(535)
(339)
(363)
الدرس السابع والثلاثون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: تكملة شرح الأصل السادس: الإخلاص والصدق (2)، والأصل السابع: التوكل (1)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
مساء الأربعاء 4 ربيع الأول 1447هـ
النيّة ومراتب الصدق وبداية طريق التوكّل: توضيح من دقائق النيّة التي تُحيي المباح فيصير عبادة، إلى حقيقة الإخلاص وتمييز شوائبه، ثم سُلّم الصدق في القول والنيّة والعزم والوفاء والعمل، ومعنى التوكّل بنصوصه الجامعة (ومن يتوكّل على الله فهو حسبه).
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
"وقِس على هذا سائر الأعمال؛ فباجتماع هذه النيات تزكو الأعمال، ويُلتحق بأعمال المُقرَّبِينَ، كما أَنَّهُ بنقيضها يُلتحق بأعمال الشَّياطين؛ كَمَنْ يَقْصِد مِنَ القعود في المسجد التحدث بالباطل، والتَّفكة بأعراض النَّاسِ، ومجالسة أخدان اللهو واللعب، وملاحظةَ مَنْ يَجتاز فِيهِ مِنَ النِّسوان والصبيان، ومناظرة مَنْ يُنازَعُهُ من الأقران على سبيل المباهاة والمراءاة باقتناص قلوب المستمعين لكلامه، وما يجري مجراه .
وكذلك لا ينبغي أن يَغفُل في المباحات عن حُسْنِ النَّيَّةِ؛ ففي الخبر: "إِنَّ الْعَبْدَ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ حَتَّى عَنْ كَحْل عَيْنَيْهِ، وَعَنْ فُتَاتِ الطينِ بِإِصْبَعَيْهِ، وَعَنْ لَمْسِهِ ثَوْبَ أخيه".
ومثال النِّيَّةِ في المباحاتِ: أَنَّ مَنْ يَتطيَّبُ يوم الجمعة يمكنه أن يَقْصِدَ التَّنعم بلذَّتِهِ، والتَّفاخرَ بإظهار ثروته ، أو التزينَ للنساء وأخدانِ الفساد، ويُتصوَّرُ أن ينويَ اتِّباعَ السُّنَّةِ، وتعظيمَ بيتِ اللهِ تعالى، واحترامَ يوم الجمعة، ودفعَ الأذى عن غيره بدفع الرائحةِ الكريهة، وإيصالَ الراحةِ إليهم بالرائحة الطيبة، وحسمِ باب الغيبة إذا شمُّوا منه رائحةً كريهة.
وإلى الفريقين الإشارة بقوله ﷺ: "مَنْ تَطَيَّبَ لِلَّهِ تَعَالَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَمَنْ تَطَيَّبَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ"
فصل
في أن النيةَ لا تدخلُ تحت الاختيار
اعلم: أن النيةَ لا تدخل تحت الاختيار، فلا ينبغي أن تغترَّ فتقولَ بلسانك وقلبك: نويتُ من القعود في المسجد كذا وكذا، وتظنُ أنك قد نويت، إذ عرفتَ من قبلُ أن النيةَ هي الباعثُ المحرِّك، الذي لولاه لم يُتصوّر وجودُ العمل.
والنيةُ المُتكلَّفةُ كقولِ القائلِ: نويتُ أن أحبَّ فلاناً وأعشقه وأعظمه، أو نويت أن أعطشَ أو أجوعَ أوأشبعَ؛ فإن لكل هذه دواعيَ وصوارفَ وتُحققها أسبابها؛ إذ لا يُتصوَّرُ حصولُها دون أسبابها. وقول القائل: (نويتُها) دون تحقُّقِها.. حديثُ نفسٍ لا نية؛ فمن وطِئَ لغلبة شهوة الوِقاع، من أين ينفعه قوله: نويت الوطءَ لحراثةِ الولد وتكثيرِ عدد من به المُباهاة؟!
بل لا تظفرُ بانبعاثِ هذه النِّيَّات من قلبكَ إلّا إذا قويَ إيمانُك، وتمَّت معرفتُك بحقارةِ الحظوظِ العاجلة، وعِظَمِ ثوابِ الآخرةِ، حتى إذا غلبَ ذلكَ عليكَ.. انبعثَت منكَ الرغبةُ ضرورةً في كل ما هو وسيلةٌ إلى ثواب الآخرة. وإن لم تنبعث .. فلا نية لك.
ولمثلِ هذا توقَّف السَّلفُ في جملةٍ من الخيراتِ، حتى رُوِيَ: أنَّ محمد بن سيرين لم يُصلِّ على جنازة الحسن البصري وقال: ليس تحضُرني النِّية.
وقيل لطاووس: ادعُ لنا، فقال: حتى أجدَ له نية.
وقال بعضهم: أنا في طلب نيَّة لعيادةِ رجلٍ منذُ شهر، فما صحَّت لي نيةٌ بعد.
ومن عرف حقيقة النيَّة وعلم أنَّها روحُ العملِ.. فلا يُتعِبُ نفسَهُ بعملٍ لا روحَ له.
ويُحقِّقُ ذلكَ: أنَّ المُباح قد يصيرُ أفضلَ من العبادةِ إذا حضَرَت فيه نية؛ فمن له نيةٌ في الأكل والشرب ليقوى على العبادة، وليس تنبعثُ له نيةُ الصوم في الحال.. فالأكل أولى له.
ومن ملَّ العبادةَ وعلم أنَّه لو نامَ لعادَ نشاطُه.. فالنومُ أفضلُ له، بل لو عَلِمَ مثلاً أنَّ التَّرفُّه بدُعابةٍ وحديثٍ مُباحٍ في ساعةٍ يَرُدُّ نشاطه.. فذلكَ أفضلُ له من الصَّلاة مع المَلال.
قال ﷺ: "إن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا"، وقال أبو الدرداء: إني لأستجمُّ نفسي بشيءٍ من اللَّهو، فيكونُ ذلك عوناً لي على الحقِّ. وقال عليٌ رضي الله عنه: روِّحوا القلوب فإنها إذا أُكرِهت عميَت.
وهذه دقائقُ يستثقلُها الظاهريُّون من الفقهاء، كما يستثقلُ الضعيفُ من الأطباء معالجةَ المحرورِ باللحمِ، والحاذقُ منهم قد يَأمُر به؛ ليُعيدَ قُوَّة المريضِ الضعيفِ، حتى يَحتمِلَ الدَّواءَ النَّافعَ بعده.
