(535)
(339)
(363)
الدرس الحادي والأربعون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: شرح الأصل التاسع: الرضا بالقضاء، وشرح الأصل العاشر: ذكر الموت (1)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
فجر السبت 7 ربيع الأول 1447هـ
حين يطمئنّ القلب لحكمة الله.. يبين الحبيب عمر بن حفيظ مقام الرِّضا، وكيف لا يُنافي الأخذ بالأسباب والدعاء، مع بيان الفرق بين الرضا بقضاء الله وبُغض المعصية في آنٍ واحد؛ ثم يفتتح شرح الأصل العاشر ذكر الموت.. وعي يومي يعيد ترتيب الأولويّات.
بسم الله الرحمن الرحيم
بسندِكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
الأصل التّاسع
[في الرّضا بالقضاء]
قالَ الله تعالىٰ: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ) [البينة:8].
وقالَ ﷺ: "إِذَا أَحَبَّ ٱللهُ عَبْداً.. ابْتَلَاهُ؛ فَإِنْ صَبَرَ.. أَجْتَبَاهُ، وَإِنْ رَضِيَ.. اصْطَفَاهُ".
وقالَ ﷺ: "اعْبُدِ اللهَ تَعَالَىٰ بِالرِّضَا، فَإِنْ لَمْ تسْتَطِعْ.. فَفِي الصَّبْرِ عَلَىٰ مَا تَكْرَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ".
وقالَ ﷺ لطائفةٍ: "مَا أَنْتُمْ؟" فقالوا: مؤمنونَ، فقالَ: "وَمَا عَلَامَةُ إِيمَانِكُمْ؟" فقالوا: نَصبِرُ على البلاءِ، ونشكرُ عندَ الرَّخاءِ، ونرضىٰ بمواقعِ القضاءِ، فقالَ:" مُؤْمِنُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ"، وفي روايةٍ أنَّهُ قالَ: "حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ، كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ".
وممَّا أوحى اللهُ تعالىٰ إلى داوودَ -عليهِ السَّلامُ-: "ما لأوليائي والهَمَّ بالدُّنيا؟ إنَّ الهَمَّ يُذهِبُ حلاوةَ مُناجاتي مِنْ قلوبِهِم، يا داوودُ؛ إنَّ محبَّتي مِنْ أوليائي أنْ يكونوا رُوحانيِّينَ لا يَغتمُّونَ".
وقال ﷺ: قَالَ اللهُ تَعَالَىٰ: أَنَا اللهُ، لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا، فَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَىٰ بَلَائِي، وَلَمْ يَشْكُر نَعْمَائِي، وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي.. فَلْيَطْلُبْ رَبًّا سِوَايَ".
وقالَ ﷺ: "قَالَ اللهُ تَعَالَىٰ: خَلَقْتُ الْخَيْرَ وَخَلَقْتُ لَهُ أَهْلا، وَخَلَقْتُ الشَّرَّ وَخَلَقْتُ لَهُ أَهْلاً؛ فَطُوبَىٰ لِمَنْ خَلَقْتُهُ لِلْخَيْرِ وَيَسَّرْتُ الْخَيْرَ عَلَىٰ يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ خَلَقْتُهُ لِلشَّرِّ وَيَسَّرْتُ الشَّرَّ عَلَىٰ يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ لِمَنْ قَالَ: لِمَ وَكَيْفَ؟".
وأوحى اللهُ سبحانَهُ إلىٰ داوودَ -عليهِ السَّلامُ-: "يا داوودُ؛ تُريدُ وأُريدُ، وإنَّما يكونُ ما أُريدُ؛ فإن سلَّمتَ لِمَا أُريدُ.. كفيتُكَ ما تُريدُ، وإن لم تُسلِّمْ لِمَا أُريدُ.. أتعبتُكَ فيما تُريدُ، ثمَّ لا يكونُ إلَّا ما أَريدُ".
فصلٌ
[في بيانِ أنَّ علامةَ المحبّةِ الرِّضا بالبلاءِ]
قد أنكرَ الرّضا جماعةٌ، وقالوا: لا يُتصوَّرُ الرِّضا بما يُخالِفُ الهوىٰ، وإنَّما يُتصوَّرُ الصَّبرُ فقطْ، وإنَّما أُتُوا مِنْ إنكارِ المحبَّةِ، ونحنُ نُحقِّقُها.
وعلامتُها: الرِّضا بالبلاءِ، وبما يُخالِفُ الطَّبعَ والهوىٰ؛ وذلكَ يُتصوَّرُ مِنْ ثلاثةِ أوجهِ:
أحدُها: أن تُدهِشَهُ مشاهدةُ الحِبِّ وإفراطُها عنِ الإحساسِ بالألمِ: وذَلكَ مُشاهَدٌ في حُبِّ المخلوقينَ، وفي غلبةِ الشَّهوةِ والغضبِ، حتَّىٰ إنَّ الغضبانَ تصيبُهُ الجراحةُ فلا يُحِسُّ بها في الحالِ، وحتَّىٰ إنَّ الحريصَ تصيبُهُ شوكةٌ في رِجْلِهِ فلا يُحِسُّ بها، ثمَّ إذا سكنَ حرصُهُ، وظَفِرَ بمرادِهِ .. عَظُمَ ألمُهُ.
وإذا تُصوِّرَ أن يَنغمِرَ ألمٌ يسيرٌ بحبِّ يسيرٍ.. تُصوِّرَ أن يَنغمِرَ ألمٌ كثيرٌ بحبِّ قويّ بالغِ؛ فإنَّ كلَّ واحدٍ مِنَ الحُبِّ والألَمِ يقبلُ الزِّيادةَ والشِّدَّةَ.
ومهما تُصوِّرَ هذا في عشقٍ يرجعُ إلى الميلِ إلىٰ صورةٍ مُركَّبةٍ مِنْ لحمٍ ودمِ، مشحونةِ بالأقذارِ والخبائثِ، وإنَّما تُدرَكُ بعينٍ ظاهرةٍ يَغلِبُ الغلطُ عليها، حتَّىٰ قد ترى الكبيرَ صغيراً، والبعيدَ قريباً، والقبيحَ جميلاً .. فكيفَ لا يُتصوَّرُ في إدراكِ جمالِ الحضرةِ الرُّبوبيَّةِ ، والجلالِ الأزليِّ الأبديّ، الذي لا يُتصوَّرُ انقطاعُهُ ونُقصانُهُ، المُدرَكُ بالبصيرةِ الباطنةِ، التي هيَ أصدقُ وأوضحُ عندَ أهلِها مِنَ البصرِ الظّاهِر؟!
ومِنْ هٰذا الأصلِ قالَ الجنيدُ -رحمَهُ اللهُ-: قلتُ لسريّ السَّقَطيِّ -رحمَهُ الله-: هل يجدُ المُحِبُّ ألمَ البلاءِ؟ قالَ: "لا" قلتُ: وإن ضُرِبَ بالسَّيفِ؟ قالَ: "لا، وإن ضُرِبَ بالسَّيفِ سبعينَ ضربةً".
وقالَ بعضُهُم: "أحببتُ كلَّ شيءٍ لحبِّهِ ، حتَّىٰ لو أحبَّ النَّارَ.. أحببتُ الدُّخولَ في النَّارِ".
وأنشدوا في هٰذا المعنىٰ:
دَع الْحِبَّ يَصْلَىٰ بِٱلْأَذَىٰ مِنْ حَبِيبِهِ *** فَكُلُّ أَذىً مِمَّنْ يُحِبُّ سُرُورُ
غُبَارُ قَطِيعِ الشَّاءِ فِي عَيْنٍ ذِئْبِهَا *** إِذَا مَا قَفَا آثَارَهُنَّ ذَرُورُ
وقالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ -رحمَهُ اللهُ تعالىٰ-: "ما بقيَ لي فرحٌ إلَّا في مواقعِ قَدَرِ اللهِ تعالىٰ".
وضَاعَ لبعضِ الصُّوفيَّةِ ولدٌ صغيرٌ ثلاثةَ أيَّامٍ، فقيلَ لهُ: لو سألتَ اللّٰهَ تعالىٰ أن يَردَّهُ عليكَ! فقالَ: "اعتراضي عليهِ فيما قضىٰ .. أشدُّ عليَّ مِنْ ذهاب ولدي".
لا إله إلا الله..
الحمدلله الذّي سبق في الأزل رضاؤه عن أقوام فكان شأنهم ما ذكر في كتابه: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُۚ) [البينة:8]، وأولئك الذين فهموا عنه ما به تحققوا بالعبودية ونالوا المزية، فكان منهم الرضا قضية حتمية، ومن قال: رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا ورسولًا ثلاثًا إذا أصبح و إذا أمسى، كان حقًا على الله أن يرضيه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نسأله رضاه و لقاؤه والجَنّة، ونعوذ من سخطه والحجاب عنه والنّار، ونشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا وقرّة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبد الله ورسوله، أعظم الخلق رضًا من الله ورضًا عن الله، فلا تُدرَكُ حقائق رضاه عن ربّه فضلًا، عن رضا ربّه عنه، لأهل العقول من أهل السماوات وأهل الأرض من الأوّلين والآخرين.
فسبحان من خصّه بالرّضا الأكبر، وجعله مصدر الرّضا لكلّ من رضي عنهم -جل وعلا- فصلِّ اللّهم وبارك وكرّم على عبدك المجتبى المختار، صلاةً تملأ بها قلوبنا رضوانًا، وندرك بها في الدّنيا والآخرة منك جودًا وفضلاً وإحسانًا، وتنشر لنا بها في جميع الأحوال في الدّارين منك عنايةً ورعايةً وأمانًا.
وصلِّ معه على آله المُطهّرين، الذّين أذهبت عنهم رجسًا و أدرانًا، وعلى أصحابه الأكرمين الّذين رفعت لهم به شأنا، وعلى من والاهم فيك واتّبعهم بإحسان سرًا وإعلانا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، الذّين رفعت لهم عندك قدرًا ومنزلةً ومكانًا، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقرّبين، وجميع عبادك الصّالحين، وعلينا معهم، وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، صلوات وتسليمات تستغرق أعدادًا وأوقاتًا وأزمانًا.
وبعدُ،
فيتكلم الشيخ -عليه رحمة الله- في هذا الأصل التّاسع عن الرّضا: الرّضا عن الله، والذّي من أجلاه: الرّضا بقضائه وقدره -سبحانه وتعالى-.
