الأربعين في أصول الدين - 39 | تكملة التوكل، والمحبة (1)

للاستماع إلى الدرس

الدرس التاسع والثلاثون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: تكملة شرح الأصل السابع: التوكل (3) والأصل الثامن: المحبة (1) 

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

ظهر الخميس 5 ربيع الأول 1447هـ

هل يَضعف التوكُّل إذا أخذنا بالأسباب؟ وكيف تغدو المحبة أساسَ السير وباعثَ الأعمال؟ يتضمن الدرس ال39: تأطير التوكُّل كحالٍ يوازن بين السعي والركون، وكيف يكون السَعي بلا اعتماد على السبب، ثم شرح بداية أصل "المحبة"، حيث تنتهي البصيرة إلى محبّة الله لكمال علمه وقدسه وقدرته، فهو المحبوب لذاته.

 

نص الدرس المكتوب: 

بسم الله الرحمن الرحيم

رضى الله تعالى عنكم وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

"الركن الثالث: في الأعمال؛ وقد يظن الجُهّال: أن شرط التَّوكُّل ترك الكسب، وترك التَّداوي، والاستسلام للمُهلِكات، وذلك خطأ؛ لأن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على التوكل، ونَدَبَ إليه، فكيف يُنالُ ذلك بمحظوره؟!

وتحقيقه: أن سعيَ العبدِ لا يعدو أربعةَ أوجهٍ؛ وهو جلبُ ما ليس بموجودٍ من المنفعة، أو حفظ الموجود، أو دفعُ الضرر كي لا يحصل، أو قطعُهُ كي يزولَ.

الأول جلبُ المنافع

وأسبابه ثلاثة: إما مقطوعٌ به، وإما مظنون ظنًّا ظاهرًا يُوثَق به، وإمّا موهوم.

أما المقطوع به:  فمثاله: ألّا تمتد اليد إلى الطعام وهو جائع: ويقول هذا سعي، وأنا مُتوكل، أو يريد الولد ولا يواقع أهله، أو يريد الزرع ولا يبثَّ البَذْر!!

 وهذا جهل لأن سُنة الله تعالى لا تتغير، وقد عرَّفك أن ارتباط هذه المسببات بهذه الأسباب من السُنة التي لا تجد لها تبديلاً. 

وإنما التوَّكل فيه بأمرين: 

أحدُهُما أن يعلم أن اليد والطعام والبذر وقدرة التناول، وجميع ذلك.. من قدرة الله تعالى.

والثاني: ألاّ يتكل عليها بقلبه، بل على خالقها، وكيف يتَّكل على اليد وربما يُفْلَج في الحال، أو يَهِلُك الطعام؟! وذلك تحقيق قولك: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فالحول هو الحركة والقوّة هي القدرة، فإذا كان هذا حالك فأنت متوكّل وإن سعيتَ.

 

وأما المظنون: فكاستصحاب الزَّاد في البوادي والأسفار، فليس تركه شرطًا في التوكل، بل هي سُنّة الأوَّلين، بل يكون الاعتماد على فضلِ الله تعالى بدفعِ السُّرَّاق، وإبقاءِ الزَّاد والحياة، والقدرة على التَّناول.

وأما الموهوماتُ: فكالاستقصاءِ في حيلِ المعيشة واستنباط دقائق الأمور فيها، وذلك ثمرةُ الحرص، وقد يَحمِلُ على أخذِ الشُّبهة، وكلُّ ذلك يُناقضُ التَّوكُّل.

والدليل عليه: أنَّ النَّبيَّ ﷺ وصف المُتوكّلين بأنهم الذين لا يكتوون ولا يَسْتَرقون، ولم يَصِفهم بأنهم لا يسكنون الأمصار ولا يكتسبون، فما نسبتُه إلى السبب كنسبة الرُّقية والكَيِّ، فتركُهُما من شروط التوكل.

الفن الثاني من تدبير الأسباب: الادِّخار. 

فالمتوكل إذا وَرِث مالاً، وادَّخر لسَنَةٍ فما فوقها .. أبطلَ توكُّلَهُ، وإن قَنِعَ بقُوتِ يومِهِ وفرَّق الباقي.. فهو تامُّ التوكل، وإن ادَّخرَ لأربعينَ يومًا.. قال سهل التُّستَريُّ: بطلَ توكُّلُهُ؛ فلا ينالُ المَقَام المحمود الذي وُعِدَ للمتوكلين. وقال الخوَّاص: لا يبطل.

واتَّفقوا على أنَّ الزيادة عليه تُبطِلُ التَّوكُّل، إلاّ إذا كان مُعيلاً.. فله أن يدَّخِرَ قُوتَ عيالِهِ لسنة؛ كذلك فعلَ رسول الله ﷺ في حق عياله، وفي حقِّ نفسِهِ كان لا يَدَّخرُ من غدائِه لعشائِه، ولا شكَّ أنَّ طُولَ الأملِ يُناقِضُ التّوكُّل.

ومهما قَلَّت مُدَّةُ الادِّخارِ.. كانت الرُّتبةُ أعظمَ، ولكن سُنَّةُ اللهِ تعالى جاريةٌ بتكرُّر الأرزاقِ عند تكرُّر السَّنة، فالادِّخارُ لأكثرَ من سَنةٍ غايةُ الضَّعفِ وليس من التَّوكُّل في شيءٍ.

فأما ادِّخار الكُوزِ وأثاثِ البيت .. فذلك جائزٌ؛ لأن سُنَّةَ اللهِ تعالى لم تَجْرِ بتكرُّرِها كتكرُّر الأرزاقِ، ويُحتاجُ إليها في كلِّ وقتٍ، وليس كثوبِ الشِّتاء؛ فإنَّه لا يُحتاجُ إليهِ في الصَّيفِ، وادِّخارُهُ على خلافِ التَّوكُّل.

قال النبي ﷺ في فقيرٍ دُفِن: "إنه يُحْشَرُ يَومَ القِيَامةِ ووجهُهُ كالقَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ، ولولا خَصْلَةٌ .. كان كالشّمسِ الضَّاحيَة؛ كان إذا جاء الشتاءُ .. ادَّخرَ حُلَّةَ الصَّيْفِ لِصَيفِهِ".

الفنُّ الثالثُ: في مباشرةِ الأسبابِ الدَّافعةِ.

 كالفِرارِ من السَّبُعِ، ومن الجِدارِ المائلِ، ومَجرى السَّيل، ودفعِ الأمراضِ بالأدويةِ، وذلك أيضًا له درجاتٌ، فاستنبِطها بالقياسِ إلى ما ذكرناهُ، وقد فسَّرناهُ في (الإحياء) في (كتابِ التَّوكُّل).

 

فصل

في حكم تركِ الادِّخار

اعلم: أنَّ تركَ الادِّخارِ محمودٌ لِمَن غلبَ يقينُهُ، وقَوِيَ قلبُهُ، وأمَّا الضعيفُ الذي يضطربُ قلبُهُ ولو لم يَدَّخِرْ لم َيتفرَّغ للعبادة.. فالأفضل لهُ أن يَدَعَ طريقَ المُتوكِّلينَ ولا يُحمِّلَ نفسَهُ ما لا يطيقُهُ؛ إذ فسادُ ذلك في حقِّهِ أكثرُ من صلاحِهِ، بل يُعالَجُ كلُّ واحدٍ على حسَبِ حاله وقوّته.

وقد تنتهي القوَّة ببعضهِم إلى أن يُجَوِّز السَّفرَ في البوادي مِن غير زادٍ؛ وذلك لِمَن يَصبِرُ عن الطّعام أُسبوعًا، ويَقنَعُ بالحشيش؛ فإن ذلك لا يُعوِزُهُ غالباً في البادية. 

فأمَّا الضَّعيف إذا فعلَ ذلك .. فهو عاصٍ مُلقٍ نفسَهُ في التهلكة، والقويُّ إن حبسَ نفسَهُ في كهفِ جبلٍ ليسَ فيه حشيشٌ، ولا يجتازُ به إنسان.. فذلك أيضاً حرامٌ؛ لأنَّه خالفَ سُنَّة الله تعالى في خلقه، وإنَّما جازَ لهُ ذلك في البوادي؛ لأن سُنَّة الله تعالى جاريةٌ بأنَّها لا تخلو عنِ الحشيشِ وقد يجتازُ بها الآدميَّونَ، فإذا قويَ.. كانَ هلاكُهُ نادرًا، فلم يكن بذلك عاصيًا، فلهُ أن يسافرَ في الباديةِ مُتَّكلاً على لطيفِ صنعِ الله تعالى، وغيرَ قاصرٍ التفاتَهُ على الأسبابِ الجليَّة الواضحةِ".

