الأربعين في أصول الدين - 38 | تكملة التوكل (2)

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثامن والثلاثون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: تكملة شرح الأصل السابع: التوكل (2)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

فجر الخميس 5 ربيع الأول 1447هـ

ما الذي يَحُول دون التوكّل؟ يوضح الحبيب عمر بن حفيظ في الدرس ثلاث مراتب للتوكل، ويبين معنى التوكّل بوصفه ثمرةً لتوحيد الأفعال، وكيف تُصاغ المعرفةُ التي تُنشئ حال الاعتماد، مع أمثلةٍ تُقرّب النظر في الأسباب إلى مُسبِّبها..

 

نص الدرس مكتوب:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبِسنَدكُم المتَّصل لِلإمام حجَّة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

الأصل السَّابع

فصلٌ: في بيانِ حقيقةِ التَّوكُّلِ

حقيقةُ التَّوكُّلِ: عبارةٌ عن حالةٍ تصدُرُ عنِ التَّوحيدِ، ويظهرُ أثرُها على الأعمالِ؛ فهيَ ثلاثةُ أركانٍ: المعرفةُ، والحالُ، والعملُ.

الرُّكنُ الأوَّلُ: المعرفةُ؛ وهيَ الأصلُ، وأعني بها: التَّوحيدَ؛ فإِنَّهُ إِنَّما يَتوكَّلُ على اللهِ.. مَنْ لا يرى فاعلًا سوى اللهِ.

وكمالُ هذهِ المعرفةِ يُترجِمُها قولُكَ: "لا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ المُلْكُ، وله الحمدُ، وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ" إذ فيهِ إيمانٌ بالتَّوحيدِ، وكمالِ القدرةِ والجُودِ، والحِكَمِ التي بها يَستَحِقُّ الحمدَ.

فمَنْ قال ذلك صادقًا مُخلِصًا.. فقد تمَّ توحيدُهُ، وثبتَ في قلبِهِ الأصلُ الذي منه يَنبَعِثُ حالُ التَّوكُّلِ عنهُ، وأعني بالصِّدقِ فيهِ: أن يصيرَ معنى هذا القولِ وصفًا لازمًا لذاتِهِ، غالبًا على قلبِهِ، لا يَتَّسعُ لتقديرِ غيرِهِ.

فصلٌ 

في بيانِ طبقاتِ التَّوحيدِ الأربعةِ

هذا التَّوحيدُ لهُ لُبَّانِ وقِشرانِ، وطبقاتُهُ أربعٌ؛ كاللَّوزِ لهُ لُبٌ، ثمَّ الدُّهنُ لُبُّ لبِهِ، والقِشرةُ العُليا قِشرُ قِشرِهِ.

فالقِشرةُ العُليا: القولُ باللِّسانِ المُجرَّدُ؛ وهوَ إيمانُ المنافقينَ.

والثَّانيةُ: الاعتقادُ بالقلبِ جزمًا؛ وهوَ درجةُ عوامِّ الخَلْقِ، ودرجةُ المُتكلِّمِينَ؛ إذ لا يَتميَّزونَ عنِ العوامّ إلَّا بمعرفةِ الحِيلةِ في دفعِ تشويشِ المُبتدِعةِ عن هذهِ الاعتقاداتِ.

الثَّالثةُ -وهيَ اللُّبُّ-: أن يَنكشِفَ لَهُ بِنورِ اللهِ -تعالى- حقيقةُ هذا التَّوحيدِ وسرُّهُ بالحقيقةِ؛ وذلكَ بأن يرى الأشياءَ الكثيرةَ ويَعْلَمَ أنَّها بجملتِها صادرةٌ عن فاعلٍ واحدٍ على التَّرتيبِ؛ وذلكَ بأن يَعرِفَ سلسلةَ الأسبابِ وكيفيَّةَ تسلسلِها، وارتباطَ أوَّلِ السِّلسِلةِ بمُسبِّبِ الأسبابِ.

وصاحبُ هذا المَقامِ بَعدُ في تَفرِقةٍ؛ لأنَّه يرى الأفعالَ وكثرتَها وارتباطَها بالفاعلِ.

الرَّابعةُ -وهيَ لُبُّ اللَّبِ-: ألَّا يرى في الوجودِ إلَّا واحدًا، ويَعلَمَ أَنَّ الموجودَ بالحقيقةِ واحدٌ، وإِنَّما الكثرةُ فيهِ في حَقِّ مَنْ تَفَرَّقَ نظرُهُ؛ كالذي يرى مِنَ الإنسانِ مثلًا رِجلَهُ، ثُمَّ يَدَهُ، ثُمَّ وجهَهُ، ثمَّ رأسَهُ، فَتَغلِبُ عليهِ كثرتُهُ، فإن رأى الإنسانَ جملةً واحدةً.. لم يَخطُرْ ببالِهِ الآحادُ، بل كانَ كَمُدْرِكِ الشَّيْءِ الواحدِ.

فكذلكَ المُوحِّدُ، لا يُفرِّقُ نظرَهُ رؤيةُ السَّماءِ والأرضِ وسائرِ الموجوداتِ، بل يرى الكلَّ في حكمِ الشَّيءِ الواحدِ.

وهذا لهُ غورٌ، ويستدعي كشفُهُ تطويلًا، فاطلبْهُ مِنْ (كتاب التَّوحيدِ والتَّوكُّلِ) مِنْ كتبِ (الإحياءِ) لتقفَ على تلويحاتٍ منهُ.

والفَناءُ في التَّوحيدِ إنَّما يقعُ في هذا التَّوحيدِ؛ وذلكَ بأن يصيرَ مُستغرِقًا بالواحدِ الحقِّ، حتَّى لا يَلتَفِتَ قلْبُهُ إلى غيرِهِ، ولا إلى نفسِهِ، فإِنَّ نفسَهُ -مِنْ حيثُ هي نفسُهُ- غيرُ اللهِ، وإن لم يَتَحقَّقْ لهُ معنى الغيريَّةِ في الحالِ.. يتحقَّقْ لَهُ بنظرٍ آخَرَ، واعتبارٍ على وجهٍ آخَرَ.

 

فصلٌ

 في بيانِ أنَّ الأفعالَ كلَّها مرتبطةٌ بمُسبِّبِ الأسبابِ 

حقيقةُ التَّوكُّلِ إِنَّما يستدعي توحيدَ الفعلِ، ولا يستدعي الفنَاءَ في توحيدِ الذَّاتِ، بلِ المُتوكِّلُ يجوزُ أن يرى الكثرةَ والأسبابَ والمُسبَّبَاتِ، ولكن ينبغي أن يشاهدَ ارتباطَ السِّلسِلةِ بمُسبِّبِها.

وما عندي أنَّ ذلك يخفى عليكَ فيما لا يدخلُ فيهِ اختيارُ الآدميِّينَ؛ فإنَّكَ إن رأيتَ المطرَ سببًا في النَّبَاتِ.. فتَعلَمُ أَنَّ المطرَ مُسخَّرٌ بوَسَاطةِ الغيمِ، والغيمَ مُسخَّرٌ بوَسَاطَةِ الرِّيحِ وأبخرةِ البحارِ، وكذلكَ البحارُ جماداتٌ مُسخَّرَةٌ.. إلى أن ينتهيَ إلى الأوَّلِ لا محالةَ، وإن كنتَ لا تَعرِفُ عددَ الوسائطِ.. فلا يَضرُّكَ ذلك.

وإنَّما الذي يخفى عليكَ.. أفعالُ الآدميِّينَ؛ فَإِنَّكَ تَقولُ: مَنْ أطعمَني طعامًا.. فإنَّما يُطعِمُني باختيارِهِ؛ إن شاءَ.. أعطى، وإن شاءَ.. منعَ، فكيفَ لا أَراهُ فاعلًا؟!

وإِنَّما مَثَلُكَ في الالتفاتِ إليهِ.. مَثَلُ النَّملةِ؛ ترى سوادَ الخطِّ على البياضِ يَحصُلُ مِنْ حركةِ القلمِ، فتضيفُ ذلكَ إلى القلمِ؛ إذ حدقتُها الصَّغيرةُ الضَّعيفةُ لا تمتدُّ إلى الإصبِعَ، ومنها إلى اليدِ، ومنها إلى القدرةِ المُحرِّكة لليدِ، ومنها إلى الإرادةِ التي القدرةُ مُسخَّرةٌ لها، ومنها إلى المعرفة التي يَتَوقَّفُ انبعاثُ الإرادةِ وانجزامُها عليها، ومنها إلى صاحبِ القدرةِ والعِلْمِ والإرادةِ.

فكذلكَ أنتَ تضيفُ أفعالَ العبادِ إلى إرادتِهِم ومعرفتِهِم وقدرتِهِم؛ إذ ليسَ يَمتدُّ نظرُكَ إلى القلمِ الذي بهِ تنسطرُ المعرفةُ في ألواحِ القلوبِ، ومنهُ إلى الأصابعِ التي بينَها قلوبُ العبادِ، ومنها إلى اليدِ التي بها خُمِّرَتْ طينةُ آدم، ومنها إلى القدرةِ التي بها تَتَحرَّكُ اليدُ لتخميرِ الطِّينةِ، ومنها إلى القادرِ الذي منهُ تبدأُ وإليهِ تعودُ.

وذلك لأنَّكَ لا تَعرِفُ معنى قولِهِ ﷺ: "إِنَّ اللَّه خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ" ، ولا معنى قوله -تعالى-: "خَمَّرْتُ طِينَةَ آدَمَ بِيَدِي"، ولا معنى قوله -تعالى-: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 4-5] فإِنَّك لا تعلمُ قلمًا إِلَّا مِنْ قَصَبٍ، ولا يدًا ولا أصابعَ إِلَّا مِنْ لحومٍ وعظامٍ، ولا صورةً إِلَّا مِنَ الألوانِ والأشكالِ.

فإنِ انكشفَ لكَ ذلكَ.. علمتَ أنَّكَ ما رميتَ إذ رميتَ، ولَكنَّ اللهَ رمى؛ حيثُ  َسلَّطَ عليكَ دواعيَ جازمةً، ومعرفةً حاكمةً على القطعِ بأنَّ نجاتَكَ في الرَّميِ مثلًا، حتَّى انبعثَتِ القدرةُ التي انفردَ أيضًا بخلقِها خادمةً للإرادةِ، والإرادةُ خادمةٌ للمعرفةِ خدمةً بالتَّسخيرِ والاضطرارِ، وعلمتَ أَنَّكَ مُضطَرٌ إلى عينِ الاختيارِ، فتفعلُ إن شئتَ ذلك، ولكنْ تشاءُ إذا شاءَ اللهُ -تعالى-، شئتَ أم أبيتَ.

وهذا الآنَ فيهِ سِرٌّ يُحرِّكُ قاعدةَ الجبرِ والاختيارِ، ويُوهِمُ تناقضَ التَّوحيدِ وتكليفِ الشَّرعِ، وقد شرحناهُ في (كتابِ التَّوحيدِ والتَّوكُّلِ) و(كتابِ الشُّكرِ) مِنْ كُتُبِ (الإحياءِ)، فاطلبْهُ منهُ إن كنتَ مِنْ أهْلِهِ.

 

جعلنا اللهُم من أهلهِ في عافية.

الحمدُ للهِ مُكرِم من شاء بإشراق أنوار المعرفةِ به؛ فتستغرق جميعَ قلبه ولُبِّه، فيرقى حتى لا يشهدَ غير ربّه، فيتولّاه -سبحانه وتعالى- في تقليبِهِ لِقَلبِه ولايةً يَقيِهِ بها شرَّ الأنفسِ والأسواءِ والأدواءِ في السرِّ والنَّجوى، من حيثُ أحاطَ بها علمُه. وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، لهُ الملكُ ولهُ الحمد، يُحيي ويُميت وهوَ حيٌّ لا يموت، بيدهِ الخيرَ وهوَ على كلِ شيءٍ قدير، يجمعُ أهلَ الصدقِ في الإقبالِ عليهِ..عليه، ويتولَّاهُم -سبحانه وتعالى- فيُوصِلهم إليهِ، ثُمَّ لا يكلهُم إلى أنفسِهِم ولا إلى أحدٍ من خلقِهِ طرفةَ عين، فيتحلَّوْنَ بكلِ زين ويتَخلَّوْنَ عن كلِ شَيْن، وأشهدُ أنَّ سيدنا ونبيَّنا وقرةَ أعينِنَا ونورَ قلوبِنَا محمدًا عبدهُ ورسولهُ، جامعِ صفاتِ الكمالِ في صدقِ الإقبالِ والفناءِ في الكبيرِ المُتعَالِ والبقاءِ بِهِ في جميعِ الأحوال.

اللهُمَّ أدِم صلواتكَ على معدنِ النُّورِ والعِصمة والكرامةِ سيدنَا محمَّدٍ الشَّفيع الأعظَم في الدنيا والبرزخ ويوم القيامَة، وعلى آلهِ وصحبهِ المَخصوصِينَ بالكرامةِ، ومَنْ اتَّبعهم بإحسانٍ واقتدى بِهم فأحسنَ ائتِمَامه، وعلى آبائِهِ وإخوانِهِ من الأنبياءِ والمُرسَلين سَاداتِ أهلِ الإِمَامةِ والزَّعامةِ، وعلى آلهِم وصحبِهِم وتَابِعيهِم وعلى الملائِكة المقرَّبين وعلى جميعِ عبادِك الصَّالحين وعلينا معهُم وفيهِم برحمتك يا أرحمَ الرَّاحِمِين.

أما بعد،

يُبيّن لنا الشيخ -عليه رحمة الله- حقيقة التوكل على الله -سبحانه وتعالى-، وقال: "تصدُرُ عنِ التَّوحيدِ، ويظهرُ أثرُها على الأعمالِ، فأركانها: "المعرفةُ، والحالُ، والعملُ."

كما تقدّم معنا فيما ذَكَر لنا من الإخلاص والصدق؛ فأمّا "المعرفةُ؛ وهيَ الأصلُ"، فإنما هو حقيقة من حقائق التوحيد للمَلِك الواحد المجيد -جل جلاله-، "إِنَّما يَتوكَّلُ على اللهِ.. مَنْ لا يرى" في الوجود "فاعلًا غير اللهِ"؛ ومعنى أن جميع الأفعال التي يُجريها -سبحانه وتعالى- على يد خلقه فهي من تكوينه ومن خلقه، قال سيدنا الخليل إبراهيم: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:95-96]... (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ).

قال: أنّ "هذهِ المعرفةِ يُترجِمُها قولُكَ: لا إلهَ إِلَّا اللهُ، وحدَهُ لا شريكَ لهُ"؛ ولكن كما علمت أن

  • شأن عامة المؤمنين في قولهم لا إله إلا الله، معناه عندهم: لا معبود إلا الله، لا معبودَ بحقٍ إلا الله.
  • ولكن عند الخواص معنى لا إله إلا الله: لا مقصود إلا الله -جل جلاله وتعالى في علاه-؛ فهم مع نفيهم لمعبود حقٍ سواه، ينفون أن يكون لهم مقصود غيره -جل جلاله-.
  • ويقول لا إله إلا الله أرباب النهايات من خواص الخواص، ومعناها عندهم: لا موجود إلا الله ولا مشهود إلا الله -جل جلاله-؛ فهم:
    • ينفون أي معبود غيره، وأن لا تكون عبادة صحيحة إلا له، ولا معبود بحق إلا هو.
    • كما ينفون قصدهم لغيره.
    • ينفون -كذلك- الوجود الحق الذاتي لسواه -جلّ جلاله-.
    • ثم ينفون أن يشهدوا غيره -سبحانه-.

وكلهم في لا إله إلا الله؛ "لا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ" في أسمائه ولا ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، "لهُ المُلْكُ" (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك:1]. 

(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]؛ أي: لك الملك الحق، تؤتي الملكَ الخلقي الذي تقيم فيها الخلق بالصور التي جعلتها للملكِ، تؤتي ذلك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، ولم يُعِز أحدًا بمثل معرفته -سبحانه وتعالى- وطاعته.. فوفَّر اللهُ حظَّنا وإياكم من معرفته وحُسن طاعته. 

"وله الحمدُ" فهو مستحق الثناء والحمد والشكر على كل حال وبكل معنى من كل وجه في جميع الشؤون في الظهور والبطون، "وهو على كل شيء قدير"، لا يُعجزه شيء بل لا يكون شيءٌ إلا ما أراده وقدَّره، وأوجدهُ بقدرته.

"إذ فيهِ إيمانٌ بالتَّوحيدِ، وكمالِ القدرةِ والجُودِ، والحِكَمِ التي بها يَستَحِقُّ الحمدَ" -سبحانه وتعالى-. "فمَنْ قال ذلك صادقًا مُخلِصًا".. قالوا كل المسلمين يقولون: لا إلهَ إِلَّا اللهُ، وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ المُلْكُ، وله الحمدُ، وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ؛ لكن، "صادقًا مُخلِصًا.. فقد تمَّ توحيدُهُ، وثبتَ في قلبِهِ الأصلُ الذي يَنبَعِثُ -منه- حالُ التَّوكُّلِ". قال: ما معنى صادقًا مخلصًا؟ 

قال: "أن يصيرَ معنى هذا القولِ": لا إلهَ إِلَّا اللهُ، وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ المُلْكُ، وله الحمدُ، يحيي ويُميت وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ؛ أن يكون هذا المعنى بكل أبعاده "وصفًا لازمًا لذاتِ" ذلك القائل من العباد، "غالبًا على قلبِهِ"، مستحوذًا مستغرقًا لفكره، "لا يَتَّسعُ لتقديرِ" غير هذا المعنى أبدًا في جميع أحاسيسهِ ومشاعرهِ وشهودهِ، قال: هذا معنى خالصًا. 

فمن كان يقول هذه الكلمة مخلصًا، فقد تحقق بالتوحيد الذي مقتضاه: أن يتوكل على الذي لا يُقدّم غيره ولا يُؤخِّر غيره، ولا يَرفع غيره ولا يخفض غيره، ولا يَنفع ولا يضرّ غيره، ولا يُعطي ولا يَمنع غيره، ولا يُسعد ولا يُشقي غيره -سبحانه وتعالى-. مَن اعتقد هذا الاعتقاد جازمًا، وبعد الجزم تحقق به، فمن الضرورة أن يستند إليه، ويعتمد عليه، ويتوكل عليه وحده -جلّ جلاله-.

لكن، قال: "هذا التَّوحيدُ لهُ لُبَّانِ وقِشرانِ"، قشر أول وراءه قشر ثانٍ، وراءه قشر ثالث، مثل اللوز له قشر غليظ أوَّل كبير، وتفكّه تجيء القشرة الثانية التي بعده، بعدين يجيء اللُّب، ومن اللُّب يخرج الدُّهن؛ فصار الدُّهن لُب اللُّب، والقشرة العليا قشرة القشر. 

قال: فكذلك هذا التوحيد لله -تعالى-، فالقشرة التي هي قشرة القشر -القشرة الأولى- القول باللسان: "لا إلهَ إِلَّا اللهُ، وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ المُلْكُ، وله الحمدُ، وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ".. وهو منافق! هذا إيمان المنافقين، يقولُ باللسان وليست في قلبه، هذا قشرة القشر، ما تنفع صاحبها عند الله شيء..

"لَيسَ عَلَى أهْلِ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهَمْ"، لا تزالُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تَدفعُ عَن أَهلِها سَخطَ اللَّهِ ما لم يؤثِروا صَفقةَ دُنْياهم..؛ -يعني: ما لم يخرجوا عن الصدق فيها والتَّحقق بها- ما لم يؤثِروا صَفقةَ دُنْياهم على آخرتِهِم، فإذا فعلوا ذلك ثم قالوها، قال الله: كذبتم لستم بها بصادقين، كذبتم لستم بها بصادقين؛ ولكن مَن يقولها صادق فيها، فإنه لا يُؤثر صفقة دنياهُ على آخرتِه، ولا يُقدِّم الفاني على الباقي، ولا يُؤثر على الله شيئًا كائنًا ما كان؛ حققنا الله بحقائقها.

قال: "و-القشرة- الثَّانيةُ: -بعد ذلك- الاعتقادُ بالقلبِ جزمًا"؛ أن يعتقد بأنّه الله لا إلهَ إِلَّا هو، وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ المُلْكُ، وله الحمدُ، وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، المريد الفعال الخالق البارئ الرازق الجبار المتكبر المتعال.. يؤمن بالله وأسمائه وصفاته ويجزم بذلك. قال: هذا مرتبته: "درجةُ عوامِّ الخلق" المؤمنين، ومنهم "المُتكلِّمِينَ"، ومن هم المتكلمون؟ المشتغلون بعلم التوحيد وعلم الكلام وإقامة الأدلة. 

قال: هؤلاء عند القشرة -القشرة الملتصقة باللُّب-، جزمهم هذا القشرة القريبة من لُب التوحيد، فهي أول الدرجات فيما يُنجي من النار أو من الخلود في النار، لكل من مات منهم على هذا الاعتقاد، فإنه لا يُخلَّد في النار. يقول هذا درجته.

قال: والمتكلمون الذين يقرؤون أبواب وكتب في علوم التوحيد والعقائد.. وكذا، وكذا؛ قال: هم مثل العوام ما عندهم غاية يقين "لا يَتميَّزونَ عنِ العوامّ إلَّا بمعرفةِ الحِيلةِ في دفعِ تشويشِ المُبتدِعةِ"، وفي إقامة الدليل من حيث نظم تركيب الكلام والأدلة فقط، وإلّا هم الاعتقاد واحد عندهم؛ العامي الجازم عقيدته مثل عقيدة هذا، غي أن هذا إذا قلت له أين الدليل؟ ما يعرف ينظم الأدلة بالطريقة الكلامية، وذاك يعرف؛ والاعتقاد واحد، كلهم في القشر، كلهم في القشر ذا وذا!

عالم كبير من علماء الكلام ما عنده التحقق بحقائقها وانكشاف النور، فهو مثل العامي في الاعتقاد الجازم، اعتقادهم واحد، وربما بعض العوامّ كان أجزم في الاعتقاد من بعض المتكلمين، ولذا قال: اللهم إيمانًا كإيمان العجائز.

ولكن وراء ذلك بداية اللُّب، اللُّب الأوّل ثم لُب اللُّب. اللُّب الأوّل "أن يَنكشِفَ لَهُ بِنورِ اللهِ -تعالى- حقيقةُ هذا التَّوحيدِ وسرُّهُ بالحقيقةِ"؛ فيصير يشاهد بالبصيرة كما يشاهد بالبصر، يُشاهد "الأشياءَ الكثيرةَ ويَعْلَمَ أنَّها بجملتِها صادرةٌ عن فاعلٍ واحدٍ على التَّرتيبِ"، "يَعرِفَ سلسلةَ الأسبابِ وكيفيَّةَ تسلسلِها، وارتباطَ أوَّلِ السِّلسِلةِ -إلى آخرها- بمُسبِّبِ الأسبابِ -جل جلاله وتعالى في علاه-"، هذا لُبٌ في التوحيد!

ومع ذلك؛ فأصحابه لا يزالون في تفرقةٍ بعد؛ أي: لم يصلوا إلى الجمع، فإنَّ الواصلين إلى الله -تبارك وتعالى- يكونون على أحد حالين: 

  • مقام تفرقة.
  • ومقام جمع. 

مقام التفرقة: شهوده لغير الحق، مخلوقًا للحق، ومصنوعًا له، ومُسخّرًا بالتبعيّة لا بالمعيّة، ما له المعيَة مع الله، ولكن له التبعيَة لله -سبحانه وتعالى-؛ فهذا في مقام التفرقة.

ولكن فوقه مَن تَضْمَحِلُّ عنده مشاهدته للتابع بسطوع نور المتبوع؛ فبذلك كالبصر إذا كان عندك ضوء شمعة صغيرة فإنه يدركه ويثبته، فإذا أشرقت الشمس وجاء سراج كبير فإن البصر لا يَرى نور الشمعة أصلًا. تقول له: أين نور الشمعة؟ يقول: دعك من نور الشمعة! لأن النور مُشرق عنده، السراج وذاك تغطّى…

فأصحاب الجمع تغطّت قالبيّة الكائنات بوجود المكون؛ عظمة المُكون.. أشرق عليهم نور ذات المكون -جل جلاله- فغطى هذا، ما عاد صاروا ينظرون إليه ببصائرهم، كما لا تنظر إلى نور الشمعة ببصرك إذا أشرق نور الشمس. لا إله إلا الله!.. فهناك لُب اللُّب، وهو الدرجة الرابعة… سمِعت؟

فأصحاب لُب اللُّب: الذين يُنسَبون إلى حقيقة التوحيد وهم على مراتب ودرجات في ذلك؛ فأكابرهم: النّفَس من أنفاسه يعدل عمل مَن دونهم ممن لم يصل إلى حقيقة التوحيد من الإنس والجن في الشرق والغرب.. اللحظة منهم تفوق أعمال أولئك عند الله -تبارك وتعالى-.

وفي ذلك أشار ﷺ إلى هذه الحقيقة بقوله عن السابقين الأولين معه؛ وهم من أهل حقيقة التوحيد: "لو أنفقَ أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلغَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَه"، كم الفرق بين جبل أحد ذهب ومُد ونصف مُد من طعام؟ كم فرق؟! يعني يجاوز هذا كله، ما يصلون إلى درجاتهم!.. 

وهكذا، الواصلون إلى لُب اللُّب، ما تساوي الأعمال الصالحة عند الآخرين ذرة من أعمالهم ولا لحظة من أعمالهم، لِم؟ لحالهم مع الله -جل جلاله-.

قال الرابع لُب اللُّب: "ألَّا يرى في الوجودِ إلَّا واحدًا، ويَعلَمَ أَنَّ الموجودَ بالحقيقةِ واحدٌ"، وإليه أشار ﷺ بقوله: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ" لا إله إلا الله..

قال: "ويعلِم أَنَّ الموجودَ بالحقيقةِ واحدٌ"؛ وهذه الموجودات هذه ظل؛ ظل لوجوده -سبحانه وتعالى-! والوجود له.. وجود حادث قابل للعدم، ما له استقرار بنفسه، ايش من وجود هذا؟ هذا ظل! الموجود إنما هو! الموجود هو، الذي لولاه ما كان شيء، لا أرض ولا سماء ولا عرش ولا كرسي ولا جنة ولا نار ولا دنيا ولا آخرة، ما هناك شيء إلا هو بإيجاده، كله بتكوينه، كله بإيجاده، كلها في قبضته.. أين الوجود الذي لها؟! لو أراد أن يفنيها لأفناها، لو أراد يُبقيها..، ولا تبقى لحظة إلا به، فأين الوجود الذي لها؟.. أيش من وجود لها؟!

وهكذا؛ أنت ترى السبحة هذه تتحرك.. ما تشوفها تتحرك؟ أيش من حركة لها بالنسبة ليدي؟ ما لها حركة، الحركة حركة يدي، ما هي حركة السبحة؛ خلّها من دون يدي تتحرك!..ما تتحرك؛ تحرَّكت.. راحت هنا.. وراحت هنا! لا راحت ولا جاءت؛ إلا اليد حرّكتها.. الوجود هذا كله أيش هو؟! يد القدرة حرّكته.. وإلا ايش هو؟ ما هناك شيء! "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ"، "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَعُهُ"، وإلى الآن لا شيء معه؛ ولكن في التبعيَّة له.. نعم! خَلَقَ الخَلْق، خلق ومصنوعات، فهي فعله -سبحانه وتعالى-، أما كونها معه، كيف معه؟ ما لها لا مشابهة ولا مماثلة ولا مقاربة أبدًا، مجرد مملوكة مقهورة.. خلاص! فالوجود الحق له. فهؤلاء أهل لُب اللُّب في التوحيد.

وَعَلَى مَنَصِّ الْجَمْعِ قِفْ مُتَخَلِّيًا *** عَنْ كُلِّ فَانٍ للتَّفَرُّقِ نَافِ

الله..

بَشِّرْ فُؤَادَكَ بِالنَّصِيبِ الْوَافِي *** مِنْ قُرْبِ رَبِّكَ وَاسِعِ الْأَلْطَافِ

الْوَاحِدِ المَلِكِ العَظِيمِ فَلُذْ بِهِ *** وَاشْرَبْ مِنَ التَّوْحِيدِ كَأْسًا صَافِي

وَاشْهَدْ جَمَالًا أَشْرَقَتْ أَنْوَارُهُ *** فِي كُلِ شَيءٍ ظَاهِرًا لَا خَافِي

فما قام شيء إلا به، فجمال قدرته وإرادته ظهر في كل شيء، ظاهر في كل شيء.

وَاشْهَدْ جَمَالًا أَشْرَقَتْ أَنْوَارُهُ *** فِي كُلِ شَيءٍ ………….

(مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ) [الملك:3]، كل ذرة من ذرات الوجود دالَّة عليه، وفيها جمال قدرته وإرادته وتكوينه وتصويره وتقديره -جلّ جلاله-.

وَاشْهَدْ جَمَالًا أَشْرَقَتْ أَنْوَارُهُ *** فِي كُلِ شَيءٍ ظَاهِرًا لَا خَافِي

وَعَلَى مَنَصِّ الْجَمْعِ قِفْ مُتَخَلِّيًا *** عَنْ كُلِّ فَانٍ للتَّفَرُّقِ نَافِ

وَالْبَسْ لِرَبِّ الْعَرْشِ فِي أَقْدَارِهِ *** ثَوْبًا مِنَ التَّسْلِيمِ وَافٍ ضَافِي

وَاسْتَكْفِ رَبَّكَ كُلَّ هَمٍّ … *** ……………………………

واستكفِ ربك كل هَمٍّ..
اللهم اكفنا كل هَمٍّ في الدنيا والآخرة، وكُنْ همّنا أنت وحدك، وكُنْ همّنا أنت وحدك، وكُنْ همَّنا أنت وحدك، واكفنا كل هَمٍّ سواك يا أرحم الراحمين.

وَاسْتَكْفِ رَبَّكَ كُلَّ هَمٍّ إِنَّهُ *** سُبْحَانَهُ الْبَرُّ اللَّطِيفُ الْكَافِي

وهكذا إلى أن تصل:

وَالْزَمْ كِتَابَ اللهِ وَاتْبَعْ سُنَّةً *** وَاقتَدْ هَدَاكَ اللهُ بِالأَسْلَافِ

أَهْلِ اليَقِينِ لِعَيْنِهِ وَلِحَقِّهِ *** وَصَلُوا، وَثَمَّ جَوَاهِرُ الْأَصْدَافِ

راحُ اليَقينِ أَعَزُّ مَشْرُوبٍ لَنَا *** ……………………..

راحُ اليَقينِ: شَرَابُ اليَقينِ، أَعَزُّ مَشْرُوبٍ لَنَا، أَعَزُّ مَشْرُوبٍ لَنَا ما في مشروب مثله، ما نزل من السماء إلى الأرض أشرف من اليقين، يقسِّمه ربك في مثل ذي المجالس، في ساعات التجليات، في صلوات وسجدات وغيرها، فيسقي منه مَن شاء.

راحُ اليَقينِ أَعَزُّ مَشْرُوبٍ لَنَا *** فَاشْرَبْ وَطِبْ وَاسْكَرْ بِخَيْرِ سُلَافِ

هَذَا شَرَابُ القَوْمِ سَادَاتِنَا وَقَدْ *** أَخْطَا الطَّرِيقَةَ مَنْ يَقُلْ بِخِلَافِ

قال سيدنا شهاب الدين:

سلافةٌ من رحيقٍ فائقٍ أنقٍ *** مَن ذاقَهَا صارَ نشْوَانًا بِهَا ولِها

هذا شرابُ الشيوخِ والأُصُولِ لَنَا *** من لدن خيرِ الورى حتَّى شَرِبْتُ لَها

وبذلك قال:

الحمد لله نفسي قد عَرفتُ لها *** والقلب منّي بسِرّ الذكر مُنتبها

وغُصتُ في الفِكر بعد الذِّكر مُنغَمِسًا *** في بحر نورٍ سما سِرّي بها وزَهَا

وكنتُ عبدَ الهوى واليوم مالكُهُ *** وصِرتُ مولى الوَرى مُذْ ذُقتُ سَلْسَلَها

الله يسقينا كؤوس اليقين وحقيقة التوحيد.

قال: "إِنَّما الكثرةُ فيهِ في حَقِّ مَنْ تَفَرَّقَ نظرُهُ؛ كالذي يرى مِنَ الإنسانِ مثلًا رِجلَهُ، ثُمَّ يَدَهُ، ثُمَّ وجهَهُ، ثمَّ رأسَهُ، فَتَغلِبُ عليهِ كثرتُهُ ، فإن رأى الإنسانَ جملةً واحدةً.." ما يعرف إلا فلان فقط- ، فلان؟ يد يد ورجل! أي يد ورجل؟!  فلان بن فلان.. خلاص انتهى! لا، قال: ما الأذن هذه؟ الوجه هذا؟ الرجل هذه؟... هذا حق فلان، وهذا حق فلان، وهذا حق فلان! وذا الصدر حق فلان، وذا الرجل حق فلان، وذا البطن؟ حق فلان… قُل: فلان وبس!  انطوى الأذن والبطن..، خلاص دخلت فيه؛ إذا قلت فلان؛ فقد ذكرت روحه وحقيقته، وهذه توابع كلها. 
والثاني لا، ما يمتد نظره كذا.. الأصبع ذا.. حق فلان؟ حق فلان! والكف ذا؟ حق فلان.. واليد كذلك؟ ماشاءالله! والصدر ذا؟ والثوب؟.. الثوب فوقه حقه حق فلان، والعمامة حقه، والخاتم هذا حقه… فلان بن فلان وانتهت المسألة! 

الوجود كله أفعاله..! الوجود كله فعله، (قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام:91]. ما عرفوه، ولو عرفوه ما بيشتغلون بغيره، لو عرفوه لم يشتغلوا بغيره؛ ولكن معرفته عزيزة يهبها من يشاء. اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا.

 قال: فإذا "فإن  رأى الإنسانَ جملةً واحدةً.. لم يَخطُرْ ببالِهِ الآحادُ، بل كانَ كَمُدْرِكِ الشَّيْءِ الواحدِ."

"فكذلكَ المُوحِّدُ"، فصار "لا يُفرِّقُ نظرَهُ رؤيةُ السَّماءِ والأرضِ وسائرِ الموجوداتِ، بل يرى الكلَّ في حكمِ الشَّيءِ الواحدِ."، فعله واحد، (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [المائدة:120]. (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ) [المؤمنون: 84-85] لا إله إلا الله…

"وهذا لهُ غورٌ، ويستدعي كشفُهُ تطويلًا"، اطلبه.. وأشار في كتابين "مِنْ كتبِ (الإحياءِ)": "(كتاب التَّوحيدِ والتَّوكُّلِ)" من "إحياء علوم الدين".

بعد ذلك، قال:"الفَناءُ في التَّوحيدِ إنَّما يقعُ في هذا التَّوحيدِ"؛ معناه: أن يَفنى الوجود في نظره وفي شهوده، فناء شهود، لا فناء وجود؛ الوجود ما وُجِد أصلًا إلا فعله -جل جلاله-. قال: "وذلكَ بأن يصيرَ مُستغرِقًا بالواحدِ الحقِّ، حتَّى لا يَلتَفِتَ قلْبُهُ إلى غيرِهِ"، حتى إلى نفسه ما يلتفت إلى نفسه، فالنفس -من حيث هي نفسه - غير الله تعالى، "وإن لم يَتَحقَّقْ لهُ معنى الغيريَّةِ في الحالِ"، فإذا كان يحس بأنه مُوحِّد، فهو مُلتفت إلى نفسه! ويعلم أن الله هو الواحد -سبحانه- وأنت وتوحيدك ونفسك والوجود كله معك.. فعله، فعله.. "ما شاء الله كانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ".

ولهذا يقول حقيقة التوكل يستدعي توحيد الفعل ولا يستدعي الفناء في توحيد الذات، صح..  يعني يكون متوكل من لم يصل إلى هذه الرتبة في الفناء معلوم! بل من أهل الجزم من العوام يمكن منهم شيء من التوكل؛ يمكن التوكل من عوام المؤمنين، يمكن التوكل على الله في الاعتماد عليه، لكن توكل صاحب الفناء ثم صاحب البقاء أقوى، أقوى وأوثق وأعمق من توكل عموم المؤمنين، وإن كان التوكل من عموم المؤمنين صحيح، لكن هذا أقوى وأعمق وأوثق.

وهكذا، مَن كان اعتماده على دليل لهم في الطريق أو قائد أو محامي لهم في القضية؛ الذي يعلم من قوة وقدرة وعلم وحِنكة وحسن حبْك المحامي أكثر، اعتماده عليه أكثر. والثاني يعلم بعضه فيعتمد عليه لكن ليس مثل اعتماد الذي عرف قوة نظره وحنكته وسعة علمه واطلاعه على القانون والقضايا، الذي علم هذا عنه يعتمد عليه أكثر من الثاني. ومنهم من هو ما يدري هذا  يقدر أم لا يقدر، يعرف أم ما يعرف، يكون شاك، فهذا ما عنده توكل، هذا الشاك ما عنده التوكل. الثاني هذا الذي جزم عنده توكل، لكن توكل الذي تعمّق في معرفة إمكانيات المحامي هذا -مثلًا- اعتماده عليه أقوى من اعتماد على الثاني. وكل من عرف الله أكثر كان توكله عليه أقوى وأكبر، ولذا فسيِّد المتوكلين محمد الأمين؛ لأنه ما عرف الله من أهل سماواته وأرضه أحدًا كمعرفته بربه ﷺ، فهو سيد المتوكلين على الله -صلوات ربي وسلامه عليه- وأعاد الله علينا عوائد توكُّله.

قال: "بلِ المُتوكِّلُ يجوزُ أن يرى الكثرةَ والأسبابَ والمُسبَّبَاتِ"، لكن "يشاهدَ ارتباطَ السِّلسِلةِ بمُسبِّبِها." من أولها إلى آخرها، أن السبب الأول، والثاني، كله مربوط بالمسبِّب؛ فيحصل منه التوكل. 

وهذا قال: -لا- يخفى عليكَ فيما لا يدخلُ فيهِ اختيارُ الآدميِّينَ"، تعرفه، وتسلّم له، لكن قال قد يُشكِل عليك تقول: هو باختياره بنفسه ناولنا، باختياره ونفسه والذي بيده ناولك، لمّا سلّط المريد القادر الدواعي عليه، فهو في تلك الحالة لا بد أن يفعل ذلك، ولو لم يُرد أن يفعل، لا يستطيع أن يفعل، ولو كان نيّته يفعل وإرادته يفعل، ما يستطيع أن يفعل، إذًا؛ فاترك الكثرة واشهد الواحد.. لأن مشيئته تحت مشيئة الله، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29].

تقول أطعمني الطعام، يطعمني باختياره، وإن شاء أعطاه وإن شاء منعه، لا أرى فاعل، قال: أنت مثل نملة رأت القلم يكتب على الورقة فسوّدها، ونظرها قاصر؛ ما تشوف إلا قلم فقط، غايتها تنظر إلى طرف القلم والسنَّ؛ وتقول: هذه، هذه التي تُسوِّد الورقة! ما تدري أن ذا القلم وراءه أصابع، والأصابع وراءها يد، واليد وراءها إرادة وممدودة بقدرة، والإرادة التي عند الذي أمر اليد بالحركة محكومة بحكم من فوق.. ما يمتد نظرها إلى هذا، فقط تتشوَّف هذا…

وأنت إذًا نظرك قاصر إذا ظننت أن الذي أعطى بمجرد اختياره، هو واختياره وقدرته وعطاؤه تحت إرادته وقدرته واختياره وتدبيره -جل جلاله-... سمعت؟

ومن كتب له يعطيك؛ لا بد يعطيك شاء أم أبى، وشئت أم أبيت.. ومن كتب لا يعطيك ما يمكن يعطيك ولو حاولت كل محاولة، فالمعطي والمانع إنما هو في الحقيقة، لكن هذه أقلام يكتب بها -سبحانه وتعالى- ما شاء. لا إله إلا هو…

قال: "مَثَلُكَ في الالتفاتِ إليهِ.. مَثَلُ النَّملةِ؛ ترى سوادَ الخطِّ .. يَحصُلُ مِنْ حركةِ القلمِ، فتضيفُ ذلكَ إلى القلمِ" لماذا؟ "حدقتُها الصَّغيرةُ الضَّعيفةُ لا تمتدُّ إلى الإصبِعَ"، وعاد وراء الإصبع يد، وراء اليد قدرة محركة، والقدرة المحركة لها إرادة من قلب هذا الإنسان، وقلب ذا الإنسان تحت مُقلِّب؛ ما يريد الإنسان شيئًا إلا تحت إرادة المُقلِّب هذا.. يا مقلب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على دينك.

وكذلك، أنت مثل النملة! "تضيفُ أفعالَ العبادِ إلى إرادتِهِم ومعرفتِهِم وقدرتِهِم؛ وما يَمتدُّ نظرُكَ إلى القلمِ الذي بهِ تنسطرُ المعرفةُ في ألواحِ القلوبِ، ومنهُ إلى الأصابعِ التي بينَها قلوبُ العبادِ، ومنها إلى اليدِ التي بها خُمِّرَتْ طينةُ آدم -عليه السلام-، ومنها إلى القدرةِ التي بها تَتَحرَّكُ اليدُ لتخميرِ الطِّينةِ"، ومن القدرة والإرادة "إلى القادرِ" المريد الله!

قال: "لأنَّكَ لا تَعرِفُ معنى قوله ﷺ: "إِنَّ اللَّه خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ""، كما جاء في الصحيحين، بإرادته الخاصة وعنايته الكبيرة كوَّن آدم بهذه الخصائص، "ولا معنى قوله تعالى: "خَمَّرْتُ طِينَةَ آدَمَ بِيَدِي"" (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر: 29] "(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 4-5]". لماذا" قال لأنك أنت ما تتصور إلا قلم من قصب، وذا الحين امتد نظرك إلى ذا القلم المصنوع من حديد أو من نحوه؛ تعرف ذا فقط، هذا القلم!..

كل ما كان به وصول إلى شأن من الشؤون ينتظم ويتركب ويترتب فهو قلم؛ لكن أنت ما تعرف قلمًا إلا هذا فقط؛ ولذا أشكل الأمر عليك. قال: إذا امتد نظرك علمت أن هذه الكائنات إنما أقلام بيد محرك، أقلام بيد محرك.

قال معنى قوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ..) [الأنفال: 17]، هذا هو كلام أهل الحقائق، كلهم ذرة من هذه الآية، الكلام الذي أشكل على الناس من كلام أهل المعرفة والذوق وأهل التوحيد والعارفين في كتبهم، والله كله الذي يتكلمون به ذرة من الآية هذه، ذرة من هذه الآية!

وأشكل على الناس، قالوا: هؤلاء عندهم حلول واتحاد! كيف؟… ولا حلول واتحاد ولا شيء.. بيَّنوا لك ذرة من الحقيقة التي نزلت في القرآن، ولا عندهم شيء غير هذا، لا ابن عربي ولا الحلّاج ولا من قبله ولا من بعده، ما عندهم إلا ذرات من هذا المعنى فقط، ما عندهم شيء ثاني. لا إله إلا الله…

(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) [الأنفال: 17] الحبيب ﷺ أخذ ورمى به القوم، وطارت عندهم كلهم، يقول له: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ). يقول الحبيب عبدالرحمن بلفقيه:  (مَا رَمَيْتَ) طريقة، (إِذْ رَمَيْتَ) شريعة، (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) حقيقة! "وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ" جل جلاله وتعالى في علاه.

هو الذي خلقك وخلق قدرك ومكانتك عنده، وأقدرك على هذا، وسيَّر الرمْيَة حقك إلى عيون القوم، هو.. الله رمى.. سبحان الله! 

ولهذا يقول: "سلَّطَ عليكَ دواعيَ جازمةً، ومعرفةً حاكمةً على القطعِ بأنَّ نجاتَكَ في الرَّميِ مثلًا، حتَّى انبعثَتِ القدرةُ التي انفردَ أيضًا بخلقِها خادمةً للإرادةِ، والإرادةُ خادمةٌ للمعرفةِ خدمةً بالتَّسخيرِ والاضطرارِ، وعلمتَ أَنَّكَ مُضطَرٌ إلى عينِ الاختيارِ، فتفعلُ إن شئتَ ذلك، ولكنْ تشاءُ إذا شاءَ -هو- شئتَ أم أبيتَ"، ولا تشاء إذا لم يشاء هو، "شئتَ أم أبيتَ"؛ يعني: مشيئتك تحت إرادته وقدرته، ثم لا مجال لك ولا سبيل أن تنكر ما آتاك من مشيئة!.. فإنه الذي خلقك، وخلق لك المشيئة، وخلق لك القدرة على شيء والعجز عن شيء، وأي عاقل يفرق بين مرتعش مريض ترتعش يده بالاختيار، وبين من يمد يده بالاختيار، فرق بين الحركة هذه والحركة هذه؟ نعم، فرق.. هذا عنده مشيئة وذاك ما عنده مشيئة، وذا وذاك تحت مشيئته هو؛ الذي مدّها باختياره وحمل الكأس، والذي تحركت من دون إرادة واختيار كلهم باختياره، وكلهم بمشيئته؛ ذا وذاك. فأنت لا تظن أن ما تُعطى من المشيئة تُلغي مشيئته، يا أبله، يا بليد!

  • مشيئتك بمشيئته
  • وعجزك بمشيئته

الذي تعجز عنه بمشيئته، والذي تشاءه بمشيئته؛ بمشيئته شئت، ولا فرق بين ما تعجز عنه ولا بين ما تشاء من حيث خلقه وتكوينه؛ هو خالق الكل -جلّ جلاله- ولكن رتَّب هذا وشاء أن هذا تحت مشيئتك وهذا ليس تحت مشيئتك، وشاء أن الذي تحت مشيئتك رتَّب عليه أحكام التكليف، فما لك تغيير شيء من هذا، كما ليس لك قدرة على تغيير السماء فوق والأرض تحت، غيِّرها أيش تغيّر فيها؟!  هذه فوقك وهذه تحتك، هو كونها كذا، خلاص.. تقدر تغير أيش؟!..

ولكن نفس هذه المشيئة التي أتاك هي مناط التكليف؛ ولذا لا معنى لمن قالوا بالقول من الجبرية، ولا معنى لما قال المعتزلة، من أنَّ الإنسان يخلق، الإنسان يخلق، يخلق ماذا؟! يخلق أفعاله الاختيارية!..
هو يخلق أفعاله الاختيارية؟! (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] ايش نصلّح بإبراهيم الخليل هذا؟! نقول له أيش؟! نقول له ما عرفتَ، تعال تعلَّمْ من المعتزلة ولا أيش الكلام ذا الفارغ ذا!

كلها خلقه هو، فرق بين الخلق وبين الكسب وبين الاختيار، فرق! 

  • الخلق شيء 
  • والكسب والاختيار شيء ثانٍ 

وكله خلق واحدٍ، (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر:62] -جلّ جلاله-. فكلهم خلقه، وهكذا.
لكن الحِسّ هذا حين يحسّون يظنون نفسهم أوجدوا شيئًا ولكن! (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) [الإنسان: 30].

جاءوا مرة جماعة من الذين يعتقدون اعتقاد المعتزلة عند سيدي أحمد بن موسى بن عُجيل، يناقشونه، وبعدين قالوا: الإنسان يخلق أفعاله الاختيارية، قال لهم: مثل ماذا أفعاله اختيارية؟ قالوا: مثل القيام والقعود. قال قيام الإنسان وقعوده اختياري يخلقه هو؟ قالوا: نعم، قال: هيا اخلقوا قيام، قوموا، قاموا.. لما قاموا سأل الله ما يُمكِّنهم من الجلوس، بعدها قال: هيا اجلسوا! كل واحد بيجلس ما قدر، ويتشوَّف الثاني، ويتشوَّف الثالث... قال: اجلسوا!  تشوّفوا لبعضهم ما هم قادرين يجلسون، تصلَّبت أرجلهم، قال: أنتم تقولون تخلقون القعود، لأنه باختياركم اخلقوا القعود! تفرَّجوا على بعضهم… قال: خلاص انتهت المناظرة أو لا؟ ترجعون عن العقيدة الباطلة ذي، أو محلَّكم واقفين؟.. قالوا: رجعنا، قال: اللهم أقدرهم على القعود، قعدوا.. شُفتم! اغترَّيتم! تقومون وتقعدون، ظنِّيتم هو روَّح!.. هو فوقكم، هو فوقكم قيُّوم على ملكه!  أقدركم، قمتم تغترّون، لا شيء عندكم ولا استقلال بشيء، هو الذي يعطي المشيئة والذي يسلبها متى شاء، فأنتم عدم أصلًا، ما لكم معه وجود. لا إله إلا هو..

قال: "شرحناهُ في (كتابِ التَّوحيدِ)" وفي كتاب "(كتابِ الشُّكرِ)" كتابين "مِنْ كُتُبِ (الإحياءِ)"؛ وهو يحوم فيها حول الحقائق خاصة في ربع المنجيات.

 

 فصلٌ

 فيما ينضافُ إلى الإيمانِ بتوحيدِ الفعلِ في إثارةِ التوكُّلِ 

لا يكفي الإيمانُ بتوحيدِ الفعلِ والذَّاتِ في إثارة حالةِ التَّوكُّلِ.. حتَّى ينضافَ إليه الإيمانُ بالرَّحمةِ، والجُودِ والحكمةِ؛ إذ بهِ تَحصُلُ الثِّقةُ بالوكيلِ الحقِّ.

وهوَ أن تَعتَقِدَ جزمًا، أو يَنكشِفَ لكَ بالبصيرةِ: أَنَّ الله -تعالى- لو خَلَقَ الخلائقَ كلَّهُم على عقلِ أعقلِهِم، بل على أكملِ ما يُتَصوَّرُ أن يكونَ عليهِ حالُ العقلِ، ثمَّ زادَهُم أضعافَ ذلكَ علمًا وحكمةً، ثمَّ كشفَ لهُم عواقبَ الأمورِ، وأطلَعَهُم على أسرارِ الملكوتِ، ولطائفِ الحكمةِ، ودقائقِ الخيرِ والشَّرِّ، ثمَّ أمرَهُم أن يُدَبِّروا المُلكَ والملكوتَ.. لَمَا دَبَّروهُ بأحسنَ ممَّا هوَ عليهِ، ولم يُمكِنْهُم أن يزيدوا عليهِ أو يَنقُصوا منه جَناحَ بعوضةٍ، ولم يستصوبوا ألبتَّةَ دفعَ مرضٍ وعيبٍ ونقصٍ، وفقرٍ وضُرٍ، وجهلٍ وكفرٍ، ولا أن يُغيِّروا قسمةَ اللهِ تعالى مِنْ رِزقٍ وأَجَلٍ، وقدرةٍ وعجزٍ، وطاعةٍ ومعصيةٍ.

بل شاهدوا جميعَ ذلكَ عَدْلًا محضًا لا جورَ فيهِ، وحقًّا صِرْفًا لا نقصَ فيهِ، واستقامةً تامَّةً لا فطورَ فيها ولا تفاوتَ، بل كلُّ ما يَرَوْنَهُ نقصًا.. فيرتبطُ بهِ كمالٌ آخَرُ أعظمُ منه، وما ظنُّوهُ ضررًا فتَحْتَهُ نفعٌ أعظمُ منهُ، لا يُتوصَّلُ إلى ذلكَ النَّفْعِ إِلَّا بِهِ.

وعلموا قطعًا أنَّ اللهَ -تعالى- حكيمٌ، جوادٌ رحيمٌ، لم يبخلْ على الخَلْقِ أصلًا، ولم يَدَّخِرْ في إصلاحِهِم أمرًا.

وهذا الآنَ بحرٌ آخرُ في المعرفةِ، يُحرِّكُ أمواجَه سِرُّ القَدَرِ الذي مُنِعَ مِنْ ذكرِهِ المُكاشَفونَ، وتَحيَّرَ فِيهِ الأكثرونَ، ولا يَعْقِلُهُ إِلَّا العالِمونَ، ولا يُدركُ تأويلَهُ إِلَّا الرَّاسخونَ.

وإنَّما حظُّ العوامِّ: أن يعتقدوا أنَّ كلَّ ما يُصِيبُهُم لم يكنْ ليُخطِئَهُم، وما يُخطِئُهُم لم يكنْ ليُصيبَهُم، وأَنَّ ذلكَ واجبُ الحصولِ بحكمِ المشيئةِ الأزليَّةِ، وأنَّهُ لا رادَّ لحكمِهِ، ولا مُعقِّبَ لقضائِهِ، بل كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ مُستَطَرٌ، وحصولُهُ بِقَدْرٍ معلومٍ مُنتظَرٍ، (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ).

الرُّكنُ الثَّاني: حالُ التَّوكُّلِ؛ ومعناه: أن تَكِلَ أمرَكَ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ-، ويثقَ بهِ قلبُكَ، وتطمئنَّ بالتَّفويضِ إليهِ نفسُكَ، ولا تَلتَفِت إلى غيرِ اللهِ أصلًا، ويكونَ مثالُكَ مثالَ مَنْ وَكَّلَ في خصومتِهِ في مجلسِ القاضي مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ أشفقُ النَّاسِ عليهِ، وأقواهُم على كشفِ الباطلِ، وأعرفُهُم بهِ، وأحرصُهُم عليهِ؛ فإنَّهُ يكونُ ساكنًا في بيتِهِ، مطمئنَّ القلبِ، غيرَ مُتفكّرٍ في حِيَلِ الخصومةِ، غيرَ مستعينٍ بآحادِ النَّاسِ؛ لعلمِهِ بأنَّ وكيلَهُ حَسْبُهُ وكافيهِ في غرضِهِ، وأَنَّهُ لا يُقاوِمُهُ غيرُهُ.

فمَنْ تَحقَّقَتْ معرفتُهُ بأنَّ الرِّزْقَ والأَجَلَ والخَلْقَ والأَمرَ بِيدِ اللهِ -تعالى-، وهوَ مُنفرِدٌ بهِ لا شريكَ لهُ، وأنَّ جُودَهُ وحكمتَهُ ورحمتَهُ لا نهايةَ لها، ولا يوازيها رحمةُ غيرِهِ وجُودُهُ.. اتَّكلَ قلبُهُ بالضَّرورةِ عليهِ، وانقطعَ نظرُهُ عن غيرِهِ .

فإن لم ينقطعْ.. فلا يكونُ ذلكَ إلَّا لأحدِ أمرينِ:

أحدُهُما: ضَعفُ اليقينِ بما ذكرناهُ؛ وضَعفُ اليقينِ إنَّما يكونُ لتطرُّقِ شكٍّ إليهِ، أو لعدمِ استيلائِهِ على القلبِ؛ فإنَّ الموتَ يقينٌ لا شكَّ فيهِ، ولكنَّهُ إذ لا يستولي على القلبِ.. فهوَ كشكٍّ لا يقينَ فيهِ.

الأمرُ الثَّاني: أن يكونَ القلبُ في الفطرةِ جبانًا ضعيفًا؛ فالجُبْنُ والجرأةُ فطرتانِ، والجُبْنُ يُوجِبُ كونَ النَّفسِ مطيعةً للأوهامِ التي لا شكَّ في بطلانِها، حتَّى قد يخافُ الإنسانُ أن يبيتَ مع الميِّتِ في فراشٍ أو بيتٍ، معَ علمِهِ بأنَّ الله -تعالى- لا يحييهِ، وأنَّ قدرتَهُ عليهِ كقدرتِهِ على أن يَقلِبَ القلمَ في يدِهِ حيَّةً، وهوَ لا يخافُ ذلكَ.

بل قد يُشبِّهُ العسلَ بالعَذِرةِ، فيَتعذَّرُ عليهِ تناولُهُ معَ علمِهِ بِأَنَّه تشبيهٌ كاذبٌ، ولكنْ ذلكَ لخوَرِ النَّفسِ، وطاعتِها للأوهامِ.

فقلَّما يخلو الإنسانُ عن شيءٍ منهُ وإن ضعفَ؛ فكذلكَ لا يَبُعدُ أن يَحصُلَ اليقينُ بالتَّوحيدِ بحيثُ لا يُخالِجُهُ ريبٌ، ومعَ ذلكَ فيَفْزَعُ القلبُ إلى الأسبابِ. 

 

فصلٌ

في بيانِ درجاتِ التوكُّلِ 

إذا عرفتَ أنَّ التَّوكُّلَ عبارةٌ عن حالةٍ للقلبِ في الثِّقَةِ بالوكيلِ الحقِّ، وقطعِ الالتفاتِ إلى غيرِهِ.. فاعلمْ: أَنَّ فيهِ ثلاثَ درجاتٍ:

إحداها: ما ذكرناهُ؛ وهوَ كالثِّقةِ بالوكيلِ في الخصومةِ بعدَ اعتقادِ كمالِهِ في الهدايةِ والقدرةِ والشَّفَقَةِ.

والثانيةُ -وهيَ أقوى منها-: تضاهي حالةَ الصَّبيِّ في ثقتِهِ بأُمِّهِ، وفزعِهِ إليها في كلِّ ما يُصِيبُهُ؛ وذلك لثقتِهِ بشفقتِها وكفالتِها، ولكنَّهُ في توكُّلِهِ فانٍ عن توكُّلِهِ؛ فَإِنَّهُ ليسَ يُحصِّلُهُ بفكرٍ وكسبٍ وإن كانَ لا يخلو توكُلُهُ عن نوعِ إدراكٍ.

وأمَّا التَّوكُّلُ على الوكيلِ بالخصومةِ.. فكالمُكتسَبِ بالفكرِ والنَّظرِ.

والثالثةُ -وهيَ الأعلى-: أن يكونَ بينَ يديِ اللهِ -تعالى- كالميتِ بينَ يديِ الغاسلِ، لا كالصَّبيِّ؛ فإِنَّهُ يَزعَقُ بِأُمِّهِ، ويَتعلَّقُ بذيلِها، بل هذا كصبيٍّ عَلِمَ أَنَّهُ وإن لم يَزعَقْ بِأُمِّهِ.. فإنَّها تطلبُهُ، وإن لم يتعلَّقْ بذيلِها.. فهيَ تَحْمِلُهُ، وإن لم يسألْها اللَّبنَ.. فهيَ تبتدئُ بإرضاعِهِ، فيكونُ هذا الشَّخصُ في حقِّ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ساقطَ الاختيارِ؛ لعلمِهِ بأنَّهُ مَجرى القدرِ، فلا يَبقى فيهِ مُتَّسعٌ لغيرِ الانتظارِ لِمَا يجري عليهِ.

وهذا المقامُ يأبى الدُّعاءَ والسُّؤالَ، ولا يَمْتَنِعُ الدُّعاءُ في المَقامِ الثاني والأوَّلِ.

ويَمتنِعُ التدبيرُ في المَقامِ الأخيرِ، ويَمتنِعُ في الثَّاني أيضًا، إِلَّا في التَّعلُّقِ بالوكيلِ فقطْ، وفي الأَوَّلِ يَمتَنِعُ التَّدبيرُ بالتَّعَلُّقِ بغيرِهِ، ولا يَمْتَنِعُ بالطَّريقِ الذي رسمَهُ الوكيلُ، وسنَّهُ لهُ وأَمرَهُ بهِ".

 

وهكذا يقول -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: "لا يكفي الإيمانُ بتوحيدِ الفعلِ والذَّاتِ في إثارة حالةِ التَّوكُّلِ.. حتَّى ينضافَ إليه الإيمانُ بالرَّحمةِ"؛ أنت موقن بأنَّهُ لا فعَّال غيره، وهو الموجود الحق؛ ولكنْ أيضًا يجب توقن برحمته، وأنَّهُ أعلمُ وأرحم.

  • أعلمُ منكَ بحقائقِ الأمورِ.
  • وأرحمُ بكَ من نفسكَ -جل جلاله وتعالى في علاه-. 

ولهذا "تَعتَقِدَ جزمًا" لو انكشفتْ الحقائقَ لأنَّ كل ما يستشكلهُ الناس يتعجبون فيه لضعفِ مداركهم وعقولهم عن إدراكِ ما فيهِ من حكمةٍ؛ وإلَّا لو انكشفت الحقائق وكشف الله لهم عن أسرار المُلك والملكوت وجُمِعت عقولهم لتُدَبِّر، ما قدروا أن يُدبِّروا بأحسنَ مِمَّا دبَّرَ الملكُ الحقُ -جل جلاله-. ويدركون السِّر في كل ما تنفر منه الطبيعة، وما تُعدُّه مشكلةً من المشاكلِ. 

ولهذا، تجد الأعرف بأسرارِ الحكم أقوى في الطمأنينة والسكينة والالتزام. ولذا -أيضًا- رأيته ﷺ في جميع ما يجري كيف ثباته وصبره وعدم اهتزازه، لِما علمَ من الحكمةِ ما لم يعلم غيره، حتى في وقت الشدائد وقوة الأمر. قالوا له: ادعُ عليهم، عملوا وعملوا..! قال: "اللهم اهدِ قوْمِي فإِنَّهم لا يعلمونَ" صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله.

أُمرنا أن نتعلم تنمية هذا الشعور، فيقول إذا جرى أي شيء، أو حصل من الخادم ما لم نرده ونفرح به، نقول: "قدَّر الله وَمَا شَاءَ فَعلَ" -جل جلاله وتعالى في عُلاه-. ويقول الحق -تعالى- في بيانِ هذه الحقيقة: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216]لا إله إلا الله..

فيكونون على مشاهدة عجائب العدل المحض الذي لا جور فيه، في وجود الوجود؛ بل وعجائب الكرم -أيضاً- والجود المُبتثَّة في الوجود؛ فلا أعدل منه ولا أكرم منه -سبحانه وتعالى-. قال: "وهذا الآنَ بحرٌ آخرُ في المعرفةِ، يُحرِّكُ أمواجَهُ سِرُّ القَدَرِ". 

وسر القدر: "مُنِعَ مِنْ ذكرِهِ المُكاشَفونَ، وتَحيَّرَ فِيهِ الأكثرونَ، ولا يَعْقِلُهُ إِلَّا العالِمونَ، ولا يُدركُ تأويلَهُ إِلَّا الرَّاسخونَ."

و"حظُّ العوامِّ: -ما أوجب عليهم- أن يعتقدوا أنَّ كلَّ ما يُصِيبُهُم لم يكنْ ليُخطِئَهُم، وما يُخطِئُهُم لم يكنْ ليُصيبَهُم، وأَنَّ ذلكَ واجبُ الحصولِ بحكمِ المشيئةِ" الربَّانيَّة، "وأنَّهُ لا رادَّ لحكمِهِ، ولا مُعقِبَ لقضائِهِ، بل كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ مُستَطَرٌ، وحصولُهُ بِقَدْرٍ معلومٍ مُنتظَرٍ، (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)" [القمر:50].

وبعد ذلك، هذا العلم، والعلم يُثمر الحال "حالُ التَّوكُّلِ"؛ وهو "أن تَكِلَ أمرَكَ إلى اللهِ، ويثقَ بهِ قلبُكَ، وتطمئنَّ بالتَّفويضِ إليهِ نفسُكَ" (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[غافر: 44]؛ "ولا تَلتَفِت إلى غيرِ اللهِ أصلًا"، "مثالَ مَنْ وَكَّلَ في خصومتِهِ في مجلسِ القاضي مَنْ عَلِمَ أنه شفيق به غاية "وأَنَّهُ أشفقُ النَّاسِ عليهِ، و -أنَّه- أقواهُم على كشفِ الباطلِ" وإدراك الحقيقة، "وأعرفُهُم"؛ فإذا كان علم ذلك، يروح مطمئن، ساكن؛ ما عاد يتعب نفسه بالتفكير في كيف إقامة الحجة؛ لأنه وكّل به واحد.. قوي يعرف. 

ولا أعظم من ربك ولا أعلم منه! فإذا وثقت به، وأنَّه لا أرحم بك منه، ولا أعلم بمصلحتك منه.. اطمأن بالك. قال بعض العارفين: سَكَن جأشي، بَرِدَ جأشي على.. مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ خلاص برد جأشي.. مطمئناً إلى رحمته -تعالى- وإلى قدرته. 

قال: فحينئذ ينقطع نظرك عن غيرِهِ، فإذا لم ينقطعْ النظر فهذا لأحدِ أمرينِ: إمَّا "ضَعفُ اليقينِ"، ويكونُ "لتطرُّقِ شكٍّ إليهِ، أو لعدمِ استيلائِهِ على القلبِ"؛ فمثل الموت -قال-، الموت يقين أو شك؟ مَنْ مِمَّن في الدنيا يشك في الموت؟! كل واحد منهم يدري أنه سيموت أو لا! في واحد حتّى كافر أو ملحد بيقول أنا ما بموت، ممكن؟! ما يوجد؛ الموت يقين عنده. لكن لا غلب على عقولهم أو على أفكارهم ولا استعدوا له؛ فما أقربه من الشك. 

ما رأيت من يقين أشبه بالشك من الموت؛ يقول سيدنا علي: "مَا رَأَيْت يَقِينَا أَشْبَهَ بِالشَّكِ مِنْ المَوْت". كل الناس يوقنون به، وكل أفعالهم وتصرفاتهم كأنهم شاكين فيه أو كـأنهم لا يؤمنون به -بالموت-. لا إله إلا الله.. "النَّاسُ نِيَامٌ فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا".

قال: "الموتَ يقينٌ لا شكَّ فيهِ، -لكن- إذ لا يستولي على القلبِ.. فهوَ كشكٍّ لا يقينَ فيهِ." وهذا حال أكثر الناس؛ يوقنون بالموت ولا يعملون له ولا يستعدون له. ولو أيقن واحد منهم أنه الليلة آخر ليلة معه؛ يقوم، ويسجد، وبباطنه وبظاهره، وكيف صلَّى..! وأنت ستموت يقين ما لك كذا! ويمكن أقرب من الليلة يمكن تموت! ولكن كأنهُ شاكٌ فيه!.. لهذا، يقول في مجاهدة النفس، تقرّر لها الحقائق وتقول نعم تقر، ولكن ما ترجع عن غيِّها إلا إذا استشعرت الموت.. لهذا، الخاطر النفسي ما يدفعه إلا ذكر الموت. 

تقول لها: الدنيا فانية، تقول: نعم، الدنيا فانية؛ والآخرة باقية، تقول: نعم، الآخرة باقية؛ الحسنات أفضل من السيئات، تقول: نعم، الحسنات أفضل من السيئات.. مقرَّة بذلك. ولكن ما ترعوي، ما تريد إلّا السيئات، إلا إذا استشعرت الموت تتوقف.. لا إله إلا الله؛ فهو يقين ولكنه أشبه بالشك عند الناس.

والمشكلة الثانية ليست من جهة اليقين، إنما هو "القلب" في فطرته "جبان ضعيف"، فهذا يخاف من كل شيء ويفزع من كل شيء؛ ولهذا ما يطمئن بالمحامي حقه، يقول: يمكن كذا ويمكن كذا.. وبعدين يمكن ينسى، ويمكن تسقط الورقة عليه، ويمكن بعدين..!

هو أصله جبان؛ قال: هذا مثل ما يخاف الإنسان من الميت يبيت معه في الغرفة؛ يقول: أبيت هنا في الغرفة وفيها الميت! وهو يتيقن أن الميت بيضربه؟ أو بيقوم..؟! مسكين الميت.. داريين أنه لا بيتحرك وأن الله ما عاد بيحييه، وأنه هو الذي يقدر يحركه؛ ولكنه يفزع، قلبه كذا.. مسكين! ومع أنه الميت عاجز.

مثل ما يُتوقع أن القلم بينقلب حيَّة، يقول: لا تلمسه، يمكن ينقلب حية ذا الحين! ما بكتب به؛ وأنا بكتب به.. يمكن يرجع حيَّة!!.. فهذا مرض في القلب نفسه،مع أنه يقين ما بيرجع، ما يرجع حيَّة، في سنة الله -تعالى- ما يرجع القلم حيَّة، ولكن يبقى هو بهذه الصورة فتختلط عليه الأمور.

وبعد ذلك، "التَّوكُّلَ عبارةٌ عن حالةٍ للقلبِ في الثِّقَةِ بالوكيلِ، وقطعِ الالتفاتِ إلى غيرِهِ.." وله "ثلاثَ درجاتٍ:"

  • أولها: "كالثِّقةِ بالوكيلِ في الخصومةِ بعدَ اعتقادِ كمالِهِ في الهدايةِ والقدرةِ والشَّفَقَةِ."
  • والثانية: وهي أقوى منها؛ "تضاهي حالةَ الصَّبيِّ في ثقتِهِ بأُمِّهِ، وفزعِهِ إليها" لأنه "لثقتِهِ بشفقتِها وكفالتِها"، في توكُّلِهِ هذا "فانٍ عن توكُّلِهِ؛ فَإِنَّهُ ليسَ يُحصِّلُهُ بفكرٍ وكسبٍ" خلاص أمه.. أمه؛ وإن قرصه شيء يقول: أمي.. وإن خاف من شيء، يقول: يا أمي.. وإن أراد شيء، يقول: يا أمي! وما عنده إلا أمه؛ ويوقن بشفقتها ويرى أنها قادرة وهو ضعيف. 
  • ولكن أعلى من ذلك: يكون في توكله "كالميتِ بينَ يديِ الغاسلِ" لا إله إلا الله!.. 

يقول: مثل صبي "عَلِمَ أَنَّهُ وإن لم يَزعَقْ بِأُمِّهِ.. فإنَّها تطلبُهُ، وإن لم يتعلَّقْ بذيلِها.. فهيَ تَحْمِلُهُ، وإن لم يسألْها اللَّبنَ.. فهيَ تبتدئُ بإرضاعِهِ"، يكون خلاص لا عاد يسأل ولا عاد ..!

قال: هذا المقام إذا استولى، يجيء فيه الوقوف عن السؤال، وهو الذي كان فيه سيدنا الخليل عندما رُمي في النار، عرض له سيدنا جبريل وقال له: لك حاجة؟ قال: إليك لا، قال: فاسأله! قال: علمه بحالي يُغني عن سؤالي...مثل الحالة ذي؛ فجاء الوحي من الله: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ)[الأنبياء:69]. والله أعلم.

 

إجابة سؤال

إذا نازل الإنسان شيءٌ من الابتلاءات كيف يجمع بين الخوف واتهام النفس وبين أن الله تعالى أرحم به من نفسه؟

نعم، كل ما يُنازل الإنسان من ابتلاءات وغيرها، ينبغي أن يُوقن أنَّه كما قال ربّه -سبحانه وتعالى-: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، ومع ذلك، يوقن أن الله -تعالى- أرحم به، لأنه (وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]، ولو شاء لصلَّح له بلاء فوق هذا البلاء! فلا يشك أن ربّه -سبحانه وتعالى- أرحم به من نفسه.. فيفزع إليه. 

وما أعلَمَه وبيَّنَ له من أسباب حصول البلاء من الذنوب والمعاصي، يرتدِع عنه ويبتعد ويحقق توبته ويثق به -سبحانه وتعالى-؛ فيكشفه عنه -سبحانه وتعالى- (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ)[يونس:107] -جل جلاله-.

ملأنا الله وإياكم بالإيمان واليقين، وألحقنا بعباده الصالحين المُصلحين والهُداةَ المُهتدين؛ ووفّر حظَّنا في خاتمة هذه الدورة وما بقي من أيامها ولياليها وساعاتها، ويجعل لنا ارتقاء في سلّم المعرفة، ونظر منه -سبحانه وتعالى- ليُنَقِّينا ويُصفِّينا عن كل التفات إلى ما سواه، وتعلّقٍ بمن عداه، ويقيم لنا شهوده بمرآة حبيبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويحنِّن روحه علينا، ويعطّف قلبه علينا، ويرزقنا كمال التوكل عليه، والاستناد إليه، والتفويض إليه -سبحانه وتعالى- ويفيض علينا فائضات المن، وينظمنا في سلك من تولّاهم في السر والعلن، ولا وكلهم إلى أحدٍ من خلقه طرفة عين.

بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ

 إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ 

الْفَاتِحَة

تاريخ النشر الهجري

05 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

28 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام