(370)
(606)
(339)
(535)
الدرس السادس والثلاثون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: تكملة شرح الأصل الخامس: الشكر (2)، والأصل السادس: الإخلاص والصدق (1)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر الأربعاء 4 ربيع الأول 1447هـ
الشُّكر… من النِّعَم إلى المُنعِم: كيف ينتقل الشُّكر من شعورٍ عابر إلى سلوكٍ مُلازِم؟ يواصل الحبيب عمر بن حفيظ أركان الشكر وكيفية تحوُّله من إدراك إلى حال ثم عمل، وكيف تُستعمل المواهب في الطاعة، ثم يعرّج على النيّة: موضعها، أثرها، وكيف تتكاثر ليعظم الأجر، وبيان دور النيّة وتعدّدها في العمل الواحد، ومعنى الإخلاص وصلته بصيانة القصد من شوائب العيون والألسنة..
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
- الركن الثاني للشكر: الحالُ المُستثمَرَةُ مِنَ المعرفة؛ وهي الفرح بالمُنعِم مع هيئة الخضوع والإجلال، ومَنْ يُرْسِلُ إليه بعضُ الملوك فرسًا.. فيُتصَوَّرُ أن يفرح بهِ مِنْ ثلاثة أوجه:
- مِنْ حيث إِنَّهُ يُنتَفِعُ بِالفَرَسِ.
- أَو مِنْ حيثُ إِنَّهُ يُستدِلُّ بِهِ على عنايةِ المَلِكِ بشأنِهِ، وأَنَّهُ سَيُنعِمُ عليهِ بما هو أعظم منهُ.
- أَو مِنْ حَيثُ إِنَّ الفَرَسَ يكون مركبًا له، حتَّى يُسافِرَ إلى حضرة المَلِكِ ويَخدُمَهُ.
والأوَّلُ ليسَ مِنَ الشَّكرِ في شيء؛ فَإِنَّهُ فَرَحٌ بالنِّعمة لا بالمُنعِم، والثاني داخل في الشكر شيئًا، لكنه ضعيف بالإضافة إلى الثالث.
فكمال الشكر: أن يكون الفرح بما يفتحُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نعمِهِ، لا بالنعمة من حيث هي نعمة، بل بها من حيث إنَّها وسيلة إليه؛ إذ بنعمتِهِ تَتِمُّ الصَّالحات.
وعلامة هذا: أَلَّا يفرح بكل نعمة تُلهيه عن ذكر الله تعالى، بل يغتم بها، ويَفْرَحُ بما زوى الله تعالى عنه مِنْ شغل الدُّنيا وفضولها، وهذا أكمل الشُّكرِ، فمَنْ لم يستطع.. فعليه بالثاني، وأَمَّا الأَوَّلُ.. ففرح بالنِّعمة لا بالمُنعِم، وليس ذلكَ مِنَ الشَّكرِ في شيء.
- الركن الثالث: العمل؛ وذلك بأن يستعمل نعمهُ في مَحابِهِ، لا في معاصيه، وهذا لا يقومُ بهِ إِلَّا مَنْ يعرفُ حكمة الله تعالى في جميع خلقه، وأنَّه لماذا خَلَقَ كلَّ شيءٍ، وشرح ذلك يطول، وقد ذكرنا منه طرفًا في (الإحياء).
وجملته: أن يعلم مثلاً أنَّ عينه نعمةٌ منه، فشكرها أن يستعملها في مطالعة كتابِ اللهِ، وكتب العلم، ومطالعة السماوات والأرض ليعتبر بهما، ويُعظّم خالقَهُما، وأن يستر كـل عـورة يراها مِنَ المسلمين ويستعمل أذنه في سماع الذكر، وما ينفعُهُ في الآخرة، ويُعرِضُ عن الإصغاء إلى الهجر والفضول.
ويستعمل اللسان في ذكر الله تعالى، والحمد له في إظهار الشكر منهُ دونَ الشَّكوى، ومَنْ سُئِلَ عن حاله فشكا.. فهو عاص؛ لأنه شكا ملك الملوك إلى عبد ذليل لا يَقْدِرُ على شيء، فإن شكر.. فهو مطيع.
وأمـا شـكـر الـقـلـب.. فـاسـتـعـمـالـه فـي الـفـكـر والــذكـر والمعرفة، وإضمار الخير للخَلْقِ، وحسن النِّيَّةِ، وكذلك في اليد والرِّجْلِ وسائرِ الأعضاء والأموال، وغير ذلك مما لا ينحصر.
فصل
فيمن لم يتمكَّنْ مِنْ كمال الشكر
اعلم: أَنَّهُ إِنَّمَا يَتَمكَّنُ مِنْ كَمالِ الشُّكرِ.. مَنْ شَرحَ اللهُ صدرَهُ للإسلام، فهو على نورٍ مِنْ رَبِّهِ، يرى في كل شيء حكمته وسِرَّهُ ومحبوب الله تعالى فيه.
ومَنْ لم ينكشف له ذلك.. فعليه باتباعِ السُّنَّةِ، وحدود الشَّرع؛ فتحتها أسرار الشكر.
ولْيَعلَمْ: أَنَّهُ لو نظر إلى غيرِ مَحْرَمٍ مثلاً.. فقد كفر نعمة العين، ونعمة الشَّمس، وكل نعمة لا يَتِمُّ النَّظر إليها إلا بها؛ فإنَّ الإبصارَ إِنَّما يَتِمُّ بالعين ونور الشمس، والشَّمس إنَّما تَتِمُّ بالسَّماوات، فكأنَّهُ كفَرَ نِعَمَ اللهِ تعالى في السَّماواتِ والأرض .
وقس على هذا كل معصية؛ فإنَّها إنَّما تمكن بأسباب يستدعي وجود جميعها خلقَ السَّماواتِ والأرضِ، ولهذا غور عميق، أشرنا إليه في (كتاب الشكر) مِنْ كتب (الإحياء) .
ويكفيك ها هنا مثال واحدٌ؛ وهو أنَّ الله تعالى خلق الدراهم والدنانير لتكون حاكمةً في الأموال كلها، تُعدَلُ بها القِيمُ، ولولاهما.. لتَعذَّرَتِ المعاملات؛ إذ لا يُدرى كيف تُشترى الثياب بالزعفران، والدواب بالأطعمة؛ فإنَّها لا مناسبة بينهما، وإِنَّما يشتركان في رُوحِ الماليَّةِ، ومعيار مقدار رواجهما هوَ النَّقدان، فمَنْ كنزَهُما.. كانَ كمَنْ حبس حاكمًا مِنْ حُكَّامِ المسلمينَ حَتَّى تَعطَّلَتِ الأحكام.
ومَنِ اتَّخَذَ منهما آنيةً.. كانَ كمَنِ استعمل حاكمًا مِنْ حُكَّامِ المسلمين في الحياكة والفلاحة التي يقدِرُ عليها كلُّ أحدٍ حَتَّى يتعطل الحكم، وذلك أَشدُّ مِنَ الحبس.
ومَنْ أربى فيهما، وجعلهما مقصد تجارته بالمصارفة بين جيدهما ورديئهما .. كانَ كمَنْ شغل الحاكم عن الحكم، فاتَّخِذَهُ سُخْرَةٌ لنفسه؛ ليحتطب له، ويَكنُسَ لهُ، ويكتسب له القوت، وكلُّ ذلك ظلم وتغيير لحكَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ في خَلقِهِ وعبادِهِ، ومعاداة الله تعالى في مَحابِهِ.
ومَنْ لا يَنكشِفُ له بنور البصيرة هذه الأسرار.. عَرَفَ على لسان الشرع صورته دون معناه، وقيلَ لَهُ: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍإ) الى قوله تعالى : (تَكْنِزُونَ) [التوبة:34-35]، وقيل لَهُ : "مَنْ شَرِبَ فِي إِنَاءٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.. فَكَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ".
وقيل له: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ بالرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ) [البقرة:275]
فالصالحون يقفون على الحدود، ولا يعرفون أسرارها، والعارفون إذا اطلعوا على الأسرار بأنفسهم، وشاهدوا شـواهـد الشرع .. ازدادوا نورًا على نور، والعميان الجاهلون يُحرمون الوقوف على الحدود والعثور على الأسرار جميعًا، فلا هم كعبيد أتقياء، ولا هم كأحرار كرام، وهم الذينَ قَالَ فِيهِم: (وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ …) [السجدة:13].
وقال تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ ) [الرعد:19].
وقال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا*قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ) [طه:124-126].
وآيات الله عزَّ وجلَّ: حكمته في خلقه، وقد أُلقِيَتْ إِلى الخَلْقِ على لسان الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، كما فُصِّلَتْ في جملة الشريعة مِنْ أوَّلها إلى آخرها، وما مِنْ حَدٍ مِنْ حدود الشرع إلَّا وفيهِ سِرٌّ وخاصّيَّةٌ وحكمةٌ، يَعرِفُها مَنْ يَعْرِفُها، ويُنكِرُها مَنْ يجهلها، وشرح ذلك يطولُ، فليُطلَبْ مِنْ (كتابِ الشَّكرِ).
ولا يُتصوَّرُ تمامُ الشُّكرِ إِلَّا مِمَّنْ قامَ لله تعالى وحدَهُ ، مُخلِصًا لا رغبة فيه لغيره، فلنذكر الإخلاص والصدق".
رزقنا صدقٌ مع الله كمال الإخلاص والصدق. اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
الحمد لله الذي يهيئ من عباده من يرفعهم في مراتب الشكر له، فلا تزال زيادته لهم من عجائب الفضل والجود، لا حدّ لها من الحدود ولا قصر لها ولا قيود، ذلكم فضل الكريم المنان الودود. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يجود ويتابع الجود. ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صاحب المقام المحمود، وحامل لواء الحمد في اليوم الموعود، أحمد الخلق للخالق وأحمدهم لديه. فصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد الشاكرين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، سادة أهل التوحيد والإقبال والإنابة والشاكرين، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقرّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنك أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وأخبرنا أن الشكر يقوم من:
فأما العلم، فما تقدم معنا أن هذا الشكر من أعظم المقامات العالية، وهي من المقامات الباقية الدائمة، بمعنى أنها تدوم للمؤمنين بعد خروجهم من هذه الدنيا وتستمر معهم في البرازخ وفي القيامة وفي الجنة إلى الأبد، لا يزالون في نعيم الشكر يتقلبون، وهم من فضل الله يزدادون. وأن من المقامات الشريفة ما يشرّف الله به عباده المؤمنين في عالم الدنيا ثم تنتهي بانتهاء الدنيا، كمثل الزهد والخوف والصبر، فمقامات شريفة ولكن عند الموت تنتهي، ما عاد يبقى معنى لصبر ولا معنى للخوف في الجنة، ولكن في الجنة شكرٌ، الشكر مستمر؛ فهم في قبورهم يحمدون، وعند القيامة كذلك، "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ". وفي الجنة (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ*الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ) [فاطر:34-35]، -جل جلاله وتعالى في عُلاه-.
فهذا الشكر في علو مقامه يقوم على علم أن المُنعم في الحقيقة واحد، فيقوم على معرفة المُنعم ومعرفة النعمة، وأن كل نعمة لا يمكن أن يكون مصدرها المستقل غير الإله عز وجل. وكل ما عدا ذلك من الأسباب والوسائط فهي آلات مسخرة بأمره، كما مَثّلَ في قلم الملك الذي كتب صرف الخِلعة لأحد رعيته، فرأى الأمر مكتوبًا بخط الملك وبقلمه، فلا يعتقد أن للقلم فضلًا في وصول هذه الخِلعة إليه، إلا من حيث أنه سبب مسكه الملك، لانه تحت تصرف الملك؛ الشكر للملك، وهكذا وإن كانت نفسيته تفرق بين القلم الذي كتب به الملك وقلم آخر، حيث أن هذا استُعمل في وصال الخير إليه، لكن الموصل في الحقيقة هو الملك. فكذلك الوسائل والوسائط، السماوات والأرض ومن فيهن أقلامٌ يخط بهنّ الحق ما شاء -جل جلاله- (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29].
قال: فالركن الثاني "الحال" بعد هذا العلم والإيقان، ومعرفتك لواسعات النعم التي لا تستطيع أن تعدها، فاعلم أن لك منعمًا من حقه أن تشكره، وتتأمل لم أنعم عليك بهذا؟ لمَ أوجدك؟ ولم واصلك بنعمه؟ قال: "الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع والإجلال"، هذا حال يثمرها ذلك العلم. "ومن يرسل إليه بعض الملوك فرسًا" مثلًا، "يُتَصور أن يفرح به" من ثلاث حيثيات:
أما الأول، قال: "ليس من الشكر في شيء"، أرسل لي الفرس من شأني أن أنتفع به، هذا فرح بالنعمة لا بالمنعم، هذا فرح بالنعمة نفسها، رُح استعمل الفرس حيثما تريد. لكن الثاني فيه شائبة من الشكر، يقول: المنعم هذا الملك اعتنَى بي وإن شاء الله يعتني بي أكثر، فيه نوع من الشكر. لكن الشكر الحقيقي: استعمل الفرس للوصول إلى الملك، أنت أدركت الآن حق النعمة وقمت بحقها وشكرت المنعم جل جلاله.
قال: "فكمال الشكر أن يكون الفرح بما يفتح الله تعالى من نعمه، لا بالنعمة من حيث هي نعمة، بل بها من حيث أنها وسيلة" إلى المنعم، للقرب زيادة، للمعرفة زيادة، للمحبة زيادة، للرضا زيادة.. هذا مقصود كل نعمة أنعم بها عليك: تزداد قربًا، تزداد حبًا، تزداد معرفة، تزداد رضًا منه وعنه. إذا عرفت هذا قمت بحقها فقد شكرت، فقد شكرت.
قال: "وعلامة هذا ألا يفرح بكل نعمة تلهي عن ذكر الله"، لأن هذه تسمى أيضًا في لسان القرآن نَعمَة وليست بنِعمَة؛ ما ألهاك من الموافقات للنفس، من صحة أو من مال أو من تسخير أسباب، ألهاكَ عن ذكر الله فهو نَعمَة وليست بنِعمَة في الحقيقة، لأن النعمة لذة تُحمد عاقبتها. قال تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) [الدخان:25-27] ما قال نِعمة، قال "نَعْمة"، فالذي كان معهم من المُلك والقوة والكنوز كانت نَعْمة وليست بنِعمة، لأنهم ما استعملوها فيما يرضي الرب -جل جلاله-، ولا تقربوا بها إلى الرب، فعاقبتها سيئة.
(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ:37]. هم الذين يفرحون بمجرد المال والولد، ردّ الله عليهم في القرآن (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) فهؤلاء يتقربون بالمال وبالولد، بكل ما يعطيهم يتقربون إليه، يبذلونه في مرضاته؛ الذين آمنوا وعملوا الصالحات هؤلاء فيتحول كله إلى نعمة لهم، (فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ*وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:35-39]. يعني أعطيناكم المال لتتقرّبوا إلينا، تنفقوه من أجلنا، (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) فهذه مهمة المال.
يقول: "يفرح بما زوى الله تعالى عنه من شغل الدنيا وفضولها، وهذا أكمل الشكر. فمن لم يستطع.. فعليه بالثاني، وأما الأول.. ففرح بالنعمة- فقط -لا بالمنعم"، فليحذر المؤمن أن يقف عنده، ينتفع بما آتاه الله من النعم لأغراضه ولمقاصده وحدها!.. لا تقف هنا، هذا ليس حال المؤمن، حال من عرف أن له منعم أنعم عليه أن يوصل هذه النعمة بالمنعم في فكره وفي ذكره وفي شعوره، يصلها بالمنعم -جل جلاله-. وخير شيء أن يستعملها آلة للقرب منه -جل جلاله - وللتقرّب إليه، فهذا تمام النعمة.
وهذا الركن الثاني: الحال. ويلحقه العمل، والعمل "أن يستعمل نعمه في محابه لا في معاصيه"، وهذا يقوم به من يعرف حكمة الله في جميع الخلق، ولماذا خلق كل شيء. قال: وأشار إلى معانٍ من ذلك في إحياء علوم الدين، وهو يوقفك على معانٍ وراءه، وهي توقفك على معانٍ وراءها، وليس للعلم بأسرار الله من نهاية.
وجملته : "أن يعلم أن عينيه مثلاً نعمة" من الله أعطاه الله إياها، كيف نشكر نعمة البصر؟ "أن يستعملها في مطالعة كتاب الله، كتب العلم النافعة، مطالعة السماوات والأرض ليعتبر ويتذكر بما فيهما ويعظم خالقهما، ويستر كل عورة يراها من المسلمين"، ويقضي بها حوائج المسلمين، ويستعين بها على أداء الفرائض وترك المحرمات، يستعين بها على إيصال المنافع للمسلمين، يستعين بها على الجهاد في سبيل الله. "ويستعمل أذنه -كذلك- في سماع الذكر"، سماع القرآن، سماع العلم النافع، سماع النصيحة، سماع حاجات المسلمين لقضائها، وما إلى ذلك، "يعرض عن الإصغاء إلى الهُجر والفضول". وكذلك "اللسان"، -يستعمله- "في ذكر الله، والحمد له في إظهار الشكر منه دون الشكوى"، في تلاوة القرآن الكريم، وفي قراءة أحاديث المصطفى محمد ﷺ، في نصح عباد الله، في الدعوة إلى الله، يستعمل لسانه في نصيحة المسلمين، يستعمل لسانه في إبلاغ منهج الرحمن وتعليم ما جاء به رسوله ﷺ، ويستعمل لسانه لتربية الأهل والأولاد وتقويم خطاهم في الاقتداء، وما إلى ذلك.
وهكذا فمن استعملها كذلك فهو شاكر، ومن استعملها في كذب وفي غيبة في نميمة، في سب، في لعن، في شتم، هذا كفر النعمة.
وكذلك قال "شكر القلب: تستعمله في الفكر والذكر والمعرفة وإضمار الخير لخلق الله تعالى وحسن النية". وكذلك يدك ورجلك وسائر أعضائك، وأموالك وأولادك وبيتك، وكل ما عندك يمكن أن تصرفه في طاعة الله فتكون شاكرًا، أو تكفر بالنعمة وتنسى المنعم -جل جلاله-.
قال: "يتمكن من كمال الشكر من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه". اللهم اشرح صدورنا للإسلام واجعلنا على نور منك يا ربنا. "يرى في كل شيء حكمته وسرّه ومحبوب الله تعالى فيه"، وهم على درجات في ذلك، وعلى صفاء بالهم ونقاء بواطنهم وصفاء مراياهم وحُسن إلهام الله لهم؛ يعرفون تفاصيل الحكمة من وجود كل شيء، ومن طروء كل شيء، ومن مجيء فلان، ومن إقامة الدرس في المحل الفلاني، ومن وصول هذه الرسالة، ومن حصول المطر، ومن حصول الحوادث التي تحدث في العالم.. يعرفون حكمة الله تعالى والمقصود منهم أمام ذلك كله فيقومون به، هم على درجات في هذا الوعي وفي هذا الفهم؛ كلما قرب من حضرة الرحمن أكثر، انكشف له أسرار الحكمة أكثر، ولا يحيط بها غيره سبحانه وتعالى. قال: خلق الخلق لحكمة وطوى عليها علمه -جلّ جلاله-.
قال: "فاعلم أنه لو نظر إلى غير محْرَم" بعين الشهوة، كفر نعمة البصر، البصر كم فيه خلايا كلها مكفور بها! والحدقة والأجفان التي عليها، كلها كفرت بهذه النعم! هذه واحدة، "والشمس" والضوء، لأنك لكي ترى لابد بالشمس، وبل ما يكون هذا البصر، ورؤيته بالشمس إلا بقوام البدن، فكفرت بنعمة البدن كله، والبدن ما قام إلا بأرض خُلقت منها وسماء فوقك، ورجعت بالنظرة الحرام كفرت بذي النعم كلها! لك جزء من الكفران بهذه النعم كلها، -لا إله إلا الله-. قال: "فقد كفر نعمة العين، نعمة الشمس، كل نعمة لا يتم النظر إليها إلا بها".
إن "الإبصار-لم- يتم بالعين ونور الشمس، والشمس -لم- تتم بالسماوات، فكأنه كفر نعم الله في السماوات والأرض. وقس على هذا كل معصية، فإنها إنما تمكن بأسباب يستدعي وجود جميعها خلق السماوات والأرض. وهذا غور عميق"، قال: "أشرنا إليه في (كتاب الشكر) من كتب (الإحياء) ".
قال: وخذ لك "مثال واحدٌ"؛ خلق الله تعالى "الدراهم والدنانير لتكون حاكمةً في الأموال كلها"، وهو الذي خلق بقية الأحجار وبقية المواد، لكن ميّز هذه -الذهب والفضة-، ميزها سبحانه بترتيبه، ليس بترتيب دولة ولا بترتيب جماعة، هكذا رتبها سبحانه وتعالى. ما يمكن أن تستبدل قيمة الأشياء بشيء غير الذهب والفضة ويقاس بهذا، ما أدّعوه الآن من النقود حقهم هذه وما يفرضونه بهيمنة السياسية وغيرها، أيضًا مستندين إلى أنها النائبة عن الذهب والفضة، ولكن في ظرف من الظروف لا بد تسقط، ولا يبقى إلا نفسه الذهب والفضة. وما من عملة يجتهد أهل دولتها على رفعتها وغلاءها بكل قواهم إلا ويأتي يوم تهبط وتسقط، لا بد من ذلك.. والله لابد من ذلك! أبى الله أن يرفع شيئًا من هذه الدنيا إلا وضعه. فأغلى ما عندكم من العملات اليوم، لا بد يجيء يوم تكون من أرذل العملات وأسقطها، لا بد!.. وإنما هي مداولات، وتبقى حقيقة القيمة في الذهب والفضة. وإن هذا ترتيب الصانع، ترتيب المالك الخالق -جلّ جلاله-، والترتيبات والمحاولات من المخلوقين محصورة و محدودة.
وهكذا خلق الله لنا هذه "الدراهم والدنانير لتكون حاكمةً في الأموال كلها، تُعدَلُ بها القِيمُ، ولولاهما .. لتَعذَّرَتِ المعاملات"؛ يقولون: لدي زعفران وعندي ثوب، كم قيمة الثوب من الزعفران هذا؟ والزعفران يجيب لي كم من الثياب؟ وأي نوع من الثياب؟ وأين الميزان الذي يقيس به؟ فيرجعون إلى الذهب والفضة، هذا يجيب كم ذهب، يجيب كم فضة، ومن هناك تأتي المقايسة ويأتي التبادل بين المواد الموجودة في الحياة. "لا مناسبة بينهما"؛ بين الزعفران وبين الثوب مثلاً، "وإِنَّما يشتركان في رُوحِ الماليَّةِ"، عندي بر وعندي دراجة، الآن كم قيمة الدراجة من البر؟ كم من البر تجيب لي أي نوع الدراجة؟ لا مناسبة بين البر والدراجة إلا ميزان الدينار والدرهم، كم تجيب دنانير؟ كم تجيب دراهم؟ نعرف القيمة حقه ونقدر نقابل هذا بهذا. سبحان الله، جعلها الله حاكم.
قال: "يشتركان في رُوحِ الماليَّةِ" فقط هذه المواد ولكن "معيار مقدار رواجهما هوَ النَّقدان"، ولذا من كنز النقدين وحبسهما "كانَ كمَنْ حبس حاكمًا مِنْ حُكَّامِ المسلمينَ حَتَّى تَعطَّلَتِ الأحكام". (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة:34].
" ومَنِ اتَّخَذَ منهما آنيةً" كمن جاء بالحاكم وسخّره ويقول له: حِيّاك للثياب، فلاح للأرض... حاكم بيفك عليك أحوال الناس، بيحكم، قال: اجعلوه يزرع أو يفلح أو يحوك مثلًا الثياب! أي واحد سيقوم بهذا؟ هذا مهمته أكبر.
وأن أربى فاستعملها بالربا، استعملها من الربا جعلها مقصد تجارته، مثل من "شغل الحاكم عن الحكم"، قال: هات الحطب هذا، قرّب هذا، أصلح لي الغرفة هنا… حاكم سيحكم، فشغله بشأن نفسه! هذا أيضًا حاكم يحكم في هذا وقام يستعمل الربا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ).[البقرة:278-279]. "شغل الحاكم عن الحكم، فاتَّخِذَهُ سُخْرَةٌ لنفسه؛ ليحتطب له، ويَكنُسَ لهُ، ويكتسب له القوت"، لاحول ولا قوة إلا بالله!.. هذا كله "ظلم". ومن هنا جاءت التحريمات.
قال: "ومَنْ لا يَنكشِفُ له بنور البصيرة هذه الأسرار.. عَرَفَ على لسان الشرع صورته دون معناه" قال: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة:34-35] يقول: "مَنْ شَرِبَ فِي إِنَاءٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ .. فَكَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ". هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما. كما قال: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا).[النساء:10] أي يؤدي هذا الشرب في أواني الذهب والفضة، نهانا الله ورسوله أن نتخذ الأواني من الذهب والفضة، نعطلهما عن مهمتهما الأساسية.
وقيل له: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ) [البقرة:275]. كم لهم في الربا الآن؟! سنين وهم متخبطين ويسقطون، والدول الكبرى عليها ديون كثير وعندها مشاكل اقتصادية، وهم لهم في الربا سنين، ولكن ما يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.. ولا حل إلا يرجعوا إلى شريعة الذي خلق الذهب والفضة والأرض والسماء، هذا هو الحل، ومن دون هذا لا يصلون إلى حل، لا يمكن! لا إله إلا الله..
"فالصالحون يقفون على الحدود، ولا يعرفون أسرارها، والعارفون إذا اطلعوا على الأسرار بأنفسهم، وشاهدوا شـواهـد الشرع .. ازدادوا نوراً على نور، والعميان الجاهلون" لا وقفوا على الحدود وآمنوا بما قال الله والرسول، ولا أدركوا الأسرار ولا عثروا عليها، فلا هم كعبيد أتقياء، ولا هم كأحرار كرام، وهم الذينَ قَالَ فِيهِم:
عجيب كيف يجعلون العميان قادة؟! هذه مشكلة كبيرة، يجعل الأعمى قائد حقك، لا يرى الحفرة ولا يرى الهوّة ولا يرى الحية قدّامه، يقودك إلى أين؟! أعمى، أنت قُدْه، يجعل الأعمى هو الذي يقود! كل من لا يعلم أن ما أُنزل على محمد هو الحق فهو أعمى، ما يصلح للقيادة، ما يصلح للقيادة أصلاً.
قال: "وآيات الله عزَّ وجلَّ: حكمته في خلقه، وقد أُلقِيَتْ إِلى الخَلْقِ على لسان الأنبياء صلوات الله عليهم، و فُصِّلَتْ في الشريعة". "وما مِنْ حَدٍ مِنْ حدود الشرع إلَّا وفيهِ سِرٌّ وخاصّيَّةٌ وحكمةٌ،.. يَعرِفُها مَنْ يَعْرِفُها، ويُنكِرُها مَنْ يجهلها"، و شرح هذا طويل.
"ولا يُتصور تمام الشكر إلا ممن قام لله وحده مخلصًا" له، "لا رغبة فيه لغيره"، لا رغبة فيه لغير الله، فلهذا قال سنذكر لك "الإخلاص والصدق" كيف يكون لأنه يتم به الشكر، ولا يكون شاكر إلا من أخلص لوجه الله وصدق مع الله المنعم، جلّ جلاله وتعالى في علاه.
الأصل السادس
في الإخلاص والصدق
اعلم: أنَّ للإخلاص: حقيقةً، وأصلاً، وكمالاً، فهذه ثلاثة أركان، وأصله: النِّيَّة؛ إذ فيها الإخلاص، وحقيقته: نفي الشوب عن النِّيَّةِ، وكمالُه: الصدق .
الركنُ الأَوَّلُ: النِّيَّةُ .
قال الله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).
ومعنى النِّيَّةِ: إرادة وجهه تعالى. وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ....الحديث .
وقال: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَرْفَعُ صَحِيفَةَ عَمَلِ الْعَبْدِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَلْقُوهَا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا وَجْهِي، وَاكْتُبُوا لَهُ كَذَا وَكَذَا، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ مِنْهَا شَيْئاً، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّهُ نَوَاهُ ، إِنَّهُ نَوَاهُ".
وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "النَّاسُ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْماً وَمَالاً، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ، فَيَقُولُ رَجُلٌ: لَوْ آتَانِي اللهُ تَعَالَى مَا آتَاهُ .. لَعَمِلْتُ كَمَا يَعْمَلُ ، فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْماً ، فَهُوَ يَخْبِطُ بِجَهْلِهِ فِي مَالِهِ، فَيَقُولُ رَجُلٌ: لَوْ آتَانِي اللهُ تَعَالَى مَا آتَاهُ .. لَعَمِلْتُ كَمَا يَعْمَلُ ، فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ".
وقال: "مَنْ غَزَا وَهُوَ لَا يَنْوِي إِلَّا عِقَالاً .. فَلَهُ مَا نَوَى"، ورُويَ: أَنَّ رجلاً مِنْ بني إسرائيل مرَّ بِكُثبان مِنْ رمل في أَيَّامِ قحط، فقال في نفسِهِ: لو كانَ هذا الرَّملُ طعاماً .. لقَسَمْتُهُ بينَ النَّاسِ، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: قلْ لَهُ: إِنَّ اللهَ تعالى قد قَبِلَ صدقتك، وشكر حسن نيَّتِكَ، وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به.
وقالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا .. فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ"، فقيل: يا رسول الله؛ هذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قَالَ: "أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ".
وقال: "مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةٌ عَلَى صَدَاقٍ وَهُوَ لَا يَنْوِي أَدَاءَهُ.. فَهُوَ زَانٍ، وَمَنِ ادَّانَ دَيْنَا وَهُوَ لَا يَنْوِي قَضَاءَهُ.. فَهُوَ سَارِقٌ".
فصل
في بيان حقيقة النيَّة
حقيقة النِّيَّةِ: هي الإرادة الباعثة للقدرة، المنبعثة عن المعرفة.
وبيانُهُ: أَنَّ جميع أعمالك لا تصح إلا بقدرة وإرادة وعلم، والعلم يُهيج الإرادة، والإرادة باعثة للقدرة، والقدرة خادمة للإرادة بتحريك الأعضاء.
مثالُهُ: أَنَّهُ خَلَقَ فيك شهوة الطعام، إِلَّا أَنَّها قد تكون فيك راكدةً، كأنها نائمة، فإذا وقع بصرك على طعام.. حصلت المعرفة بالطَّعامِ، فانتهضَتِ الشَّهوة للطعام، فامتدت إليه اليد، وإنَّما امتدت بالقُوَّةِ التي فيها، المطيعة لإشارة الشهوة، وانتهضت الشهوة بحصولِ المعرفة المستفادة من طليعة الحس.
وكما خَلَقَ فيك شهوةً إلى الأشياء الحاضرة.. خَلَقَ فيك أيضاً ميلاً إلى اللَّذَّاتِ الآجلة، يَنتهِضُ ذلك الميل بإشارة المعرفة الحاصلة مِنَ العقل، والقدرة أيضاً تخدم هذا الميل بتحريك الأعضاء.
فالنيَّة: عبارة عن الميل الجازم الباعث للقدرة، والذي يغزو قد يكون الباعث له ميلاً إلى المال؛ فذلك نيَّتُهُ، وقد يكون الباعث ميلاً إلى ثواب الآخرة؛ فذلك نيتُهُ
فإذاً؛ النِّيَّة عبارة عن الإرادة الباعثة، ومعنى إخلاصها : تصفية الباعث عنِ الشَّوبِ.
الله أكبر! يتحدّث عن الإخلاص والصدق -رزقنا الله الإخلاص والصدق وألحقنا بخيار الخلق، الحائزين قصب السبق- يقول: "للإخلاص: حقيقةً، وأصلاً، وكمالاً".
"أصله: النِّيَّة، وحقيقته: نفي الشوب عن هذه النِّيَّةِ " وما يختلط بها فتكون خالصة، "وكمالُه: الصدق"؛ فالصدق يتناول الإخلاص وبقية الصفات، فالصدق عام وهو الكمال. قال الله: (هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة:119].
لكن كل صادق فهو مخلص.
والعُجُب أخفى من الرياء، فالله يرزقنا الصدق في معاملته.
ويقول: اجتماع جميع القوى الظاهرة والباطنة على المقصود وأداؤها على وجهها؛ هذا الصدق. أن تجتمع بجميع قواك الظاهرة والباطنة على المقصود وتؤديه على أحسن وجوه بكل ما تستطيع من إتقان، هذا الصدق، ألحقنا اللهم بالصادقين.. "ولا يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقا".
قال: "الركنُ الأَوَّلُ: النِّيَّةُ، قال الله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ). بل قال: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف:28]. قال: والإرادة لوجه الله هو هذا النية. "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ....".
"الْمَلَائِكَةَ تَرْفَعُ صَحِيفَةَ عَمَلِ الْعَبْدِ، فيقول الله تعالى: أَلْقُوهَا؛.. لَمْ يُرِدْ بِهَا وَجْهِي"، ولكن يقول الله للملائكة: "اكْتُبُوا لَهُ كَذَا وَكَذَا". يقولوا: "ربنا ما رأيناه عمله" قال: "إِنَّهُ نَوَاهُ "، أي: نواه بصدق فيكتب له ثواب النية، لا إله إلا الله.
ولهذا "قال ﷺ: النَّاسُ أَرْبَعَةٌ:
ذاك عنده مشاريع كثيرة وبنى أماكن وصدقات وأوقاف، وذا ماعنده شيء وهما في الأجر سواء.. هذا بعمله وهذا بنيته.
وذاك أقام دعارة وحفلات وذا ما صلّح شيء، لكنه بالنية معه؛ لو كان معي مثل ماله لعملت مثل ما عمل، "فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ" نعوذ بالله من غضب الله.
ولهذا قال: الغزو في سبيل الله كم أجره وكم مكانته؟! قال لو واحد نوى من الغزو عقال، عقال جمل يعجبه؛ فقط له من الغزو كله ثواب العقال، خذ العقال واذهب! وأين الثواب؟ "ما اجتمع غبار في سبيل الله ودخان جنهم".. ويوم في سبيل الله..؟! راح بنية العقال.. خلاص عندك العقال، أنت ما نويت الجهاد، مانويت إرضاء ربك وإعلاء كلمته.. وهكذا..
قال: " روي أَنَّ رجلاً مِنْ بني إسرائيل مرَّ بِكُثبان مِنْ رمل في أَيَّامِ قحط"، الناس في مجاعة وفي شدة، قال: "لو كانَ هذا الرَّملُ طعاماً" يا ليت "لقَسَمْتُهُ بينَ النَّاسِ." وهكذا يقول في نفسه، ولكنه صادق كان، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم" نبي ذاك الزمان "قلْ لَهُ: إِنَّ اللهَ تعالى قد قَبِلَ صدقتك، وشكر حسن نيَّتِكَ، وأعطاك ثواب ما لو كان" الرمل هذا كله "طعاماً فتصدقت به". قال: يا نبي أنا ما تصدقت، إلا نويته قال: بقلبه، هو كذلك بالنية.
يقول: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا.. فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ". قالوا: "يا رسول الله؛ هذا القاتل فما بال المقتول؟" قال: "إنه كان حريص على قتل صاحبه. ذا بالعمل وذا بالنية، كلهم سواء. نعوذ بالله.
وقال: "مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةٌ عَلَى صَدَاقٍ" وهو ينوي ألا يؤدي صداقها "وَهُوَ لَا يَنْوِي أَدَاءَهُ.. فَهُوَ زَانٍ"؛ بنيّته. "مَنِ ادَّانَ دَيْنَا"؛ أخذ دين بقلبه ونيته ما بيسدده، "هو سارق" من أول يوم، قده مكتوب سارق لأنه ليست نيته أن يقضيه، فقط يضحك عليه ويداينه ويشل نفسه… فبهذه النية يُعد سارق، ويصير المال الذي أخذه حرام، واستعماله له حرام، ويعاقب عليه -والعياذ بالله تبارك وتعالى- لا إله إلا الله..
وهكذا: "الدَّيْن شين الدِّين". وإلا كانوا لا يحبون الدين إلا لضرورة أو لحاجة أو لشيء من مصالح الدين، وإذا استدانوا استدانوا لله -سبحانه وتعالى ونيّتهم الأداء، فيُعانون. ومن كانت نيته الأداء والقضاء فيُعان على ذلك.
و "حقيقة النِّيَّةِ: الإرادة الباعثة للقدرة"، تنبعث النية "عن المعرفة"، وعن الإرادة تنبعث القدرة -ما آتى الله الإنسان من طاقة- فجميع أعمالك لا تصح إلا بقدرة وإرادة وعلم، العلم يهيج الإرادة، والإرادة باعثة للقدرة، والقدرة خادمة للإرادة بتحريك الأعضاء، وهكذا.
"خَلَقَ فيك شهوة الطعام" -مثلاً- تكون "راكدة"، وإذا وقع بصرك على الطعام تحركت؛ "المعرفة بالطعام، انتهضت الشهوة للطعام"، امتدت "إليه اليد.. امتدت بالقوة" التي هي الإرادة وللطعام مطيعة "لإشارة الشهوة، و انتهضت الشهوة" بماذا؟ "بحصول المعرفة المستفادة من طليعة الحس"؛ مظهر الحس في وجود هذا الطعام والإحساس بالجوع وما إلى ذلك.
كذلك عندك وإن كان مخبأة، إذا فتشت تحصلها، شهوة إلى "اللذات الآجلة. ينتهض ذلك الميل بإشارة المعرفة الحاصلة من العقل"، بل تندفع لأن تقاسي بعض المشاق لما في عقلك أن المستقبل له طيب ومآله حسن، فأنت تنطلق. كذلك الموقنون الذين بالآخرة يوقنون؛ أيقنوا وعلموا فانطلقوا، فصارت شهواتهم حيازة الدرجات العلى ومرافقة الأنبياء. الله أكبر!
قال: "فالنيَّة: عبارة عن الميل الجازم الباعث للقدرة، والذي يغزو قد يكون الباعث له ميلاً إلى المال؛ فذلك نيَّتُهُ، وقد يكون الباعث ميلاً إلى ثواب الآخرة؛ فذلك نيتُهُ فالنِّيَّة عبارة عن الإرادة الباعثة، ومعنى إخلاصها": تصفيتها عن إرادة غير الله -جلّ جلاله-، عن الشوائب.
فصل
في أن المقصود من الأعمال تأثيرها في القلب
إذا حصل العمل بباعثِ النِّيَّةِ.. فالنِّيَّة والعمل بهما تمام العبادة، فالنِّيَّةُ أحد جزأي العبادة، لكنها خير الجزأين؛ لأنَّ الأعمال بالجوارح ليست مرادةً إلَّا لتأثيرها في القلب؛ ليميل إلى الخير، ويَنفِرَ عنِ الشَّرِّ، فيتفرَّغ للفكر والذكرِ المُوصِلَينِ لَهُ إلى الأنس والمعرفة، اللذين هما سبب سعادته في الآخرة.
فليس المقصود مِنْ وضع الجبهة على الأرض وضع الجبهة على الأرض، بل خضوع القلب، ولكن القلب يتأثر بأعمال الجوارح.
وليس المقصودُ مِنَ الزَّكَاةِ إزالة المُلْكِ، بل إزالة رذيلة البخل؛ وهو قطع علاقة القلب مِنَ المال.
وليسَ المقصودُ مِنَ الأُضْحِيَّةِ لحومَها ولا دماءَها، ولكنِ استشعارُ القلبِ للتَّقوىٰ بتعظيمٍ شعائرِ اللهِ تعالىٰ.
والنِّيَّةُ: عبارةٌ عن نفسٍ ميلِ القلبِ إلى الخيرِ، فهوَ مُتمكِّنٌ مِنْ حَدَقَةِ المقصود، فهو خيرٌ مِنْ عمل الجوارح الذي إنَّما يُرادُ منه سراية أثره إلى محل المقصود؛ وهو القلب؛ ولذلك تُؤثّرُ جميع أعمال القلبِ دون الجوارح فيه أثراً ما، وعمل الجارحة دون حضور القلبِ هباءً ولا أثر لهُ.
ومهما قصد معالجة المعدة.. فما يَصِلُ مِنَ الأدوية بالشُّربِ إليها أنفع -لا محالة- ممَّا يُطلى به ظاهرُ المَعِدة ليسري إليها أثره، وكذلك إذا لم يَسْرِ أثرُ الطَّلاءِ إلى المَعِدة.. كان باطلاً.
وبهذا التحقيق: يُعرَفُ سِرُّ قولِهِ ﷺ: "نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ".
فصل
في تعدُّدِ النِّيَّاتِ
إذا عرفت فضلَ النِّيَّةِ، وأَنَّها تَحُلُّ حَدَقَةَ المقصودِ فَتُؤثِرُ فِيهِ فاجتهد أن تستكثرَ مِنَ النِّيَّةِ في جميع أعمالك؛ حتى تنوي بعمل واحد نيَّاتٍ كثيرةً، ولو صدقَتْ رغبتك.. لهُدِيتَ الطريقة رشدك. ويكفيك مثال واحدٌ؛ وهوَ أنَّ الدُّخول في المسجدِ والقعودَ فيه عبادة واحدة، ويمكن أن تنوي بها ثمانية أمور:
أولها: أن يعتقد أنَّهُ بيتُ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأَنَّ داخله زائر الله تعالى، فينوي ذلك. قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "مَنْ قَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ.. فَقَدْ زَارَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَحَقُّ عَلَى الْمَزُورِ إِكْرَامُ زَائِرِهِ.
وثانيها: نيَّة المرابطة؛ لقول الله تعالى: (وصَابِرُوا وَرَابِطُوا) الآية، قيل: معناه: انتظار الصَّلاةِ بعد الصَّلاةِ.
وثالثها: الاعتكاف؛ ومعناه: كف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات المعتادة؛ فإنَّهُ نوع صوم.
قال رسولُ اللهِ ﷺ: "رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي.. الْقُعُودُ فِي الْمَسَاجِدِ".
ورابعها: الخلوة ودفع الشواغل؛ للزوم السر للفكر في الآخرة، وكيفية الاستعداد لها.
وخامسها: التَّجرُّدُ للذكر وسماعه أو إسماعه؛ لقوله ﷺ: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ يُذَكِّرُ بِهِ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى".
وسادسها: أن يقصد إفادة عِلْمٍ؛ تنبيهًا لِمَنْ يُسيء الصَّلاةَ، ونهيًا عن مُنكَرٍ، وأمرًا بمعروف، حتَّى يتيسر بسببِهِ خيرات، ويكون شريكًا فيها.
وسابعها: أن يترك الذنوب حياء مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ؛ بأن يَحْبِسَ نفسه في بيته حتَّى يستحيي منه أن يُقارِفَ ذنبًا.
وثامنها: أن يستفيد أخاً في الله؛ فإنَّ ذلك غنيمة وذخيرة لدار الآخرة، والمسجد مُعَشَّشُ أهلِ الدِّينِ المُحبِّينَ الله وفي الله."
هكذا يقول: "المقصود من الأعمال تأثيرها في القلب، إذا حصل العمل بباعثِ النِّيَّةِ، فالنِّيَّة والعمل بهما تمام العبادة، فالنِّيَّةُ أحد جزأي العبادة، لكنها أهمّ الجزأين"؛ وأكرمها وأشرفها. فـ "الأعمال بالجوارح ليست مرادةً إلَّا لتأثيرها في القلب؛ ليميل إلى الخير، ويَنفِرَ عنِ الشَّرِّ، فيتفرَّغ للفكر والذكرِ"، والفكر الصحيح والذكر الخالص يوصلان إلى "الأنس والمعرفة" وهما سبب السعادة الكبرى.
إذاً؛ ليس "المقصود مِنْ وضع الجبهة على الأرض.. وضع الجبهة على الأرض، بل خضوع القلب، والقلب يتأثر بعمل الجوارح." فشُرع لنا السجود:
ونستعين على زيادة خضوع القلب بوضع الجباه على الأرض تعظيمًا وإجلالاً له -جلّ جلاله-.
وهكذا "وليس المقصودُ مِنَ الزَّكَاةِ" مجرد "إزالة المُلْكِ، بل إزالة رذيلة البخل"؛ من القلب. وقال الله في الهدي والأضاحي: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ) [الحج:37]، نية "استشعارُ القلبِ للتَّقوىٰ بتعظيمٍ شعائرِ اللهِ تعالىٰ."
فـ "النِّيَّةُ: عبارةٌ عن نفسٍ ميلِ القلبِ إلى الخيرِ، فهوَ مُتمكِّنٌ مِنْ حَدَقَةِ المقصود، فهو خيرٌ مِنْ مجرّد عمل" الجارحة، لأن عمل الجارحة إذا لم تصح فيه النية ما كان عبادة، لا إله إلا الله.. "وإنَّما يُرادُ منه سراية أثره إلى محل المقصود؛ وهو القلب"؛ فبكل عمل صالح يزداد القلب نورًا وطُهرًا وإيمانًا.
وإذا "قصد معالجة المعدة.. فما يَصِلُ مِنَ الأدوية بالشُّربِ إليها أنفع ممَّا يُطلى به ظاهرُ المَعِدة ليسري إليها" بالدهن. "وكذلك إذا لم يَسْرِ أثرُ الطَّلاءِ إلى المَعِدة.. كان باطلاً"، وكذلك سجدة ما تؤثر خضوع في القلب باطلة!.. وإذا أُكرم بسجود القلب، يزداد بالسجدات هذه الظاهرة تمكّنًا في سجود القلب، لأن سجود القلب لا يُرفع عنه صاحبه.
قال: وفي العمل الواحد يمكن أن تتعدد النيات. فمثلاً قال: المجيء إلى المسجدِ وجلوسه فيه، يمكن تنوي ثمانٍ نيات:
ويمكن أيضًا ينوي:
وهات لك نيات في مجيء واحد إلى المسجد كذا وكذا نية، قالوا وإنما زكت أعمال الصّدّيقين بالنيات، زكت أعمال الصدقين بالنيات. الله يرزقنا إخلاص النية ويوفر حظّنا منها.
وَلِصَالِح النِّيَّاتِ كُنْ مُتَحَرِّيًا *** مُسْتَكْثِرًا مِنْهَا وَ رَاقِبْ وَاخْشَعِ
فكلما كثر عندك النيات الصالحة كثر لك النتيجة والأجر، وهكذا.. وجمع الأركان الأربعة لرياضة الروح في بيت واحد:
والنّفْسِ رُضْها باعتِزاٍل دَائِمٍ *** والصّمِتْ مَعْ سَهَرِ الدّجى و تَجَوّعِ
كما جمعها في بيت آخر له، يقول:
بِالرِّياضَةِ مِن صَمْتٍ ومَخْمَصَةٍ *** مَعْ التَّخَلِّي عَنْ الأضْدادِ والسَّهَرِ
وجمعها في بيت آخر ثالث يقول:
وَكُنْ في طَعامٍ والمَنامِ وخِلْطَةٍ *** ونُطْقٍ على حَدِّ اقْتِصارٍ وَقِلَّةِ
الله ينفعنا بالصالحين وبكلامهم وبنياتهم.
فيستحضر ما يقدر عليه من النيات، ثم يدرج نيته في نيات العارفين والمقرّبين ونيات سيد المرسلين، يقول: نويت ما نواه عباد الله الصالحون. لأن نيات كثيرة ما تصل إليها بفهمك ولا بعقلك، فيصيبك طش من أثر نياتهم بأن تنوي ما نووه.
قال ﷺ لسيدنا علي: "فقالَ بمَ أَهللتَ؟ قالَ: أَهللتُ بما أَهلَّ بِهِ رسولُ اللَّهِ ﷺ". قال: لمّا أردت الإحرام قلت: اللهم إهلالاً كإهلال نبيك؛ إن بحج بحج، إِنْ بعمرة بعمرة، إن بحج وبعمرة، بحج وعمرة، أنا وراءه.. إهلالاً كإهلال نبيك ﷺ وهكذا شؤونهم.
صلّيت خلفك نويته مثل ما قد نويت *** والناس باعوا وانا شُف عادنا ألا اشتريت
والله لولا أنت ما في ذي العقاب ارتقيت *** ولا لزمت السهر، ليلي عبر ما غفيت
إلا لعشقتك با نمشي على ما مشيت *** لو تركب البحر شُف مصراي فيما صريت
الله يدرج نياتنا في نيّات المقربين والعباد الصالحين ويجعلنا من الشاكرين الذاكرين إنه أرحم الراحمين.
الله يبلغنا أقاصي الأمنية، ويجمعنا بخير البرية، ويهب لنا ما في الاجتماعات التي به من خصوصية ومزيّة، ويوفر حظنا من خصوصيات ومزيات في الاجتماع بخير البريات وفي مطالعة جمال الرحمن في طلعته البهية، ويجعل لنا نصيب وافر من ذلك، ننال به من أسرار المعرفة بالرحمن ما لا ينتهي إليه أمل آمل، ولا يصله سؤال سائل، ولا ينتهي إليه أمنية متمنٍّ من الأولين والآخرين، مع اللطف والعافية والنصرة والتمكين المكين وعناية سيد المرسلين وحنان روحه الشريفة الطاهرة علينا في جميع شؤوننا وأحوالنا، ويوصلنا به إلى أعلى ذروة الوداد من الرب الجواد بوجاهة خير العباد، ونُكتب في خواص من ذكرهم سبحانه فيما أوحى إلى ذلك الفؤاد: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) [مريم:96]. يوفر حظّنا من ذلك الود، يُسعدنا فيمن يسعد، يدخلنا في الدائرة، يجعلنا من أهل القلوب الحاضرة النقية الطاهرة، وأهل البصائر المنورة، وأهل الإدراك والمشاهدة للجمال الرباني الرحماني بمرآة المصطفى العدناني، يتولّانا به ويبلّغنا غايات الأماني في الدنيا والآخرة.
عَسَى الربُّ الكريمُ بِمَحْضِ فضلٍ يُبلِّغنا أقاصي الأُمُنِيَّة
عَسَى الربُّ الكريمُ بِمَحْضِ فضلٍ يُبلِّغنا أقاصي الأُمُنِيَّة
وفوق ذلك، في عافية وسرور وأنس وحبور ويتحمل منا ومن الجميع الابتلاءات والامتحانات والاختبارات عنّا حِسًّا ومعنى.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
05 ربيع الأول 1447