 

صلى الله وسلم على محمد وعلى آله. 

الحمد لله مُكرمِ أهلِ الوجهةِ الصادقةِ إليه بِحُسنِ البيان في إقامة الميزان، في السِرّ والإعلان بما يتعاملون به معه -تبارك وتعالى- ومع ما خلق في هذه الأكوان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالقُ الإنس والجان، بيده ملكوتُ كلِ شيء وإليه مرجعُ كل شيء، لا إله إلا هو الملك الديّان، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، المُنزَل عليه القرآن، سيّدِ أهل الذوقِ والوجدِ والعرفان، خاتم النبيين والمُرسلين الأعيان، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه في كل شأنٍ وفي كل آن، وعلى آله وصحبه الغُرّ الأعيان، وعلى من تبِعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، ساداتِ أهل المراتب العُلا لدى الإله الرحمن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى جميع الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

وبعد أن حدثنا الإمام الغزالي -عليه رحمة الله- عن حقائق التوَّكل، وأنها قائمة على الإيمان والتوحيد، وقائمة من علمٍ يُثْمِرُ حالاً، وأن هذا الحال يثمر أعمالاً، فأقام الميزان في هذا الركن الثالث بعد أن حدّثنا عن العلم والحال، صار يحدّثنا عن الأعمال التي تصدر من ذلك المتوكل وعلى أي حال.

فذكَر في هذا الركن أن كثيرًا من الجُهّال بعد أن يسمع ما تكلّم عنه من الفناءِ في الله -سبحانه وتعالى- ومن شهودِ جميع الكائنات، مُجرَّد أقلام يكتب بها الحقُّ ما يشاء مما يُجريه لها أو يُجريه منها أو فيها -سبحانه وتعالى- وأنَّه لا فعّال غيره في الوجود، فربما يظن الجاهِلُ أنَّ معنى هذا الكلام عند العارفين المُحقّقِّينَ أن يقعد عن العمل وعن الكَسْب ويترك التداوي ويستسلم لِمَا يُنازِلُه من المُهلكات.

قال: وذلك خطأ! ليس هذا المُراد، فإن سادة المتوَّكّلين هم النبيُّون، أقاموا الأسباب وتعاملوا معها بميزانها، ولكننا نُطالِبُك أنْ تنفي شهود التأثير استقلالًا لغيره -تبارك وتعالى-، وأنْ لا تركن إلى شيء من تلك الأسباب معتمدًا عليها ولا قاطعًا بأنها هي الفعّالة، ولكن تُلابسها وتقوم بحقِّ العبودية فيها معتمدًا عليه -جل جلاله- مفوضًا الأمر إليه، موقنًا أنه لو شاء أن يُبطِل لأبْطَل، ولو شاء أن لا تكون الثمرة لم تكن؛ فبذلك يكونُ التوَّكل له معاني بيّنها فيما يتعلق بجلب المنافع أو دفع المضار.

فقال: "سعي العبد في هذه الحياة" -والحق يقول: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ)[النجم:39-41]- يأتي على أربعة أوجه:

  • "جلبُ ما ليس بموجودٍ من المنفعة" ليُوجَد.
  • "أو حفظ الموجود" من الخيرات والمنافع ليدوم له.
  •  "أو دفعُ الضرر" عنه كذلك "كي لا يحصل".
  • "أو قطعُهُ"؛ قطع وإزالة ضرر قائم ليزول. 

فهذه الأربعة الأنواع، أتى لنا مثالها لنعرف كيفية التعامل معها في التوكل على الله -تبارك وتعالى- 

قال: "جلبُ المنافع" والسعي في تحصيل الخيرات:

  •   "إمّا مقطوعٌ به" من حيث سببه.
  •  "وإما مظنون ظنًّا ظاهرًا يُوثَق به"
  •  "وإمّا موهوم"؛ مجرد وهم.

 فاختلفت الثلاثة الدرجات.

أما المقطوع به: فتناول الطعام لإذهاب ألم الجوع، وهذا سببٌ مقطوعٌ به، فلا معنى أن يَحضُر الطعام ويقول هذا سعي، مد يدي ووضعها في الطعام ثم رَفعُ الطعام إلى فمي، وإذا قول سعي، المضغ كذلك أو لا؟ خلاص لا عاد تمضغ!..  قل سعي البلع ولا عاد تبلع!.. هذا خروج عن سُنَّة الخلَّاق التي أوجَدَ الوجود عليها.

 يقول أنا متوكل! "أو يريد الولد ولا يواقع أهله، أو يريد الزرع ولا يبثَّ البَذْر!" ما لك؟ يقول أنا متوكل على الله! أنت متألّي على الله.. أنت تريد أن تُبطل سُنّة الله التي وضعها في الوجود، ليس هكذا التوكل.

قال: "لأن سنة الله لا تتغير، وقد عرَّفك أن ارتباط هذه المسببات بهذه الأسباب" مِن وضعهِ هو، هو الذي رتبها كذلك، وهو الذي وضعها على هذا الحال، فتعْلَم أنه هو الواضع لها وهو الخالق لها، وتتوكل من جهات: أن تعلم وتوقن أن اليد والطعام والبَذر وقدرتك على تناوله وعلى مضغه وعلى بلعه ثم هضمه في باطنك كله من قُدرة الله وإرادة الله وتدبير الله وفعل الله -سبحانه وتعالى- لا يغيب هذا عن شهودك كما يغيب عن شهود الكفار والغافلين وينسُون الأصل، من أين جاء! وي

نون أن هذه أفعاله، ليست أفعالك، لكنها سُنَّة ربانية قائمة في الوجود لا تتبدل، يجب التّعامُل معها ولكن مع حفظ الشهود.

"والثاني: لا يتكل عليها بقلبه بل على خالقها" كيف تتكل على يد؟ لو أراد في لحظة جاءك الفالج وشُلَّت محلّها ولن تستطيع أن تحركها؛ فالاعتماد ما هو على يد، يد خلقها واحد أحد أمدّها بقوة وقُدرة وجعل لك إرادة تُسيّرها وسلّمها من العاهات والآفات حتى تستطيع الامتداد والأخذ ووضع اللُقمة في الفم، ومكّنكَ من المضغ ومكّنَكَ من البلع؛ فإذًا ما هو باليد فقط، يد وحدها ما تنفع، يد وحدها تُشَلّ في أي وقت، يد وحدها تنقطع في أي وقت، يد وحدها تجمُد في أي وقت، فاليد يد محاطة من قِبَل الأحد بترتيب وإمدادات كثيرة، إذًا فهو المُمِدّ -جلّ جلاله- وهذه اليد سبب من الأسباب.

قال: "وربما يهلك الطعام في أي لحظة، وذلك تحقيق قولك: "لا حول ولا قوة إلا بالله" قال: الحول: الحركة، والقوة: القدرة"، فلا يكون لشيء من الخلق إلا بالله الذي يُمدّهم به، قال: "فأنت متوكل وإن سعيت"، وسعيك ليس بفعّال بذاته ولكنه سبب بوضعِ المسبِّب -جلّ جلاله- وهكذا.

قال: وأمّا شيء لا هو مقطوع به ولا موثوق به أنه مجعول بالسُنّة الإلهية سبب، ولكن من بعيد ظَنْ ووهم، هنا يأتي الحُكْم فيه. 