الركن الثاني
في إخلاص النية
قال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)[البينة:5].
وقال تعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)[الزمر:3].
وقال: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ)[النساء:146].
وقال النبي ﷺ: "قال الله تعالى: الإخلاص سرٌّ من سري استودعتُه قلبَ من أحْببتُ من عبادي". وقال ﷺ لمعاذ: "أخلص العمل.. يُجْزِك القليلُ منه".
وقال ﷺ: "ما من عبدٍ يُخلِصُ العملَ أربعينَ يومًا.. إلا ظهرت ينابيعُ الحِكمةِ من قلبه على لسانِهِ".
الله أكبر، الحمد لله الذي يُكرِم المتوجهين إليه، بسعةِ المجال في النيات للأعمال، وفي المقاصد العَوال، فيطوي لهم المسافات، ويبعِد عنهم الآفات، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ربُ الأرضين والسماوات، عالمُ الظواهر والخفيات، ونشهد أن سيدَنا محمدًا عبدُه ورسوله خير البريات وقائد القادات، حبيبُ رب العالمين وخاتمُ النبيين وسيّد المرسلين، أوسعُ الخلائق معرفةً وعِلمًا وعملاً ونيةً، صلى الله وسلمَ وبارك وكرّم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن سار في منهجهم وطريقتهم السوية، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهلِ المراتب والمزيّة، وآلهِم وصحبهم وتابعيهم، وعلى جميعِ الملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وذكرَ لنا الشيخ -عليه رحمة الله- ما يمكن أن يجتمعَ من النيات في المجيء إلى المسجد، وذَكرَ لنا ثمان، وذكَرْنا غيرَها فيما مضى، "وقِسْ على هذا سائرَ الأعمال.
فمن يقعدُ في المسجد، ولكنه يقصدُ "التحدثَ بالباطل، التفكَّه بأعراض الناس"، يجلس هو وأصحابُه يتكلمون على خلق الله، يتفرّج في جواله في المسجد على صورٍ خبيثة وما إلى ذلك.. في المسجد؟! فهذا بمجيئِه إلى المسجد يتضاعفُ وِزرُه، ويتضاعف بُعدُه وطردُه والعياذ بالله تبارك وتعالى، كما تَضاعفَ قربُ الأول بصحةِ النيات وتعددِها وهي صالحة، وهكذا بتعددِها وهي فاسدة -والعياذ بالله- يحصلُ البعد.
فلا ينبغي أن تغفُلَ عن حسن النية في المُباحات: أكلٍ وشربٍ ونوم ودخولِ خلاء وكلامٍ ومجالسة أهل وما إلى ذلك، كلُها تحتاجُ إلى نيةٍ تُحوِّلُها إلى عبادة، تُحولها إلى طاعة، تحولها إلى زاد، زاد للمعاد، وزاد للقاء الملك الجواد -جلّ جلاله- وتعالى في علاه.
قال: "إن العبدَ يُسأل يوم القيامة عن كلِ شيءٍ حتى عن كُحلِ عينيه، وفُتاتِ الطينِ بإصبعِه، ولمسِه ثوبَ أخيه"، لا إله إلا الله.
لا إله إلا الله، ويمثلُ سيدُنا ابن عباس يقول: "كبيرةً" كالقهقهة، "صغيرةً" كالتبسُّم ..(إِلَّا أَحْصَاهَا).
قال: "من يتطيبُ يوم الجُمُعة مثلاً، يمكنه أن يقصدَ التنعّمَ بلذته والتفاخرَ بإظهار ثروته، أو التزينَ للنساء وأخدان الفساد" هذا واحدٌ فما يستفيد من هذا التطيبِ إلا سوء.
والثاني يتطيب "ينوي اتباعَ السنة، وتعظيمَ بيت الله، واحترامَ يوم الجمعة، ودفعَ الأذى عن غيرِه بدفعِ الرائحةِ الكريهة، وإيصالَ الراحةِ إليهم بالرائحة الطيبة، وحسمِ باب الغيبة إذا شمُّوا منه رائحةً كريهة" وما إلى ذلك.
قال: "وإلى الفريقين الإشارةُ في الحديث الشريف" الذي رواه عبد الرزاق في المصنف يقول: "من تطيَّبَ لله تعالى، جاءَ يوم القيامة وريحُه أطيبُ من ريح المسك، ومن تطيَّبَ لغير الله تعالى جاء يوم القيامة وريحُه أنتنُ من الجيفة" -والعياذ بالله تبارك وتعالى- يُحتاجُ أن نجعلَ الطيبَ لله، كذلك قصُّ الأظافر لله، قصُّ الشارب لله، استعمالُ أنواع الزينة لله، يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف:31] فنرتقيَ في المُباحات، وندخلُ فيها بالنيات الصالحات، فتتحوَّلُ إلى عبادات.
لكن إذا نوى بأكله القِوى *** لطاعة الله، له ما قد نوى
ويقول: هذه النية دافعٌ في القلب يحملُ على الفعل، لا لفظ يتلفظ به الإنسان: نويت، نويت، نويت … هل هذه التي ذكرتَ من نية لها دوافع في باطنك تدفعك للعمل؟ أم فقط تستحضرها وتنوي.. ولكن لينبعثَ الدافعُ من باطنك، ما هي مجردُ مرورِها على البال، ولا النطقُ بها بالمقال.
فلا "تغترَّ" بمجرد القول باللسان: "نويت من القعود في المسجد كذا وكذا.."، فتظنُ أنك فعلاً نويتَه، "إذا عرفتَ أنَّ النيَّة هي الباعثُ المحرِّكُ الذي لولاه لم يصدر العمل"، وإذا قال أحدٌ: "نويتُ أن أُحبَّ فلاناً"، يصير محباً؟ إذا قال "نويتُ أن أحب فلاناً" وأتْبعَه بالتتبُّع لحسناتِه وفضائلِه وشمائِله ومُجالسَته.. لا بأس هذه نية زينة، ما هو "نويتُ أن أحب فلاناً" كيف نويت أحب فلان؟! من دون عمل، ما لها معنى ولا تؤثر، وهكذا نويت أن "أعظِّمه"...