الرضا عن الله مقام كريم يتفرّع عن المحبّة، هي التّي إذا قَوِيت، فكُلُّ ما يفعل المحبوبُ محبوبُ، ويكون لصاحبها إذا تمكّنت فيه رضًا تامّا عن الله في جميع الشّؤون، بدايتها وأساسها الرّضا بالله ربا، ومن رضي بالله ربا، وَكّلَ إليه أمره، وجعل لوجهه سرَّه وجهره؛ فقابل أحكامه بالاحتكام والامتثال، وقابل أقضيته وأقداره بالرّضا والسّرور البالغ، فلا يزال صاحب ذلك الرّضا مترقّيًا في مراتب عوال، لا يمكن التعبير عنها بكل مقال. وفّر الله حظّنا من رضاه، و ازداد عنّا رضا.
وكثيرًا ما يدرك رضاه في سجدةٍ، أو قومة، أو جلسة من مجالس الخير، أو ساعة من ساعات هبّ النّفحات في مواطن الوجهة إليه، أو التّعلّم، أو التّعليم. وإذا أظهر شأن هذا الرّضا الذي أصله أزليّ، بدت له عجائبُ منه تعالى في ذلك المرضيّ عنه في مختلف الشؤون والأحوال، ولم يزل يرتقي فيها مقامًا بعد مقام، و رُتبة بعد رتبة.
فنسأل الحقّ أن يرضى عنّا، وأن يزداد عنّا رضا، إلهنا من قد رضيت عنه منّا، فتولّه بما أنت أهله، وَ زِده رضا في كلّ لمحة ونفس، ومن لم يسبق له منك ظهور الرّضا، فنسألك أن ترضى عنّا وعنهم أجمعين، وتزداد عنّا وعنهم رضا أبدًا سرمدًا يا أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
يقول الله تعالى في وصف محبوبيه من السّابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ) [التوبة:100]، وفي وصف أهل جنته من أهل خشيته: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة:8].
وقال ﷺ: "إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه". رتبة فوق رتبة، والرّضا فوق الصبر. قال ﷺ: "اعبد الله تعالى بالرّضا، فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير"، كما جاء في رواية البيهقي في شعب الإيمان.
فعبادة الله بالرّضا أعلى العبادات، والرّضا أعلى المحبّة،
فأَعمالهم تفوق أعمال من سواهم. ولكن إن لم تصل إلى تلك الدّرجة الرّفيعة، فعليك بسببها المُوصل إليها وهو الصّبر، فَفي الصبّر على ما تكره خير كثير.
اصبر على أداء الطّاعة والعبادة، وعلى إحسانها وإتقانها، وعلى المواظبة والمداومة عليها حتى ينفتح لك باب الرّضا، وتدرك من أنس الطّاعة، وحلاوة الطّاعة، ولذّة الطّاعة ما تستحقر به لَذّات الدّنيا من أولها إلى آخرها. يا الله رضا، يا الله رضا، والعفو عمّا قد مضى.
قال ﷺ لطائفة: "ما أنتم؟" سأل جماعة من الصحابة قال: ما أنتم؟ -كما رواه الطّبراني في الأوسط- فأجابوا -عليهم رضوان الله-، "قالوا: مؤمنون"؛ نحن مؤمنون، شهدنا أنك جئت بالحقّ وصدّقناك، نحن مؤمنون، فما وجدوا وصفًا يصفون به أنفسهم، ولم يستحضروا في تلك الساعة عند السّؤال أماكنهم، ولا قبائلهم، ولا أنسابهم، ولا شيئًا مما يُعرَفون به، أو يُمَيَّزون غير هذه الكرامة التّي أُعطوها، والنّعمة التّي حُظوا بها، نعمة الإيمان! قالوا: نحن مؤمنون، ما أنتم؟ -قال لهم صاحب الرّسالة- قالوا: نحن مؤمنون يا رسول الله، لا نحن آل فلان، ولا من المكان الفلاني، ولا المعروفون بكذا، ولا وصفنا كذا، نحن مؤمنون. "فقال ﷺ: ما علامة إيمانكم" إن حُظيتم بهذه الكرامة وحُزتم هذه المنزلة، فما العلامة؟ قالوا: "نصبر على البلاء، ونشكر عند الرّخاء، ونرضى بمواقع القضاء. فقال: مؤمنون وربِّ الكعبة"، أنتم باتِّصافكم بهذه الأوصاف وتحققكم بها، متحققون بالإيمان، وأحلف بربِّ الكعبة -جل جلاله- "وفي رواية قال: حكماء، علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء"! وهو القائل: "علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل".
ثم انظر صدقهم في قولهم: مؤمنون، وتهيّؤهم لحقائق الإيمان، فلمّا ألحقهم السّؤال الثاني، أجابوا: ما علامةُ إيمانِكم؟ فأحسنوا الجواب وقالوا: نصبر على البلاء، ونشكر عند الرّخاء، ونرضى بمواقع القضاء. فأقرّهم على هذه العلامة القويّة، وقال لهم: "مؤمنون وربِّ الكعبة"، وفي رواية أبي نعيم في الحلية: "حكماء، علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء". فسَلك الله بنا مسالكهم.
"أوحى الله تعالى إلى داود -عليه السلام-: ما لأوليائي والهمَّ بالدّنيا؟" والمقصود: اهتمامهم بأيّ شيء سواه.. ما لهم؟ إذا هم أوليائي تولوني، ما لهم بالهمّ بأيّ شيء غيري؟ "إنّ الهمّ يُذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم"؛ إذا تعلّقوا بغيري ضعفت الحلاوة في قلوبهم وذهبت، فينبغي أن يكونوا معي، ولي، وبي، لا يهمّهم سواي.
"يا داود، إنّ محبَّتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمّون" بشيء من شؤون الدّنيا، والعالم الخلقي، بل همّهم أنا، ومرادهم أنا، ومقصودهم أنا. وقال بعض العارفين: كانت لي هموم مفرقة، فجعلت الهمّ همّاً واحدًا، فكفاني كلّ هم -جل جلاله-.
وقال النبي ﷺ -كما جاء في رواية الطبراني في المعجم الكبير-: قال الله تعالى: "أنا الله لا إله إلا أنا، فمن لم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي ولم يرض بقضائي، فليطلب رباً سواي". دوّر لك.. هل أحد سيدبّر أمرك، أو يأخذ بيدك غيري؟ رُح شوف مَن تحصّل!.. لا في الأرض ولا في السماء، من تحصّل غير الله -تبارك وتعالى-؟ -لا إله إلا الله-. وإن هرب عبده فأين يهرب؟ ما عنه يا ضعفاء العقول والقلوب مهرب، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، فارزقنا الصبر على بلائك، والشكر لنعمائك، والرضا بقضائك.
في دعائه ﷺ في الفجر: "أسألك الصّبر عند القضاء، والفوز عند اللّقاء، ومنازل الشّهداء، وعيش السّعداء، والنصر على الأعداء، ومرافقة الأنبياء"، يُعلّمنا الحرص على مرافقة الأنبياء والأولياء، وهم كلهم تحت لوائه ﷺ، الأنبياء الذّين يسأل مرافقتهم هم تحت لوائه، وهم مُتشرّفون بمرافقته، ومع ذلك هو هكذا يقول، فما أعجب عبوديّته، وعبديّته وعبودته لله الواحد الأحد.
فما من خلقه في السّماء والأرض متحقّق بالعبْديّه، والعبوديّة، والعبودة أحد كمثله، وإن كان (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا) [مريم:93]، ولكن أعظمهم تحقّقاً بالعبديّة والعبودية محمد خير البريّة. يا رب صلِّ عليه! "فإنما أنا عبدٌ، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد". يا رب صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، وارزقنا حسن متابعته.
ويقول: قال الله -تبارك وتعالى-: "خلقت الخير وخلقت له أهلاً، وخلقت الشر وخلقت له أهلاً، فطوبى لمن خلقته للخير ويسّرت الخير على يديه"، اللّهم اجعلنا منهم. "وويلٌ لمن خلقته للشر"؛ خلقه للأذى، خلقه للضر، خلقه للغيبة، خلقه للإنكار، خلقه للاعتراض على أولياء الله، خلقه لقطيعة الرحم، خلقه لإيذاء الجيران، خلقه لشرب الخمور، إنا لله وإنا إليه راجعون… خلقه للشر "ويسّرت الشر على يديه، وويلٌ ثم ويل لمن قال: لِم وكيف؟" لا "لمَ" ولا "كيف"؛ خالق وخَلْق، قاضي ومقضي، إله ومألوه، وانتهت المسألة، ما لأحد اعتراض..
على ذا مننت، وهذا خذلت *** وهذا أعنت وذا لم تُعِن
والأمر لك، لا لِمَ؟ ولا كيف؟ والويل لِمَن اعترض على قضاء الله وقدره، (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌۖ)[آل عمران:26] -جل جلاله-.
ربِّ إنَّ الهُدَى هُدَاك
وَآيَاتُكَ نُورٌ تهدي بِها مَن تَشَاءُ
وفي لفظٍ يقول: "إنَّ هذا الخير خزائن، لتلك الخزائن مفاتيح،… فطوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وَوَيلٌ لعبد جَعَلَهُ الله مِغلاقاً للخير مفتاحاً للشر"، "وَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ لِمَنْ قَالَ: لِمَ وَكَيْفَ؟".
لَو وَلِم وكَيف قَولُ ذِي الحَمَق *** …………………….
الذي ما عرف الألوهية ولا الربوبية، بيقدّم ويؤخر، ويتدارك على صُنْعِ المولى وتدبيره، ويحسب هو بيجيب أحسن؟! -أعوذ بالله- لو ولِم وكيف، لو كان كذا لكان كذا، لِم كذا؟ لماذا؟ لماذا؟ كيف؟ كيف هذا؟…
لَو وَلِم وكَيف قَولُ ذِي الحَمَق *** يَعتَرِض على الله الذي خَلَق
وقَضَى وقَدَّر كُل شَيء بِحَق *** يا قَلبِي تَنَبَّه واترُك المُجُون
لا يَكثُره هَمُّك ما قُدِّر يَكُون
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ)[الروم:4].
"وأوحى الله تعالى إلى النبي داوود -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام وعلى جميع الأنبياء والمرسلين-: "يا داوودُ؛ تُريدُ وأُريدُ، وإنَّما يكن ما أُريدُ؛ فإن سلَّمتَ لِمَا أُريدُ .. كفيتُكَ ما تُريدُ، وإن لم تُسلِّمْ لِمَا أُريدُ .. أتعبتُكَ فيما تُريدُ ، ثمَّ لا يكونُ إلَّا ما أَريدُ". لا إله إلا الله… "مَا شَاءَ الله كَانَ، ومَا لَم يَشَأ لَم يَكُن"، "واعلم أن الأمَّةَ لَو اجتَمَعوا على أن ينْفَعُوك بشيء لم ينفَعُوكَ إلا بشيءٍ قد كَتَبَهُ الله لك، ولو اجتَمَعُوا على أن يَضُرُّوك بشيء لم يَضُرُّوكَ إلا بشيء قد كَتَبَهُ الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجَفَّت الصُحُف".
