهِ، وهي بعض معاني جماله وجلاله.
فليت شعري!! مَنْ عَرفَ بالمشاهدةِ المُحقَّقة والبرهان القاطع جميع هذا.. كيف يُتصوَّرُ أن يلتفتَ إلى غيرِ اللهِ تعالى، أو يُحِبُّ غيرَ اللهِ عزَّ وجلَّ؟!"
لا إله إلا الله..حققنا الله بحقائقها.
الحمد لله ذي التجلي العظيم، الذي يتجلّى على قلوب أهل الثبات على الصراط المستقيم بما لا عينٌ رأت ولا أُذُنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهم في هذه الدار قبل الرجوع إلى دار النعيم. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الكريم الذي ينوّر قلب من شاء وروح من شاء وسِرّ من شاء، فيمتلئ معرفةً ومحبةً وشهودًا. ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه وصفيّه وخليله، بعثه بالحق والهدى، ورفع له القدر وأعدّ له مقامًا محمودًا. صلِّ اللهم وسلِّم وبارك على جامع المحامد والمحاسن والكمالات الإنسانية والخَلقية كلها على أعلى وجوهها وأوسعها، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ويتحدث الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في أسرار المحبة؛ أنه من عرف من جمال الله وجماله ذرة، أخذته بكليّته واستغرقته بجميعه، ولم يبقَ فيه شيءٌ لغير الله، وصار واحدًا لواحد، يترقى في سبيل المحامد مع خواص الأماجد، فينازله من حضرة الواحد ما لا يقف عند حد، ولا يزال مترقيًا للعطاء من غير عد؛ يقول تعالى: (هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [ص:39]، ويقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ هَٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ) [ص:54] الله أكبر!
يقول: إذا لم يدرك لقصوره وضعفه معاني الجلال والجمال لذات الحق الكبير المتعال -جلّ جلاله- فعليه أن يعرف الإنعام الواصل إليه فيُحبّ المنعم المحسن إليه، فهو من هذه الحيثية يدرك أن جميع ما عنده من النعم من الله، وما جاء بسبب وما جاء من غير سبب يعرفه، وكلها من الله تبارك وتعالى.
ولا يكون أقل من الكلب! فالكلب إذا يحسن إليه أحد يعرفه ويحبه لأنه يحسن إليه، يجيء له كل يوم بشيء من الطعام وغيره، فالكلب يدافع عنه ويحبه، فلا تكن أقل من الكلب، كأن تعرف المنعم الذي أنعم عليك، وإن صرت تحبه لإحسانه.
قال: وتأمل هذا في العالم، "هل لأحدٍ إحسان إليك سوى الله تعالى؟ وهل لك حظ ولذَّةٌ، وتنعُّم في شيء، وحرصٌ على نعمة.. إلا والله تعالى خالقها" خالق تلك النعمة "ومُبديها ومُبقيها، وخالق الشَّهوة إليها" وخالق "التَّلدُّذِ بها؟" فكلُّه منه، لاإله إلا الله! (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) لاإله إلا الله.. (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء: 78-82].
قال: "وتفكَّر في أعضائِكَ، ولطف صنع الله تعالى بك فيها؛ لتُحِبَّهُ بإحسانِهِ" تكون عوام الخَلْقِ الذين يحبون من أجل الإحسان، "إِن لم تَقدِرُ أن تُحِبَّهُ لجمالِهِ وجلاله" وكماله جلّ جلاله، "كما تُحِبُّه الملائكة" ويحبه الأنبياء ويحبه الأولياء المقربون، وامتثلْ قول نبيك ﷺ: "أَحِبُّوا اللهَ تَعَالَى لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بحُبّ الله"
وعند هذا تكون مثل عبد السُّوءِ ، يُحِبُّ ويعمل للأجرةِ والنَّفقة.. فقط! لا يعرف قدر أسياده، ولا أنهم أهل للخدمة، ولا يلتذّ بخدمتهم ولا يحسنها مخلصًا، وإنما يرقب الأجرة وكيف تجيء.. عبد سوء! وكثير مع ربهم هكذا، مثل عبد السوء مع سيده.. لا إله إلا الله! (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج:11].
والمحبة هذه قال: تزيد بزيادة الإحسان وتنقص بنقصانه، وذلك ضعيف جدًا، مع أن إحسانه عظيم ولا تحيط به، ولكن الانحجاب بهذا والانحصار في درك المحبة مع ذلك.. ضعفٌ ونقص.
"بل الكاملُ: مَنْ يُحِبُّ الله تعالى لجلاله وجماله" وكماله وألوهيته وربوبيته وعظمته وكبريائه وقدسيته ومُلكيته، وعظمة مالها غاية ولا نهاية.. كيف ما يُحَبّ؟ الله أكبر! والجمال كله له، والجلال كله له، والكمال كله له سبحانه وتعالى، ولا يكون في الكائنات شيءٌ من ذلك إلا بمقدار ما أعطى بحدٍّ محدود.. الله أكبر! وله صفات ومحامد ما يمكن أن يُشارَك فيها أصلاً!
يقول لداوود: "إِنَّ أَوَدَّ الأودّاءِ إليَّ.. مَنْ عبدَني بغيرِ نوال، لكن ليُعطِي الربوبيَّةَ حقها". عرف أني الله الذي يستحق العبادة.
وفي الزَّبُورِ: "مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ عبدَني لجنَّة أو نارٍ؟! لو لم أخلق جنَّةً ولا نارًا.. ألم أكن أهلاً أن أُطاعَ؟!" أنا الله، الله أكبر..
"ومرّ عيسى عليهِ السَّلامُ بطائفة مِنَ العُبَّادِ قد نحَلوا"، من كثرة العبادة قال: لماذا هكذا تعبدون؟ قالوا: "نخافُ النَّارَ" قال: "مخلوقًا خِفتم"، ومرّ على جماعة نحلوا من كثرة العبادة، قال: لماذا تعبدون الله؟ قالوا: "نرجو الجنَّةَ"، فقال: "مخلوقاً رجوتُم". هؤلاء خافوا من مخلوق وهو النار، وهؤلاء رجوا مخلوق وهو الجنة.
"ومر بقوم آخرينَ كذلكَ" يعبدون الله، قال: لماذا تعبدونه؟ "فقالوا: نعبده حبّاً له، وتعظيماً لجلاله، فقال: أنتُم أولياءُ اللهِ تعالى حقاً، ومعكُم أُمِرتُ أن أُقيم." كما ذكره أبو نعيم في الحلية. يعبدون الله لأنه الله، لأنه يستحق العبادة، كيف والعبادة بحد ذاتها هي شرف، وإحسان ونعمة وجمال وجلال، العبادة هي نفسها، عادك تتقلّد المنة فيها له أن وفقك لها جل جلاله وشرّفك بها. اللهم زدنا تشريفًا بعبادتك، وارزقنا حسن عبادتك، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
والذكر والشكر من جملة العبادة، ولكن خصهما بالذكر لأنهما رأس في العبادة، الذكر والشكر رأس العبادة، وحسن العبادة في بقية الرأس -أجزاء العبادة-، لكن هذا ذكر وشكر على وجه الخصوص، فيفوز الذاكرين الشاكرين، الله أكبر!..
جاء أيضًا في الخبر: من نظر في دنياه إلى من دونه، وفي دينه إلى من فوقه، كتبه الله شاكرًا ذاكرًا، ومن نظر في دنياه إلى من فوقه -أرباب الأملاك الكبيرة- وفي دينه إلى من دونه، لم يُكتب شاكرًا ولا ذاكرًا. اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك يا أرحم الراحمين.
يقول: إذا علمتَ ذلك، فإن من ارتقوا في المراقي الرفيعة وعرفوا جلال الله وجمال الله وكمال الله سبحانه وتعالى، وأحبّوه لذلك وعبدوه لذلك وقاموا بشكره لذلك، فإنهم في الحقيقة لا يحبّون إلا هو، وما يحبون غيره أصلاً؛ كيف؟.. لأن كل ما أحبّوه فمن أجله وله، ولا يحبون إلا ما يُحب ومن يحب لأجله، عبادةً له؛ فما كأنهم إلا أحبّوه فقط؛ محبتهم لملائكته من محبته، محبتهم لأنبيائه من محبته، محبتهم لأوليائه من محبته؛ لأنهم ما نظروا إليهم من وجه أن هؤلاء مجرد محسنين إليهم إحسانًا منقطعًا، ولا أن لهم فيهم غرض من الأغراض، بل أحبّوهم من وجه أنهم محبوبو حبيبهم، والمقرّبون عند محبوبهم؛ ولهذا أحبّوهم له، فكان حُبّهم لهؤلاء من عين محبّته هو، فما أحبّوا إلا هو، ما أحبوا إلا هو -جلّ جلاله- وهم كذلك عندما يتمكّنون: لا يحبون إلا الله، ولا يرجون إلا الله، ولا يخافون إلا الله، ولا يقصدون إلا الله، ولا يريدون إلا الله.. الله ينفعنا بهم ويعيد علينا عوائدهم، ويلحق من شاء منّا بهم، إنه أكرم الأكرمين.