"نويت أن أعطشَ"، وبعده يشرب، يقول نويت أن أعطش، يشرب ماء! ، كيف؟ ما هذه النية؟ صُم، صُم وقل "نويت أن أعطش لأجل الله" لا بأس، لكن مجرد "نويت" ما تفيد! قال: "أو أن أجوعَ أو أشبعَ" وكل ذلك.
قال: "فإن لكل هذه دواعيَ وصوارفَ تُحقِّقُها أسبابُها، وقولُ القائل: نويتُها دون تَحقُقِها.. حديثُ نفس"،إذًا ينبغي أن يَستبعثَ من قلبه. ولهذا قال: من قبل الزواج ينظر الى نيات الصالحين، ثم يستبعث مراد ما معناها من قلبه حتى تَغلُبَ عليه.
وهكذا عندنا بعضُ الأخيار، وهو عبد الله بن عيدروس بن شهاب الدين، أراد أن يتزوج فكان حمل نيات، كان حرَّرها الشيخُ علي بن أبي بكر بن عبد الرحمن السقاف، عمل تنبيه للنيات، ليتحركَ استبعاثُها في القلوب، نيّات البناء، نيّات الزراعة، نيّات الأكل، نيّات التجارة، نيّات التزويج.
جاء حمل نيات التزويج، وقال للحبيب عبد الرحمن المشهور مفتي حضرموت في زمانه صاحب (بغية المسترشدين) عرفها بعض فقهاء الشافعية، قال له: هذه نيات التزوج أريدك أن تنويها لي أنت، قال: كيف؟ قال: معانيها أنت أعلمُ بها مني، وأنا أطوي نيتي في نيتك، قال له ما سبق أحد قال لي كذا ولكن هاتِها، فنواها، وتم الزواج، فكان نتيجة الزواج ولادةَ الحبيب علوي بن عبد الله بن شهاب الدين، شيخ مشايخنا، كان إمام الوادي في زمانه، "وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى.".
وقال سبحانه وتعالى في استبعاث هذه النيات منا: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا). نَوَت أن تجعلَه خادم في بيت المقدس، يخدم الأنبياء والعبَّاد هناك، ويكون هذا شغله، ولا تريد منه شيء في هذه الدنيا، حرَّرته لله -تبارك وتعالى- وإذا بها بنت! لا حول ولا قوة إلّا بالله (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ)، قال الله النيةُ ما خابت، (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)[آل عمران:35-37] ووقعت لها الكرامات، وبعد ذلك حملت بعيسى من غيرِ أب، وخيراتٍ مازالت مستمرة، وعادها مقبلة على الأمة من أثر تلك النية، (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا).
ومعنى هذه الآية: يا أمةَ محمد، ارتفعوا في مقاصدِكم نحو الأولاد، نحو الأبناء والبنات، وجّهوا هِممَكم إلى فوق، لا تطلبوا الأبناءَ والبنات إلا لهذه المقاصدِ السامية، (نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا).
ذكر لنا السيد عبد الله الهدار بن شيخ بن أحمد بن الشيخ أبي بكر بن سالم، لما حملت زوجته، نذرَ ما في بطنها يكون للعلم والتعليم، فولدت شيخَنا الحبيبَ محمد بن عبد الله الهدار، وتعلّق بالعلم من صغره، وكان يقول: فقط ابعثوني إلى حضرموت، وهو صغير السن، يقول: مازلت صغير، وأمه أيضًا كان يصعب عليها فِراقُه، حتى وصل إلى سبعة عشر سنة، قال لأبيه: لابد ترسلوني أتعلم هناك في تريم، قالت أمه: أنا ما أقدر على فراقه، عاده خلّوه.. فصار يزعل عليهم ويهرب إلى أماكن يدوّرون له -يبحثون عنه-، يقول لهم: ما تأذنون لي بالخروج!...
استمر مدةً على هذا الحال، فرأى ليلةً كأنه جاء إلى تريم، ودخل إلى مسجد بابطينه بجانب الرباط، ورأى الحبيب عبد الله الشاطري هناك، -الذي كان شيخ الرباط تلك الأيام- ورأى بجانبه بحر، وفي الشق الثاني أكوامٌ من البُرِّ، وكل من جاء إليه يأمره أن يسبح في البحر، فأحدهم يصل إلى قريب، وآخر يصل إلى بعيد، ويرجعون، فيكيلُ لهم من البُر ويمشون، فوصل هو، قال له: اسبح، خلّاه يسبح في البحر؛ فلما أصبح قصَّ الرؤيا على أمه، فبرد قلبها، قالت: الآن رخصة لك، الآن تذهب، إذاكنت تريد تسافر .. سافر. سافر مع الظروف تلك الأيام والأحوال ورجع ثاني مرة، وسافر ووصل وهو ابن ثمانية عشر سنة إلى حضرموت.
يقول: أنه في يوم كان عند شيخه هذا الحبيب عبد الله؛ قال له: أنت يا هدار أيش سببُ مجيئك الى هنا؟ قال له: كان والدي يُعلّقّنا بالعلم وبالعلماء وبالصلحاء ويذكر لنا حضرموت وتريم.. فقال: فقط، ما يوجد شيء ثاني؟ قال: لا، قال: ما رأيت رؤيا؟ قال: قلت له لا، أنا نسيت تلك الساعة، قال: تذَكَّرْ، قلت: لا ما يوجد، رفع صوته: إلا رأيت! قلت: تذكرتُ الرؤيا، قلت: نعم نعم رأيت كذا كذا.. ومنها رضيت الوالدة وسَمحَت لي آتي، قال: أنا الرائي ونسيت الرؤيا، وهو يذكرها!
فكان والدُه وهو حمل في بطن أمه حرّره لله، فطلع إمام هادي داعي إلى الله، أنقذ الله به أمم كثير من الجهل ومن الضلال، وأقام رباط هناك في بلده البيضاء.
يقول أيضًا أيام وصوله إلى حضرموت، ذهب يزور عينات، فيها جده الشيخ أبي بكر بن سالم، وفيها رباط أيضاً من أربطة العلم، بناه الحبيب حسن بن إسماعيل الحامد، قال لما رجعت من عنده سألني عن الزيارة، وقال له: زرت عمك حسن بن إسماعيل ورأيت رباطه؟ قلت: نعم، قال: أعجبك؟ قلت له: ما شاء الله، قال: أنت ستبني رباط مثله في بلادك، وتوفي بعد ثلاث سنين -الحبيب عبد الله-، وكمل سنةً بعده ورجع إلى البلاد، وبعد مرور عشرين سنة على هذا الكلام، جاءت الهِمة لبناء الرباط، فتذكر قولَ شيخه أنك ستبني رباطاً مثل هذا، وبدأ ببناء الرباط حتى تم له الخير الكثير؛ فالنيات النيات في البنين وفي البنات، الله.. لا إله إلا الله.