قال: وبعضهم أنكروا الرّضا لكونهم لم يتذوقوا معناه، ولم يُدرِكوا حَقيقة معناه، ولم يتذوَّقوا منه شيء، وقالوا: الذي يخالف الطبع والهوى، كيف يرضى به؟! إذًا يكون صبر فقط صبر، ما يكون رضا!
قال: "وإنما أُتُوا من إنكار المحبة" كما أنكروا المحبة لله وكيف تكون؛ أنكروا الرضا، والرضا إلا نتيجة من نتائج المحبة وأثر من آثارها، فما دام أنكروا المحبة سينكرون الرضا بغير شك.
قال: "وعلامتها" تحقق علامتها "الرضا بالبلاء وما يخالف الطبع والهوى" قال: كيف؟ كيف شيء يخالف طبعي وهواي وأرضى به؟ قال: "من ثلاثة أوجه:"
الأول: "أن تُدهِشَهُ مُشَاهدةُ الحِبّ"، فَيَغلُب على قلبه إفراط المحبة، فيذهب عنه الإحساس بالألم، بل التوجّه بالكلية، والانشغال بالشيء الذي يستغرق الإنسان يمنعه الشعور بكثير من الآلام والأشياء المطروحة عليه، حتى أن المصارع والمتضارب في وقت مضاربته أو مصارعته أو مقاتلته لأحد، ربما جُرِح ولم يشعر بالجرح، فإذا توقف الضرب وهدأ يجد جُرح هنا وجُرح هنا… من أول أين أنت؟
حماسه وقوة انشغاله بالأمر ما عاد خلاه يَحِسّ بالألم، ويرجع بعد أن سكن وهدأ، يتألم بالألم، ومن أول الألم هذا موجود؛ لكن قوة شغله بالمغالبة والمقاتلة خلاه ما يَحِس بالألم.
كان بعضهم وهم يتقاتلون، تأتي رصاصة تَفُك بطنه يرفعها كذا ويطوي ثوبه عليها ويقاتل، إن سَلِم وبعدين رجع يتألم، ويعالجوه بعدين، لكن وقت القتال ما يَحِسّ به.
فكيف إذا كان انشغاله بالمحبة الخالصة للرّحمن -جل جلاله- فماذا سيُحِب؟ لهذا قال سَمعت قَولَ الجُنيد.
يقول: "مُشاهَد في حب المخلوقين، وفي غلبة الشهوة أو الغضب حتى أن الغضبان تصيبه الجراحة فلا يحس بها في الحال"، والحريص تصيبه شوكة في رجله ما يحس يمشي، ثم يهدأ بعدين ويسكن… ما هذه المشكلة في رجلي؟ المشكلة من زمان في رجلك، أنت ما حسيت بها من أول! لِذهاب شعوره كله نحو ما هو فيه من الجري ونحوه، ما حَسّ بهذا! لا إله إلا الله…
قال: "وإذا تُصوِّر أن يَنغَمِرَ ألمٌ يسيرٌ بحبٍ يسير.. تُصُوِّر أن يَنغَمِرَ ألمٌ كثير بحبٍ قويٍ بالغ؛ فإن كل واحد من الحب والألم يقبل الزيادة والشدة."
قال: "ومهما تُصُوِّر وجود هذا في عشقٍ يرجع إلى الميل إلى صورة مركبة من لحم ودم، مشحونة بالأقذار والخبائث، ولا تُدرَك إلا بعين ظاهرة يَغْلِبُ الغَلَط عليها، حتى أنها قد ترى الكبيَر صغيراً، -وترى- القريبَ بعيداً، والقبيحَ جميلاً" وإلى غير ذلك "فكيف لا يُتصوَّر" هذه الغَيْبَة وعدم الإحساس مع "إدراك جمال الحضرة الربوبية، والجلال الأزلي الأبدي، الذي لا يُتَصَوَّر" لا "انقطاعه و-لا- نقصانه"، ولا يدرَك بالبصر بل "بالبصيرة الباطنة التي هي أصدق وأوضح من البصر الظاهر؟!"
كيف لا غَيْبة؟ ولهذا قال الجنيد لخالِهِ السِّري السَّقطي: "هل يجد المحب ألم البلاء؟" قال له: لا، إذا هو محب صادق، أين سيحس بالألم؟ قال: ولو ضُرب بسيف؟ قال: "وإن ضُرِب بالسيف سبعين ضربة." من أين يحس بالألم إذا غلبته المحبة؟ إذا كان صادق فيها وغلبت عليه، من أين يحس؟
وهكذا.. يقول بعضهم: كنا نمشي مع الحبيب عبد القادر، وفي شيخوخته يطلع أحيانًا بعض الأدوار ما فيها مصعد، فيقولوا له: عسى ما تتعب حبيب؟ قال: المُحِب ما يتعب، المُحِب ما يتعب -لا إله إلا الله-.
هكذا..
يقول بعضهم: "أحبَبْتُ كُلَّ شيء لِحُبِّه" حتى قال: أُحِس من نفسي لو أن ربي أحَبَّ النار لأحببتُ دخولَ النار، لكن جعلها موطن غضبه وسخطه -جل جلاله-، ولو كانت محل محبته لأحببتها، حتى النار الحارقة. وقد يَغلُبُ هذا الشعور؛ وقال الشيخ بامخرمه:
رضينا بحكمه رضينا *** إلى جنةٍ أو نار تلهب
إذا كان مولاي راضي *** فمن راد يغضب فيغضب
إذا الله راضي علينا *** سواء عندي المدح والسَّب
إن حد بيسب وإن حد بيمدح كله سواء.. هو راضي؟.. هل هو راضي؟ إذا هو راضي عني ماذا أريد من خلق الله!.. من يمدح يمدح ومن يسب يسب، ومن يُقبِل ومَن يُعرِض، هو راضي عني؟… قال سيدهم: "إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي". لا إله إلا الله…
وقالوا:
دَع الْحِبَّ يَصْلَىٰ بِٱلْأَذَىٰ مِنْ حَبِيبِهِ *** فَكُلُّ أَذىً مِمَّنْ يُحِبُّ سُرُورُ
غُبَارُ قَطِيعِ الشَّاءِ فِي عَيْنٍ ذِئْبِهَا *** إِذَا مَا قَفَا آثَارَهُنَّ ذَرُورُ
لا إله إلا الله…
حين يتبع الذئب الغنم لكي يتَوَصَّل إليها، والغبار حقها يجيء إلى عينه وما يبالي به، كأنه إلا ذَرُور أحد يكحله به، والذَّرُور: أَثَر الدواء يُطرَح على الجرح، الغبار الذي في عينه هذا يحسُّه إلا مثل الذَّرُور ماهو مشكلة الغبار؛ لأنه طامع بيأكل يريد غنمة بيأخذها، الغبار الذي يتغلبه في عينه يراه مثل الذَّرُور؛ لِشِدة رغبته في اقتناصها، ماعاد يحس بالغبار ولا يقول هذا مشكلة الغبار، سأتوقف… يروح.
غُبَارُ قَطِيعِ الشَّاءِ فِي عَيْنٍ ذِئْبِهَا *** إِذَا مَا قَفَا آثَارَهُنَّ ذَرُورُ
إِذَا مَا قَفَا آثَارَهُنَّ؛ هو يمشي قفاهن، ذَرُورُ؛ هذا ما هو غبار ما يحس به، ولا يحس بألمه ولا بتعبه، لأنه له رغبة في اصطيادهن، وأكل لحمهن، قال: ما عاد بالى بالغبار، الغبار سهل.
ولهذا قال سيدنا أبو بكر الصديق: وما عليَّ أن أُغَبِّر قَدَمِي في سبيل الله، وقد سمعت رسول الله يقول: "لا يَجتَمِعُ غُبَارٌ في سبيلِ اللهِ ودُخانُ جَهَنَّم"، لمّا خَرَج وقد كان حافيًا يودِّعُهُ أسامة بن زيد لخروجه للجهاد، وكان قد عقد الراية زين الوجود ﷺ، ثم استأذنه لأنه كان من جملة الجيش سيدنا أبو بكر، وسيدنا عمر، ومجموعة من كبار الصحابة، والأمير أسامة بن زيد -وهو نحو العشرين من السِّن-، فبعدما بُويِعَ سيدنا أبو بكر بالخلافة، استأذنه وقال: الآن ائذن لي أنا مشغول بالخلافة، لن أستطيع الخروج معك في هذه المعركة، قال: يا خليفة رسول الله، الأمر لك بعد رسول الله، وقال: وائذن معي لِعُمَر، يبقى معي فإني محتاج إليه لترتيب أمر الخلافة اليوم، قال: الأمر لك يا خليفة رسول الله، قال: لا، لابد من إذنك، فإن رسول الله توفي وأنت أمير لنا، فقال: يجلس معك عمر، وتجلس، وخرج يُوَدِّعُه، وكان يمشي، قال: يا خليفة رسول الله، اركب أو أنزل أنا، قال: لا تنزل أنت ولا أركب أنا، وما عليَّ أن أُغَبِّر قدمي في سبيل الله؛ خلوا القدم هذا يَتَغَبَّر في سبيل الله، فقد سمعت رسول الله يقول: "لا يَجتَمِعُ غُبَارٌ في سبيلِ اللهِ ودُخانُ جَهَنَّم" -عليه الرضوان-.
قال: وكان سيدنا عمر حتى أيام خلافته إذا لقي أسامة بن زيد قال: السلام عليك يا أميري، قال: أنت أمير المؤمنين يا عمر ليس أنا! قال: لكن رسول الله توفي واللواء معقود بإمارتك، أمَّرَك علينا قبل وفاته في الغزوة -عليهم رضوان الله تعالى- .
وكان سيدنا عمر إذا لقي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين، السلام عليك يا ابن ذي الجناحين، أبوك صاحب الجناحين يطير بهما في الجنة، أخْبَر رسول الله، السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.
انظر مشاعر عمر أين تجيش به؟ وأين تذهب به؟ لما يلقى هؤلاء أيش يتذكر؟ فهذه مشاعره وأحاسيسه -عليه رضوان الله تعالى- في أيام خلافته.. السلام عليك يا ابن ذي الجناحين -عليهم رضوان الله-.
وقالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ" خلاص "ما بقيَ لي فرحٌ" في الدنيا هذه، "إلَّا في مواقعِ قَدَرِ اللهِ تعالىٰ" فقط، الذي يقدره ويقضيه هذا موضع سروري وفرحي، ما عاد لي سرور في الدنيا ثاني. يعني امتلأ حبًا للرّحمن فلم يبق فيه بقية لغيره؛ فقال: ما عاد بقي لي سرور بشيء من كل ما في الدنيا، إلا موقع قدر الله، ورضيت به -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- وهو القائل لما سألوه بعضهم: يا أمير المؤمنين، كنت قبل الخلافة وأيام شبابك يؤتى إليك بالحُلَّة الفاخرة اللينة بأربعمائة درهم فتلمسها وتقول: ما أحسنها لولا خشونة فيها، خشنة شوي، لو يوجد ألين منها؟ فَصِرتَ الآن بعد الخلافة يؤتى لك بِحُلَّة خشنة ما تساوي أربعة دراهم، فتلمسها وتقول: ما أحسنها لولا ليونه فيها، هذه ليّنة،ألا يوجد أخشن منها؟ ما هذا؟ كيف تحول ذوقك؟ قال: إن لي نفسًا توَّاقة ذوَّاقة، كلما ذاقت شيئاً تاقت إلى ما فوقه، حتى ذاقت من هذه الدنيا الخلافة، فتَاقَتْ إلى ما فوق ذلك! تاقت إلى ما فوق ذلك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
قال: "ضاع لبعض الصوفية ولد صغير ثلاثة أيام"، قيل له: اسأل الله يَرُدُّه عليك قال: "اعتراضي عليه فيما قضى أشد عليّ من ذهاب ولدي" تريدنا أعترض على ربي؟ أحسن لي أن يذهب حتى أولادي كلهم ولا أعترض على قضاء ربي، فالأمر له. فرجع له ولده بعد ذلك، ولكن اختُبِر فوُجِدَ خالصًا صافيًا. الله أكبر!
"الوجهُ الثَّاني مِنَ الرِّضا: أن يُحِسَّ بالألمِ، ويَكرَهَهُ بالطَّبعِ، ولكنْ يرضىٰ بهِ بعقلِهِ وإيمانِهِ؛ لمعرفتِهِ بجزالةِ الثَّوابِ على البلاءِ، كما يرضى المريضُ بألمِ الفصدِ وشربِ الدَّواءِ؛ لعلمِهِ بأنَّهُ سببُ الشِّفاءِ، حتَّىٰ إنَّهُ ليَفرَحُ بمَنْ يُهدي إليهِ الدَّواءَ وإن كانَ بَشِعًا، وكذلكَ يرضى التَّاجرُ بمَشقَّةِ السَّفرِ وهوَ خلافُ طبعِهِ، وهٰذا أيضًا يُشاهَدُ مثلُهُ في الأعراضِ الدُّنيويَّةِ، فكيفَ يُنكَرُ في السَّعادةِ الأخرويَّةِ؟!
ورُوِيَ: أنَّ امرأةَ فتحِ المَوْصليِّ عَثَرَتْ، فانقطعَ ظُفُرُها فضَحِكَتْ، فقيلَ لها: أمَا تجدينَ ألمَ الوَجَعِ؟ فقالَتْ: "إنَّ لذَّةَ ثوابِهِ أزالَتْ عن قلبي مَرارةَ وجعِهِ".
فإذاً؛ مَنْ أيقنَ أنَّ ثوابَ البلاءِ أعظمُ ممَّا يقاسيهِ.. لم يَبْعُد أن يرضىٰ بهِ.
الوجهُ الثَّالثُ: أن يعتقدَ أنَّ للهِ تعالىٰ تحتَ كلِّ أُعجوبةٍ لطيفةً، بل لطائفَ؛ وذلكَ يُخرِجُ عن قلبِهِ الاعتراضَ بـ "لمَ؟" و "كيف؟" حتَّىٰ لا يَتعجَّبَ ممَّا يجري على العالَمِ ممَّا يظنُّهُ الجاهلُ تشويشًا واضطرابًا وميلاً عنِ الاستقامةِ، ويَعلمَ أنَّ تعجُّبَه كتعجُّبٍ موسىٰ مِنَ الخَضِرِ -عليهِما السَّلامُ- لمَّا خرقَ سفينةَ الأيتامِ، وقتلَ الغلامَ، وأعادَ بناءَ الجِدارِ، كما في "سورةِ الكهفِ"، فلمَّا كشفَ الخَضِرُ عنِ السِّرِّ الذي أُطلِعَ عليهِ .. سقطَ تعجُّبُهُ، وكانَ تعجُّبُهُ بناءً علىٰ ما أُخفِيَ عنه مِنْ تلكَ الأسرارِ، وكذلكَ أفعالُ اللهِ تعالىٰ.
مثالُهُ: ما حُكِيَ عن رجلٍ مِنَ الرَّاضينَ: أنَّهُ كانَ يقولُ في كلِّ ما يصيبُهُ: "الخِيرةُ فيما قَدَّرَهُ اللهُ تعالى"، وكانَ في باديةٍ ومعَهُ أهلُهُ، وليسَ لهُ إلَّا حمارٌ يَحمِلُ عليهِ خِباءَه، وكلبٌ يَحرُسُهُمْ، وديكٌ يُوقِظُهُمْ.
فجاءَ ثعلبٌ وأخذَ الدِّيكَ، فحزنَ أهلُهُ، فقالَ: "خِيرةٌ".
وجاءَ ذئبٌ، فقتلَ الحمارَ، فحزنَ أهلُهُ، فقالَ :"خِيرةٌ".
ثمَّ أُصيبَ الكلبُ فماتَ، فقالَ: "خِيرةٌ".
فتَعجَّبَ أهلُهُ مِنْ ذلكَ .
حتَّىٰ أصبحوا وقد سُبِيَ مَنْ حولَهُم، واستُرِقَّ أولادُهُمْ، وكانَ قد عُرِفَ مكانُهُم بصوتِ الدِّيكِ، ومكانُ بعضِهِم بنُباحِ الكلبِ، ومكانُ بعضِهِم بنهيقِ الحمارِ، فقالَ: "قد رأيتُم أَنَّ الخِيرَة فيما قَدَّرَهُ اللهُ سبحانَهُ، فلو لم يُهلِكْهُمُ اللهُ عزَّ وجلَّ .. لهلكتُم وهلكنا".
ورُوِيَ: أنَّ نبيّاً كانَ يَتعبَّدُ في جبلٍ، وكانَ بالقربِ منهُ عينٌ، فاجتازَ بها فارسٌ وشربَ، ونسيَ عندَها صُرَّةً فيها ألفُ دينارٍ، وجاءَ آخَرُ فأخذَ الصُّرَّةَ، ثمَّ جاءَ رجلٌ فقيرٌ، على ظهرِهِ حِزْمَةُ حطبٍ، فشَرِبَ واستلقىٰ ليستريحَ، فرَجَعَ الفارسُ في طلبِ الصُّرَّةِ فلم يرها، فأخذَ الفقيرَ، فطالبَهُ وعذَّبَهُ، فلم يَجِدْها عندَهُ فقتلَهُ.
فقالَ ذلكَ النَّبيُّ: "إلـٰهي؛ ما هذا أخذَ الصُّرَّةَ، إنَّما أخذَها ظالمٌ آخَرُ، وسلطتَ هذا الظَّالمَ على هذا الفقيرِ حتَّىٰ قتلَهُ، فأوحى اللهُ تعالىٰ إليهِ: اشتغِلْ بعبادتِكَ؛ فليسَ معرفةُ أسرارِ المُلْكِ مِنْ شأْنِكَ، إنَّ هٰذا الفقيرَ كانَ قد قتلَ أبا الفارسِ، فمكِّنتُهُ مِنَ القصاصِ، وإنَّ أبا الفارسِ كانَ قد أخذَ ألفَ دينارٍ مِنْ مالِ آخذِ الصُّرَّةِ، فرددتُها إليهِ مِنْ تركتِهِ".
فمَنْ أيقنَ بأمثالِ هٰذهِ الأسرارِ.. لم يَتعجَّبْ مِنْ أفعالِ اللهِ تعالىٰ، وتَعجَّبَ مِنْ جهلِ نفسِهِ، ولم يقلْ: "لمَ؟" و "كيفَ؟"، فرَضيَ بما دَبَّرَهُ اللهُ في ملكوتِهِ .
وها هنا وجهٌ رابعٌ يَنشعِبُ عن محضِ المعرفةِ بكمالِ الجُودِ والحكمةِ، وبكيفيَّةِ ترتيبِ الأسبابِ المُتوجِّهةِ إلى المُسبَّباتِ، ومعرفةِ القضاءِ الأوّلِ الذي هوَ كلمحِ البصرِ، ومعرفةِ القَدَرِ الذي هوَ سببُ ظهورِ تفاصيلِ القضاءِ، وأنَّها رُتِّبَتْ على أكملِ الوجوهِ وأحسنِها، وليسَ في الإمكانِ أحسنُ منها وأكملُ، ولو كانَ وادُّخِرَ .. لَكانَ بخلاً لا جُوداً، أو عجزاً يُناقِضُ القدرةَ، وينطوي تحتَ ذلكَ معرفةُ سِرِّ القَدَرِ.
ومَنْ أيقنَ بذلكَ.. لم ينطوِ ضميرُهُ إلَّا على الرِّضا بكلّ ما يجري مِنَ اللهِ تعالىٰ، وشرحُ ذلكَ يطولُ، ولا رخصةَ فيهِ أيضًا، فلنتجاوزْهُ."
لا إله إلا الله.. يا الله رضا، يا الله رضا.
ذكر أن الوجه الأول في رضا الإنسان عمّا لا يلائم طبعه ولا يتناسب مع مراده، أن غَلَبَةُ المحبة عليه، بل غَلَبَةُ الغضب يُنسيه، ما عاد يدري بما حواليه، وتجده إذا أغضبه شيء واشتدّ عليه الغضب، يدخل الداخل ويخرج ولا يحس، يُؤخَذ ما عنده من الأدوات ولا يحس، يدقدق الجدار ولا يحس ولا يبالي، وبعدين إذا بدأ يسكن الغضب، يقول: أحس وجع هنا، قَد فعلت بنفسك يا مأخوذ بالغضب؛ شدة الغضب ما عاد خلته يدري بشيء.
وكذلك شدة المحبة، تجعله ما عاد يدري بشيء، كما قطعن أيديهن صواحب يوسف، ما عاد درين بأصابعهن ولا بالدم الذي يخرج منهن، وقلن: (مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)[يوسف:31].