يقول: العارف بالله ما يحب غير الله إلا لله؛ إذًا هو لا يحب إلا الله! لأن المحب الصادق إذا قويت محبته، يحب أقارب محبوبه، بلد محبوبه، جهة محبوبه، صنعة محبوبه، تصنيف محبوبه؛ إذا واحد يحب واحد محبة قوية شديدة، وقالوا له: هذا مصنف وكتاب له، ما يحبه؟ ما يتأتى!.. من قبل ما يشوفه ويطالع فيه، يفرح به ويحبه ويتمنى الحصول عليه، وكل ما قرأ سطر ابتهج وزاد محبة،... وذا الكون كله تصنيفه هو، أنت تحبه شُف تصنيفه، الله الله!...
فبقي فقط معك الميزان؛ من أجله تحب..
- من أذِن لك تحب من مصنّفاته هذه ومخلوقاته، ومن أمرك أن تحب ومن أمرك أن تواليه تحبه.
- ومن أمرك أن تعاديه وتبغضه فتبغضه
أنت لا تحب إلا هو جلّ جلاله وتعالى في علاه.
قال: "وكلُّ ما في الوجود.. صنعُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وتصنيفه، وكلُّ الخَلْقِ.. عبادُ اللهِ تعالى".
قال: "فإن أحبَّ الرَّسول.. أحبَّهُ لأَنَّهُ رسول محبوبِهِ" الله أكبر! "وإن أحبَّ الصَّحابة.. فلِأَنَّهُم محبوبو رسولِهِ، ولأنَّهُم مُحِبُّوه وعبيده، و المواظبون على طاعتِه"؛ هؤلاء يطيعون محبوبي، ويحبون محبوبي، فأنا أحبهم؛ إذا تحب واحد محبة أكيدة، ثم رأيت مَن يحبه، تلقائيًا تحبّه، لماذا تحبه؟ يحب صاحبي، يحب محبوبي، كيف ما أحبه؟! لا إله إلا الله...
قال: وإذا أحب العارف طعامًا، ما يحب الطعام لأنه له طعم فلاني، ولا لأن نفسه تشتهيه، يحبه لأنه يقوّي المركب الذي يسير به إلى المحبوب، فقط لأجل هذا! لا إله إلا الله.. ولهذا تجده يأكل ما وجد من الحلال، لأنه ماقصده الطعام نفسه، إنما هو وسيلة توصله وتهيئ مركبه، مثل الوقود للسيارة، حتى توصلك السيارة إلى حيث تريد -المقصد-، وهذا البدن حقك السيارة، وهذا الوقود حقه، يساعدك في السير إلى الرحمن -جلّ جلاله- (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات:99].
وكذلك إن أحب شيئًا من الدنيا كما قال ﷺ: "حُبِّبَ إلَيَّ مِن دُنْياكم: النِّساءُ والطِّيبُ"؛ ما يحبها لذاتها ولا لكونها مشتهاة طبعًا، ولكن يحبها لكونها زاد إلى المحبوب بأوجه عديدة..
وَلَيْسَ حُبُّ الطِّيبِ وَالنِّكَاحِ *** إِلَّا لِجَمْعِ الْقَلْبِ وَالْأَرْوَاحِ
وَنِسْوَةٌ عَوْنًا عَلَى الصَّلَاحِ *** يَرْوِينَ عَنْهُ أَكْرَمُ الْأَحْوالِ
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فَهْوَ بِحَقِّ الشُّكرِ ما أَوْلاهُ *** إذْ قام حتّى وَرِمَتْ رِجْلاهُ
وَواصلَ الصّومَ وقد أَوْلاهُ *** مَولاه أَولى الفَضل والإفضالِ
يا رب صلِّ عليه.
قال: "وإن أحبَّ النَّظر إلى الأزهار والأنهار، والأنوارِ والصُّورِ الجميلة.. فلِأَنَّها صنعة محبوبه"، ودالة على محبوبه تزيده محبة لمحبوبه، وتزيده إيمانًا بعظمة محبوبه، الله أكبر! بل تزيده إدراكًا خاصًّا ومعرفةً بجمال محبوبه. فهي "مُذكّرات لصفاتِ المحامد التي هي المحبوبة في ذاتها".
"وإن أحبَّ المُحسِنَ إليه"، من مثل معلّم يعلّمه علوم الدين "فيُحِبُّهُ لأنَّه واسطة بينه وبين محبوبه في إيصال علمِهِ" علم المحبوب وحُكمه "وحكمتِهِ إِليهِ"؛ ليسير هو به إلى المحبوب. "ويَعلَمُ أنَّهُ الذي قَيَّضَهُ" -المحبوب- "لتعليمِهِ وإرشادِهِ، والإنفاق عليهِ مِنْ مالِهِ" كأن أحسن أحد إليه من المال-، "وأَنَّهُ لولا تسليط الدَّواعي إليهِ واضطرارُهُ بسلسلة البواعث والأغراض إلى إرشادِهِ والإنفاق عليه" لما أرشد ولا أنفق، لا ذا بينفق عليك ولا ذا بيرشدك، لكن سلط عليهم دواعي حتى أقام هذا في الإرشاد، وأقام هذا في الإنفاق، وكلهم من عنده، فأنت تحبهم من أجله.
قال: "وأعظمُ الخَلْقِ إحساناً إلينا.. رسولُ اللهِ ﷺ"، لا آباء ولا أمهات ولا صغار ولا كبار أحسنوا إلينا كما أحسن إلينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب! محمد بن عبد الله بن عبد المطلب كان سبب للتكوين، حتى خلقنا الله من نوره، خلق نوره وجعل نوره أصل الوجود؛ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب سبب لوصول كل نعمة؛ فمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب أُودِع قلبه رحمة لا تُودع في قلوب آباء ولا أمهات؛ (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ)، مقتضى الإيمان الذي دخل إلى قلوب زوجاته فقط من خلال التصاقهم به وقربه منه، يجعل لهن رحمة، رحمة أمومة لكل مؤمن، رحمة أمومة لكل مؤمن، هذا نصيب أزواجه؛ لهذا يقول: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ)؛ لأن كل واحدة قلبها اكتسى حنانًا ورحمة وشفقة على المؤمنين كالأم على ولدها بسبب قربها منه، وذي سراية منه سرت إليهنّ فصرن أمهات للمؤمنين بهذا المعنى، ووجب على المؤمنين، لكون محبوبهم الأكبر قربهنّ إلى هذا الحبيب، أن يعتبروهنّ مقدّرات مشرّفات كما يجب تقدير الأمهات.