أما صاحب الظن؛ ما فيه ظنٌ قويّ، فـ "كاستصحاب الزَّاد في البوادي والأسفار، فليس تركه شرطًا في التوكل"؛ لأن هذا إذًا مظنون، وظن موثوق به، ظن ظاهر يوثَق به، "بل هي سُنّة الأوَّلين"؛ يأخذون الزاد معهم في الطريق على حسب الحاجة، ولكن يكون التوكل معهم بـ "الاعتماد على فضلِ الله تعالى بدفعِ السُّرَّاق"، ودفع الآفة، أو تأتيك صاعقة تصيب زادك، أو زلزلة تُبعدك، لا بدّ من التوكل على الله وهذا سبب أقامه لك فتقيمه كذلك، يُبقي لك الزاد، يُبقي لك الحياة، يُبقي لك القدرة على التناول، هذا كله تكون متوكلاً عليه فيها -سبحانه وتعالى- وفي أخذك للزاد أيضًا أنت متوكل عليه -جل جلاله-، فهو خالق الزاد وخالقُ القدرة على الحمل -جل جلاله-، وخالق القدرة لك على أكله، فأنت معتمد عليه.

"وأما الموهوماتُ"؛ لا هو ظن موثوق به ولا أمر مقطوع به، ولكن "كالاستقصاءِ في حيلِ المعيشة واستنباط دقائق الأمور فيها، وذلك ثمرةُ الحرص، وقد يَحمِلُ على أخذِ الشُّبهة" -والعياذ بالله- قال: هذا "يُناقضُ التَّوكُّل"، انطلاقك في هذا؛ لأن هذا خِلاف السُنّة، السُنّة شرعت لك أن تعمل إلى هذه الحدود، والزيادة عليها حرص وطمع وشره بلا معنى؛ فوقوعك فيها خروج عن حد التوكل نهائيًا، واغترارٌ بهذه الأسباب. 

قال: "والدليل عليه: أنَّ النَّبيَّ ﷺ وصف المُتوكّلين بأنهم الذين لا يكتوون ولا يَسْتَرقون، ولم يَصِفهم بأنهم لا يسكنون الأمصار ولا يكتسبون"

وفي الحديث قول الأعرابي له: هل أتركها وأتوكل أو أعقلها وأتوكل؟ قال: "اعقلها وتوكل"، اعقل الناقة وتوكل على الله -تبارك وتعالى- .

قال: هذا ما يتعلق بجلب المنافع في: 

  • أسباب مُستيقنَة. 
  • ومظنونة ظنًّا ظاهرًا يوثَق به. 
  • وما كان موهومًا.

"الفن الثاني من تدبير الأسباب: الادِّخار. فالمتوكل إذا وَرِث مالاً، وادَّخر لسَنَةٍ فما فوقها"، هل يبطُل توكُّله بذلك؟ "وإن قَنِعَ بقُوتِ يومِهِ وفرَّق الباقي.. فهو تامُّ التوكل، وإن ادَّخرَ لأربعينَ يومًا" فما دونها، فإلى حدود الأربعين يقول "سهل التُّستَريُّ: بطلَ توكُّلُهُ"، ويقول غيره من العارفين: لا، لا يبطل التوكُّل، ولا يزال متوكلاً بالنسبة للادخار لنفسه، أمّا الادِّخار للعيال إلى سنة، لا يُبطل توكله.

  • أن يدخر قوت عياله سنة، أي مَن تَلزَمه اعالتهم، ممن يعولهم من والد أو والدة أو زوجة أو ولد وما إلى ذلك، فإنْ يدّخر لهم مقدار قوت سَنَة لا يُخرجه عن حدود التوكل. 
  • ولنفسه أربعين يوم فما دونها لا تُخرِجه عن حدود التوكل.

وذكر في هديه  أنه لبيان الجواز، ليبيّن الجواز ادّخر لأهله قوت سَنَة، ولكن بعد ذلك أنفقه في خلال العام، وأما في نفسه فكان لا يدّخر من غدائه لعشائه ولا من عشائه لغدائه صلى الله عليه وبارك عليه وآله.

وهكذا قال: "طُولَ الأملِ يُناقِضُ التّوكُّل"، يقول: "ومهما قَلَّت مُدَّةُ الادِّخارِ.. كانت الرُّتبةُ أعظمَ، ولكن سُنَّةُ اللهِ تعالى جاريةٌ بتكرُّر الأرزاقِ عند تكرُّر السَّنة، فالادِّخارُ لأكثرَ من سَنةٍ غايةُ الضَّعفِ وليس من التَّوكُّل في شيءٍ." هذا ادخار القوت، أما مثل الكوز أو أثاث البيت، يكفيك سنتين وثلاث وأربع هو نفسه الأثاث ما في إشكال ولا تُغيّره؛ لأنه هذا ما يتكرر، "ولأن سُنَّةَ اللهِ تعالى لم تَجْرِ بتكرُّرِها كتكرُّر الأرزاقِ"، بل كلّما طال استعماله فهو أقرب إلى الزُّهد وأقرب إلى التوكل، "ويُحتاجُ إليها، وليس كثوبِ الشِّتاء؛ فإنَّه لا يُحتاجُ إليهِ في الصَّيفِ"، أما مثل الأواني هذه المُعدَّة كله يحتاج إليها كل وقت.

"قال النبي ﷺ في فقيرٍ دُفِن: "إنه يُحْشَرُ يَومَ القِيَامةِ ووجهُهُ كالقَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ، ولولا خَصْلَةٌ .. كان كالشّمسِ الضَّاحيَة؛ كان إذا جاء الشتاءُ .. ادَّخرَ حُلَّةَ الصَّيْفِ لِصَيفِهِ"." صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.

"الفنُّ الثالثُ: في مباشرةِ الأسبابِ" التي تدفع عنك العاهات وبعض الأمور المكروهة. فمنها ما هو قطعي "كالفِرارِ من السَّبُعِ"، فمهما لم يغلُبك حال لا يجوز لك أن تبقى محلك والسبع مُقبِل تقول أنا متوكل على الله! بل يجب أن تتحصن وتذهب إلا أن يُسلَب حِسْك، نعم، يغلُب عليك من الفناء في الله ما لا تشهد شيئًا سواه، هذا أمر ثانٍ، وسيحميك هو -جلَّ جلالُه- ، وله مع هذا الشأن شؤون بدت في الوجود. حتى رَكِب بعضهم على الأسد وراح يقضي به حاجته ورجع بعد ذلك، ولما وصل إلى البلد وهو راكب الأسد فروا الناس منه وهو راكب عليه، يقول: حتى يوصله إلى بيته، فهذه أحوال نادرة في حالة غلبة تغلُب أصحابها فيتولّاهم الذي أفناهم عمّا سواه، هو الذي يتولاهم في هذا الشأن، وأما ما دمت بِحسّك وعقلك فلا يجوز أن تعرّض نفسك لمثل هذا الخطر، كما لا يجوز أن ترمي بنفسك من علوّ وتقول أنا متوكل على الله، متوكل على الله؟! هو قال لك أن ترمي بنفسك هكذا؟ أم حرَّم عليك هذا؟ وهل يتأتى أن تنال ما مدحه من المقامات بمُحرّمٍ؟؟ ما يتأتى هذا، الذي حرّمه ما مدحه، وإنما مدح ما ليس بحرام، ومدح ما يحبه -جلَّ جلالُه-. 

وهكذا قال: "ومن الجِدارِ المائلِ، ومَجرى السَّيل، ودفعِ الأمراضِ بالأدويةِ، وذلك أيضًا له درجاتٌ" تعرفها من خلال ما ذَكر من درجات جلب المنافع فتقيسها عليها.

ثم إنّ "تركَ الادِّخارِ" لمن غلب يقينه وقوي قلبه "محمود"، وأما واحد ضعيف مُضطرب القلب إذا لم يدخر شيئًا من القوت ما عاد يجي على العبادة، ادخر لك وأحضِر قلبك واعبُد سوا، فهذا أحسن، أحسن من عدم الادِّخار وعدم الأنوار، نحن ما أردنا عدم الادِّخار إلا من أجل زيادة الأنوار، أما إذا ضعف عليك النور، فادخر واهدأ وصلِّ سوا واعبد سوا واذكر سوا أحسن.. أنت ضعيف لست مثل هؤلاء، فاعرف قدرك واحسب حالك وقوتك وامضِ.

 قال في الأقوياء: "وقد تنتهي القوة ببعضهم إلى أن يُجَوِّز السَّفرَ في البوادي مِن غيرِ زادٍ" في حق من يقدر أن يصبر على الطعام أسبوعاً ونحوه ويكتفي بالحشيش، ومعنى الحشيش عندهم مثل البريسم التي تأكلها الحيوانات من هذه البقول، يكتفون بها! لا إله إلا الله... 