قال: هذا وجه، وإذا كان هذا يمكن في الحسّيات والشؤون والصور الماديات، فكيف بسلطان محبة الرّحمن على الجنان؟
الوجه الثاني: يحس بالألم ويكرهه بحكم الطبع، لكنه يرضى به بمقتضى العقل والإيمان، لأنه يعرف جزالة الثواب لمن صبر. فيصبر، الألم يحس به، ولكن يكاد ما يؤثر فيه لكونه راضٍ، راضٍ من وجه العقل ومن وجه اكتساب الثواب.
مثل مريض يُفصَد ويُحجَم، أليس فيه ألم؟ فيه ألم، لكنه راضٍ بهذا الألم لأنه داري بيترتب عليه صحة جسده، فهو يرضى، يرضى بطبعه أم بعقله؟ طبعه يتألم، لكن عقله هو من يرضى بالفصد وبالحجامة. مثل من تُجرى له عملية جراحية، يوقع أنه راضٍ، بيشقّونه؟! يشقونه وهو راضٍ، لأنه يدري أن في ذلك مصلحته. فهو للرغبة في العافية والمصلحة، شقوا بطني أو شقوا فمّي أو شقوا… سووا لي العملية، راضي أم لست راضي وقع! راضي من قبل ما تجي العملية. هذا رضا؟ حتى يقطعوا رجله، يقطعوا أصبعه، يقطعوا يده لأنها ستسري البلية إلى باقي جسده، يقول: اقطعوها.. نقطعها راضي؟ وقّع فيُوقع. فهذا من أجل ترقّب الفائدة، يرضى بشيء تكرهه النفس ويكرهه الطبع.
وهكذا "يرضى التَّاجرُ بمَشقَّةِ السَّفرِ" ومكابدتها، "وهوَ خلافُ طبعِهِ" لماذا؟ بيجيب ربح ويحصل الفائدة، يتعب، يفارق أهله ويفارق أولاده، وما يقول شيء، لأنه راغب في تحصيل أرباح وما إلى ذلك.
امرأةَ فتحِ المَوْصليِّ عَثَرَتْ، فانقطعَ ظُفُرُها فضَحِكَتْ، فقيلَ لها: أمَا تجدينَ ألمَ الوَجَعِ؟" ما تحسين وجعك؟ تضحكين؟ هذا وقت وجع! قالت: "إنَّ لذَّةَ ثوابِهِ أزالَتْ عن قلبي مَرارةَ وجعِهِ"، ما استشعرته من ثواب الله لي في هذا خلاني ما عدت أحس بالوجع.
قال بعضهم لسيدنا بلال -عليه رضوان الله- أيام كان يضربه هذا أمية بن خلف، ويحطه في الحجارة، ببطحاء مكة المحرقة وقت شدة الصيف، حتى أنه يحترق جلده والسياط فوقه وهو ينادي: "أحدٌ أحد، أحدٌ أحد". وبعدها قالوا له: تتغنى وتترنم وأنت تحت التعذيب ما كنت تحس بألم العذاب؟! قال: خلطته بحلاوة الإيمان، فزادت حلاوة الإيمان على ألم التعذيب.. الله أكبر! -عليه رحمة الله ورضوانه-.
وهكذا، قال: كيف إذا كان يُنكَر في طلب السعادة الأخروية عن ألا يحس به، وأن يرضى عقله بما لا يوافق طبعه، وهو يحس بهذا في طالبي الأعراض الدنيوية؟ أما إذا "أيقنَ أنَّ ثوابَ البلاءِ أعظمُ ممَّا يقاسيهِ.. لم يَبْعُد أن يرضىٰ بهِ."عقلاً وإيماناً. هذا وجه.
وجه ثالث: "أن يعتقدَ أنَّ للهِ تعالىٰ تحتَ كلِّ أُعجوبةٍ لطيفةً، بل لطائفَ" وأسرار وحِكَم، آمن أن فيها خير له من حيث لا يشعر. (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216]. وانظر كيف لما خفيت الحكمة على سيدنا موسى مع الحوادث التي مع الخضر أنكر عليه، فلما بيّن له السبب بطل الإنكار.
وهكذا "ما حُكِيَ عن رجلٍ مِنَ الرَّاضينَ" عن الله، "كانَ يقولُ في كلِّ ما يصيبُهُ: الخِيرةُ فيما قَدَّرَهُ اللهُ تعالى"، وهو كان عايش في بادية، هو وأسرته وأولاده قاعدين في بادية، وفيها حِلَل، البادية فيها جماعة من الكل، معه ديك يوقظهم في الليل ينتبهون، الساعة حقهم ينبههم في الليل الديك، ومعهم حمار يحمل خباءه عليه، وكلب يحرسهم، جاء ثعلب وأكل الديك عليهم، حزن أهله، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله! خيرة، فيه خيرة لكم. جاء ذئب وقتل الحمار، حزن أهله، قال: خيرة خيرة.. كيف خيرة؟ قال: الحمد لله فيه خيرة، سكتوا.. وأصيب الكلب ومات، لا حمار ولا ديك ولا كلب الأشياء التي معهم كانوا يتعيشون بها، حزن أهله، قال: خيرة! ذا الحين كيف هذا كل شيء خيرة عندك؟!!.. وإذا في الليل اجتاح البادية هذه جموع من الأعداء والقبائل، كيف يعرفون أماكنهم؟ إذا نبح كلب جاؤوهم للحلّة، أو صرخ ديك جاؤوهم للحلّة، أو نهق حمار جاؤوا للحلة، فأخذوهم وما أبقوا أحد هم وأولادهم وسبوهم، وهؤلاء أصبحوا ما بهم شيء.
جاءهم خبر ثاني يوم أن الحِلَل حواليهم كلها قد أُخذت وسُبي أولادهم ونساؤهم. قال: ما قلت لكم خيرة! لو كان عندنا كلب ينبح، أو حمار ينهق، أو ديك يصرخ، كان دخلوا علينا كما هؤلاء، وما عدنا اليوم في مكاننا، كان قتلوا كبارنا وسبوا أولادنا، ولكن شوفوا لله خيرة. وهكذا..
الذي كان من أهل الرضا يقول كل ما أصابه شيء: فيه صالح، ، حتى كان وزير عند بعض الملوك، فكلما أصاب الملك شيء يقول له: فيه خير، فيه صالح.. حتى أُصيب يومًا إصبع الملك أو عينه، وقال: فيه خير. قال: تقول فيه خير وصالح؟!! ايش من خير في إصابة عيني وإصبعي؟ احبسوه.. فأمر بحبسه، فحُبس. وخرج الملك يصطاد مع جماعة من أصحابه، ووقعوا في كمين لقوم من المتوحشين يأكلون بني آدم، وأمسكوه ومن معه، أخذوهم وكانوا يخرقون رأس الواحد يسكبون الدم يشربونه ثم يأكلونه، ولكن عندهم طبيب يعرضون عليه الواحد قبل ذلك. قال: هذا فيه عيب بعينه، هذا فيه عيب، دمه فيه شيء، رُح، وتركوه وقتلوا الثانيين الذين معه، ورجع الملك إلى المدينة حقه، وإلى المُلْك، قال: صدق فيه خير، فيه صالح..
خرّجوا الرجل من الحبس، جاءوا به، قال: صدقت، فيه خير، وقعت في هذه المصيبة، لولا هذا الذي نازلني لكانوا قتلوني، ولكن أنت أي خير لك في الحبس؟ كل شيء، لما حبسناك قلت: فيه خير! قال: نعم، فيه خير، لو ما كنت في الحبس لكنت معك، وقتلونا! لو ما أنا محبوس لكنت معك وقتلونا مع الذين قتلوهم،. فالله تعالى خلاني هنا حتى أبقى في الحياة.
فلله حكمة في كل ما يجري في الوجود. حتى كان يقول سيدنا علي: لو كُشف الغطاء ما اخترتم إلا الواقع! يعني ما أحد بيقدر يسيّر الكون أحسن من الله، ولا أعرَف بالمصالح والحِكم منه -سبحانه وتعالى-. لا عقل أهل السماء ولا عقل أهل الأرض يكون أحسن من تدبير العليم الحكيم، من أحاط بكل شيء علمًا جلّ جلاله.
وقال: رُوي أن "نبيًا" من أنبياء السابقين "كان يتعبد في جبل، وكان بالقرب منه عين" ماء، "فاجتاز بها فارس وشرب، ونسي عندها صرة فيها ألف دينار"، راح وتركها. "وجاء" واحد "آخر" حصل الصرة أخذها، سرقها وروّح. "ثم جاء رجل فقير، على ظهره حزمة حطب، فشرب واستلقى ليستريح، فرجع الفارس" الذي نسي الصرة حقه يطلب الصرة، لم يراها. قال: أين الصرة التي كانت هنا؟ قال: ما رأيت صرة، ما رأيت صرة؟! من جاء بعدي إلى هذا المكان إلا أنت.. هات الصرة! قال: ما عندي صرة، قال: أحسن لك خرّج الصرة، قال: ما عندي، ما رأيت صرة! ضربه وقتله -لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- "وعذبه" لمّا ما حصّل الصرة قال: أكيد دفنتها "وقتله".
"فقال ذلك النبي: إلهي"، ما هذا؟ "ما هذا أخذ الصرة، إنما أخذها ظالم آخر، وسلطت هذا الظالم على هذا الفقير" المسكين "حتى قتله". "فأوحى الله إليه: اشتغل بعبادتك، فليس معرفةُ أسرار الملك من شأنك. إن هذا الفقير كان قد قتل أبا الفارس" غيلة خفية، ما أحد داري به، اغتيل أبا الفارس هذا، وما دُري من قتله، وهو هذا الذي قتله. "إن هذا الفقير كان قد قتل أبا الفارس، فمكّنته من القصاص"، قتله، ولدُه الآن يقتص لأبيه. "وإن أبا الفارس" ذاك المقتول أبوه "كان قد أخذ ألف دينار من مال آخذ الصرة" هذا، في رواية من مال أبيه، كان سرق عليه ألف دينار، سرق على والد هذا الفارس، سرق على هذا. فخليت اليوم الولد المسروق يأخذ حق أبوه، فرددت الألف لصاحبها، ومكنت ولي المقتول من القصاص، حكمة أم ما هي حكمة؟ كل شيء فيه حكمة، لا إله إلا هو، جل جلاله.
قال: "فمن أيقن بأمثال هذه الأسرار لم يتعجب من أفعال الله تعالى، وتعجب من جهل نفسه، ولم يقل: "لِم" و "كيف"، فرضي بما دبره الله".