قال: (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ) [الأحزاب:6]، كما خلفاؤه آباء لهم، وهو سُمّي بالأكبر، لا بأس مجاز، لكنه أولى من أنفسهم، لا مثل أب ولا مثل أم ولا مثل محسن مُنعم، ولا مثل مربّي مراعي، أكبر من هؤلاء كلهم، أولى بهم من أنفسهم، هو أرحم وهو أعطف وهو أرأف صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فلا يُتصور ما في قلبه من ذرّة مما جعل الله في هذا القلب من رحمة الخلائق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
ثم إنّه في لياليه وخلوته بباريه وتجلّي الحق عليه، ذكرنا ودعا لنا، واهتم بأمرنا الأكبر ممّا نعلم وممّا لا نعلم؛ فكان يستغفر لنا في كل ليلة وينظر أحوال أمته كيف تكون من بعده، وفي يوم القيامة، ويسأل الحق في شؤونهم، ويستخرج لهم الخصوصية الأولى والثانية والثالثة والرابعة ويستزيد… وهيأ لنا أشياء نعرفها وأشياء ما تصل عقولنا إليها، وهو رتّبها وطلبها لنا، فما أحد مُحسن إلينا مثل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، في الخلق كلهم، في الخلق كلهم هو أحسن محسن إلينا رأفة وحنانًا وعطفًا وانتباهًا ويقظةً وسؤالاً لحضرة الربوبية في شؤوننا؛ كم دمعت عيناه في الليالي من أجلنا؟ يقول: "أمتي أمتي"، إلى أن أوحى الله إليه: "إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك" فيهم. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ووصل لنا القرآن على يده، والتوحيد على يده، والدين على يده، وكنا خير أمة بسببه، فأي مخلوق أحسن إلينا مثل محمد؟ أكبر من أحسن إلينا في الخلائق.. خير الخلائق، نحن في كنف إحسانه وامتنانه، إن جلسنا، وإن صلينا، وإن قرأنا.. آثار من آثار إحسانه، الإحسان الذي أجراه الله على يده حتى وَصَلَنا، وإن وحَّدنا؟ وإن عبدنا؟ من أين هذا؟ وصل على يد من؟
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران:164]، ما عندهم هدى، ليس ضلال فقط، بل ضلال بيّن واضح الضلالة، وجاءت الهداية والنور والإيمان والتوحيد والإسلام والإحسان والمعرفة من الباب هذا جاءت، الله أجراها على يد هذا، ولذا كان يقول أبو الحسن البكري:
ما أرسل الرحمن أو يرسلُ *** من رحمةٍ تصعد أو تنزلُ
في ملكوت الله أو مُلكِه *** من كل ما يختص أو يشملُ
إلا وطه المصطفى عبده *** حبيبه مختاره المرسلُ
واسطةٌ فيها وأصلٌ لها *** يعلم هذا كل من يعقلُ
فما أحد في الخلائق أحسن إلينا مثل محمد، فحقه أعظم الحقوق بعد حق الله -جلّ جلاله- صلوات ربي وسلامه عليه. أعظم الخلق إحسانًا إلينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. صلوات ربي وسلامه عليه. ومن أسرار دعواته هذه الخيرات المبثوثة لنا والمحَصَّلة الميسرة لنا في مجامعنا وفي حياتنا.
قال: "وللهِ المِنَّةُ والفضلُ بخلقِهِ وبعثِهِ ، كما قالَ: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) [آل عمران:164] ". (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) [البقرة:150-152]
قال: "(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الجمعة: 2] ". فانتقلنا من حال (فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) إلى حال (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران:110]، من أين جاء الانتقال؟ وعلى يد من؟
- قبلُه: (فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)
- بعد ما جاء: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)
بعد ضلال مبين إلى الرفعة هذه والقمة والعلو! يا رب صلِّ عليه واجزه عنا خير الجزاء. جزى الله عنا سيدنا محمدًا ﷺ خيرًا، جزى الله عنا سيدنا محمد ﷺ ما هو أهله، جزى الله عنا سيدنا ونبينا محمدًا ﷺ أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.
ولا يزال إحسانه حتى إلى القيامة، حتى المواقف الشديدة التي يقول الرسل فيها: "نفسي نفسي"، يقول هو: "أمّتي"، إحسانه قوي عظيم، ما يُتَخَيَّل، ما يُحَد؛ الله يجزيه عنا خير الجزاء.
الحمد لله الذي جعله نبينا، يحرك في بواطننا الإحساس والشعور بالمِنّة يقول: "أنتم حظّي من الأمم وأنا حظّكم من الأنبياء"، "وأنا حظكم من الأنبياء".. فيا خير الحظ حظّنا! ومعنا أيضًا شوفوا منة الله عليكم، وأنتم أصلحوا شأنكم لتكونوا أمة لائقة بهذا النبي، لا تسوّدوا وجهه في القيامة، ولا تسوءوا قلبه، ولا تحزنوه.. حظه من الأمم أنتم، "أنتم حظي من الأمم، وأنا حظكم من الأنبياء".
الحال كما قال الذي قال: ذكر واحد في رؤياه أنه في مجلس واحد اسمه الأمين أنه من المدينة، وجالس في مجلس جنب الحبيب علي الحبشي ومجموعة من أصحابه، ثم يتكلم الحبيب علي ويقول لهم: سعدتُم بي وسعدتُ بكم. فالتفت إليه هذا الأمين يقول له: ماسعدوا بك إلا هم! سعدوا بك إلا هم، سعدوا بك إلا هم؛ والآن لما قال: "أنا حظكم من الأنبياء، وأنتم حظي من الأمم"، سعدنا به، هو إيش بيستفيد منّا ولا من مكانتنا؟! اللهم صل عليه وعلى آله.. ولكن به كنا خير أمة، فيا سعدنا به صلوات ربي وسلامه عليه، فالحظ العظيم لنا به. الله أكبر!
لَهُ المِنَّةُ العُظْمَى عَلَيْنَا بِبَعْثِهِ *** إِلَيْنَا وَمِنَّا عَالِيَ الذِّكْرِ وَالكَعْب
اللهم صلِّ وسلم عليه.
نَبِيٌّ عَظِيمٌ خُلْقُهُ الخُلُقُ الَّذِي *** لَهُ عَظَمَ الرَّحْمَنُ فِي سَيْدِ الكُتُبِ
يقول: "فما الرَّسُولُ إِلَّا عبدٌ مُسخَّرٌ مبعوث ، محمول على تبليغ الرّسالة بالاضطرارِ؛ ولذلكَ قالَ اللهُ تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ) [القصص:56]. وتأمل سورة النَّصر، وقوله تعالى: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 2-3]". هو الذي اختارك واصطفاك وأعطاك هذه المواهب وهداهم بك، من ترتيبه وتفضله وجوده عليك؛ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)، ماقال سبِّح بحمدك، الحمد لربك الذي جعلك بهذه المثابة وأجرى هذا الخير كله على يدك، وهداهم كلهم على يدك، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ)، إن ظننت أن لك شيئًا في الأمر، فاستغفره، "إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا".
"فقد أنزلَهُ منزلةَ النَّظَّارة، وقال: إذا رأيت عباد الله يدخلون في دين الله .. فقل بحمدِ اللهِ لا بحمدي"، (بِحَمْدِ رَبِّكَ) الله أكبر.
قال: ومن هذا سيدنا عمر خاف من كلام سيدنا خالد بن الوليد عندما حصل الفتح في اليمامة وكتب إلى سيدنا أبي بكر الصديق: "من خالد بن الوليد سيف الله، من سيف الله الذي سلّه الله على المشركين، خالد بن الوليد، إلى خليفة رسول الله أبي بكر الصديق"، عندما وصلت الرسالة وقرأوها، سيدنا عمر قال: نصرهم الله! الآن يتوقع خالد أنه هو لأنه سيف الله أن الناس به نُصروا وبسببه؟ هو كان قائد في المعركة، فخاف أنه التفت إلى نفسه. ولهذا في مصنف ابن أبي شيبة قال: لَمَّا بلغ عمر قول خالد بن الوليد، قال: "لأنزعن خالدا ولأنزعن المثنى حتى يعلما أن اللَّه ينصر دينه، ليس إياهما". فولّى سيدنا أبا عبيدة، ثم جاء بشير إلى سيدنا عمر يبشره: يا أمير المؤمنين أبشر بنصر الله والفتح، قال عمر: "الله أكبر، رب قائل لو كان خالد بن الوليد". فهو ما أراد يُنسبونه إلى شخص أو يظن الشخص في نفسه. لا إله إلا الله.. فالفضل فضل الله تبارك وتعالى.
قال: "لا مُوجِبَ للمحبَّةِ إلَّا أمران:"
- الإحسان.
- أو معرفة الجلالِ والجمال والكمال للذات.
الله أكبر! فإذا كانت من أهل الإحسان، فلا إحسان إلا منه، وإن أحسنت إليك أمك، هي وإحسانها منه، منه، منه، منه! من أين لك الإحسان؟ إذا تلذذت بالطعام، الطعام منه هو خالقه، واضع هذا الطعم فيه هو، واضع قدرتك على الطعم بلسانك هو، وهو خالق اللذة بهذا الطعام ،هو! من أين إحسان لك من غيره؟ لا إحسان من غيره، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ) [النحل: 53] -جلّ جلاه- اللهم ما أمسى بنا من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر على ذلك.