يقول: "فأما الضعيف فإذا فعل ذلك .. فهو عاصٍ، ملقٍ نفسَهُ في التهلكة" لا يجوز له. وإذا واحد أيضًا هو قوي، وفي حال عدم الغلبة، قال: سأذهب إلى مكان بعيد، كهف في جبل لا يوجد به شيء من الحشائش هذه المزروعة ولا يمر به إنسان، نقول له: أنت أيضًا وإن كنت قوي في مثل هذا الحال خرجت عن سُنَّة الله تعالى، لا يجوز لك ما دام حسّك فيك وعقلك فيك، حتى تُغلَب، ما دُمت غير مغلوب فلا يجوز لك ذلك، ويكون هذا حرام عليك أيضًا لمخالفتك لسُنة هذا الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء، لا إله إلا هو.

 

الأصل الثامن في المحبة

قال الله تعالى: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)[المائدة:54].

وقال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[التوبة:24].

 وقال النبي ﷺ: "لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى يكونَ اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليه ممَّا سِواهُما".

وقال: "أحِبُّوا اللهَ لِما يغذُوكُم به من نِعَمِهِ، وأحبُّوني بِحُبِّ اللهِ عزَّ وجلَّ". 

وقال أبو بكر الصدِّيق رضي اللهُ عنه: "من ذاق خالصِ محبَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ.. منعه ذلك من طلبِ الدنيا، وأوحشَهُ من جميع البشر". 

وقال الحسن البصري رحمَهُ الله: "مَن عرَفَ اللهَ تعالى.. أحبَّه، ومن عرفَ الدُّنيا.. زَهِدَ فيها، والمؤمنُ لا يلهو حتَّى يَغفُل، فإذا تَفكَّرَ.. حَزِنَ".

 

فصل فيمن أنكر محبة الله تعالى

 اعلم: أنَّ أكثرَ المُتكلِّمين أنكروا محبَّةَ اللهِ تعالى وأوَّلوها وقالوا: لا معنى لها إلَّا امتثالُ أوامرِهِ، وإلَّا .. فما لا يُشبِهُهُ شيءٌ، ولا يُشبِه شيئاً، ولا يُناسِبُ طباعَنا بوجهٍ .. فكيفَ نُحِبُّهُ؟! وإنَّما يُتصوَّر منَّا أن نُحبَّ من هو من جنسنا.

وهؤلاءِ محرومونَ؛ لجهلِهم بحقائقِ الأمورِ، وقد كشفنا الغطاءَ عن هذا في (كتابِ المحبَّةِ) من كتب (الإحياء)، فطالِعها لتُصادِف منها أسرارًا تخلو الكتبُ عنها، واقنَعْ من هذا المختصرِ بتلويحاتٍ وإشاراتٍ.

 

فصل 

في بيان معنى كونِ الشيءِ محبوبًا

اعلم: أنَّ كلَّ لذيذٍ محبوبٌ، ومعنى كونِهِ محبوبًا: ميلُ النَّفسِ إليهِ، فإن قَوِيَ الميلُ.. سُمّيَ عشقاً. ومعنى كونِهِ مُبغوضًا: نَفرةُ النَّفسِ عنهُ؛ لكونِهِ مُؤلِمًا، فإن قويَ البُغضُ والنَّفرةُ.. سُمِّيَ مَقْتاً. 

واعلم: أن َّالأشياءَ التي تُدرِكُها بحواسِّكَ وجميعِ مشاعرِكَ: إمَّا أن تكونَ مُوافِقةً لكَ ملائمةً؛ وهو اللَّذيذُ، أو تكونَ منافيةً مخالفةً؛ وهو المُؤلِمُ، أو لا موافِقةً ولا مخالِفةً؛ وهي التي لا ألمَ فيها ولا لذَّةَ، وكلُّ لذيذٍ محبوبٌ، وللَّنفسِ المُلتذَّةِ بهِ ميلٌ -لا محالةَ- إليه. واعلم: أن اللَّذَّة تَتبَعُ الإدراكُ، والإدراكُ إدراكانِ: ظاهرٌ وباطنٌ. 

أمَّا الظَّاهرُ فبالحواسِ الخمسِ، فلا جرمَ لذَّةُ العينِ في الصورِ الجميلة، ولذَّةُ الأُذُنِ في النَّغماتِ الموزونةِ الطَّيبةِ، ولذَّةُ الذَّوقِ والشَّمِّ في الطُّعومِ والرَّوائحِ الملائمةِ الموافقةِ، ولذَّةُ جملةِ البدنِ في ملامسةِ النَّاعمِ اللَّيِّنِ، وجملةُ ذلكَ محبوبةٌ للنَّفسِ؛ أي: للنَّفسِ ميلٌ إليها.

وأمَّا الإدراكُ الباطنُ: فهو اللَّطيفةُ التي محلُّها القلبُ، تارةً يُعبَّرُ عنها بالعقلِ، وتارةً بالنُّور، وتارةً بالحسِّ السادسِ، ولا تنظرْ إلى العباراتِ فتَغلَطَ، بل قال النبي ﷺ: "حُبِّبَ إليَّ مِن دُنيَاكُم ثلاثٌ: الطِّيبُ والنِّسَاءُ، وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيني في الصّلاة".

فتعلمُ: أنَّ الطِّيبَ والنِّساءَ فيهِما حظّ الشَّمِّ واللَّمسِ والبصر، والصَّلاةُ لا حظَّ فيها للحواسِّ الخمس، بل للإدراكِ السادس الذي محلّهُ القلب، ولا يُدرِكُها من لا قلبَ له، وإنَّ الله تعالى قد يَحُولُ بين المرءِ وقلبِهِ.

ومَنِ اقتصرَ مِن لذَّتِهِ على الحواسِّ الخمسِ.. فهوَ بهيمةٌ؛ لأنَّ البهيمةَ تشاركُهُ فيها، وإنَّما خاصِّيَّةُ الإنسانِ التَّمييزُ بالبصيرةِ الباطنةِ؛ فلذَّةُ البصرِ الظَّاهرِ.. في الصُّورِ الجميلةِ الظاهرةِ، ولذَّة البصيرةِ الباطنةِ.. في الصُّورِ الجميلةِ الباطنةِ".

صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.

يُبيّن الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في هذا شؤون المحبة، رزقنا الله الرُقي في مراقيها والدخول مع أهليها ووفر حظَّنا منها وفيها. وهي الغايَّةُ التي ينتهي إليها المؤمن بربه في أن يتحقق بحقائق محبته؛ لأن جميع ما قبل المحبة -كما أشار الإمام الغزالي في كلامه- مُقدمة لها وجميع ما بعدها ثمارٌ لها من المقامات، فكأنها الأساس والمقصود أن نُحبَّه، قال: فيحبنا -جلَّ جلالُه-.

يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وهُمْ العلاج لما يحدث في الأمة من آفات ومصائب أشدّها وأعظمها الارتداد عن دين الله -تبارك وتعالى- فإنما تُعالج بوجود هؤلاء القوم؛ (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، فإذا وُجِد هؤلاء القوم فلا خطر على الأمة ولا شر حولها يحوم، بل تندفع عنهم الآفات، (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[المائدة:54]. يا صاحبَ الفضلِ تفضَّل علينا، (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). 

وركائز هذه المحبة قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)[المائدة:55-56].

ثم ذَكر لنا تنبيه الحق لنا أنَّ مُقتضَى الإيمان أن نُقدِّمَهُ ورسولَه والعمل بما جاءنا به في المحبة على كل شيءٍ آخر؛ من أهلينا، ومن قراباتنا وعشائرنا، ومن أموالنا ومن تجاراتنا ومن مساكننا ومن كل ما حوالينا، وأمرَ النبيُّ أنْ يُبلِّغنا هذه الحقيقة، فقال قل لهم: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ)، إن كان شيء من هذا أحب إليكم فقد فسقتم؛ خرجتم عن دينه، (فَتَرَبَّصُوا) تهديد، (فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) فترَون عاقبة هذا الإيثار لغير الله ورسولِه، والمحبة لغير الله ورسولِه، أو تقديم محبة غير الله ورسوله والجهاد في سبيله، (فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[التوبة:24]؛ أي: إن هذا فِسقٌ؛ خروج عن المسلك الصحيح القويم، أن تتقدم محبة الآباء أو الأبناء أو الإخوان أو الأزواج أو العشيرة أو الأموال أو التجارات أو المساكن، يتقدم محبة شيءٍ منها على محبة الله ورسولِه والجهاد في سبيله، فيكون الله ورسوله والجهاد أحبُّ إلينا من آبائنا وأبنائنا وإخواننا وأزواجنا وعشائرنا وأموالنا وتجاراتنا ومساكننا ومن كل شيء سواهما وهكذا..