وقال: إنهم يتوقّفون في "كثيرٍ من الخيرات" حتى تحضُرَ عندهم النية، وقالوا له: تحضر جنازة؟ قال: أدوِّر نية، حتى أجد النية، إذا حضرت النية أحضر.
"قال بعضهم: أنا في طلب نيةٍ لعيادة رجلٍ منذ شهرٍ، فما صحّت لي نية." إذا صحت النيةُ بروح أزوره، لا إله إلا الله. "فالنيةُ روحُ العمل، فلا يُتعبُ نفسَه بعملٍ لا روحَ له".
وقال: "والمباحُ قد يصير أفضلَ من العبادة إذا حضرَتْ فيه النية"، قال: "فمن له نيةٌ في الأكل والشرب ليقوى على العبادة، ولا تنبعثُ له نيةٌ في الصوم في هذا الحال، فالأكلُ أولى له، ومن ملَّ" من العبادة" ويعرف أنه "لو نام" ساعتين أو ثلاثة يتنشط، قال "النومُ" في هذا الحال "أفضلُ له". ودليله في الحديث يقول: "ليُصلِّ أحدُكم ما لم تغلب عيناه، فإذا غلبه النعاسُ فليَرقد، فإنّ أحدَكم لا يدري لعلَّه يذهبُ يدعو فيَلعنُ نفسَه"، ما عاد يجي على الكلام من كثرة النعاس، فلهذا قال: "فذلك أفضلُ له من الصلاة مع المَلال"، ينام ويتنشط.
ولهذا قال سيدنا عبد الله بن مسعود: إني أرتجي في نومتي ما أرتجي في قومتي، فعدَّ نومَه من العبادة، يتقرب بها، لأنه ينام بقدر الضرورة ليتنشط على العبادة، قال: أرتجي في نومتي ما أرتجي في قومتي.
قال ﷺ: "إن الله لا يمل حتى تملوا". فإذا مللتَ انقطعَ عنك الثوابَ والأجر، وهو ما يقطعه ما دمت تعمل، فلهذا لا تعرِّض نفسَك للملل، لا تتعرض للملل ورتب نفسك، حتى لا تنقطعَ عن العبادة، ولا ينقطعَ الثوابُ والعطاء الرباني لك.
"وقال ابو الدرداء -حكيم هذه الأمة- إني لأستجمُّ نفسي بشيءٍ من اللهو، فيكونُ ذلك عوناً لي على الحق". بحكمته حكيم الأمة سيدنا أبو الدرداء، قالوا له وقد مرض مرةً: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قالوا: فما تشتهي؟ نحضر لك شيء؟ قال: الجنة، قالوا: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: قد حضر الطبيب، قالوا: ما قال لك؟ قال: قال إني فعالٌ لما أريد! هذا جوابه عليه رضوان الله -تبارك وتعالى-.
وفي شهودِ أنَّ الحقَّ هو الذي يُمرِض وهو الذي يُعافِي، قالوا للصدِّيق: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، هو الذي أمرضنا الطبيب وهو الذي يداوينا، لا إله إلّا الله!.. (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)[الشعراء:80].
"ويقول سيدُنا علي: روِّحوا القلوب ساعة ساعة، فإنها إذا أُكرهت عَمِيَت"، فترويحُها ساعةً ساعة من الحكمة؛ لتستمرَّ في الطاعة وفي الإقبالِ الصادق على الخالق -جل جلاله-.
ثم قال: هذه دقائق في التربية، أهل الظاهر قد يستثقلونها، مثل ما يستثقل الضعيف من الأطباء واحد محرور عنده، ولكن يأمره الطبيب يأكل اللحم، الأطباء الضِّعاف يقولوا: ما لك أنت؟ هذا ما يناسبه! وهذا عنده معرفة الرجل ضعيف ما يقوى على الدواء، بنعطيه الدواء لعلّته، فخلّه يقوى أولًا بهذا وبعدين نعطيه الدواء. هذا حاذق أحذَق منهم يعرف، وكذلك أطباء القلوب.
فصل
في حقيقة الإخلاص
"حقيقة الإخلاص: تَجرُّدُ الباعثِ الواحدِ، ويُضادُّهُ الإشراكُ؛ وهو أن يشتركَ باعثانِ، وهو كل ما يُتصوَّرُ أن يُمازجَهُ غيرُهُ، فإن صفا عن كل شَوبٍ منهُ.. سُمِّيَ خالصاً.
وقد عرفتَ أنَّ النِّيَّةَ هيَ الباعثُ، فمن لا يعملُ إلَّا للرِّياء.. فهو مُخلِصٌ، ومَن لا يعملُ إلَّا للهِ .. فهوَ مُخلِصٌ، ولكن خُصِّصَ الاسمُ بأحدِ الجانبينِ بالعادة؛ كالإلحادِ فإنه مَيْلٌ، ولكن خُصِّصَ بالميلِ إلى الباطلِ.
وزوالُ الإخلاصِ بشوائبِ الرِّياءِ قد ذكرناهُ، ولكن قد يزولُ بأغراضٍ أُخرَ؛ فإنَّ الصَّائمَ قد يَقصِدُ مع العبادةِ أن يَنتفِعَ بالحِمْيةِ الصحَّةَ الحاصلةَ بالصَّومِ.
وقد يَقصِدُ المُعتِقُ بالعِتْقِ أن يَتخلَّصَ مِن مُؤنةِ العبدِ وسوءِ خُلُقِهِ.
والحاجُّ يَحُجُّ ليصحَّ مِزَاجُهُ بحركةِ السَّفر، أو يَهرُبَ من مَشَقَّةِ تعهُّدِ العيال، أو من إيذاءِ الأعداءِ، أو مِنَ التبرُّمِ بالمُقامِ مع الأهلِ.