يقول: وإذا جاءتك حسنة على يد أحد من الناس، قال: "فهو حسنةٌ مِنْ حسناتِ جُودِهِ، يسوقها إلى عبادِهِ بخَطْرةٍ" يخطرها في قلب المحسن يحرّكه يقول له: أعطِ هذا؛ كنا نسمع العوام عندنا ونحن صغار يقولون: هو في الحقيقة ما حد يعطي حد، لا، إلا يا عبدي أعطِ عبدي؛ العوام يقولون كذا متأثرين بمجالس الصالحين والعارفين، نسمعهم يقولون هكذا. أنت اشكر من أعطاك، لكن الحقيقة فإنه ما أحد يعطي أحد شيء إلا يا عبدي أعطِ عبدي، هو من عنده يقول لعبده ذا أعطِ عبدي ذا، عبدي أعطِ عبدي هذا من حقي؛ لا إله إلا الله… فالمعطي هو الذي أعطى في الحقيقة -جلّ جلاله- لا إله إلا الله.. يا عبدي أعطِ عبدي.
قال: "فكلُّ ما في العالم من صور مليحة، وهيئة جميلة، تُدرَك بعين أو سمع أو شم" أو لمس أو فكر أو غير ذلك .. فهي "أثرٌ مِنْ آثارِ قدرتِهِ، ولَمَّةٌ مِنْ أنوارِ حضرتِهِ" -الله أكبر-، "وهي بعض معاني جماله وجلاله". لهذا نقول: أنت تدرك جمال الأزهار، والأشجار، والمناظر الطبيعية، والصور، والمباني الحسنة، والثياب الحسنة، تدرك لها جمال؟ جمال كسائر المخلوقات؛ اعلم يقينًا أن كل هذا الجمال الذي أدركته بواسطة عينك لا يساوي شيئًا بالنسبة لجمال الروح! جمال الروح فوق هذا كله.. لك هذا علامة ولكن جمال الروح فوقه وأعلى منه وأجمل، وجمال أرواح الخلائق بالنسبة لأهل الخصوصية، جمالهم مثل جمال الحسيّات بالنسبة للروح، الفرق الذي بينها!
وإذا جئنا إلى أهل الخصوصية من العارفين والمقربين، ونظرنا إلى الأنبياء، حصّلنا جمال أرواح الأنبياء فوق ذلك وأجلّ وأكبر!.. وهكذا حتى تطلع إلى الروح الأعلى، فما تجد أبهج وأجمل من روح محمد ﷺ في الجمال المعنوي كله، وهذا كلّه يُطالَع فيه ذرّات جمال مصطفي محمد ومنتخبه وخالقه ومخصّصه: الله جلّ جلاله!.. ما الجمال إلا جمال الله، الجمال إنما جمال الله -جلّ جلاله-، الجمال إلا جمال الله، والجلال كله جلال الله، والكمال كله كمال الله جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وما يعطي من الجلال لهيبة سلاطين أو دول أو غيرهم من الأشياء التي يُجلّها الناس هو جلال دون جلال الأنبياء والمقرّبين والعارفين، وإذا كان في عالم الحس والظاهر: "من رآه بديهة هابه" ﷺ ، من رآه بديهة هابه، صلوات ربي وسلامه عليه.
كَأَنَّهُ وَهْوَ فَرْدٌ مِنْ جَلَالَتِهِ *** فِي عَسْكَرٍ حِينَ تَلْقَاهُ وَفِي حَشَمِ
لما يقول الذي رجعوا من عنده إلى صنعاء، كان أرسلهم برسالة ملك فارس، وقابلوا النبي ﷺ، ثم رجع يقول للعامل في صنعاء: أنا وردتُ على الملوك، ما رأيتُ أهيب من هذا الإنسان محمد، ولما رأيته ما نازل قلبي شيء من الهيبة مثل ما رأيته؛ قال: معه جند؟ قال: لا، لا، بل لوحده يمشي، لكن ما قد شعرتُ في قلبي رهبة وهيبة مثل ما رأيته! ﷺ.
ربّ الجمال تعالى الله خالـقه *** فـمثلـه في جمـيع الخلق لم أجــدِ
فهو "أحسن الناس خَلقا وخُلقا ** وأولهم إلى مكارم الأخلاق سبقًا ** وأوسعهم بالمؤمنين حلما ورفقا ** بَرًّا رؤوفًا ** لا يقول ولا يفعل إلا معروفًا ** له الخُلُق السهل ** واللفظ المحتوي على المعنى الجزل ** إذا دعاه المسكين أجابه إجابة معجلة ** وهو الأب الشفيق الرحيم باليتيم والأرملة." الله أكبر.. "وله مع سهولة أخلاقه الهيبة القوية ** التي ترتعد منها فرائص الأقوياء من البرية. ومن نشر طيبه تعطّرت الطرق والمنازل ** وبعَرْف ذكره تطيّبت المجالس والمحافل ** فهو ﷺ جامع الصفات الكمالية ** والمنفرد في خَلْقِه وخُلُقه بأشرف خصوصية." [مولد سمط الدرر]. يا رب صلِّ عليه وعلى آله واجمعنا به.
فكان يقول سيدي عبد العزيز الدباغ: لو أن لإنسان من المؤمنين قوة مئة أسد من حيث الظاهر، لم يقوَى على رؤية الحبيب في اليقظة مباغتة! -مايقدر..- حتى تُمَدّ روحه بقوة يستطيع أن يقابله ﷺ في اليقظة. اللهم صلِّ عليه وعلى آله.
وكان لمَّا يذكر العارفون يقولون: ما يحصل الاجتماع للوليّ بالنبي يقظة حتى يقطع كذا كذا ألف مقام، مئة ألف مقام، مئتي ألف مقام، أربع وعشرين ألف مقام من مقامات الولاية. كان الحبيب علي الحبشي يقول: أعجب في حال الصحابة، المقامات ذي كلها التي يذكرونها الأولياء يقطعها في لحظة واحدة يؤمن به وقده قدامه ويشوفه يقظة خلاص المقامات ذي كلها قد عبر عليها. قال: وهو طفل صغير يجيء يشوف الحبيب، يؤمن وانتهت المسألة، وقطع هذه المقامات كلها، ومن بعدهم ما يصل إليها إلا بعد كم؟… يارب صلِّ عليه.
قال: "فليت شعري!! مَنْ عَرفَ بالمشاهدةِ المُحقَّقة والبرهان القاطع جميع هذا.. كيف يُتصوَّرُ أن يلتفتَ إلى غيرِ اللهِ تعالى، أو يُحِبُّ غيرَ اللهِ عزَّ وجلَّ؟!" يقول: لا أن يحب فقط، مجرد الالتفات ما بيلتفت فكيف المحبة؟ ما بيحب إلا الله.. إذا عرف هذا ما بيحب إلا الله، وما بيلتفت أصلاً إلى غير الله بيأخذه هذا الجمال الرباني المقدس.
وَاشْهَدْ جَمَالًا أَشْرَقَتْ أَنْوَارُهُ *** فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرًا لَا خَافِ
وَعَلَى مَنَصِّ الجَمْع قِفْ مُتَخَلِّيًا *** عَنْ كُلِّ فَانٍ لِلتَّفَرّقِ نَافِ
فصل
[في أنَّ غايةَ لذَّةِ العارف في المعرفة بالله تعالى]
"اعلمْ: أَنَّ لذَّةَ كلّ عينِ النَّظَرُ، ولذَّةَ العارفِ في الدُّنيا في مطالعةِ جمال الحضرةِ الرُّبوبيَّةِ؛ إذ هي أعظمُ مِنْ كلّ لذةٍ يُتصوَّرُ أن تكونَ في الدنيا سواها؛ وذلك لأنَّ اللَّذَّةَ على قدر الشَّهوة، وقوَّةَ الشَّهوة على قَدْرِ الملاءمة والموافقة مع المُشتهى.
وكما أنَّ أوفق الأشياء للأبدان الأغذية.. فأوفق الأشياء للقلوب المعرفة؛ فالمعرفةُ غذاء القلب، وأعني بالقلبِ: الرُّوحَ الرَّبَّاني الذي قال الله تعالى فيهِ: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء:85]، وقال تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) [الحجر:29]، فأضافَهُ إلى نفسِهِ.
وهذا الرُّوحُ لا يكونُ للبهائم ولِمَنْ هوَ في مثل حالِها مِنَ الإنس، بل يختص بهِ الأنبياء والأولياء.
ولذلك قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ) [الشورى:52].
والمعرفة أوفق الأشياء لهذا الرُّوحِ؛ لأنَّ الأوفق لكل شيء خاصّيَّتُهُ، فالصَّوتُ الطَّيِّبُ لا يُوافِقُ البصرَ؛ لأَنَّهُ ليسَ مِنْ خَاصِيَّتِهِ، وخاصّيَّةُ الرُّوحِ الإنساني معرفة الحقائقِ.
وكلَّما كانَ المعلوم أشرف.. كان العلمُ بهِ ألذَّ، ولا أشرف مِنَ اللهِ تعالى ولا أجلَّ منه، فمعرفتُه ومعرفة صفاته وذاته، وعجائب مُلكِهِ وملكوتِهِ.. ألذ الأشياء عند القلب؛ لأنَّ شهوة ذلكَ أَشدُّ الشَّهَوَاتِ؛ ولذلكَ تُخلَقُ آخرًا بعد سائرِ الشَّهَوَاتِ، وكلُّ شهوة تأخَّرَتْ فهي أقوى ممَّا قبلها.
فأوَّلُ ما يُخلَقُ شهوةُ الطَّعام، ثمَّ تُخلَقُ شهوةُ الوِقاع، فيترك شهوةَ الطَّعامِ لأجلها، ويَستحقِرُها فيها، ثمَّ تُخلَقُ شهوةُ الرّئاسةِ والجاه والغَلَبَةِ، ويَستحقِرُ فيها شهوةَ المَنكَحِ والمَطعَمِ، ثُمَّ تُخلَقُ شهوة المعرفةِ التي هي استيلاء على كل الموجودات، فيستحقِرُ فيها الجاه والرئاسة، وهي آخرُ شهَواتِ الدُّنيا وأقواها.
وكما أنَّ الصَّبيَّ يُنكِرُ شهوةَ الوِقاع، ويَتعجَّبُ مِمَّنْ يَتحمَّلُ مؤنة النكاح لأجلها، فإذا بلغ شهوة الوقاع.. أكبَّ عليها، وأنكر شهوة الجاه والرئاسةِ، ولم يُبالِ بفواتها في قضاء شهوة الفرج.. فكذلك المشغوفُ بشهوة الجاه والرّئاسةِ، يُنكِرُ لذَّةَ المعرفةِ؛ إذ لم تُخلَقْ فِيهِ بعد شهوتها.
وقد تنتهي شهوة شرهِهِ على الجاه والرئاسة إلى مرض قلبه، حتَّى لا يقبل شهوة معرفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ أصلاً، كما يَفْسُدُ مِزاج المريض، فتسقط شهوتُهُ للغذاء حتّى يموت، وقد ينعكس طبعُهُ فيشتهي الطّينَ والأشياءَ المُضِرَّةَ المُهلكة، وهيَ مُقدِّماتُ الموتِ.
فكذلك مرضُ القلبِ؛ قد ينتهي إلى حد يُنكِرُ المعرفة ويُبغِضُها، ويُبغِضُ أهلها والمُقبلين عليها، ولا يُدرِكُ إِلَّا لذَّةَ الرئاسة والمَطعَمِ والمَنكَحِ؛ وذلكَ هوَ الميت الذي لا يَقبَلُ العلاج، وفي مثلِهِ قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف:57]، وفيهم قال تعالى: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل:21]".
فصل
[في بيان غاية المَلذَّاتِ في الدار الآخرة]
هذه المعرفة وإن عظمَتْ لذَّتُها.. فلا نسبة لها إلى لذَّةِ النَّظر إلى وجه الله الكريم في الدَّارِ الآخرة، وذلك لا يُتصوَّرُ في الدُّنيا؛ لسِرٌ لا يُمكِنُ الآن كشفُهُ.
ولا ينبغي أن يُفهَمَ مِنَ النَّظر ما يفهمه العوام وبعضُ المُتكلّمينَ، فيحتاج في تقديره إلى جهة ومقابلة؛ فذلك نظرُ مَنْ أقعده القصور في بحبوحة عالم الشهادة، حتَّى لم يُجاوز المحسوسات التي هي مدركات البهائم.
لكن ينبغي أن تفهم: أنَّ الحضرة الربوبية تنطبع صورتها وترتيبها العجيب على ما هي عليهِ مِنَ البهاء والعظمة والجلال والمجد.. في قلب العارف، كما تنطبع مثلاً صورة العالم المحسوس في دماغك، فكأنَّكَ تنظر إليه وإن غمّضت عينَكَ، فإن فتحت العين.. وجدت الصُّورةَ المُبصَرةَ مثل الصورة المُتخيَّلة قبل فتح العين، لا تُخالِفُها في شيء ، إِلَّا أَنَّ الإبصار في غاية الوضوح بالنسبة إلى التَّخيُّل.
وكذلك ينبغي أن تعلم أنَّ في إدراك ما لا يَدخُلُ في الخيال والحس أيضًا.. درجتين متفاوتتين في الوضوح غاية التفاوت، ونسبة الثانية إلى الأولى كنسبة الإبصار إلى التخيل، فتكونُ الثَّانية غاية الكشف، فتُسمَّى لذلك مشاهدةً ورؤيةً، والرُّؤية لم تُسَمَّ رؤية لأنها في العين؛ إذ لو خُلِقَتْ في الجبهة.. لكانت رؤيةً، بل لأنها غاية الكشف.
وكما أن تغميض الأجفان حجاب عن غاية الكشف في المُبصَر.. فكدورةُ الشَّهَواتِ وشواغل هذا القالبِ المُظلم حجاب عن غاية المشاهدة؛ ولذلك قال الله تعالى: (لَن تَرَانِي) [الأعراف:143]، وقال تعالى: (لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) [الأنعام:103].
فإذا ارتفع هذا الحجاب بعد الموت.. انقلبت المعرفة بعينها مشاهدةً، وتكون لكلّ واحدٍ على قَدْرِ معرفتِهِ؛ فلذلك تزيدُ لذَّةُ أولياء الله سبحانَهُ في النَّظرِ على لذَّةِ غيرِهِم، ولذلك يتجلَّى اللهُ تعالى لأبي بكر رضي الله عنه خاصةً، ويتجلى للنَّاسِ عَامَّةً.
وكذلك لا يراه إلَّا العارفون؛ لأنَّ المعرفة بَذرُ النَّظر، بل هي التي تنقلب مشاهدةً، كما ينقلِبُ التَّخيُّل إبصاراً؛ فلذلك لا يقتضي مقابلة وجهة.
وسر هذا طويل، فاطلبه مِنْ (كتاب المحبَّةِ) مِنْ كُتُبِ "الإحياء" .
نعم هكذا، يقول الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- أنّ لذة العارف في المعرفة، وذكر مثال؛ قال:
"أَنَّ لذَّةَ كلّ عينِ النَّظَرُ ، ولذَّةَ العارفِ في الدُّنيا في مطالعةِ جمال الحضرةِ الرُّبوبيَّةِ"؛ لأنها "أعظمُ مِنْ كلّ لذةٍ يُتصوَّرُ أن تكونَ في الدنيا سواها؛ وذلك لأنَّ اللَّذَّةَ على قدر الشَّهوة ، وقوَّةَ الشَّهوة على قَدْرِ الملاءمة والموافقة"، و "أوفق الأشياء للأبدان الأغذية.. وأوفق الأشياء للقلوب المعرفة" فلهذا لا تلتذُّ القلوب بمثل المعرفة قال: "وأعني بالقلبِ: الرُّوحَ الرَّبَّاني الذي قال الله تعالى فيهِ : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء: 85]، وقال تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) [الحجر:29]، فأضافَهُ إلى نفسِهِ" تشريفًا وتعظيمًا لهذا الروح.
"وهذا الرُّوحُ لا يكونُ للبهائم" ولا لمن هو مثل البهائم من الإنس والجن الذين أفسدوا قابلية الأرواح وآلاتها المستعدة لحمل هذا الروح، فهؤلاء بالنسبة للآدميين وبالنسبة للجن إذا أفسدوا الآلات التي في أرواحهم القابلة لتجلّي الروح الأعظم، حُرموا هذا، وصاروا حياتهم تشبه حياة البهائم، يقول: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ) [الأنفال: 24]، لنيل هذه الروح منه. (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام: 122].
فمن لم يدرك هذه الحياة فما عنده الروح هذه التي ذكرها الإمام الغزالي، قال: هو مثل الحيوان يشبه الحيوان، ما عنده هذه الروح، روح المعرفة وإنما الروح الحيوانية البهيمية؛ نعم هذه موجودة كما هي موجودة عند الحيوان، لكن عند الأنبياء والأولياء روح، حتى سمى الله الوحي الذي ينزله على الحبيب روح؛ (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ) [الشورى:52]، (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) [غافر:15].
قال: "والمعرفة أوفق الأشياء لهذا الرُّوحِ؛ لأنَّ الأوفق لكل شيء خاصّيَّتُهُ"، فمثلًا الصوت الطيب ليس خاصية البصر؛ خاصية السمع لا يوافق البصر؛ "وخاصّيَّةُ الرُّوحِ الإنساني معرفة الحقائقِ" فما له دخل فيما يكون ملائمًا للجسد وملائمًا للحس.
"وكلَّما كانَ المعلوم أشرف.. كان العلمُ بهِ ألذَّ، ولا أشرف مِنَ اللهِ تعالى ولا أجلَّ منه" فألذ شيء "معرفتُه ومعرفة صفاته وذاته". قال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا ألذ شيء فيها! قالوا: ما ألذ شيء فيها؟ قال: معرفة الله. لا إله إلا الله… قال: "فمعرفتُه ومعرفة صفاته وذاته، وعجائب مُلكِهِ وملكوتِهِ.. ألذ الأشياء عند القلب".
فالإنسان أول ما يخلق له في حياته الدنيا شهوة الطعام فيقدّمها على كل شيء، ثم تنبعث عنده شهوة اللعب واللهو، ثم تنبعث عنده شهوة الوقاع، ثم تنبعث عنده شهوة الرئاسة والجاه والغلبة، وكل واحدة يستحقر بها الذي قبلها، ويبذل الذي قبلها من أجلها.. قال: لكن بعد هذا شهوة المعرفة بالله والقُرب من الله، وهذه شهوة عظيمة كبيرة يقول في جواهر القرآن هو الإمام الغزالي نفسه: واعلم أنه لو خُلِقَ فيكَ شوقٌ إلى لقاء الله، وشهوةٌ إلى معرفة جلاله، أصدقَ وأقوى من شَهوتِكَ للأكل والنكاح، لكنتَ تُؤْثِرُ جنةَ المعارف ورياضَها وبساتينَها على الجنة التي فيها قضاءُ الشهواتِ المحسوسة". لا إله إلا الله!
قال: "وقد تنتهي شهوة شرهِهِ على الجاه والرئاسة إلى مرض قلبه"، حتَّى ما عاد "يقبل شهوة معرفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ"؛ لأنه سَكِر بالجاه والرئاسة ورفضه أصعب الأشياء.
"فكذلك مرضُ القلبِ؛ قد ينتهي إلى حد يُنكِرُ المعرفة ويُبغِضُها ، ويُبغِضُ أهلها والمُقبلين عليها".
"( إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف: 57]". يقول بعض أهل التفسير: أنه لما نزلت عليه (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)، توجَّه ﷺ ليتشفع في إزالة الأكنة، (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ ) [الكهف:57]، فتوجَّه لأن يزيل الله الوقر من الأذان، فقال له: (وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا)، فعَلِم أنه سبقت عليهم الكلمة ما يفيد فيهم شيء. "(أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل:21]".
قال: "هذه المعرفة وإن عظمَتْ لذَّتُها"؛ المعرفة التي تُوهَب في الدنيا لأصحابها، لذتها عظيمة جدًا جدًا جدًا جدًا، هي التي قالوا فيها: لو كان أهل الجنة على ما نحن فيه في الليل لهُم في عيشٍ طيب! قال: وإن عظمت بهذه الصورة.. فوقها، فوقها.. لذة النظر إلى وجه الله الكريم.
قال: "فلا نسبة لها إلى لذَّةِ النَّظر إلى وجه الله الكريم في الدَّارِ الآخرة". قال: وهذا نعيم ما يمكن في الدنيا أصلاً، لا يُتصوّر ولا يمكنه، لسرٍ عظيم لا يمكن كشفه. ولكن ينبغي أن تعلم أنه ما هناك قابلية ولا قدرة عند القوى الخَلقية لهذا التجلّي، لهذا ما تدركه. لهذا قال سيدنا الشيخ أبو بكر بن سالم: من أسباب زهد العارفين في الدنيا أنها لا تسع عطايا الله لهم! لا تسع عطايا الله لهم، الله بيعطيهم عطايا لكن ما تسعه الدنيا فلهذا يزهدون فيها، هناك العطاء الكبير، وهذا أعظمه: النظر إلى وجه الله الكريم -جلَّ جلاله- لا إله إلا الله..
قال: احذر أن تفهم من معنى قولنا النظر إلى وجه الله الكريم ما يفهمه "العوام وبعضُ المُتكلّمينَ" علماء الكلام؛ أنه النظر هذا الذي يفهمونه يحتاج إلى تقدير وإلى جهة ومقابلة! هذا نظر جسم إلى جسم، ومخلوق إلى مخلوق خلَّك منه، نتكلم عن أمر آخر في هذا التجلي والنظر والرؤية ما سُمّيت رؤية إلا لأن الله خلقها بالنسبة للأجسام في العين، لو خلقها في الإصبع لكانت في الإصبع، فما لها علاقة بذات العين، وإنما هنا تجلٍّ من الرحمن في القرب المعنوي، وانكشاف الحُجُب عن العبد عبَّر عنها الحق بـ (إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة:23]، وعبَّر عنها رسوله بقوله: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ"؛ هذا التجلّي العظيم الذي هو في الآخرة ليس شأن ما يفهمه بعض المتكلمين وعوام المسلمين.
قال: "لكن ينبغي أن تفهم: أنَّ الحضرة الربوبية تنطبع صورتها وترتيبها العجيب على ما هي عليهِ مِنَ البهاء والعظمة والجلال والمجد.. في قلب العارف، كما تنطبع" عندك "صورة العالم المحسوس في دماغك ، فكأنَّكَ تنظر إليه وإن غمضت عينَكَ، فإن فتحت العين.. وجدت الصُّورةَ المُبصَرةَ مثل الصورة المُتخيَّلة قبل فتح العين، لا تُخالِفُها في شيء، إِلَّا أَنَّ الإبصار في غاية الوضوح بالنسبة إلى التَّخيُّل".
تشوف هذا الكتاب ولونه والحروف التي فيه، غمِّض عينك وتتصورها وتتخيلها، لك وجه إدراك لها، لكن لما تفتح تشوف الإدراك أجلى، فكذلك معارفهم بالله في الدنيا ونظرهم لوجه الله الكريم في الآخرة، فرق بينه وبين هذا! لاإله إلا الله… اللهم لا تحرمنا لذّة النظر إلى وجهك الكريم.
و "تعلم أنَّ في إدراك ما لا يَدخُلُ في الخيال والحس أيضاً.. درجتين متفاوتتين في الوضوح غاية التفاوت، ونسبة الثانية إلى الأولى كنسبة الإبصار إلى التخيل" الخيال والإبصار المباشر، "فتكونُ الثَّانية غاية الكشف، فتُسمَّى لذلك مشاهدة ورؤيةً، والرُّؤية لم تُسَمَّ رؤية لأنها في العين ؛ إذ لو خُلِقَتْ في الجبهة" أو في أي مكان "لكانت رؤيةً".
"وكما أن تغميض الأجفان حجاب عن غاية الكشف في المُبصَر" ما تشوف المبصر تمامًا "فكدورةُ الشَّهَواتِ وشواغل هذا القالبِ المُظلم حجاب عن غاية المشاهدة؛ ولذلك قال الله تعالى" لسيدنا موسى "(لَن تَرَانِي)" [الأعراف:143] في عالم الدنيا، "وقال تعالى: (لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ ) [الأنعام:103]. فإذا ارتفع هذا الحجاب بعد الموت.. انقلبت المعرفة بعينها مشاهدةً، وتكون لكلّ واحدٍ على قَدْرِ معرفتِهِ".
ولذا أنواع النعيم في الجنة وأعلاها النظر إلى وجه الله الكريم.. يتفاوت بتفاوت معرفتهم بالله المنعم -جل جلاله- كما تعرف في الدنيا أنت الآن لقاء الشخص الواحد، مَن كان عرف من صفات الكمال في هذا الشخص صفة يلتذُّ بمقابلته والحديث معه، لكن الذي يعلم فيه أربع صفات من صفات الكمال لذَّته أقوى، هو شخص واحد ولكن لذَّة اللقاء عند ذا أعظم من لذَّة ذا، وإذا واحد عرف في هذا الشخص عشرين صفة من صفات الكمال لمَّا يقابله… الثلاثة كلهم قابلوه في وقت واحد، لكن لذَّة هذا ليست مثل لذَّة هذا، كذلك حالنا في الجنة وعند النظر إلى وجهه الكريم، من كان أعرف به لذَّته أكبر، وبقيِّة نعيم الجنان كذلك؛ لأنه إنعامه على المؤمنين على قدر معرفتهم وتلذُّذهم حتى بما يجعل من الأنهار والأشجار والحور والقصور وما إلى ذلك على قدر معرفتهم به! لا إله إلا الله...
يقول: "فلذلك تزيدُ لذَّةُ أولياء الله سبحانَهُ في النَّظرِ على لذَّةِ غيرِهِم، ولذلك يتجلَّى اللهُ تعالى لأبي بكر رضي الله عنه خاصةً ويتجلى للنَّاسِ عَامَّةً. وكذلك لا يراه إلَّا العارفون ؛ لأنَّ المعرفة بَذرُ النَّظر".
بذر النظر، البذر للنظر وانجلاء المعرفة في الدنيا، المعرفة الخاصة في الدنيا هي بذر النظر إلى وجه الله في الآخرة.
"بل" المعرفة "هي التي تنقلب مشاهدةً" تتحول هي البصر، "كما ينقلِبُ التَّخيُّل إبصارًا" الله أكبر! "وسر هذا طويل". وقد قال أشار إلى معاني منه في كتاب المحبة من إحياء علوم الدين.
فصل
[في أن تمام التجلي لحدقة القلب في الآخرة]
"لو كان لك معشوق وأنت تراه من وراء سترٍ رقيق في وقت الإسفار، وفي حالة ضعف الضوء، وفي حالة ضعف العشق، وفي حالة اجتمع عليك تحت ثوبك عقارب وزنابير تلدغك وتشغلك، فلا يخفى أن لذتك من مشاهدة معشوقك تضعف.
فلو أشرقت الشمس دفعة واحدة، وارتفع الستر الرقيق، وانصرفت عنك العقارب والزنابير، وهجم عليك العشق المفرط البليغ، فلا نسبة لهذه اللذة العظيمة التي تحصل الآن إلى ما كان قبل ذلك.
وكذلك فليفهم أنه لا نسبة للذة النظر إلى لذة المعرفة، بل هي أعظم منها كثيرًا. فالستر الرقيق قالبك، والعقارب شواغل الدنيا وغمومها وشهواتها، وهجوم العشق شدة الشهوة لانقطاع المضعِفات والمنغّصات عنها، وإشراق الشمس هو استعداد حدقة القلب لاحتمال تمام التجلّي، فإنها في هذه الحياة لا تحتمله، كما لا يحتمل بصر الخفّاش نور الشمس.
فصل
[في تمييز معرفة الله تعالى]
إنما ضعفت شهوة معرفة الله تعالى لزحمة سائر الشهوات، وإنما خفيت معرفة الله تعالى مع جلائها لشدة ظهورها. ومثاله أنك تعلم أن أظهر الأشياء المحسوسات، ومنها المبصرات، ومنها النور الذي به تظهر كل الأشياء. ثم لو كانت الشمس دائمة لا تغيب ولا يقع لها ظل، لكنتَ لا تعرف وجود النور، وكنت تنظر إلى الألوان فلا ترى إلا الحمرة والسواد والبياض.
فأما النور فلا تدركه إلا بأن تغيب الشمس أو يقع لها حجاب بما له ظل، فتدرك -باختلاف الأحوال بين الظلمة والضياء- أن النور شيء آخر يعرض للألوان فتصير مبصرة به.
ولو تُصوِّر لله سبحانه غيبةٌ، أو لأنوار قدرته حجابٌ عن بعض الأشياء، لأدركت من التفاوت ما تُضطّر معه إلى المعرفة، ولكن الموجودات كلها لمّا تساوت في الشهادة لخالقها بالوحدانية من غير تفاوت، خفي الأمر لشدة جلائه.
ولو تُصوِّر انقطاع أنوار قدرته عن السماوات والأرض لانهدّت وانمحقت، وأدركتَ في الحال من التفاوت ما تُضطر إلى المعرفة بالقدرة والقادر. وهذا مثالٌ ذكرناه، وتحته أسرار، وفيه مواقع غلط، فاجتهد لعلّك تقف على أسراره، ولا ترتبك في مواقع غلطه، فمنه غلطُ مَن قال: إنه في كل مكان. وكل من نسبَه إلى مكانٍ أو جهةٍ فقد زلّ وضل، ورجع غاية نظره إلى التصرّف في محسوسات البهائم ولم يُجاوز الأجسام وعلائقها.
وأول درجات الإيمان مجاوزتها، فبِه يصير الإنسان إنسانًا فضلاً عن أن يصير مؤمنًا.
فصل
[في بيان بعض علامات المحبة]
اعلم: أن للمحبة علامات كثيرة يطول إحصاؤها. ومن علاماتها: تقديم أمر الله تعالى على هوى النفس، والتوقّي بالورع، ورعاية حدود الشرع.
ومن علاماتها: الشوق إلى لقاء الله تعالى، والخلوّ عن كراهية الموت إلا من حيث يتشوّق إلى زيادة المعرفة، فإن لذّة المشاهدة بقدر كمال المعرفة، فإنها بذر المشاهدة، فتختلف -لا محالة- باختلافها. ومن علاماتها: الرضا بالقضاء ومواقع قدر الله عز وجل.
فلنذكر معنى الرضا حتى لا يغترّ الإنسان بما يصادف في نفسه من خطرات تخطر فيظن أنها حقيقة الحب لله تعالى، فإن ذلك عزيزٌ جدًا".
لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله! جلّ الله وتعالى في علاه، رزقنا الله كمال الإيمان واليقين.
يقول: كمال التجلّي يكون لحدقة البصيرة والقلب في الآخرة بهذا الشأن العظيم. فتدرك فرق بين لذة واحد شاف محبوب له معشوق لكنه من وراء ستر رقيق وقت الإسفار، عاد الضوء ضعيف قبل ما يستنير الضوء، وفي نفس الوقت تحت ثوبه بعض عقارب تؤذيه وزنابير تلدغه وتشغله، وشاف محبوبه له لذّة شوي، لكنه الضوء عاده ما اكتمل، والزنابير تؤذيه تلدغه فتضعف لذّته، قال كيف والشوق كان ضعيف كيف ينسبها للذّة واحد قوي شوقه وولعه والضوء أشرقت كاملة ولا مؤذي ولا… كيف لقاؤه الآن ولذة نظره ولقاؤه لمحبوبه بالنسبة لذاك؟ فرق كبير.
قال هكذا "لو أشرقت الشمس دفعة واحدة، وارتفع الستر الرقيق، وانصرفت عنك العقارب والزنابير، وهجم عليك العشق المفرط البليغ، فلا نسبة لهذه اللذة العظيمة"؛ كذلك فافهم؛ لا نسبة للذة النظر إلى وجه الله إلى لذة المعرفة، والمعرفة عظيمة ولذَّتها كبيرة ولكنها كم فرق؟.. لاإله إلا الله!
"فالستر الرقيق قالبك"؛ جسدك هذا، "والعقارب شواغل الدنيا وغمومها وشهواتها، وهجوم العشق شدة الشهوة لانقطاع المضعِفات والمنغصات عنها، وإشراق الشمس هو استعداد حدقة القلب لاحتمال تمام التجلّي"، وهذا ما تكون إلا في الآخرة؛ ما دمتَ في الدنيا الزنابير عندك، والنور عاده ما هو قوي، والعشق ما يبلغ مكانه لوجود المشاغل، لكن لما تجيء في الآخرة بعدين، خلاص المشاغل ما عاد حد هي، والنور مشرق تام، وحدقة القلب قويت، وأنت في حال ثاني!...
رأوا بعضهم سيدنا مالك بن دينار يقول له: الآن أفلتُّ من السجن، انتبَهَ حصلهم قالوا مات الآن، خرج من السجن هذا كله لا زنابير ولا غيرها… لاإله إلا الله!
فَالمَوْتُ لِلْمُؤْمِن الأَوَّابِ تُحْفَتُهُ *** وَفِيهِ كُلُّ الَّذِي يَبْغِي وَيَرْتَادُ
لِقَا الكَرِيم تَعَالَى مَجْدُهُ وَسَمَا *** مَعَ النَّعِيمِ الَّذِي مَا فِيهِ أَنْكَادُ
قال: "وإنما خفيت معرفة الله تعالى مع جلائها لشدة ظهورها".
فضعفت الشهوة عند الناس لحال من قالوا عنه:
القادة القدوة *** السادة الصفوة
لي ما لهم شهوة *** إلا لذكر الله
ما تشتهي؟ قال: الجنة.
قال: "أظهر الأشياء المحسوسات، ومنها المبصرات، ومنها النور الذي به تظهر كل الأشياء. ثم لو كانت الشمس دائمة لا تغيب"، لن تدرك أحد يقول لك النور! بتقول له: إيش هو ذا النور؟ نور، ضوء.. إيش هو ذا الضوء؟ ضياء ضياء.. إيش هو ذا الضياء؟ إشعاع.. يقول: إيش هو ذا الإشعاع؟ لكن لمَّا تغيب الشمس وتشوف ظلمة تقول: نعم ذاك النور، بضدّها تتميز الأشياء! وذا الآن تعرفها بمقابل.
قال: "فأما النور فلا تدركه إلا بأن تغيب الشمس أو يقع لها حجاب بما له ظل".
"ولو تُصوِّر لله سبحانه غيبة أو لأنوار قدرته حجاب عن بعض الأشياء، لأدركت من التفاوت" لكن هذا ما يُتصور، "الموجودات كلها لما تساوت في الشهادة لخالقها بالوحدانية" خفي عليك الأمر أنت.. إنما لشدة ظهوره، خفي لشدة ظهوره لأنه ظاهر في كل شيء، من شدة ظهوره ماعاد جيت عليه! كما لو أحد يقول لك ما قد شاهدت ظلمة أبداً جئت في ضوء، قال لك مقابل هذا ظلمة، ظلمة ما الظلمة؟ مثل ماذا الظلمة؟ الذي أنت فيه هذا نور، هذا نور، أنا في نور، إيش معنى نور؟ لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم! كيف نفهمه هذا مشكلة! لكن لما وُجِد مقابل فهم بسرعة.. لكن عظمة الحق تعالى منبثّة في كل شيء، ما تغيب عن شيء، كيف نفهمك؟ إن لك شيء من عناية ورعاية ستفهم! وإلا صعب تفهم هذه العظمة.
قال: "وهذا مثال ذكرناه وتحته أسرار، وفيه مواقع غلط"، والحق ليس كمثله شيء.
"فمنه غلط من قال إنه في كل مكان"، لكن بمعنى فيه زلَّ وظلَّ، يعني: أن ذاته الكريمة ما تحتاج إلى مكان، وإذا قلنا في كل مكان فعلمه وإرادته وقدرته وإحاطته صحيح. وأما هو ذاته هو خالق المكان ما يحتاج إلى مكان، عيب عليك! مايحتاج إلى المكان، هو خالق المكان سبحانه وتعالى، إذا خلق لك أشياء معنوية ما تحتاج إلى هذا المكان المخلوق وهي مخلوقة مثلنا.. أم لا؟ هذا تَعلَّم.. علم قدير، عجيب! أين دخل العلم هذا؟ أخذ إيش من مكان؟ والرجال هو نفسه، والمحلات هذه نفسها، كيف خرج ودخل ويجيء من مكان؟ أين مكان العلم؟ مكان حسي للعلم؟ ما له مكان وهو مخلوق وما احتاج إلى مكان وعادك تريد الخلاق يحتاج إلى مكان ياقليل الأدب؟! جلّ الله وتعالى في علاه، خالق المكان وخالق الزمان؛ هذا ما هو خالق المكان هو إنما مخلوق مثل المكان ولكنه ما احتاج إلى مكان. لا إله إلا الله..
فكيف بالخالق الجليل جل جلاله وتعالى في علاه؟! قال: وعلامة محبته:
- تقديم أمره على كل أمر و"على هوى النفس".
- "والتوقي بالورع"،
- "ورعاية حدود الشرع" وتعظيم للمُشَرِّع.
- "والشوق إلى لقاء الله تعالى".
- "والخلو عن كراهية الموت إلا من حيث يتشوق إلى زيادة المعرفة" فقط.
فإذا علم العارف أن هذا غاية ما قُسم له من المعرفة -ما عاد يزداد بعدها- حنَّ إلى اللقاء، خلاص ما هو قاعد في الدنيا إلا ليزيد معرفة به، عرف أن هذا هو المستوى الذي انتهى إلى حدّه ما عاد له مقسوم له وراء ذلك شيء، يقول خلاص يا الله، "حبيبٌ جاء على فاقة"، لكن ما دام عاده يقدر يحصّل زيادة في المعرفة فهو يكسب الحياة زيادة المعرفة إلى أن يصل إلى الغاية التي قسمها الله -جلَّ جلاله- له.
ولهذا يقولون: العارف ما يحب الحياة ولا يحب الموت إلا لله، يحب الحياة لتزداد معرفته، فإذا عرف أنها لا تزيد عن هذا الحد أحب اللقاء، فيحب الموت لله ويحب الحياة لله؛ لأنه ما يحب غير الله؛ لأنه أصلًا ما يحب غير الله، لا حياة ولا موت، يحب الله تعالى، وإن أحب حياة فلأجل الله، وإن أحب موت فلأجل الله، وكله لله، يا فوز الخُلَّص؛ العباد الخُلَّص لربهم، لا استعبدهم هوى ولا نفس ولا شهوة ولا مخلوق مثلهم، يا فوزهم يا ما أعزّهم.
قال: "ومن علاماتها":
- "الرضا بالقضاء ومواقع قدر الله عز وجل".
قال: وإذا صبرني ورضَّاني أنك أنت المبتدئ والمقدِّر. فسيذكر الآن في الأصل التاسع معاني الرضا.
يالله رضا يالله رضا والعفو عما قد مضى، يالله رضا يالله رضا يالله بتوبة والقبول، آمين آمين آمين.
سؤال في التقرّب والاتصال برسول الله ﷺ..
هذا غاية عطايا الخلاق، من غايات عطاء الخلاق -سبحانه وتعالى- لمن يشاء فالمرجو فيها هو الله -جل جلاله- والخطوات لرؤيته ﷺ:
- تصفية القلب وتنقيته.
- وقوة المحبة والشوق.
- وكثرة الصلاة والسلام عليه.
- والحرص على سُنّته.
- وكثرة ذكره وذكر فضائله وشمائله ﷺ.
- وخدمة دعوته ومِلّته.
هذه الخطوات لرؤيته في النوم وفي اليقظة وفي الدنيا وفي الآخرة.
وهذا الذي فقد الإحساس بالعبادة واللذّة بها إنما هو لخلل في باطنه يحتاج إلى إصلاح هذا الخلل فيذوق لذّة العبادة. اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا.
أن الله يرزقنا حسن عبادته لأنه ربنا وخالقنا الذي يستحق العبادة، ويرزقنا كمال محبّته؛ لأنه إلهنا وخالقنا ولجماله ولجلاله ولكماله ولربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى، ويرزقنا في ذلك نصيبًا وافرًا وحظًّا متكاثرًا يزداد أبدًا سرمدًا، وأن يتولّانا بما تولى به خواص أهل الهدى، ويرفعنا أعلى مراتب الاقتداء بنبيّ الهدى، بذكرى ميلاده يوسع حظنا من إمداده، ويذيقنا لذة محبته ووداده، ويدخلنا في دوائر أهل الشهود من خواص أهل الوفاء بالعهود، وأن يفرج كروبنا وكروب المسلمين، ويدفع البلاء عنا وعن جميع المؤمنين، ويجمعنا في حضرة حبيبه الأمين، ويجمعنا به عليه، ويقرّبنا به إليه، ويختم لنا بأكمل حسنى وهو راضٍ عنا، ويجزيه عنا خير الجزاء وأفضل الجزاء، ويجزي عنّا بعده آله وصحابته وسندنا إليه بخير الجزاء، ويجمعنا بهم في دار الكرامة والهناء وهو راضٍ عنا في خيرٍ ولطفٍ وعافية. بسِرّ الفاتحة إلى أرواحهم وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
يا ربنا اعترفنا ... بأننا اقترفنا
وأننا أسرفنا ... على لظى أشرفنا
فتب علينا توبة ... تغسل لكل حوبة
واستر لنا العورات ... وآمن الروعات
واغفر لوالدينا ... ربي ومولودينا
والأهل والإخوان ... وسائر الخلان
وكل ذي محبة ... أو جيرة أو صحبة
والمسلمين أجمع ... آمين يا رب اسمع
فضلاً وجودًا منّا ... لا باكتساب منا
06 ربيع الأول 1447