ويقول: "لا يؤْمِنُ أحَدُكم حتى يَكونَ اللهُ ورسولُه أَحَبَّ إليه ممَّا سِواهما" في مُسند الإمام أحمد، ولفظ البخاري ومسلم: "ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: من كان اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا" وفي البخاري أيضاً: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" صلوات الله وسلامه عليه.

وقال: "أحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكم به من نِعَمِه، وأحِبُّوني لحُبِّ اللهِ عزَّ وجل" صلوات ربي وسلامه عليه عند الترمذي، وتمامه: "وأحِبُّوا أهْلَ بَيْتي لحُبِّي"، وقال أبو بكر الصدِّيق رضي اللهُ عنه: "من ذاق خالصِ محبَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ .. منعه ذلك من طلبِ الدنيا"؛ من الإلتفات إلى غير الله "وأوحشَهُ من جميع البشر"؛ أي: أبْعَدَ رغبتَهُ عن الإقبال عليهم والإكباب على الاستئناس بهم على غير القيام بالتَّقرُّب إلى الربِّ من تعليمٍ أو إرشادٍ أو نُصحٍ أو توجيهٍ أو تَخلُّقٍ، وما إلى ذلك مما يكون شأن الأنبياء وورثتُهم وأتباعهم مع الخلائق، وما فيه ما يندرجُ من الأخوة في الله والمحبة في الله إلى غير ذلك.

يقول الحسن البصري: "من عَرَف الله أحبَّه، ومن عَرَف الدُّنيا زهَد فيها"؛ أي: من عرف حقيقتها، لا يُمكن أن يرغب في شيء يضره أو يرغب في شيء يجعل عليه العاقبة سيئة، "والمؤمن لا يلهو حتى يغفُل، فإذا تفكَّر حزن".

ثم قال: إن كثير من المتكلمين -أي المتحدثين باسم علم التوحيد وغيره- يُنكِرون محبة الله -تبارك وتعالى-، قال: "وهؤلاء محرومون" لأنهم وقالوا: الحق -سبحانه وتعالى- لا يماثله شيء ولا يُشابهه شيء، فكيف تتصور المحبة لما لا يتوافق مع صفاتنا ولا مع أحوالنا؟ نقول لهم: أنتم عندكم أشياء معنويات ليست من طبيعتكم مثل: العلم، تحبون العلم أم لا تُحبون العلم؟ يقولون: نُحِب العلم، العلم ليس من جنسك، ليس من طبعك، كيف تحبه؟ هو أمر معنوي أيضًا.. وتُدرَك المحبة لكثير من الأشياء المعنوية ليست من جنسك ولا من طبعك وهكذا.. 

فقَصُرُوا في معرفة المحبة، ففسروها بمجرد امتثال الأوامر فقط، يقولون: هذا معنى محبتك لربك، أنك تمتثل لأوامره! وغلِطوا في ذلك، فإن كثيرًا يمتثِل أمر الآخر لا محبةً له، حتى أكثر العاملين في الوظائف وغيرها يمتثلون أمر مُدرائهم -المديرين-، وأمر الشركة لا عن محبة، بعضهم يَوَدّ لو يقدر يقتله سيقتله، ولكن يمتثل أمره تماماً من أجل الراتب، الراتب يأتي من عنده، وغير ذلك.

فالامتثال ما هو المحبة، الامتثال شيء والمحبة شيء، أنت قد تمتثل كُرهًا، وقد تمتثل لغرض آخر، ليست المحبة، لكن المحبة شيء عظيم..

صحيح أن المحب لابد يمتثل، لكن لا بدافع الخوف ولا غيره إلا بدافع المحبة نفسها، نعم هذا صحيح. ولكن ليس كل ممتَثِل مُحِب، وليست المحبة مجرد الامتثال؛ فالمحبة ذوق ووَجْد يجده العبد بينه وبين المحبوبات، ولا شيء أحقّ بالمحبة من الله على الإطلاق، بل لا يُمكن للعبد والمخلوق أن يُحِبَّ شيئًا لذاته من جميع الوجوه إلا الله.

أقرب الأشياء يُحَبُّ لذاته حبيبه محمد، ولكن مع ذلك ما كانت المحبة للحبيب ﷺ إلا من أجل الله؛ وإلا لأن محبتنا له مقرِّبة إلى الله -جلّ جلاله- وإلا لأنه حبيب الله، فالمحبوب لذاته من جميع الوجوه هو الله.. هو الله.. هذا لذاته لأنه الله، فقط.. انتهت المسألة. الله المُتفَرِّد بالخَلْق والرزق والإيجاد..الله، فهو محبوب لذاته -جلّ جلاله- من دون أي اعتبار آخر. وما يُحَبُّ غيره على وجه الحقيقة إلا من أجله، لِمَن عرَف الله، من عَرَفَ الله أحبّه. قال: "وهؤلاء محرومون" من إدراك هذه المحبة.

 ذكرنا أيضًا أنه يقول: "كل لذيذ محبوب، ومعنى كونه محبوبًا: ميل النفس إليه"، وإذا قوي هذا الميل يسمى مع المحبة عشقًا. "ومعنى كونه مبغوضًا: نَفْرَةُ النفس عنه؛ لكونه مؤلمًا"، وإذا قويت النفرة يسمى مقتًا.

"والأشياء تدركها" قال "بحواسك وجميع مشاعرك": 

  • إما تكون موافقة ملائمة وهو اللذيذ.
  • أو تكون منافية مخالفة وهو المؤلم.
  • أو لا موافقة ولا مخالفة التي لا ألم فيها ولا لذّة.

لأن "كل لذيذ محبوب وللنفس المُلتَذَّة به مَيْلٌ إليه"

اللَّذَّة قال: "تتبع الإدراك، والإدراك إدراكان: ظاهر وباطن"؛ من هنا تَعلَم محبة الأمور المعنوية.

"أمّا الظّاهر فبالحواس الخمس؛ فلا جَرَم لذة العين في الصور الجميلة، ولذة الأُذن في النغمات الموزونة الطيبة، ولذة الذوق والشم في الطعوم والروائح الملائمة الموافقة، ولذة جملة البدن في ملامسة الناعم الليّن، وجملة ذلك محبوبة للنفس" لكن هناك إدراك غير الحواس الخمس؛ "الإدراك الباطن: اللطيفة التي محلها القلب" يُعَبَّر عنها "بالعقل"، أو"بالنور"، أو"بالحِسّ السادس"، "لا تنظر للعبارات فتغلط"؛ المقصود: هذا السِّر الإلهي الذي أُمدِدتَ به، فكنت به تَفْقَه وَتُدرِك وتَعلَم الخِطاب. 

قال: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطِّيْب والنساء، وجُعِلَت قُرَّة عيني في الصلاة"، فالرواية التي في مسند أحمد وفي النسائي وغيره ليس فيها: "ثلاث"، "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطِّيْب والنساء، وجُعِلَت قُرَّة عيني في الصلاة"؛ لأن أكثر الناس يتعاملون مع الطِّيْب والنساء على حسب الدنيا وأنه دنيا، وليست الصلاة من الدنيا "وجُعِلَت قُرَّة عيني في الصلاة" ولكن الاثنان هؤلاء أكثر الناس يتعاملون معها على أساس أنها دنيا، إلا المُتَنَبِّهون الذائقون من خواص المؤمنين، فإنهم أيضًا يتطيّبون لله ويتعاملون مع الطِّيب للآخرة، وكذلك تعاملهم مع النساء، لا إله إلا الله…

فقال: "فتَعلَم أن الطِّيْب والنساء فيهما حظّ الشّمّ واللمس والبصر" قال: "والصلاة" إيش فيها؟ محبوبة عند النبي، إيش فيها؟ فيها لمس باليد أم طعم باللسان، أم نظر بالعين؟! إيش فيها؟! أمر معنوي… قال: هذا "لا حَظَّ فيها للحواس الخمس، بل للإدراك السادس الذي محلّه القلب" وبها التِذَاذٌ عظيم.