قال: "وها هنا وجه رابع" للرضا "ينشعب عن محض المعرفة بكمال الجود والحكمة، وبكيفية ترتيب الأسباب المتوجهة إلى المسببات، ومعرفة القضاء الأول الذي هو كلمح البصر، ومعرفة القدر الذي هو سبب ظهور تفاصيل القضاء، وأنها رُتبت على أكمل الوجوه وأحسنها، وليس في الإمكان أحسن منها وأكمل، ولو كان وادُّخِر لكان بخلاً لا جوداً، أو عجزاً يناقض القدرة. وينطوي تحت ذلك معرفة سر القدر"، ولا يجوز إفشاؤه؛ فإفشاء سر القدر كفر. قال: "ومن أيقن بذلك لم ينطوِ ضميره إلا على الرضا بكل ما جرى". "وشرح ذلك يطول". بيّن الله ذلك في القرآن.
تكلم منافقون على عرض المصطفى في أم المؤمنين سيدتنا عائشة، شُف هذه المصيبة، ونالوا من النبي، ولاكوا ألسنتهم، ويقول: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) [النور:11]. خير، حتى في هذا؟ حكمة.. ومثله ﷺ أعرف بحِكم الله وأسراره، فلهذا لم ينزعج حتى برّأها الله تعالى بالقرآن الكريم.
ومن صرّح منهم أمر بإقامة حد القذف عليه، وإذا بالتصريح مع بسطاء الذين يتكلمون بلا رزانة ويصدقون الكلام… والذين روّجوا ما كانوا يظهرون التصريح بالكلام، ما ضرَب أحد منهم، منافقين، وهؤلاء مؤمنون، لكنهم مؤمنين مغفلين، أخذوا كلام المنافقين وصرّحوا، فلما صرّحوا بذلك أُقيم الضرب عليهم، مسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، أمر النبي بضربهم، فضُربوا. فالشاهد قال: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) [النور:11]. لا إله إلا الله، حِكم عظيمة (بَلْ هُوَ خَيْرٌ) سبحان الله!
فأهل هذه المعرفة الخاصة، يستمتعون بمجريات الأقضية والأقدار، خيرها وشرها. كما سمعت قول عمر بن عبدالعزيز: أصبحت ما عاد لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر؛ فقط ما قدّره وما قضاه، أنا مسرور به. لا إله إلا هو.
فصل
[في الرِّضا بالقضاءِ، والحبِّ والبغضِ في اللهِ تعالىٰ]
لعلَّكَ تقولُ: كيفَ أجمعُ بينَ الرِّضا بقضاءِ اللهِ تعالىٰ، وبينَ بغضِ أهلِ الكفرِ والعصيانِ، وقد تُعُبِّدتُ بهِ شرعاً، وذلكَ مرادُ اللهِ تعالىٰ فيهم؟
فاعلمْ: أنَّ طائفةً مِنَ الضُّعفاءِ ظنُّوا أنَّ تركَ الأمرِ بالمعروفِ مِنْ جملةِ الرِّضا بالقضاءِ، وسمَّوهُ حُسْنَ الخُلُقِ، وهوَ جهلٌ محضٌ، بل عليكَ أن ترضىٰ وأن تكرهَ جميعًا، والرِّضا والكراهيَّةُ يَتضادَّانِ إذا تواردا علىٰ شيءٍ واحدٍ مِنْ وجهٍ واحدٍ، ولا يتناقضُ أن يُقتَلَ عدوُّكَ الذي هوَ عدوُّ عدوِّكَ أيضاً، فترضاهُ مِنْ حيثُ إنَّهُ هوَ عدوُّكَ، وتكرهُهُ مِنْ حيثُ إنَّهُ عدوُّ عدوِّكَ، فكذلكَ للمعصيةِ وجهانٍ:
- وجهٌ إلى اللهِ تعالىٰ مِنْ حيثُ إنَّها بقضائِهِ ومشيئتِهِ؛ فهوَ مِنْ هذا الوجهِ مرضيٌّ بهِ .
- ووجهٌ إلى العاصي مِنْ حيثُ إنَّهُ صفتُهُ وكسبُهُ، وعلامة كونِهِ ممقوتاً مِنَ اللهِ تعالىٰ؛ فهوَ مِنْ هذا الوجهِ مكروهٌ.
وقد تَعبَّدَكَ اللهُ تعالىٰ ببُغْضِ مَنْ يُبغِضُهُ مِنَ المخالفينَ لأمرِه، فعليكَ الرِّضا بما تعبَّدَكَ بهِ، والامتثالَ لهُ.
ولو قالَ لكَ محبوبُكَ: إنِّي أريدُ أن أمتحنَ حبَّكَ؛ بأن أضربَ عبدي وأُرهقَهُ إلى أن يَشتِمَني، فمَنْ أبغضَهُ.. فهوَ محبِّي، ومَنْ أحبَّهُ.. فهوَ عدوِي.
فيمكنُكَ أن تُبغِضَ عبدَهُ إذا شتمَهُ، معَ أنَّكَ تَعلَمُ أنَّهُ الذي اضطرَّهُ إلى الشَّتمِ، وكانَ ذلكَ مرادَهُ منهُ؛ فتقولُ: أمَّا فعلُهُ في الشَّتمِ.. فإنّي أرضىٰ بهِ مِنْ حيثُ إِنَّهُ تدبيرُكَ في عبدِكَ، ومرادُكَ لمَّنْ أردتَ إبعادَهُ، وأمَّا شتمُهُ مِنْ حيثُ هوَ صفتُهُ وعلامةُ عداوتِهِ.. فإنِّي أُبغِضُهُ؛ لأنِّي أُحبُّكَ، فأُبغِضُ -لا محالةَ- مَنْ عليهِ علامةُ عداوتِكَ.
وهذهِ دقيقةٌ زلَّ فيها الضُّعفاءُ، فلذلكَ يتهافتونَ فيها.
فصل
[في أنّ الرِّضا بقضاءِ اللهِ لا ينافيهِ اتخاذُ الأسبابِ]
كذلكَ ينبغي ألَّا تظنَّ أنَّ معنى الرّضا بالقضاءِ تركُ الدُّعاءِ، ولا تركُ السَّهمِ الذي أُرسِلَ إليكَ حتَّىٰ يصيبَكَ، معَ قدرتِكَ على دفعِهِ بالتُّرسِ، بل تَعبَّدَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بالدُّعاءِ؛ ليَستخرِجَ بهِ مِنْ قلبِكَ صفاءَ الذِّكرِ، وخشوعَ القلبِ ورِقَّتَهُ؛ لتَستعِدَّ بهِ لقَبُولِ الألطافِ والأنوارِ.
فمِنْ جملةِ الرِّضا بقضائِهِ: أن يُتوصَّلَ إلى محبوباتِهِ بمباشرةِ ما جعلَهُ سبباً لهُ، بل تركُ الأسبابِ مخالفةٌ لمحبوبِهِ، ومناقضةٌ لرضاهُ.
فليسَ مِنَ الرِّضا للعطشانِ ألّا يَمُدَّ اليدَ إلى الماءِ الباردِ، زاعماً أنَّه رضيَ بالعطشِ الذي هوَ مِنْ قضاء اللهِ تعالىٰ، بل مِنْ قضاءِ اللهِ تعالىٰ ومحبَّتِهِ أن يُزالَ العطشُ بالماءِ.
فليسَ في الرِّضا بالقضاءِ ما يُوجِبُ الخروجَ عن حدودِ الشَّرع، ورعايةِ سُنَّةِ اللهِ تعالى أصلاً، بل معناهُ: تركُ الاعتراضِ على اللهِ -عزَّ وجلَّ- إظهارًا وإضمارًا، معَ بذلِ الجهدِ في التَّوصُّلِ إلى مَحابِّ اللهِ تعالىٰ مِنْ عبادِهِ؛ وذلكَ بحفظِ الأوامرِ ، وتركِ النَّواهي.
هكذا يتحدث -عليه رحمة الله تعالى-. يقول: "كيف أجمع بين الرضا بقضاء الله تعالى، وبين بغض أهل الكفر والعصيان، وقد تُعبِّدت به شرعاً" أن أحب في حبك الناس وأعادي في عداوتك من خالفك؟ قال بعض الضعفاء في المدارك والعقول والفهم ظنوا أنّ ما يُتصوّر في الأمر الواحد رضا وبغض! قال نعم لو أنه لو كان أمر واحد من وجه واحد، ما يتأتى فيه الرضا عنه والبغض له، ولكن إذا كان له وجهين، نعم، من هذا الوجه يرضى، ومن هذا الوجه يغضب.
قال لهم مثال: واحد عنده عدو يؤذيه، جاء واحد ثانٍ يعاديهم اثنينهم؛ يعاديه ويعادي عدوه، ذلك بمعاداته لعدوه الثاني يشغله عنه، يبعده منه، يستريح منه لكن ذاك يشغله. قُتل العدو هذا، يفرح أم يحزن؟
فهو في الوقت نفسه يرضى من وجه ويغضب من وجه آخر.
وهكذا قال: كذلك الأعمال والمعصية لها وجهان:
فمن حيث أنها اكتساب هذا المكلف واختياره، تغضب ولا ترضى بها، ومن حيث أنه قضاها فله الأمر. قال لهم مثاله: واحد قال لك: شوف اسمع عندي هذا مملوك حقي، سأُسلِّط عليه من تعذيبي وإيذائي ما يجعله يشتمني، وعندما يشتمني، من أبغضه أحبني، ومن رضي به فقد أبغضني! وقام عذّبه، وقام يشتم...
فالآن واجب عليك كيف تشتمه، أم تحبه؟! تقول: من حيث تدبيرك أنت وضربك له، أنا راضٍ، أحبه لأني أحبك، لكن من حيث تجرؤه عليك ونطقه بسبّك، أبغضه وأكرهه، وفي نفس الوقت أنت راضي وأنت غضبان.
فكذا يقول: من حيث قضاؤك أنت على عبادك بكفر أو بمعصية، وتدبيرك، نحن راضون بك وبقضائك، لكن من حيث تجرؤهم هم ومعصيتهم وكفرهم، غاضبون على ذلك وغير راضين بذلك. وهكذا..
فإذاً، يمكن من وجه تحبه، ومن وجه آخر تبغضه، وهكذا.
"وقد تعبّدك الله ببغض من يبغضه من المخالفين لأمره، فعليك الرضا بما تعبدك به"؛ من قضائه، "والامتثال له" في بُغض من خالفه من عباده. وهكذا قال: "وهذه دقيقة زلّ فيها الضعفاء، فلذلك يتهافتون فيها".
بعد ذلك قال: "لا تظن أن معنى الرضا بالقضاء والقدر ترك الدعاء، ولا ترك" الأسباب، بحسب سنة الله -تبارك وتعالى- أبدًا! قال: "بل تعبدك الله بالدعاء؛ ليستخرج به من قلبك صفاء الذكر، وخشوع القلب"، وتعبّدك بإقامة الأسباب للوصول إلى ما قدّره -سبحانه وتعالى-.
"فمن جملة الرضا بقضائه: أن يتوصل إلى محبوباته بمباشرة ما جعله سبباً له". فليس في أخذ السبب بذلك خروج عن الرضا، "بل ترك الأسباب" مع توفّرها "مخالفة" لأمر الله؛ مخالفة مناقِضة لمحبته -سبحانه وتعالى- ورضاه.
مثلاً: عطشان، كيف حالك؟ قال: رضيت بالعطش، ربي قضى عليّ العطش، رضيت.. يسّر له ماء أمامه، قال: لا، أنا قد رضيت بالعطش، ما عاد أشرب! قال: إذا مديت يدي، معناها ما أنا راضٍ!.. قال: لا لا لا، ما هو هكذا المعنى، هذا المعنى غير صحيح، بل هو الذي يسّر لك الماء، وشرع لك أن تأخذه وتشربه، خذه واشربه وأنت راضٍ، راضي بما أعطشك، وراضي بما يسّر لك وبما أقدرك عليه، وهو الذي شرع لك أن تمد يديك وأن تشرب، مُد واشرب ولا يناقض ذلك الرضا. "فليسَ مِنَ الرِّضا للعطشانِ ألّا يَمُدَّ اليدَ إلى الماءِ الباردِ، زاعماً أنَّهُ رضيَ بالعطشِ الذي هوَ مِنْ قضاء اللهِ تعالىٰ، بل مِنْ قضاءِ اللهِ تعالىٰ ومحبَّتِهِ أن يُزالَ العطشُ بالماءِ". وهذا ما هو قضاؤه؟ هذا قضاؤه.. فلا معنى أن تضرب هذا بهذا، ولكن امتثل أمره وقم بالأسباب حيث شرع لك.
"فليسَ في الرِّضا بالقضاءِ ما يُوجِبُ الخروجَ عن حدودِ الشَّرع، و" لا عن "رعايةِ سُنَّةِ اللهِ تعالى" في الأشياء بل معناهُ: تركُ الاعتراضِ على اللهِ عزَّ وجلَّ إظهارًا وإضمارًا"، لا بلسانه ولا بخاطره ولا بقلبه يعترض على الله. "بل معناهُ: تركُ الاعتراضِ على اللهِ"، "معَ بذلِ الجهدِ في التَّوصُّلِ إلى مَحابِّ اللهِ تعالىٰ مِنْ عبادِهِ؛ وذلكَ بحفظِ الأوامرِ، وتركِ النَّواهي" التي نهاه الله عنها؛ فبذلك يكون ماضٍ على سنة الله، وراضٍ بقدر الله وقضائه من دون أن يختلط هذا بهذا، وفقنا الله.
لهذا قال سيدنا عمر لما قالوا له البلد الفلاني لما جاء إلى الشام، ورأى فيها طاعون، قال: لا ندخلها، قالوا له: أتفرّ من قضاء الله؟ قال: نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، نروح فين؟ نحن تحت قدر الله، إن شاء بيجينا إلى هنا، وكان رأيه هكذا. ثم جاء سيدنا أبو عبيدة وغيره قال له: سمعت النبي يقول: "إذا كان الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن كان بأرض لم تكونوا فيها فلا تدخلوها". قال: الحمد لله! فرح سيدنا عمر أن نظره ورأيه جاء موافقًا للنص، ولما أمر به ﷺ، قال: نفر من قدر الله إلى قدر الله، ونحن نروح فين؟! ما نقدر نقدم ولا نؤخر، لكن هذه سنّة سنّها الله في أن هذا المرض معدٍ، فنتجنب ذلك.
أما من كان وسط البلد، حرام عليه يخرج، ولو خرج الأصحاء بيتركون المرضى لمن؟ يتعبون فوق التعب الذي عندهم، فلا بد يبقى بينهم الذين عندهم الأصحاء لكي يقومون بمداواتهم ومعالجتهم، ويصيب الله من يشاء.
وكم من واحد عنده مصاب بالطاعون، ويكابده ليل ونهار ولا يصيبه شيء، وواحد جالس في بيته وحده ولا عنده أحد ويجيء له الطاعون! فالأمر أمره -سبحانه وتعالى-، ولله أمري والقضاء قضاؤه -سبحانه وتعالى-. رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا ورسولًا، يا الله رضا، يا الله رضا، والعفو عما قد مضى.
الأصل العاشر
في ذكر الموت
اعلمْ: أنَّ المَقاماتِ التِّسعَ التي ذكرناها ليسَتْ هيَ علىٰ رتبةِ واحدةٍ، بل بعضُها مقصودةٌ لذاتِها؛ كالمحبَّةِ والرِّضا؛ فإِنَّهُما أعلى المَقاماتِ، وبعضُها مطلوبةٌ لغيرِها؛ كالتَّوبةِ والزُّهدِ، والخوفِ والصَّبرِ؛
إذِ التَّوبةُ: رجوعٌ عن طريقِ البعدِ للإقبالِ إلىٰ طريقِ القُرْبِ،
والزُهدُ: تركُ الشَّواغلِ عنِ القُرْبِ ،
والخوفُ: سوطٌ يسوقُ العبدَ إلىٰ تركِ الشَّواغلِ،
والصَّبرُ: جهادٌ معَ الشَّهَواتِ القاطعةِ لطريقِ القُرْبِ.
وكلُّ ذلكَ غيرُ مطلوبِ لذاتِهِ، بلِ المطلوبُ القُرْبُ؛ وذلكَ بالمعرفةِ والمحبَّةِ، فإنَّها مطلوبةٌ لذاتِها لا لغيرِها، ولكنْ لا يَتِمُ ذلكَ إلَّا بقطعِ حُبِّ غيرِ اللهِ تعالىٰ عنِ القلبِ، فاحتيجَ إلى الخوفِ والصَّبرِ والزُّهدِ لذلكَ.
ومِنَ الأُمورِ العظيمةِ النَّفعِ فيهِ: ذكرُ الموتِ؛ فلذلكَ أوردناهُ، ولذلكَ عظَّمَ الشَّرعُ ثوابَ ذكرِهِ؛ إذ بهِ يَتنغَّصُ حبُّ الدُّنيا، وتَنقطعُ علاقةُ القلبِ عنها.
قالَ الله تعالىٰ: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)[الجمعة:8].
وقالَ النَّبيُّ ﷺ: "أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمٍ اللَّذَّاتِ".
وقالَ ﷺ: "مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ.. كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ".
وقالَتْ عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها-: يا رسولَ اللهِ؛ هل يُحشَرُ معَ الشُّهداءِ أحدٌ؟ قالَ: "نَعَمْ ، مَنْ يَذْكُرُ الْمَوْتَ فِي ٱلْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عِشْرِينَ مَرَّةً".
ومرَّ رسولُ اللهِ ﷺ بمجلسٍ وقدِ استعلاهُ الضَّحِكُ، فقالَ: "شُوبُوا مَجْلِسَكُمْ بِذِكْرِ مُكَدِّرِ ٱللَّذَّاتِ"، قيلَ: وما هوَ؟ قالَ: "الْمَوْتُ".
وقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "لَوْ تَعْلَمُ ٱلْبَهَائِمُ مِنَ ٱلْمَوْتِ مَا يَعْلَمُ ٱبْنُ آدَمَ.. لَمَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا سَمِيناً".
وقالَ ﷺ: "كَفَىٰ بِألْمَوْتِ وَاعِظاً".
وقالَ ﷺ: "تَرَكْتُ فِيكُمْ وَاعِظَيْنِ : صَامِتا وَنَاطِقًا؛ فَالصَّامِتُ الْمَوْتُ، وَالنَّاطِقُ الْقُرْآنُ".
وذُكِرَ رجلٌ عندَهُ ﷺ، وأُحسِنَ الثَّناءُ عليهِ، فقالَ: "كَيْفَ كَانَ ذِكْرُ صَاحِبِكُمْ لِلْمَوْتِ؟" ، قالوا: ما كنَّا نكادُ تسمعُهُ يذكرُ الموتَ، قالَ: "فَإِنَّ صَاحِبَكُمْ لَيْسَ هُنَالِكَ".
وقالَ رجلٌ مِنَ الأنصارِ: يا رسولَ الله؛ مَنْ أكيسُ النَّاسِ، وأكرمُ النَّاسِ؟ فقالَ: "أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ ٱسْتِعْدَادا، أُولَٰئِكَ هُمُ ٱلْأَكْيَاسُ، ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا، وَكَرَامَةِ الْآخِرَةِ".
رضي الله تعالى عنهم.
يقول في الأصل العاشر، ذكر الموت ومابعده من شؤون الاستعداد للقاء الله -تبارك وتعالى-، قال: "المَقاماتِ التِّسعَ التي" تقدمت "ليسَتْ هيَ علىٰ رتبةِ واحدةٍ" في المكانة والمنزلة؛
فمثل المحبة والرضا -كما تقدم كلامه- مقصودان لذاتهما فإنهما أعلى المقامات، فالمحبة مقصودة لأجلها والرضا الذي هو فرعها كذلك، فهي باقية والتنعّم بها باقي، وهي باقية في البرزخ وفي القيامة وفي الجنة؛ المحبة والرضا. لكن مثل التوبة والزهد والخوف والصبر ما تكون في الجنة هذه، التوبة ليست مقصودة لذاتها، مقصودة للتوصل بها إلى المحبة وإلى الرضا، فإذا حصلت فذاك هو المقصود، ولأجل حيازة الثواب وتكفير السيئات بواسطة هذه المقامات غير المحبة والرضا.
فمعرفته -سبحانه وتعالى- هي الباقية نعيمها وهي المقصودة لذاتها، لا إله إلا الله. "التوبة رجوع وتقرّب من بعد للإقبال إلى طريق القرب، الزهد ترك الشواغل" عن القرب "والخوف سوط يسوق العبد إلى ترك الشواغل، والصبر جهاد مع الشهوات كل ذلك غير مطلوب لذاته، بل المطلوب هو القُرب" من الله "بالمعرفة والمحبة" والرضا مطلوبة لذاتها، "ولكن ما يتم ذلك إلا بقطع حب غير الله عن القلب فاحتيج إلى الخوف والصبر والزهد" لأجل هذا.
قال: "ومن الأمور التي يعظم نفعها" أن يكون حاضر في ذهن الإنسان في الحياة مفارقة هذه الحياة، وأنه لابد أن ينقطع عنها، وتنقطع عنه، ولابد أن يلقى الله -جل جلاله-، قال: لأجل هذا ذكرنا الموت، وقد عظّم الشارع في ثواب ذكره؛ لأنه يمنع من الركون إلى الدنيا والاغترار بها، يقول :(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)[الجمعة:8]، ما قال لاحقكم.. لا، قال: ملاقيك قدامك هو، ما يجيئك من وراء، لا، بل من قدام، اهرب اهرب… هو قدامك، ماتهرب إلا إليه، بتهرب فين؟ ليس لاحقكم يجيء يطاردكم من وراءكم، (مُلَاقِيكُمْ) تفرّون منه وهو ملاقيكم.. هو قدامك وهكذا.
ويُذكر أن سيدنا سليمان مرة تعجّب، زاره سيدنا عزرائيل -عليه السلام-، وكان عنده واحد من أصحابه جالس، وبعد ذلك خرج قال: من ذا كان عندك تكلمه؟ قال: رأيته؟ قال: نعم، ذاك ملك عزرائيل، قال: شفته ينظر إلي، قال: هو ذاك عزرائيل.. قال: يا نبي الله، مُر الريح تنقلني إلى الهند، أروح من هنا من فلسطين، قال: أتخاف الموت؟ قال له: أنا بغيت خلاص... أمر الريح أن تنقله، نقلته إلى الهند، بعد أيام زار سيدنا عزرائيل النبي سليمان، سأله، قال: ذاك الرجل في ذاك اليوم كان عندي قبل ثلاثة أيام، فرآك ورآك تنظر إليه، فخاف فأمرني بنقله إلى الهند فأمرت بنقله إلى الهند، أمرت الريح تنقله للهند، قال: نعم يا نبي الله، أنا كررت النظر إليه لأن عندي في الكتاب أقبض روحه في الهند بعد ثلاثة أيام، والطريق من عندك للهند شهر أو شهرين، قلت كيف سيصل هذا؟! أنا أتعجب في هذا قال: فجئت في الوقت الذي أُمرني الله به، حصلته في الهند في المكان، قال: هو يهرب من الموت إلى الموت! (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ)[الجمعة:8] هو محلك هناك لتموت، (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِم)[آل عمران:154]، ما يلحقك من قفاك، هو قدامك فين بتروح؟ قدامك، ملاقيك، يلقاك حيث ما توجهت، (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)[النساء:78]. لا إله إلا الله…
ويقول: "أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمٍ اللَّذَّاتِ"، هَذَم بالذال بمعنى: قطع، اللذات؛ أي: اللذة بغير الله تعالى، وبالفانيات يقطعها ذكر الموت، "مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ.. كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ"، "ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" هكذا جاء في الصحيحين. قالت سيدتنا عائشة: "يا رسول الله، كلنا يكره الموت قال: ليس ذاك، إن المؤمن عند قبض روحه يُبشَّر برضوان الله وقربه، فيحب لقاء الله، وإن المنافق عند موته يُبشَّر بسخط الله وعذابه، فيكره لقاء الله ويكره الله لقاءه".
وقد سمعت أن من تمكنت فيهم المعرفة لا يحبون الحياة لذاتها ولا الموت لذاته يحبون الله!.. وحيث رأوا في الحياة زيادة قرب ومعرفة خاصة بالله تعالى، أحبوها حتى يستكملون نصيبهم الذي كُتب لهم، فإذا أيقن أن هذا غاية ما يصل إليه من معرفة الله ومحبّته، وأنه ليس له فوق ذلك نصيب، أحبّ اللقاء، فلا يحب الموت ولا يحب الحياة، إنما يحب المحيي المميت -جلّ جلاله-.
"وقالَتْ عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها-: يا رسولَ اللهِ؛ هل يُحشَرُ معَ الشُّهداءِ أحدٌ؟ قالَ: نَعَمْ، مَنْ يَذْكُرُ الْمَوْتَ فِي ٱلْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عِشْرِينَ مَرَّةً"، وهذا قال هو المراد بقوله في الحديث الآخر: من أكثر ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة". كيف "أكثر"؟ كان حدود عشرين مرة في اليوم يمر على باله: كيف حالي عند الموت؟ وهل أنا مستعد له؟ وكيف يكون شأني مع الله -تبارك وتعالى-؟ فيرتّب لنفسه. فإذا كان يرِد عليه هذا الخاطر في حدود اليوم والليلة عشرين مرة، فقد أكثر ذكر الموت، ومن أكثر ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة.
"ومرَّ رسولُ اللهِ ﷺ بمجلسٍ وقدِ استعلاهُ الضَّحِكُ، فقالَ: شُوبُوا مَجْلِسَكُمْ بِذِكْرِ مُكَدِّرِ ٱللَّذَّاتِ، قيلَ: وما هوَ؟ قالَ: الْمَوْتُ"، ويقول: "لَوْ تَعْلَمُ ٱلْبَهَائِمُ مِنَ ٱلْمَوْتِ مَا يَعْلَمُ ٱبْنُ آدَمَ"؛ أنه لا بد من ذبحها وموتها، لحزنت من خوف الموت وما سمن منها شيء، ولا عاد طعمتم منها سمين، ولكن أنتم تدركون والموت قدامكم وتغفلون، والبهيمة ما تدرك هذا وتظن أنها تعيش على طول، ما تعلم بضرورة الموت وأنها قادمة على الموت. ولذا نهى ﷺ عن أن تُذبح شاة قدّام الأخرى، مكروه، وقيل: حرام، يذبح شاة قدّام الثانية يبعدها عنها يغطيها ويذبحها.
وقد كان بعض الجفاة قساة القلوب عنده غنم يأخذ منهن ويذبح، وبعدين طرقه طارق وحط السكين على حجرة وراح، جاءت واحدة من الغنم حملت السكين بفمها ورمتها في بئر كبير، جاء هذا يدوّر: أين السكين، أين السكين ما وجده، جاء واحد قال: اتق الله تذبحهن قدام أخواتهن، أنا رأيت الغنمة جاءت وحملت السكين ورمته في البئر، تعجّب!.. قال له: اتق الله لا تذبح قدامها، خذها بعيد ما تشوف الذبح. لا إله إلا الله… يقول: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" اللهم صلّ عليه وعلى آله.
وقال: "كَفَىٰ بِألْمَوْتِ وَاعِظاً"، "تَرَكْتُ فِيكُمْ وَاعِظَيْنِ: صَامِتا وَنَاطِقاً، فَالصَّامِتُ الْمَوْتُ، وَالنَّاطِقُ الْقُرْآنُ"، لا إله إلا الله.
يكفي اللبيب كتاب الله موعظةً *** كما أتى في حديث السيّد الحَسَن
ولما أُثني على رجل عنده "قالَ: "كَيْفَ كَانَ ذِكْرُ صَاحِبِكُمْ لِلْمَوْتِ؟" ، "قالوا: ما كنَّا نكادُ تسمعُهُ يذكرُ الموتَ، قالَ: "فَإِنَّ صَاحِبَكُمْ لَيْسَ هُنَالِكَ"، ما هو كما تصفونه، أنقص، بسبب نقص ذكر الموت عنده.
ولذا يقول الشيطان لبعضهم: لا تنغّص على نفسك بذكر الموت، لا تذكر الموت، يعني إذا ما ذكرته ما عاد أموت ولا كيف؟ إذا هو أمر واقع، كيف ما أذكره؟ أحسن أستعد له وأقوم له!.. لا إله إلا الله.
فمثل واحد يقول لواحد: لا تذكر الامتحان في المدرسة أبدًا، معناه بتفوز إذا ما ذكرته أم كيف؟ بالعكس، إذا ذكرته وانتبهت له، واستعددت له بيكون أقرب للفوز والنجاح، أما إذا أهملته وتركته وإذا ما ذكرته أنه في امتحان أبداً، خلاص، تهمل بعدين في وقت الامتحان يقع لك الفشل، لكن الاستعداد له أولى.
"مَنْ أكيسُ النَّاسِ، وأكرمُ النَّاسِ؟ فقالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ ٱسْتِعْدَادا، أُولَٰئِكَ هُمُ ٱلْأَكْيَاسُ، ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا، وَكَرَامَةِ الْآخِرَةِ"، كما جاء في رواية ابن أبي الدنيا، والطبراني في المعجم الكبير، والله أعلم.
إجابة سؤال:
قال: يذكرون المقام العاشر، والمقام الرابع يعنوا بكل من الاثنين نهاية مراتب المعرفة بالله -سبحانه وتعالى- أنه إذا ذُكرت مقامات اليقين التسع، فالعاشر هو الذي ينتهون إليه من كمال الرضا في التّحقق بحقائق الفناء في الله والبقاء بالله، هذا يريدون به المقام العاشر. وهو من وجه آخر يُعدّ الرابع، فإن أطلقوا المقام الرابع والعاشر، فيعنُون به منتهى مراتب المعرفة بالله -سبحانه وتعالى-، ويُطلقون عليه المقام العاشر والمقام الرابع، فهو من وجه رابع، ومن وجه آخر عاشر إذا عُدّ من جهة المقامات التسع يصير العاشر، وإذا عُد من وجه آخر صار الرابع، فأرادوا به أعلى مراتب الصديقية الكبرى في المعرفة، أعلى مراتب المعرفة بالله -سبحانه وتعالى-، كما يُطلقون عليها في كثير من كلامهم وأشعارهم ليلى ولبنى وسلمى، وأمثال ذلك يقصدون بها هذه الرّتبة، وسعاد..
يقول شيخنا الحبيب إبراهيم بن عقيل بن يحيى -عليه رحمة الله-:
فجميع أهل الصدق والإخلاص *** من أشياخنا كانوا بأيّ بلاد
نروي الشريعة والطريقة والحقيــــــــــقة عنهمُ بالنقل والإسناد
وبذا قد اجتمعت لنا أسرارهم *** ولنا رجاءٌ في وصال سُعادِ
وكتب: سُعاد: منتهى مراتب المعرفة بالله، هذا "سُعاد"
………………………. *** ولنا رجاءٌ في وصال سعادِ
الله لا يحرمنا خير ما عنده لشرّ ما عندنا، ويُسعدنا بأعلى السعادة في الغيب والشهادة، ويدفع الآفات عنا ويبلغنا آمالنا بسِرّ الفاتحة
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأصَحْابِهِ
الْفَاتِحَة
10 ربيع الأول 1447