والمُتعلِّمُ يَتعلَّمُ العلمَ ليَسهُلَ عليهِ طلبُ المَعاشِ، أو يكونَ محروسًا بعِزِّ العلمِ عن الظُّلمِ، أو يكتبُ مُصحفًا ليُجَوِّدَ خطَّهُ، أو يَحُجَّ ماشيًا ليُخفِّفَ مؤنة الكِراءِ، أو يتوضأ ليتنظَّف أو يتبرَّد، أو يغتسلُ لتطيبَ رائحتُهُ، أو يَعتكِفُ ليَخِفَّ عليه كِراءُ المَسكَنِ، أو يصومُ ليُخَفِّفَ عن نفسِهِ تعبَ الطَّبخِ وشراءَ الطَّعامِ، أو يتصدَّقُ ليدفعَ عن نفسِهِ إبرامَ السائل، أو يعودُ مريضاً ليُعادَ إذا مرضَ.
فهذه الأغراضُ قد تتجرَّدُ، وقد تشوبُ قصدَ العبادةِ شوبًا خفيّاً، فإذا خطرَ شيءٌ من هذه الأغراضِ في الفعلِ.. فقد ذهبَ الإخلاصُ، وذلكَ عسيرٌ جداً؛ ولذلكَ قال بعضُهُم: في إخلاصِ ساعةٍ نجاةُ الأبدِ، ولكنْ ذلكَ عزيزٌ.
وقال أبو سليمان الدَّارانيُّ: "طوبى لمن صحَّت له خطوةٌ واحدةٌ لا يريد بها إلا الله عز وجل".
وكان معروفٌ الكرخيُّ يَضرِبُ نفسَهُ ويقولُ: "يا نفسُ؛ أخلصي .. تتخلَّصي".
فصلٌ
في بيانِ مراتبِ شوائبِ الإخلاصِ
اعلم: أنَّ امتزاجَ هذه الشوائبِ على مراتبَ؛ فإنَّها قد تَغلِبُ، وقد تكونُ مغمورةً، وقد تكون مساويةً لقصدِ العبادةِ، ولا تمحو أصلَ الثوابِ في المباحاتِ؛ فمهما بَقِيَ شوبٌ من إرادةِ وجهِ الله تعالى .. فله ثوابٌ بقَدرِ ذلكَ الشَّوبِ، والباقي لا ثوابَ عليه.
فأمَّا إذا كانَ في عبادةٍ.. أُمِرَ بأن يُخلِصَها للهِ تعالى، فإن كانَ الشَّوبُ غالبًا.. بطلَتِ العبادةُ، وإن كانَ مساويًا أو مغلوبًا.. بطلَ الإخلاصُ.
ولكن هل يتوقَّفُ انعقادُ العبادةِ وحصولُ أصلِها على انتفاءِ الشَّوائبِ كلِّها؟ فيهِ نظرٌ أشرنا إليهِ في (الرِّيَاءِ)، ويُطلَبُ استقصاؤه من كتابِ (الإحياءِ).
الرُّكنُ الثَّالثُ: الصدق: وهو كمالُ الإخلاص.
قال الله تعالى: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)[الأحزاب:23].
وقال النبي ﷺ: "إنَّ الرَّجلَ ليصدُقُ ويتحرَّى الصِّدقَ .. حتّى يُكتَبَ عندَ اللَّهِ صِدِّيقًا".
وقال الله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا)[مريم:41].
ويكفي فضيلةَ الصِّدقِ أنَّه يُدرَكُ به درجاتُ الصِّدِّيقينَ."
ذكَر لنا في حقيقة الإخلاص.. له حقيقة وأصل وكمال:
فذكَر لنا النية، وذكَر لنا الإخلاص، ثم يَذكُر الصدق وهو الركن الثالث؛ فتكلَّم في "حقيقة الإخلاص: تَجرُّدُ الباعثِ الواحدِ" لواحد، فإذا اختلط به باعث آخر مُخالِف له؛ مُغَايِر له فقد خرج عن الإخلاص، وأصل الإخلاص: خلوص الشيء لواحد، فلُغَةً ممكن حتى الذي تجرَّد قصده للرياء مُخلِص.. مخلص لغير الله تعالى، لكن ما يطلق عليه لفظ الإخلاص إلا إذا أخلص لله -جل جلاله- في الاصطلاح.
وهكذا، يقول قد يحصل أو يزول شائبة الرياء بمقاصد أُخَر، بشوائب الرياء قد يزول الإخلاص وقد يزول بأشياء أُخَر، مثل "يقصد مع العبادة أن ينتفع بالحمية الصحة الحاصلة بالصوم"، حصول الصحة الحاصلة بالصوم إذا غلب على إرادته وكان نية الصوم إنما تبَع، فهذا قد خلط نية الصوم بنية الصحة للجسد، وهكذا "وقد يَقصِدُ المُعتِقُ بالعِتْقِ أن يَتخلَّص من مؤنة العبد وسوء خُلُقه."، فيقول: فُكّ علينا منه بنعتقه، وأين التقرب إلى الله بالعتق؟ مثل الرجل الذي رأى المملوك عبده غَرِق في ال.. شافه غَرِق، قال: أنت حر لوجه الله أعتقناك أعتقناك! ذا الحين وهو خلاص خارج من قبضتك وبيموت؟ ما أعتقته وهو صحيح قوي قدّامك، لا إله إلّا الله..
وهكذا قال: "والحاجُّ يحج ليصحَّ مِزَاجُهُ بحركةِ السَّفر، أو يَهرُبَ من مَشَقَّةِ تعهُّدِ العيال". قال بنتنسَّم قليل بنتروَّح نروح الحج..! هو نزهة أو أيش؟!، أو يتخلص من إيذاء حد يؤذيه في البلاد، قال بنروح الحج خلاص خلّنا نسكُن منه هذا ومن شرّه؛ إذا كان هذا الدافع…
قال: "والمُتعلِّمُ يَتعلَّمُ العلمَ ليَسهُلَ عليهِ طلبُ المَعاشِ، أو يكونَ محروساً بعِزِّ العلمِ" إلى غير ذلك من الشوائب التي تصيب النية.
ويقول:
وامتزاجها على مراتب:
"ولا تمحو أصل الثواب في المباحات؛ فمهما بَقِيَ شوبٌ من إرادة وجه الله تعالى..فله ثوابٌ بقدر ذلك الشَّوبِ، والباقي لا ثوابَ عليه."، مقدار ما هو مُتحَقِّق به من نية قصد وجه الله في أكله وغيره يحصِّل له ثواب، وما غير ذلك له دافع طبعي.
" فأما إذا كان في عبادة.. أُمِرَ بأن يخلِصها لله تعالى" فأدخلها الشوب، يقول: تبطل العبادة "وإن كان مساوياً" لباعث العبادة "أو مغلوبًا" الدافع؛ غير العبادة أكثر، قال: "ولكن هل يتوقفُ انعقادُ العبادةِ وحصولُ أصلها على انتفاءِ الشوائبِ كلّها؟" قال: "فيه نظرٌ"، وله كلام ذكره عنه في الإحياء. فإذا استقلَّ الباعث الواحد بالقيام بالعبادة..وذاك عارض؛ فحينئذ إما يتكافآن، أو يكون أحدهما أكثر من الآخر؛
يكون أقل أو أكثر.
وبعد ذلك قال أن كمال الإخلاص يكون بالصدق، الله يُلحقنا بالصادقين.
أثنى عليهم في كتابه قال: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب:23]، -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119].
وقال النبي ﷺ: "إنَّ الرَّجلَ ليصدُقُ ويتحرَّى الصِّدقَ حتّى يُكتبَ عندَ اللَّهِ صدِّيقًا".
ويذكر لك الآن الصدق ومراتبه الستة؛ حتى تلحق بالصدِّيقين.
وقال الله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا)[مريم:41]."، وصف بالصديقية عدد من أنبيائه الكبار المُعظَّمين عنده؛ لِعِظَم مرتبة الصدق لديه -سبحانه وتعالى-، الله يجعلنا من الصادقين ويلحقنا بالصدِّيقين.
"واعلم: أنَّ للصِّدق ست مراتب، من بلغَ في جميعها رتبةَ الكمال .. استحق اسم الصِّدِّيق:
أولها: الصِّدقُ في القولِ في جميعِ الأحوال، ممَّا يتعلَّقُ بالماضي والمستقبل والحالِ، ولهذا الصِّدق كمالان:
أحدهما: الحذرُ عن المعاريضِ أيضاً؛ فإنَّه وإن كان صدقًا في نفسه.. فيُفهِمُ خلافَ الحقِّ، والمحذورُ من الكذبِ تفهيمُ خلافِ الحقُّ؛ إذ يكتسبُ القلبُ صورةً معوجَّةً كاذبةً بإزاءِ كذبِ اللِّسانِ، وإذا مالَ وجهُ القلبِ عن الصِّحَّةِ إلى الاعوجاجِ .. لم يتجلَّ الحقُّ له على الصِّحَّةِ، حتى لا تصدقُ رؤياهُ أيضًا.
والمعاريضُ لا تُوقِعُ في هذا المحذور؛ لأنه صدقٌ في نفسِهِ، لكن تُوقِعُ في المحذورِ الثاني؛ وهو تجهيلُ المعنى، فلا ينبغي أن يُفعَلَ ذلك إلا لغرضٍ صحيح.
وكمالُه الثاني: أن يراعيَ الصِّدقَ في أقاويلِهِ مع اللهِ تعالى؛ فإذا قال: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ…)، وفي قلبه في تلك الحالة شيء سوى الله عز وجل .. فهو كاذب، وإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)[الفاتحة:5]، وهو مع ذلك عبدٌ للدنيا أو لنفسِه أو لغيرِه.. لم يُمكِنهُ تحقيقُ صدقِ هذه الكلمةِ في القيامة.
ولذلك قال عيسى عليه السلام: يا عبيدَ الدنيا…، وقال نبينا ﷺ: "تَعِسَ عبدُ الدِّرهم والدينار".
الصدق الثاني: في النَّية؛ وهو أن تتمحَّض فيه داعيةُ الخير، فإن كان فيه شوبٌ.. فقد فات الصدق؛ يُقالُ: هذا صادقُ الحموضةِ، وصادقُ الحلاوةِ؛ إذا كان محضًا، فيرجعُ هذا إلى نفسِ الإخلاصِ.
الصدقُ الثَّالثُ: في العزمِ: فإنَّ العبدَ قد يعزِمُ على التصدُّقِ إن رُزِقَ مالاً، وعلى العدلِ إن رُزِقَ ولايةً، وعزمُهُ:
- تارةً يكونُ مع ضعفٍ وتردُّدٍ
- وتارةً يكونُ جزماً قويّاً لا تردُّد فيهِ
فالجزمُ القويُّ يُسمَّى عزماً صادقاً، كما وجدَه عمرُ -رضي الله عنه- من نفسِهِ حيثُ قال: لأنْ أُقَدَّم فيُضرَبَ عُنُقي .. أحبُّ إليّ من أن أتأمَّر على قومٍ فيهم أبو بكر -رضي الله عنه-.
ودرجاتُ عزمِ الصدِّيقينَ في القُوَّةِ قد تتفاوتُ، وأقصاها أن ينتهيَ إلى الرِّضا بضربِ الرَّقَبةِ دونَ تحقيقِهِ.
الصِّدقُ الَّرابعُ: في الوفاءِ بالعَزْمِ؛ فإنَّ النَّفسَ قد تسخو بالعزمِ أولاً، ولكنْ عندَ الوفاءِ ربَّما تتوانى عن كمالِ التَّحقيقِ؛ لأنَّ المؤنةَ في العزمِ هيِّنةٌ، وإنَّما الشِّدَّةُ في تحقيقِ الإيفاءِ.
ولذلك قال تعالى: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)[الأحزاب:23].
وقال: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) إلى قوله: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[التوبة:75-77].
الصدق الخامس: في الأعمال؛ بأن يكون بحيث لا يدلُّ على شيء من الباطن إلا والباطن مُتَّصِفٌ به.
ومعناه: استواءُ السَّريرةِ والعلانيةِ؛ فالماشي على هدوءٍ يدلُّ بذلكَ على أنَّه ذو وقارٍ في باطنِهِ، فإن لم يكن كذلك في الباطنِ، والتفتَ قلبُهُ إلى أن يُخَيِّلَ إلى النَّاسِ أنَّه ذو وقارٍ في باطنِهِ.. فذلك الرِّياءُ، وإن لم يلتفت إلى الخلقِ قلبُهُ، ولكنه غافلٌ.. فليس ذلك برياءٍ، ولكنْ يفوتُ به الصِّدق.
ولذلك قال ﷺ: "اللهمَّ اجعَل سريرَتي خيرًا من علانيتي، واجعلْ لي علانيَةً صالحةً".
وقال عبد الواحد: كان الحسن البصري إذا أمر بشيء.. كان من أعمل النَّاس به، وإذا نهى عن شيءٍ.. كان من أتركِ النَّاس له، ولم أرَ قطُّ أحداً أشبهَ سريرةً بعلانيةٍ منه.
الصدق السادس -وهو أعلى أبواب الصدق-: في مقامات الدّين؛ كالخوفِ والرَّجاءِ والحبِّ والرِّضا، والتَّوكُّل وغيرها؛ فإنَّ لهذه المقاماتِ أوائلَ ينطلقُ الاسمُ بها، ولها حقائقُ وغاياتٌ؛ إذ يُقالُ: هذا هو الخوفُ الصَّادقُ، وهذه هي الشهوةُ الصَّادقةُ.
ولذلك قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الحجرات:15].
وقال تعالى: (وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية [البقرة:177].
فهذه درجاتُ الصِّدقِ؛ فمنْ تحقَّقَ في جميعها .. فهوَ صِدِّيقٌ، ومن لم يُصِبْ إلَّا بعضَها .. فمرتبتُهُ بَقدرِ صدقِهِ.
ومِنْ جملةِ الصدق: تحقيقُ القلبِ بأنَّ الله هو الرَّزَّاقُ، وعليهِ التوكُّل، فلنذكرْهُ."
يقول هذه مراتب الصدق، عندك مراتب للصدق ست مراتب، "من بلغ في جميعها رتبة الكمال.." فهو من الصدِّيقين، والصدِّيقية أعلى مرتبة بعد النبوة، أعلى مرتبة في الولاية؛ مرتبة الصديقية، وسمعت أن الله وصف بها أنبياء له:
صلوات الله وسلامه عليهم.
هذه الصِّدِّيقية، وعليه الترتيب في قوله: (فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69]، فالصِّديقون خواص الصالحين من كبار الأولياء، وهم تحت أهل النبوة والرسالة، وما يبلُغ الصدِّيق مهما بلغ مرتبة نبي ولا مرتبة رسول، (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحج:75].
فالأول: "الصدق في القول في جميع الأحوال"، في الأحوال كلها يَصدق، فلا ينطق إلا بالصدق، ماضي ومستقبلٍ وحال؛ ولهذا قال: "ولهذا الصِّدق كمالان:"
يقول: "الحذر عن المعاريض أيضاً؛ فإنه وإن كان صدقاً في نفسه" لكن يُفهِم خلاف المراد، "والمحذور من الكذب تفهيمُ خلاف الحق"، وهذا تفهَم أنت منه خلاف الحق وهو حق في نفسه، صدق في نفسه؛ فحينئذ يكون تجنُّب المعاريض أكمل، إلا للحاجة وللضرورة حيث يُبَاح التعريض، ولو للمُطَايَبَة كما سمعنا في بعض المزاح، هذا التعريض.
أما الكذب نفسه فيُعَوِّج شأن القلب وإدراكه للحقيقة. وأمَّا التعريض من دون الكذب فيُجَهِّل المعنى ويُقَلِّل وضوح الصورة في اعتدال القلب، هذا الكمال الأول.
قال: تتحرى الصدق فيما بينك وبين الله فيما تخاطب به الحق سبحانه وتعالى.
"فإذا قال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، وفي قلبه في تلك الحالة شيء سوى الله عز وجل .. فهو كاذب"؛ لأنه إذا توجَّه إلى فاطر السماوات والأرض لم يبقَ له علاقة لا بالسماوات ولا بالأرض؛ لأنه توجَّه إلى فاطرها، فلم يبقَ له غرض في الأرض ولا في السماء، الله يحققنا بهذه الحقائق، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5].
وقال: "لذلك سيدنا عيسى -يخاطب الغافلين- يقول: يا عبيد الدنيا"، أنها حملتهم على ترك ما أوجب الله وفعل ما حرّم -سبحانه وتعالى- فكانوا عبيدها.
يقول عليه الصلاة والسلام: "تَعِسَ عبدُ الدينارِ تَعِسَ عبدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عبدُ الخمِيصَةِ تَعِسَ عبدُ القطيفَةِ". فالله يجعلنا عبيد خُلَّص لوجهه الكريم، لا نعبد سواه، ونحن له مسلمون،هذا الصدق الأول في القول.
الصدق الثاني في المرتبة الثانية: "في النِّية"؛ أن يَصدُق في النية، ما يشوبها شائب قط؛ فإذا لم يتمحَّض لداعية الخير ووقع فيها شوب فليس بصادق في النية، ولهذا الأمر إذا خَلُص..إذا كان حامض خالص ولا فيه شوب من غيره يقول: "صادقُ الحموضة"، والذي هو حالي ولا فيه شوب ثاني، يقول: "صادق الحلاوة"، أي: إذا كان خالص محض؛ فكذلك الأعمال الصالحة، منها خالص ومنها… (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:3].
إذًا؛
لأنه مثلا "قد يَعزِم" مثلاً "على التصدُّق إن رُزِقَ مالاً، وعلى العدل إن رُزِقَ ولاية، وعزمه: تارةً يكون مع ضعفٍ وتردُّدٍ، وتارةً يكون جزماً قويّاً لا تردد فيه؛ فالجزمُ القويُّ يُسمَّى عزماً صادقاً، كما وجده عمر -رضي الله عنه- من نفسه حيث قال: لأن أُقَدَّم فيُضرَبَ عُنُقي أحبُّ إليّ من أن أتأمَّر على قوم فيهم أبو بكر -رضي الله عنه-".
"ودرجات عزم الصديقين في القوة قد تتفاوت، وأقصاها أن ينتهي إلى الرضا بضرب الرقبة دون تحقيقه"، ما يَردُّه عنه راد. الصدق في العزم، وقد مدح الله خواص رسله بأولي العزم، وقال لنبيه: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35].
……………….. *** .. وخُذْ بالعزْمِ يا صاحب العزمِ
الأول هو الصدق في العزم نفسه، ما يقول أنا سأعمل سأعمل وهو متردد، لا.. جازم، صدَقت في العزم.. باقي الصدق في الوفاء بالعزم.
"فإن النفس قد تسخو بالعزم أولاً" ثم تتراخى تتراجع "ولكن عند الوفاء ربما تتوانى عن كمال التحقيق؛ لأن المؤنةَ في العزمِ هيِّنةٌ، وإنما الشِّدَّةُ في تحقيق الوفاء؛ ولذلك قال تعالى: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:23]".
ولهذا قال: (وَمِنْهُم..) من المنافقين (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) -والعياذ بالله تعالى- (بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [التوبة:75-77]. فلابد من الصدق في العزم، والصدق في الوفاء بالعزم.
"بأن يكون بحيث لا يدلُّ على شيء من الباطن إلا والباطن مُتَّصِفٌ به"؛ تستوي سريرته وعلانيته، قالوا: هذا أول قدم يضعها المؤمن في طريق المعرفة الخاصة، أول قدم في طريق المعرفة الخاصة بالله: "استواء السريرة والعلانية"؛ هذا أول قدم يخطوها في طريق المعرفة الخاصة؛ أن تستوي سريرته وعلانيته؛ فلا يكون صورته يصلّي وحقيقته ما يصلي، صورته يقرأ وحقيقته ما يقرأ، صورته يصوم وحقيقته ما هو صائم، لا حول ولا قوة إلّا بالله! صورته يُعلِّم وحقيقته ما يُعلِّم، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، لا إله إلّا الله.. اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص لوجهك الكريم.
هذا الصدق في الأعمال، "فالماشي على هدوء يدل بذلك على أنه ذو وقار في باطنه، فإن لم يكن كذلك في الباطن، والتفت قلبه إلى أن يُخَيِّلَ إلى الناس أنه ذو وقارٍ في باطنه.. فذلك الرياء، وإن لم يلتفت إلى الخلق قلبه، ولكنه غافل.. فليس ذلك برياء"، ولكن ليس بصادقٍ؛ حتى يكون الوقار في قلبه.
في الدعاء قال ﷺ: "اللهم اجعل سريرتي خيرًا من علانيتي، واجعلْ لي علانيَةً صالحةً"، واجعلْ علانيَتي صالحةً.
قال عبد الواحد: كان الحسن البصري إذا أمر بشيء كان من أعمل الناس به، وإذا نهى عن شيء كان من أترك الناس له، ولم أرَ قطُّ أحداً أشبه سريرةً بعلانيةٍ منه"؛ من الحسن البصري عليه رحمة الله.
ولهذا لمَّا طلبوا منه الأرقاء أن يُذكِّر الناس بالعتق، تأخر بعض الجمَع، وبعدين تكلم مرة عن العتق فأُعتِقُوا كثير، جاءوا إليه قالوا له: نحن نتعجَّب الناس يسمعون كلامك، لكنك تأخرت، نحن قلنا لك من قبل مدة تتكلم عن العتق فتأخرت؟ قال: لم أكن قد أعتقت أحد، فكرهت أن آمر الناس بما لم أعمل، فصبرت حتى يسَّر الله لي ما قدرت أن أشتري به مملوك وأعتقته ثم كلمت الناس، عليه رضوان الله -تبارك وتعالى-، هذا الصدق الخامس.
باقي الصدق الأخير ذا العظيم، قال:
ثم يتكلم على التوكل -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-.
الأصل السابع
في التوكل
قال الله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)[إبراهيم:12].
وقال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[المائدة:23].
وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران:159].
وقال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق:3].
وقال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)[الزمر:36].
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ)[العنكبوت:17].
وقال النبي ﷺ: "لو أنكم تَوَكَّلونَ على اللهِ حقَّ تَوَكُّلِهِ .. لرزقكم كما يَرزقُ الطيرَ؛ تغدو خِماصًا وتروحُ بِطانًا".
وقال: "من انقطع إلى اللهِ تعالى .. كفاه اللهُ تعالى كلَّ مُؤنةٍ، ورَزَقَه من حيث لا يحتسِبُ، ومن انقطع إلى الدُّنيا .. وكَله اللهُ إليها".
وكان رسول الله ﷺ إذا أصاب أهله خَصَاصةٌ .. قال: "قوموا إلى الصلاة"، ويقول: "بهذا أمرني ربي"، فقال: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ)[طه:132].
اللهم ارزقنا التوكل عليك والاعتماد عليك.
ربِّ عليك اعتمادي *** كما إليك استنادي
"لو أنكم تَوَكَّلونَ على اللهِ حقَّ تَوَكُّلِهِ، لرزقكم كما يَرزقُ الطيرَ، تغدو.." من ديارها وعُشَشها "تغدو خِماصًا" جائعة، "وتروحُ بِطانًا" شبعى ملآنة..
أمَا ترى الطير ذي تسرح على رِيَاقَها *** لا مال معها ولا هي تدخل أسواقها
تَسْرَح جويعة إلا على الله خالقها ورزَّاقها *** تَسْرَح جويعة وتضوي به إلى حِلاقها
قد شبعت.. "تغدو خِماصًا وتروحُ بِطانًا".
وقال: "من انقطع إلى اللهِ تعالى.. كفاه اللهُ تعالى كلَّ مُؤنةٍ ورزقه من حيث لا يحتسِبُ، ومن انقطع إلى الدُّنيا وكَله اللهُ إليها". وماذا ستصنع به؟ إذا وكله إلى الدنيا لَعِبَت به لعب حتى تُتعبه ثم تُهلكه.
ويقول: "وكان رسول الله ﷺ إذا أصاب أهله خصاصة"؛ يعني: فقر وحاجة، أمرهم بالصلاة وإذا حزبه أمر قام إلى الصلاة، ويقرأ قوله: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) [طه:132].
فالله يرزقنا التوكل عليه، والاعتماد عليه، والاستناد إليه، في جميع أحوالنا وشؤوننا، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
لأنه ليس في الكون فعَّال غيره، وكل ما سواه فهو فعله، ولا يكون إلا ما أراد، وما لم يُرِد لا يُمكن أن يكون، ولو اجتمع أهل السماوات والأرض على أن يحدثوا شيئًا لا يريده الله لا يَحدُث أبدًا .. ما يُمكِن، ولو اجتمعوا على أن يُسَكِّنوا ذرة أراد الله تحريكها لم يقدروا أن يُسَكِّنوها، ولو اجتمعوا على أن يُحَرِّكُوا ذرَّة أراد الله أن يُسَكِّنها لا يَقدِرُوا على تحريكها، (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ) [فاطر:2]، (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس:107]، لا إله إلا هو. فالله يرزقنا كمال التوكُّل عليه.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
04 ربيع الأول 1447