"ومن اقتصر من لذّته على الحواس الخمس.. فهو بهيمة" قال "لأن البهيمة تشاركه" تشاركه في المطعوم والملبوس والمتعة مثله هي، "إنما خاصية الإنسان التمييز بالبصيرة الباطنة" نَوَّرَ الله بصائرنا.

 

فصل

 [في بيانِ معنى الصُّورِ الجميلةِ الباطنةِ]

 لعلَّك تقول: ما معنى الصُّورِ الجميلةِ الباطنةِ؟ 

فأقول: ما عندي أنّكَ لا تُحِسُّ من نفسكَ حبَّ الأنبياءِ والعلماءِ والصحابة، ولا تُدرِكُ في نفسِكَ تفرقةً بين الملكِ العادلِ العالمِ الشجاعِ، الكريمِ العَطُوفِ على الخلقِ، وبين الظَّالمِ الجاهلِ، البخيلِ الفظِّ الغليظِ.

وما عندي أنَّك إذا حُكِيَ لك صِدقُ أبي بكرٍ، وسياسةُ عمرَ،  وسخاوةُ عثمانَ، وشجاعةُ عليٍّ رضوان الله عليهم.. لا تَجِدُ في نفسك هِزَّةً وارتياحاً وميلاً إلى هؤلاء، وإلى كلِ موصوفٍ بِخِلالِ الكمال؛ من نبيٍّ وصِدِّيقٍ وعَالِمٍ.

وكيف تُنْكِر هذا وفي الناس من يَفدِي بنفسهِ أربابَ المذاهب، ويحملُهُ حُبُّهُ لهُم على البَذلِ بالمالِ والنَّفسِ في الذًَبِّ عنهم، ويُجاوِزُ ذلك حَدَّ العِشق؟!

وأنتَ تعلمُ أن حُبَّك لهؤلاءِ ليس لصُوَرِهِم الظَّاهرة؛ فإنَّك لم تشاهدْها، ولو شاهدتَها.. ربَّما لم تستحسنها، وإن استحسنتها؛ فَلَو تَشوَّهَتْ صورُهُم الظَّاهِرةُ، وبَقِيَتْ صفاتُهُم المعنويةُ الباطنة.. لبقيَ حُبُّكَ لهم.

وإذا فَتَّشتَ عن مَحبُوبِكَ منهم.. رجَع بعد التَّفصيلِ الطَّويلِ الذي لا يَحتَمِلُهُ هذا الكتابُ إلى ثلاثِ صفاتٍ: العلمِ، والقدرةِ، والنَّزاهةِ عن العيوبِ.

  • أمَّا العلمُ: فكعلمِهِم باللهِ وملائكتهِ وكتبهِ ورسلِهِ وعجائبِ ملكوتِهِ ودقائقِ شريعةِ أنبيائِه.
  • وأمَّا القدرةُ: فكقدرتِهِم علىٰ أنفسِهِم بِكَسرِ شهوتِها، وحَمْلِها على الصِّراطِ المستقيم، وقدرتِهِم على العبادِ بسياستِهِم وإرشادهم إلى الحقِّ.
  • وأمَّا النَّزاهةُ: فبِسلامةِ باطِنِهِم من عيبِ الجهلِ والبخلِ، والحسدِ وخبائثِ الأخلاقِ، واجتماعُ كمَالِ العلمِ والقدرةِ مع حُسنِ جميعِ الأخلاقِ .. هو حُسنُ الباطنِ، وهي الصُّورَةُ الباطنة التي لا تُدرِكها البهيمة ومَن في مِثلِ حالها بالبَصَرِ الظَّاهر.

ثمَّ إذا أحببتَ هؤلاءِ لهذه الصفات، وعلمتَ أن النبيَّ ﷺ كانَ أجْمَعَ منهم لهذه الخِصَالِ.. كان حُبُّكَ له أشدُّ بالضرورة، فارفع نَظَركَ الآن من النَّبيِّ إلى مُرسِلِ النَّبيِّ وخالقهِ، والمُتَفَضِّلِ على الخَلقِ ببعثِهِ؛ لِتعلَمَ أنَّ بِعثةَ الأنبياءِ حسنةٌ من حسناتِهِ.

ثمَّ انسُب قُدرة الأنبياء وعلمَهُم وطهارتَهُم إلى عِلمِ الله سبحانَهُ وقُدرتهِ وقُدسِهِ؛ لتعلَم أنَّه لا قُدُّوسَ سِوى الواحدِ الحقِّ، وأنَّ غيرَه لا يخلو من عيبٍ ونقصٍ.

بل العبوديَّة أعظمُ أنواعِ النَّقص؛ فأيُّ كمالٍ لِمَن لا قِوامَ له بنفسِهِ، ولا يَملكُ لنفسِه موتًا ولا حياةً، ولا رزقًا ولا أجلًا؟!

وأيُّ عِلْمٍ لِمَن تُشْكِلُ عليه صفاتُ باطنهِ في مرضِهِ وصحَّتِهِ، بل لا يَعلمُ جميعَ جوارحِهِ الباطنةِ، وتفصيلَها وحكمتها بالتحقيقِ، فضلاً عن ملكوتِ السماواتِ والأرضِ؟! 

وانسُب هذا إلى العِلمِ الأزليّ المُحيط بجميع الموجودات والمعلومات التي لا نهاية لها، الذي لا يَعزُب عنه مثقال ذرَّة في السماوات ولا في الأرض، وإلى قدرة خالق السماوات والأرض الذي لا يَخرجُ موجود عن قبضة قدرته، في وجوده وبقائه وعدمه. 

وانْسُب نزاهتَهُ مِن العيوبِ إلى قُدسِه، لتعلم أنه لا قُدسَ ولا قدرةَ ولا علمَ إلا للواحد الحقّ، وإنما لغيره القدرة التي أعطاه 

  • (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)[البقرة:255]
  • (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)[الإسراء:85]

فانظر الآن هل يمكنك أن تُنكِر أن هذه الصفات والمحامدَ محبوبةٌ، أو تُنكِر أنَّ الموصوف بكمالِ الجلالِ هو الله تعالى؟!

وانظر كيف تُنكِر حُبَّهُ بعد ذلك؟! 

 

لا إله إلا الله، فهو الأحقُّ بالمحبة -جلّ جلاله-.

قال: "ما معنى الصور الجميلة الباطنة؟" قال: أنت بنفسك تَحِسّ؛ تَحِسّ حُبّ الأنبياء والعلماء والصحابة والصالحين، بينك وبينهم قرون، لماذا أحببتهم؟ لأنك لَمَست أو نظرت أو طَعِمت أو شممت؟! ولا شيء من هذا، الحواس الخمس ما لها دخل فيهم.. لماذا أحببتهم؟ وتُدرِك في نفسك تَفرِقَة بين مَلِك عادل عالم شجاع كريم عطوف على الخَلق، وبين مَلِك ظالم جاهل بخيل فَظّ غليظ، فتدرك فرق بين الميل إلى هذا والميل إلى هذا، تحس بهذا يقين. 

وإذا حُكي لك صدق سيدنا أبي بكر وحُسن سياسة سيدنا عمر وسخاوة سيدنا عثمان وشجاعة سيدنا علي، أحببتهم، تجد في نفسك هزَّة وارتياح وميل إليهم. وفي الناس من يفدي صاحب مذهبه المنتمي إليه، بغاية المحبَّة، يفدي ولو بِبَذْل روحه، مع أنه ما أدركه ولا شيء من الحواس الخمس متعلقة بإمام مذهبه أصلاً.

"تعلم أن حبك لهؤلاء ليس لصورهم الظاهرة"، ربما لو شاهدت صورهم ما تعجبك، ولكنك تحبهم، ولو أعجبتك وتشوّهت صورهم ولكن هذه الخِصَال المحمودة فيهم؛ لبقيت تحبهم. إذًا؛ فالمحبة ليست لشكل ولا لصورة ولا لِحِسّ، هي محبة لأمر معنوي. 

"وإذا فتشت" قال: تَجِد أن أهل الكمال من الخلائق كلهم الذين يُحَبَّون بِحُكم العقل والفطرة، ترجع المحبة لهم إلى: 

  • علم 
  • وقدرة 
  • ونزاهة عن العيوب 

لذلك تميل النفس إلى صاحب العلم وصاحب القدرة والمنزّه عن المعايب، فتعشقه وتحبه، تحبه إلى أن تصل إلى عشقه، وهذا أمر ما له دخل في الحس ولا في الجسمانيات ولا في الحواس الخمس أصلاً.

قال: 

  • عِلْمُهُم مثل: ما اخْتُصُّوا به من العلم بالله وأسرار الله في مُلكِه وملكوته، وما اختُصُّوا به من معرفة جلاله وعظمته ومعاني أسمائه وصفاته، وملائكته وكتبه ورسله، وعجائب الملكوت ودقائق شريعة الأنبياء، هذا علم؛ فلذلك تحبهم لأجل هذا العلم الموسوع لديهم. 
  • "والقدرة" كذلك مثل: "قدرتهم على أنفسهم بِكَسر شهوتها وحَملِها على الصِّراط المستقيم" والاستقامة عليه، وقدرتهم على العباد بحُسن سياستهم وتدبيرهم وإرشادهم إلى الحق. 
  • وسلامتهم من العيوب، "النزاهة عن العيوب": سلامتهم من عيب الجهل والبخل والحسد وخبائث الأخلاق، تنزهّهم عن ذلك. 

"اجتماع كمال العلم والقدرة مع حسن الأخلاق"؛ هذا حُسْنٌ باطن؛ صورة حسنة جميلة معنوية، لا دخل للحواس الخمس فيها، لكن تدركها بقلبك، لها صورة جميلة، أجمل من كل ما تتصوره من الأشكال الحسية؛ لأجل هذا الجمال أنت تُحِب.

قال: فإذا أحببتَ هؤلاء المقرّبين والصالحين والأنبياء من أجل هذه الصفات، وعَلِمتَ أن واحد اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أجْمَع لهذه الصفات والخصال الحميدة، إن كانوا علماء فهو أعلم، وإن كانوا ذوي قُدرة فهو أقدر، وإن كانوا منزهّين عن العيوب فهو أنْزَه وأطْهَر ﷺ، فهو أولى بالمحبة، أولى بهذه المحبة، فما من صورة في الجمال مثل صورته -صلوات الله وسلامه عليه- في الجمال المعنوي وفي الجمال الحسي، ولكن ما هناك شيء يشبهه من هذه الكائنات.

مُنَزَّهٌ عن شَرِيكٍ في مَحَاسِنِهِ *** فَجَوهَرُ الحُسنِ فيه غير مُنقَسِمِ

ﷺ.. كيف ما تكون محبتك له أشد؟ وتكون محبتك له أكثر؟  صلى الله  وسلم عليه وعلى آله.

قال هيا تعال الآن.. وصلت إلى هذا، وعرفت أن هناك في القلب محبة وعشق لأمر معنوي بعيد، وصلنا إلى الحدود الكبرى عند الحبيب.. قال: تعال، هذا النبي من مُرسِله؟ ومن مُنبّؤه؟ ومن مُختاره؟ ومن مُصطَفيِه؟ ومن خالقه؟ الله!..

وما له ولمن وراءه من العلماء علم إلا ما علّمهم، ولا لهم من الجمال إلا ما جمّلهم، ولا لهم من الكمال إلا ما كمّلهم ، ولا لهم من القدرة إلا ما أقدَرَهم عليه؛ فهو أحق أن يُحَب -جل جلاله- أحق أن يُحَب جل جلاله وتعالى في علاه.

فلا تقل كيف نحب الله تعالى وهو ليس من جنسنا ولا يشابهنا ولا نشابهه!.. فَتَعَلّم هذه المحبة وغُص فيها. و يالله بِذَرَّة مِن محبة الله نَفنَى بها عن كل ما سِوى الله ولا نرى من بعدها سِوى الله…

يالله بِذَرَّة مِن مَحَبَّة الله *** أفنَى بِهَا عَن كُلِّ مَا سِوَى الله

وَلَا أرَى مِن بَعدِهَا سِوَى الله *** الوَاحِد المَعْبُود رَبّ الأرباب

فَمَا أُرَجِّي اليوم كَشف كُربَة *** إلا أن صَفَى لي مَشرَبُ المحبةِ

وَنِلت مِن رَبّي رِضىً وَقُربَة *** يكون فيها قطع كل الأسباب

على بِسَاط العِلم والعِبَادَة *** والغَيب عِندِي صَار كالشَّهادَة

هَذا لَعَمرِي مُنتَهَى السَّعَادَة *** سُبحَان رَبِّي من رَجَاه ما خَاب

يا طَالِبَ التَّحقِيق قُم وبَادِر *** وَانهَض على سَاقِ الهِمَم مُخاطِر

وَاصبِر على قَمعِ الهَوَى وصَابِر *** واصدُق ولا تَبرَح مُلازِمَ البَاب

واعلَم بِأنَّ الخَير كُلُّه أجمَع *** ضِمن اتِّبَاعَك للنَّبي المُشَفَّع

إن أردت وصول إلى الخالق؛ فهو من ذا الباب، تريد محبة الخالق، تريد تحب الخالق، هو ذا الباب (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) كله هنا (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[آل عمران:31] الله أكبر!

واعلَم بِأنَّ الخَير كُلُّه أجمَع *** ضِمن اتِّبَاعَك للنَّبي المُشَفَّع

صلى الله وسلم عليه وعلى آله

صَلَّى عَلَيه الله ما تَشَعشَع *** فَجرٌ ومَا سَالَت سُيُول الاشعاب

 

 لا إله إلا الله الواحد الكبير الوهاب، الذي خَصَّنَا بسيد الأحباب، من أَنْزَل عليه الكتاب، فَصَار مَجلَىٰ الجمال الأعلى والكمال الأسنىَ، صلوات ربي وسلامه عليه. 

كَمَّل مُكَمَّلين من أنبياء وملائكة ومقربين، ولكن هذا أكْمَل ﷺ، وقَرَّب مُقَرَّبين ولكن هذا أقرب، وأحبَّ محبوبين ولكن هذا أحَبّ، بل جعله الأصل لمحبة كل محبوب ولقُرب كل مُقَرَّب، فهو سيدهم على الإطلاق.

وإنَّ رَسُول الله مِن غَيرِ رِيبَةِ *** إمامٌ على الإطلاقِ في كُلِّ حَضرَةِ

وَجِيهٌ لَدَى الرَّحمن فِي كُلِّ مَوطِنٍ *** وَصَدرُ صُدُورِ العارفين الأئمَّةِ

صلى الله وسلم عليه وعلى آله.

هو السَّاس والرَّأس للأمرِ كُلِّهِ *** بِأوَّلِهِم يُدعَى لِذَاكَ وآخِرِ 

وتَحتَ لِواه الرُّسُلُ يَمشُونَ فِي غدٍ *** وَنَاهِيكَ مِن جَاهٍ عَرِيضٍ وبَاهِرِ

وَفِيهِ عََليهِ الله صَلًَى وَدَائعٌ *** من السِّرِّ لا تُروَى خِلال الدَّفَاتِرِ

ولكَّنهَا مَكتُومَةٌ ومُصَانَةٌ *** لَدَى الأوليَاء العَارِفِينَ الأكابِرِ

ومَورُوثَةٌ مَخصُوصَةٌ بِضَنَائِنٍ *** لِرَبِّكَ من أهلِ التُّقَى والسَّرَائِرِ

الذين انفتحت أنوار بصيرتهم، ومُكِّنُوا بالبَصِيرَة مِن مُطَالَعَة الجمال الأقدس المعنوي، هم يعلمون عنه ما لا يعلمه غيرهم. ولهذا أعْلَمُ الخَلق به: الأنبياء أهل النبوة؛ هم أعلم بمحمد من غيرهم، ثم الأقرب فالأقرب إليه أعلم، وكل من علمه هَامَ في حُبِّه، صلى الله عليه وعلى آله. 

لذا رأيت كيف حال الصديق؟ كيف حال الفاروق؟ كيف حال أهل الكساء؟ وكيف حال السابقين من المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم؟ فيهم الذي أزعجهم أن ينقطعوا عن رؤيته في الدار الآخرة، فحال بينهم وبين الطعام والشراب، حتى يذكره أحدهم وهو بين أهله وولده، فيخرج من عند الأهل والولد لينظر إليه ﷺ.

وبذلك نزل التبشير لهم من الله في القرآن أنه سيجمعهم معه في الجنة: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا)[النساء:69].

اللهم ارزقنا الحَظَّ الوافر من محبّتك ومحبته يا أرحم الراحمين، حتى نحيا ونموت وأنت ورسولك أحب إلينا مما سِواكُما.

ثم إن قدرة الأنبياء وعِلمُهم وطهارتهم إلى عِلمِ الله ماذا تكون؟ فلا قدوس سوى الحق الواحد -جل جلاله-، وغيره أقل ما فيه من نَقْص أنه كان عَدَم، هذا ثابت لكل أحد، جميع أهل الكمال من غير الله كانوا عدم، هذا ضروري، لكن هو الموجود بذاته، فهو المُقَدَّس تمامًا، فهو الأحَقُّ بالمحبة -جل جلاله-. 

ولهذا يقول: 

  • إذا كنت تعشق وتُحِب من أجل الكمال، فلا أكمل من ربك. 
  • وإن كنت تعشق وتُحِب من أجل الجمال، فلا أجمل من ربك. 
  • وإن كنت تحب وتعشق من أجل الإحسان والإنعام، فما بك من نعمة كبيرة ولا صغيرة، قديمة… إلا ومنه -جلّ جلاله-. 

فهو رَبُّ الإنعام، وهو أحَقُّ أن يُحَبَّ من كل شيء، وهو ربنا الحق المحبوب لذاته -سبحانه وتعالى-، ومن أجله أحْبَبْنَا من أحْبَبْنَا. 

وسيتكلم بعد ذلك عن أنّ من عرف وصدَق مع الله يصير لا يُحب إلا الله؛ لأن كل ما يحبه دون الله فمن أجل الله، فهو داخل في محبة الله؛ وحينئذٍ يرتقي الحال والمقام بين العبد وربّه. اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا.

اللهم صلِّ عليه عنَّا في كل لمحة ونَفَس أفضل الصلوات، وأتم الصلوات، وأزكى الصلوات، وأعلى الصلوات، واجعل لنا منه شريف الصِّلات، ويرفعنا به إلى عليِّ الدرجات، ويجعلنا مذكورين في حضرته، ومذكورين بالذكر في حضرتك، في حضرة الرحمن الرحيم المنّان الكريم الوهاب العظيم -جلّ جلاله-، في أعلى وأسنى ما يَذكُر به من سبقت لهم منه سوابق الإسعاد وواسع الإمداد والفيض الذي ما له من حصرٍ ولا تعداد، وأن الله يفيض علينا وعليكم فائضات الوداد، ويُلحِقنَا بخير العباد، ويُحَنِّن روحه علينا، ويُعَطِّف قلبه علينا، ويجعلنا مذكورين في حضرته، فائزين بنظرته، مستقيمين على منهاجه وحُسن متابعته، ويُحيي فينا وبنا سُنّته وهديَه وشريعته وملته، وأوصافه ومكارمه وأخلاقه وشمائله، وما جاء به عن الله -تبارك وتعالى- ويجعلنا بذلك ممن يرقى أعلى مراقي الصدق مع الحق -سبحانه وتعالى-، والانطواء الكامل التام في خير الخلق، والاقتداء به والاتباع؛ حتى يكون هوانا تبعًا لما جاء به، ويُشرّفنا الله بقربه، ويُشرّفنا الله بحبه، ويُشرّفنا الله بشرب من شُربِه، ويسقينا كؤوس محبته، ويثبِتنا في خواص أحبَّته، ويجعلنا منه على بال في كل حين وفي كل حال، ويرفعنا به إلى المراتب العَوال، ويجعل لنا به ربط لا ينحلّ ما له من زوال، يزداد على مدى الآباد بلا انقطاع أبدًا سرمدا.

وأن الله يتولانا به فيما خَفِيَ، ويتولانا به فيما بدا، وينظر به إلى قلوبنا ويصلحها، وينظر به إلى أحوالنا ويصلحها، وينظر به إلى أهلينا وأولادنا، وينظر به ﷺ إلى شامنا وإلى يمننا وإلى شرقنا وإلى غربنا

نظرة تُزِيل العَنَا *** عنَّا، وتُدنِي المُنَى 

مِنَّا، وكُلُّ الهَنَا *** نُعطَاهُ في كُلِّ حين

ويُعَجِّل بالفرج، ويرفع الضيق والحرج، يثبّتنا أكمل الثبات، ويرفعنا عليّ المقامات، في عوافي كاملات

بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ

 إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ خير البريّات 

في الحديث القدسي يقول تعالى: " أنا جليس من ذَكَرَنِي"، والحبيب ﷺ قالوا متَخلِّق بأخلاق الله -عزَّ وجَل- اللهم انظر إلينا به وسِر بنا في دربه، واسقنا من شُربه، والحمدلله رب العالمين. 

 

 

 

 

يا وارد الأنس والأفراح في السحر

أزحت ما بفؤادي من لظى الكدر

ناشدتك الله هل جُزت العقيق وهل

مررت بالأرض ذات الماء والشجر

أرض بها سحب الإفضال ممطرة

مخضرة الترب بالأعشاب والزهر

بها المسرة والأفراح دائمة

يا فوز سكانها بالخير والظفر

الله الله إني لأذكرها

يوماً وبي حزن فيرحل الحزن من قلبي مع الضجر

حوت حبيباً به الأكوان عاطرة

يضوع رياهُ في سهل وفي وعر

صلى الله عليه براً سخياً تقياً سيداً سنداً

يضيء في الكون لأهل الكون كالقمر

فرد الجلالة بحر الجود إن تره

في حالة الجود تلقى الجوهر المطري

أصل السيادة بل عين العناية بل

روح الهداية لُبُّ اللُّبِّ من مضر

صلى الله عليه زعيم الوجود وخير الخلق من شرفت

به البرية من بادٍ ومن حضر

صلى الله عليه عنه الجمادات أضحت وهي مفصحة

وقد أتى مدحه في معظم السور

محمداً خير خلق الله قاطبةً

وسيد الجن والأملاك والبشر

يا سيدي يا حبيب الله يا سندي

ويا ملاذي ويا ركني ويا وتري

ويا غياثي ويا كهفي ويا ثقتي

ويا سروري ويا روحي ويا وطري

أنت الغياث لمن ضاقت مذاهبه

وخير من يرتجى في العسر واليسر

صلى الله عليك وأنت أكرم من في الكون والسبب

الأقوى لنيل المنى والفوز بالظفر

 

إذا ذكرتم حبيبي شوفوا ذاك الطيب

حسيت الهنا يا الله اسكب علينا سكيب

إذا ذكرتم حبيبي شوفوا ذاك الطيب

حسيت الهنا يا الله اسكب علينا سكيب

 

بالله يا من حضر شلوا بذكر الحبيب

الذكر خمر الأكابر لا العنب والزبيب

بالله يا من حضر شلوا بذكر الحبيب

الذكر خمر الأكابر لا العنب والزبيب

 

ذكره دواء كل ذاكر وهو مسك وطيب

يقرب به ذاكره يصبح من الله قريب

ذكره دواء كل ذاكر وهو مسك وطيب

يقرب به ذاكره يصبح من الله قريب

 

ومن تعلق بحبل المصطفى ما يخيب

يا عيش من قد تعلق به لذيذ عجيب

ومن تعلق بحبل المصطفى ما يخيب

يا عيش من قد تعلق به لذيذ عجيب

 

حياة قلبي بذكره أحمد وهو لي طبيب

يبغتنا بالمشافه في المقام الرهيب

حياة قلبي بذكره أحمد وهو لي طبيب

يبغتنا بالمشافه في المقام الرهيب

 

حبيبي يا أحمد حبيب السميع المجيب

بسجدةٍ يا لها سجدة بموقف مهيب

حبيبي يا أحمد حبيب السميع المجيب

بسجدةٍ يا لها سجدة بموقف مهيب

 

الله الله الله الله الله الله

تاريخ النشر الهجري

05 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

28 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام