الأربعين في أصول الدين - 35 | تكملة: الصبر ، والشكر (1)

للاستماع إلى الدرس

الدرس الخامس والثلاثون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: تكملة شرح الأصل الرابع: الصبر (2)، الأصل الخامس: الشكر (1)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

فجر الأربعاء 4 ربيع الأول 1447هـ

هل يُطلَب الصبر عند البلاء فقط أم يحتاج النِّعَم صبرًا؟ وكيف يتحوّل الحمد إلى هيئةٍ باطنةٍ تُلازم القلب؟ يواصل في الدرس بيان الصبر عبر دوائره: في الطاعة، وترك المعصية، واحتمال الأذى، وأقدارٍ لا تُدفع، مع لفتٍ إلى صبرِ النِّعم كي لا تُطغي. ثم يفتتح أصل الشكر من حيث مضمونه: تعريفُه المجمل، صورتُه القلبية، وآثاره على اللسان والجوارح، مع الإشارة إلى بقاء معناه في دار الكرامة..

 

نص الدرس المكتوب: 

بسم الله الرحمن الرحيم

 من كتاب "الأربعين في أصول الدين" للإمام الحُجّة أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، رضي الله عنه وعنكم ونفعنا بعلومه في الدارين -آمين-:

فصلٌ

في بيانِ أنَّ الصبرَ خاصٌ بالإنسان

حقيقةُ الصَّبرِ: ثباتُ باعثِ الدِّينِ في مقابلةِ باعثِ الهوَى، وهو مِنْ خاصِّيَّةِ الآدميّ، الذي هو كالمُركَّبِ مِنْ شُعَبٍ مَلَكيَّةٍ وبهيميَّةٍ؛ لأنَّ البهيمةَ لم تُسلَّطْ عليها إلَّا دواعي الشَّهوة، والملائكةَ لم تُسلَّطْ عليهِمُ الشَّهوةُ، بل جُرِّدوا للشَّوقِ إلى مطالعةِ جمالِ الحضرةِ الرُّبوبيةِ، والابتهاجِ بدرجةِ القربِ منها، فهم (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:20]، فليس فيهم داعيةُ الشهوةِ، فلم يُتصوَّرِ الصَّبرُ لمَلَكٍ ولا بهيمةٍ بل الإنسانُ سُلِّطَ عليهِ جُندانِ يَتَطاردانِ: أحدهما مِنْ حزبِ الله وملائكتِهِ؛ وهو العقلُ وبواعثُهُ، والثاني مِنْ جنودِ الشَّيطانِ؛ وهي الشَّهوةُ ودواعيها.

وبعدَ البلوغِ تظهرُ بواعثُ الدِّينِ والعقلِ؛ إذ يَحملُ على النَّظرِ إلى العواقبِ، ويَبتدئُ بقتالِ جندِ الشَّيطانِ؛ فإن ثبتَ باعثُ الدِّينِ في مقابلةِ باعثِ الهوَى حتَّى غلبَهُ.. فقد حصلَ مَقامُ الصَّبرِ؛ إذ لا يُتصوَّرُ الصَّبرُ إِلَّا عندَ تعارضِ الباعثينِ على التناقضِ، وذلك كالصَّبرِ على شربِ الدَّواءِ البشعِ؛ إذ تدعو إليهِ دواعي العقلِ، ويمنعُ منهِ دواعي الشَّهوةِ، وكلُّ مَنْ غَلبَتْهُ شهوتُهُ.. لم يُقدِمْ عليهِ، ومَنْ غلبَ عقلُهُ شهوَتَهُ.. صبرَ على مرارتِهِ؛ لينالَ الشفاءَ.

وشطرُ الإيمانِ إِنَّما يَتِمُّ بالصَّبرِ؛ ولذلك قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ"؛ لأنَّ الإيمانَ يُطلَقُ على المعارفِ والأعمال جميعًا.

وسائرُ الأعمالِ -في طرفيِ الكَفِّ والإقدامِ والتَّزكيةِ والتَّحليةِ- لا تَتِمُّ إلَّا بالصَّبرِ؛ لأنَّ جملةَ أعمالِ الإيمانِ على خلافِ باعثِ الشَّهوةِ، فلا يَتِمُّ إلَّا بثباتِ باعثِ الدِّينِ في مقابلتِهِ؛ ولذلكَ قال ﷺ: "الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ"؛ لأَنَّ الصَّبَرَ تارةً يكونُ في مقابلةِ دواعي الشَّهوةِ، وتارةً في مقابلةِ دواعي الغضبِ، والصَّومُ هوَ كسٌر لدواعي الشَّهوةِ".

 

فصلٌ

في بيانِ درجاتِ الصَّبرِ 

الصَّبرُ له ثلاثُ درجاتٍ بِحَسَبِ ضَعْفِهِ وقُوَّتِهِ:

الدَّرجةُ العُليا: أن يَقمعَ داعيةَ الهوَى بالكُلِّيَّةِ؛ حَتَّى لا تبقَى لها قُوَّةُ المنازعةِ.

ويُتوصَّل إليها بدوامِ الصَّبرِ، وطُولِ المجاهدةِ، وهُمُ الذينَ قِيلَ فيهِم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت:30]، وإِيَّاهُم يُنادِي: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) [الفجر:27-28].

الدَّرجةُ السُّفلَى: أن تَقوَى داعيةُ الهوَى، وتَسقُطَ منازعةُ باعثِ الدِّينِ، ويَغلبَ الهوَى، ويُسلَّمَ القلبُ لجُندِ الشَّيطانِ، وهذا مِنَ الذينَ قيلَ فيهِم: (وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة:13]، وعلامتُهُ شيئانِ:

أحدُهمُا: أن يقولَ: أنا مُشتاقٌ إلى التَّوبةِ، ولكنَّها تَعذَّرَتْ عليَّ، فلستُ أطمعُ فيها، وهذا هوَ القانطُ، وهوَ هالكٌ.

الثَّاني: ألَّا يبقَى فيهِ أيضًا شوقٌ إلى التَّوبةِ، ولكنْ يقولُ: اللهُ كريمٌ رحيمٌ، وهو مُستغنٍ عن توبتي، فلا تَضيقُ الجنَّةُ الواسعةُ والمغفرةُ الشَّاملةُ عنِّي.

وهذا المسكينُ قد صارَ عقلُهُ أَسِيرَ شهوتِهِ؛ فلا يستعملُهُ إِلَّا في استنباطِ حِيَلِ قضاءِ الشَّهوةِ، فصارَ عقلُهُ كَمُسلِمٍ أسيرٍ بينَ الكُفَّارِ، يَستسخِرونَهُ في رعايةِ الخنازيرِ، وحِفظِ الخمور، وحملِها على العنُقِ والظَّهر إلى بيوتِهِم.

فانظرْ كيفَ يكونُ حالُ العبدِ إذا أَخذَ أَعزَّ أولادِ المَلِكِ، وَسَلَّمَهُ إلى أَخَسِّ أعدائِهِ، حتَّى استَرقَّهُ واستسخرَهُ؟!

ففي مثلِ هذهِ الحالةِ كيفَ يكونُ قدومُ هذا الغافلِ المُنهمِكِ على اللهِ تعالى؟! نعوذُ باللهِ منهُ.

الدَّرجةُ الوسطىٰ: أَلَّا يَفْتُرَ عن المحاربةِ، ولكنْ يكونُ الحربُ بينَهُما سِجالًا؛ تارةً له اليدُ، وتارةً عليهِ اليدُ، وهذا مِنَ المجاهدينَ الذين خلَطوا عملًا صالحًا، وآخر سيِّئًا.

وعلامةُ هذا: أن يَتركَ مِنَ الشَّهَواتِ ما هو أضعفُ، ويَعجِزَ عما هو أَغلبُ، وربَّما يَغلبها في بعضِ الأوقاتِ دونَ بعضٍ، وهوَ في جميعِ الأحوالِ مُتحسِّرٌ على عجزِهِ، ومُتشمِّرٌ للمعاودةِ إلى مجاهدتِهِ وقتالِهِ، وذلكَ هوَ الجهادُ الأكبرُ، ومهما اتَّقى وصدَّقَ بالحسنى.. (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ) [الليل:7].

وبالجُملةِ: فقد قَصَرَ عن البهيمةِ إنسيٌّ لم يُقاوِمْ بقُوَّةِ عقلهِ شهوتَهِ وقد أُمِدَّ بالعقلِ وحُرِمَتْ عنهُ البهيمةُ؛ ولذلكَ قال الله تعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان:44].

 

الحمد لله الذي يُنوِّر قلوبَ من شاء؛ فيُقوِّي فيها دواعي الدين والعقل، فتَسير في قويم السُبل، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَمنُّ على من صَدق في الإقبال عليه وصَبر وصابَر بلذيذ الوصْل، ويَهبه من عطائه الجَزِل ما هو تعالى له أهل، ونشهد أنّ سيدنا ونبيّنا وقرة أعيننا محمدًا عبده ورسوله، جامع الكمال والفضل، سيد الصابرين وإمام الشاكرين، والقدوة للمتوجّهين لرب العالمين في جميع الشؤون في الظهور والبُطون، صلِّ اللهم وسلم وبارك وكرّم على عبدك الأمين المأمون سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومن بهم يقتدون وبهديِهِ يهتدون، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين هم لأهل الوِجهة إلى الله -تبارك وتعالى- الأدلةُ والحُصون، وعلى آلهم وصحبهم ومَن لهم يَتبَعون، وعلى جميع ملائكتك المقربين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا مَن يقول للشيء كُن فيكون.

وبعدُ،

فيَتحدث عن الصَّبر وأنّه جُعِلَ في خاصِّيَّة هذا الإنسان دون الملائكة والبهائم، فإن الملائكة: خُلقوا من نور مُجرَّد، لا شهوة لهم ولا هوَى ولا دواعِي عندهم، فهم: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:20]، ولا يَسأمون عن طاعة مولاهم -جل جلاله-: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:27-28].

والبهائم: لم يُخلقْ لها العقل، وكلها شهوة مُجرَّدة، ولم تُكلَّفْ بتكليف، وهي مع ذلك ماشيةٌ فيما سُخِّرت له وخُلقت من أجله.

وبقيَ هذا الإنسان:

  • عنده عقل ويدعوه إلى الارتقاء والتحقق بالتقى واتباع الأتقى. 
  • وعنده نفْس وهوَى يَدعوه إلى الشهوات والبُعد عن ربِّ البريّات واتِّباع المعاصي وفِعل السيئات.

فهو يَحتاج إلى مُجاهدة في الاستجابة لباعثِ الدين مقابل باعث الهوَى، إذًا؛ دُون الملائكة ودُون البهائم، الإنسان يَحمل الصَّبر، والإنسان يَحتاج إلى الصَّبر. 

وكما سَمعنا ما دام في الدنيا فهو محتاج إلى الصّبر، فلا بُدَّ له من صبرٍ؛

وحالِف الصَّبرَ واعْلَم أنَّ أولَهُ *** مُرٌّ وآخرَهُ كالشَهْدِ والضَرَبِ

أي: كالعَسَل.

يقول: "حقيقةُ الصَّبْرِ: ثباتُ باعثِ الدِّينِ في مقابلةِ باعثِ الهوَى"، ولهذا هو من خصوصيات الآدميّ؛ لأنّه هو المُرَكَّب فيه العقل والهوَى. 

  • والبهائم: شهواتٌ بلا عقل.
  • والملائكة: عقولٌ بلا شهوات، فلا هوَى عندهم. 
  • وهذا الآدميٌ: عنده الاثنين؛ فاحتاج إلى المجاهدة.

فثَباتُ داعي العقل والدين أمام دواعي الهوَى والشهوات هو الصَّبر، وله الدرجات كما سمعتَ.

فالملائكة: "جُرِّدوا للشَّوقِ إلى مطالعةِ جمالِ الحضرةِ الرُّبوبيةِ، والابتهاجِ بدرجةِ القربِ" من الله تبارك وتعالى.

إذًا؛ "الإنسانُ سُلِّطَ عليهِ جُندانِ يَتَطاردانِ: أحدهما مِنْ حزبِ الله وملائكتِهِ؛ وهو العقلُ وبواعثُهُ، والثاني مِنْ جنودِ الشَّيطانِ؛ وهي الشَّهوةُ ودواعيها"؛ وفي هذا جاء معنى حديث: "أن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه" فهو:

  • بين دواعي عُلوية مَلَكيّة.
  • وبين دواعي سُفلية شيطانية.

فهو بين إصبعين من أصابع الرحمن: 

  • الهداية والإضلال.
  • الإسعاد أو الإشقاء.

فالقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن؛ (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) [الأنعام:125]. 

قال: وعندما يَقرب الإنسان من سِنِّ البلوغ، "تَظهرُ -فيه- بواعثُ الدِّينِ والعقلِ"؛ فتَحمله على النظر إلى النهايات والعواقب والمستقبل الكبير، "ويَبتدئُ بقتالِ جندِ الشَّيطانِ؛ فإذا ثبتَ باعثُ الدِّينِ في مقابلةِ باعثِ الهوَى حتَّى غلبَهُ"، وتمّ النصر.. "فحَصَّلَ مَقامُ الصَّبرِ"، (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة:155]، و(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]، فيكون قد امتثل الوصية من رب البرية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]؛ فأفلَح..

وذلك قال: مثل "الصَّبرِ على شربِ الدَّواءِ" بشيءٍ تكرهه النفس؛

  • فدَواعي العقل تدعوه لأن يَشربه وأن يَستعمله 
  • ودَواعي الشهوة تدعوه لأن يَتركه وأن يَبتعد عنه

فإذا غلَّب جانب العقل واستَعمل الدواء.. فهذا هو الصَّبر.

وقال: "شطرُ الإيمان"؛ أي: نِصفُه، "إِنَّما يَتِمُّ بالصَّبرِ"، "الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ".

قال أيضًا، يقول سيدنا الإمام الغزالي -وكما سيأتي معنا-: أن "الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ"؛ قال: فاقتضَى أن الصَّوم رُبْع الإيمان؛ لأنّه نِصف الصَّبر، والصَّبر نِصف الإيمان، فصار الصَّوم رُبْع الإيمان.

قال: "الإيمانَ يُطلَقُ على المعارفِ والأعمالِ"، الاعتقادات والمَدارك العلميَّة، وعلى العمل بمقتضاها .. (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).

 "وسائرُ الأعمالِ -في طَرَفَيِ الكَفِّ والإقدامِ والتَّزكيةِ والتَّحليةِ- لا تَتِمُّ إلَّا بالصَّبرِ"؛ فأعمال الإيمان "على خلافِ باعثِ الشَّهوةِ"، فلا تقُوم ولا يَستقر عليها إلَّا من ثَبَت وأجاب باعث الدين وقَدَّمه على باعث الشهوة.

قال: "الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ"؛ "لأَنَّ الصَّبَرَ تارةً يكونُ في مقابلةِ دواعي الشَّهوةِ، وتارةً في مقابلةِ دواعي الغضبِ، والصَّومُ هوَ كسٌر لدواعي الشَّهوةِ"، فكان نِصف الصَّبر، فإذًا؛ هذا المعنى للصَّبر وخاصِّيَّة الإنسان فيه، وله بعد ذلك درجات:

  • عُليَا.
  • وسُفلَى. 
  • ووُسطَى؛ ويكُون أكثر المسلمين في الوُسطَى، عامَّة المؤمنين. 

"الدَّرجةُ العُليَا: أن يَقمعَ داعيةَ الهوَى بالكُلِّيَّةِ؛ حَتَّى لا تَبقَى لها قُوَّةُ المُنازعةِ"؛ فتَبقَى خاضعة تمامًا لإشارة الشرع والعقل، ولا تَلتفت لمخالفة ذلك قطّ، وهؤلاء أهل النفوس المطمئنة الراضية المرضية الكاملة. 

قالوا: كيف يَصِلون إلى هذا وأصْل النفْس أمَّارة بالسُّوء؟ نعم، قال: "بدوامِ الصَّبرِ، وطُولِ المجاهدةِ"، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69].

 (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت:30]، "قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: "قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ"؛ اصبر ولازم وانتهت المسألة، "قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ"؛ فأنزل الله مِصداق ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) [فصلت:30-32].

وبذلك بعناية الحقِّ يوَكَّلَ الملائكة حتى بما خلَّفوا في الدنيا مِن آثار ومِن أولاد ومِن أهل، وما إلى ذلك.. يَترددون عليهم: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ). قال: هؤلاء هم المُنادون بالنداء: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر:27-30].

"والدَّرجةُ السُّفلَى: أن تَقوَى داعيةُ الهوَى"، وينتهي الصبر ولا عاد يَبقَى له بقيَّة؛ فلا يَبقَى العقلُ كلُّه إلاّ مُجرَّد خادم لداعيةِ الهوَى والشهوة -والعياذ بالله تعالى- "فيُسلَّمَ القلبُ" -تمامًا- "لجُندِ الشَّيطانِ"؛ كاملًا، خلاص -لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم-، وهذا مِمَن حَقَّ عليهم القول: (وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة:13].

قال: هؤلاء الذين نَزلوا في هذه الدرجة السُّفلَى وتَهيؤوا للنار -والعياذ بالله تعالى- من علاماتهم أحدُ أمرين: 

  • إمّا قُنوطٌ  من رحمةِ الله. 
  • وإمّا أَمْنٌ من مكرِ الله. 

هؤلاء الّذين فقدوا الصَّبر:

  •  ما بين آيِس من رحمة الله وقانِط.
  •  وما بين آمِن من مكر الله؛ لايبالي. 

فالأوَّل قال: "أحدُهمُا يقولَ: أنا مُشتاقٌ للتوبةِ ولكنْ تَعذَّرَتْ عليَّ"؛ ولا أَقدِر عليها، "ولستُ أطمعُ فيها"، قال: "وهذا هوَ القانِطُ، وهوَ هالِكٌ"؛ (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحِجر:56]؛ لو كانت مُتعذرة عليك ما فُرِضَت عليك، ولو كانت غير مُمكنة ما أَمرَكَ بها، فهو لَم يَأمرْ إلا بما يُستطاع - جل جلاله-: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة:286]، و: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) [الطلاق:7]، فقوله: لا أَقْدِرُ؛ كَذَّابٌ فيه، وهو نوعٌ أيضًا من اليأسِ والقنوطِ الذي يُوقِع الله فيه أهلَ الضلالِ، (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87].

الثَّاني: "ألَّا يبقَى فيهِ أيضًا شوقٌ إلى التَّوبةِ" -أصلًا- ويقول: "اللهُ كريمٌ رحيمٌ، وهو مُستَغْنٍ" عني و: "عن تَوبَتي"، ما تَضيق الجنة بوسعها والمغفرة الكبيرة عني! وهذا آمِن مِنْ مكرِ الله! (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:99]؛ فهؤلاء لا صَبْر لهُم، بل غَلَب عليهم باعثَ الشهوة، وغَلَبَ عليهم باعث الهوَى؛ فلا صبْرَ لهم، ولا يُطالِبون أنفسهم بشيءٍ، ولا يُجاهدون ولا يَجتهدون، ويَسترسلون وراء الشهوات والأهواء؛ فيُسَلِّمون القلبَ والعقلَ كله للهوَى وللشهوة فيَصير مُسخَّر لهم.

قال: مثل مُسلِم أُسر؛ فسَخَّرَه الكفار يشتغل لهم في رعاية الخنازير وحَمْل الخمر على ظهره ويجيبونه إلى عندهم، وهذا صَلّح بعقله هكذا، عقلُه أصلُه مُسلِمٌ مؤمنٌ، قام جعله في تَبَعِ الشهوةِ وتَبَع الهوَى. لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم..

وقال: "انظرْ كيفَ يكونُ حالُ العبدِ إذا أَخذَ أَعزَّ أولادِ المَلِكِ، وَسَلَّمَهُ إلى أَخَسِّ أعدائِهِ، حتَّى استَرقَّهُ واستسخرَهُ؟!"؛ ماذا يَنال عند الملِك؟ كيف يكون حاله مع المَلِك؟! والمَلِك ربُّك أعطاك هذا العقل، وهو الأداة التي تُقربك إليه وتَحمل لك أنوار مَعرِفته، وقُمْت سخَّرتها لمَن يَكفر به، ولمَن يَصُد عن سبيله، ولمن يَبعد.. فكأنك أخذتَ أعزَّ أولاد الملِك عليه وذهبت به إلى عند أعداء الملٌك يَستسخرونه؛ فكيف يكون حالك عند الملِك؟ هذا الذي أخذَ أعزَّ الأولاد وخلّاه مَملوكًا للأعداء، كيف يَعمل بك إذا جئت إلى عنده؟! وهذا الملِك أعطاك العقل، أَشرف شيء، عزيز كريم، قُمت أَهنته وذلّيته لمَن يعادي شريعته ودينه من الهوَى والشهوة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

قال: "كيفَ يكونُ قدومُ هذا الغافلِ المُنهمِكِ على اللهِ تعالى؟!" لمّا يَرجع للملِك وهو قد فَعل هكذا؟ مِثل واحد أخذَ أعزَّ أولاد المَلِك وأعطاه لأعدائه وبعدها جاء إلى عند الملِك، ماذا يَفعل به؟ أجارنا الله من غضبه وسخطه.

قال: "الدَّرجةُ الوسطىَ:" التي فيها أكثر المسلمين، أكثر المؤمنين، "أَلَّا يَفْتُرَ عن المحاربةِ"، والحرب سجال، "تارةً له اليدُ، وتارةً عليهِ اليدُ"، هذا من أهل الجهاد والمجاهدة، وإذا صَدَق، فبعد ذلك لا بد أن يَنتهي لأحدِ الأمرين: 

  • إما يصدُق ويَأخذ الله بيده؛ فيُلحقه بأهل العُلُوّ.
  • وإما يَتخاذل، يَتخاذل، ويٕنتصر الجيش الثاني ويَسفُل مع السافلين -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

قال: "وعلامةُ هذا: أن يَتركَ مِنَ الشَّهَواتِ ما هو أضعفُ، ويَعجِزَ عما هو أَغلبُ، وربَّما يَغلبها في بعضِ الأوقاتِ دونَ بعضٍ، وهوَ -مع ذلك- في جميعِ الأحوالِ مُتحسِّرٌ على عجزِهِ، ومُتشمِّرٌ للمعاودةِ إلى المجاهدة"؛  فهو في جهاد؛ قتال، وجهاد النفس؛ "هوَ الجهادُ الأكبرُ، ومهما اتَّقى (وصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ) [الليل:6-7]"؛ يَأخذ الله بيَده وتنتصر جُند الهُدَى. 

وأمّا -والعياذ بالله- إن غَلب عليه الجُند الثاني، وضعُف، ضعُف، ضعُف جُند العقل وباعث الدين.. نَزل وأُلحِق بالسافلين، فأهل الدرجة الوسطى نهايتهم: 

  • إمّا يطلع مع الفوق.
  • أو ينزل لتحت.

قال: "قَصرَ عن البهيمةِ إنسيٌّ لم يُقاوِمْ بقُوَّةِ عقلهِ شهوتَهِ"؛ قَصُرَ عن البهيمةِ، هذا أخسَّ من البهيمة، آدميّ إنسان معه عقل ولم يِقاوم شهوته بعقله، قال: "فهو أخسُّ من البَهيمة"؛ أُمِدّ بالعقل، وحُرِمَت منه البهيمة؛ ليس عندها عقل، ومع ذلك انتظمت في شهوتها بمِقدار؛ فقال الله تعالى عن هؤلاء: "(إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان:44]"، أجارنا الله من ذلك.

 

فصلٌ

في بيانِ الحاجةِ إلى الصبرِ في جميعِ الأحوالِ

اعلمْ: أنَّ الحاجةَ إلى الصَّبرِ عامَّةٌ في جميعِ الأحوالِ؛ لأنَّ جميعَ ما يَلقى العبدُ في هذهِ الحياةِ لا يَخلو عن نوعينِ؛ فإنَّهُ إمَّا أن يوافقَ هواهُ، أو يخالفَهُ. 

فإن وافقَ هواهُ؛ كالصِّحَةِ والسَّلامةِ، والثَّروةِ والجاهِ، وكَثرةِ العشيرةِ.. فما أحوجَهُ إلى الصَّبرِ معَها؛ فإنَّهُ إن لم يضبطْ نفسَهُ.. طغَى واسترسلَ في التَّنعُّمِ واتِّباعِ الهوَى، ونَسِيَ المبدأَ والمنتهَى. 

ولذلكَ قالَتِ الصَّحابةُ -رضوانُ اللهِ عليهِم أجمعينَ-: "بُلِينا بفتنةِ الضَّرَّاءِ فصبَرنا، وبُلِينا بفتنة السَّرَّاءِ فلم نصبرْ". 

ولذلكَ قيلَ: "يصبرُ على البلاءِ كلُّ مؤمنٍ، ولا يصبرُ على العافيةِ إلَّا صدِّيقٌ" . 

ومعنى الصَّبرِ فيها: ألَّا يَركَنَ إليها، وأن يعلمَ َأنَّ كلَّ ذلكَ وديعةٌ عندَهُ تُسترجَعُ على القُرْبِ، وألَّا يَنهمِكَ في الغفلةِ والتَّنعُّمِ، وأن يُؤدِّيَ حقَّ شكرِ النِّعمةِ، وذلكَ ممَّا يطولُ شرحُهُ.

النُّوعُ الثَّاني : ما يخالفُ الهوَى؛ وذلكَ أربعةُ أقسامٍ:
الأوَّلُ: الطاعاتُ، والنَّفسُ تَنفِرُ عن بعضِها بمُجرَّد الكسلِ؛ كالصَّلاةِ، وعن بعضِها بالبخلِ؛ كالزكاةِ، وعن بعضِها بهِما جميعًا؛ كالحجِّ والجهادِ، فالصَّبرُ على الطَّاعةِ مِنَ الشَّدائدِ. 

ويحتاجُ المطيعُ إلى الصَّبرِ في ثلاثةِ أحوالٍ:
أحدُها: أوَّلَ العبادةِ بتصحيحِ الإخلاصِ، والصَّبرِ عن شوائبِ الرِّياءِ، ومَكايدِ الشيطانِ، ومَكايِدِ النَّفْسِ وغرورِها.

الثَّانيةُ: حالةَ العملِ؛ كي لَا يَتكاسلَ عن تحقيقِ أدائِهِ بفروضِهِ وسننِهِ، ويدومَ على شرطِ الأدبِ معَ حضورِ القلبِ ونَفْيِ الوسواسِ.

الثَّالثةُ: بعدَ الفراغِ؛ وهوَ أن يصبرَ عن ذكرِهِ وإفشائِهِ للتَّظاهرِ به رياءً وسمعةً، وكلُّ ذلكَ مِنَ الصَّبرِ الشَّديدِ على النَّفسِ.

القسمُ الثَّاني: المعاصي، وقد قالَ النَّبيُّ ﷺ: "المُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ هَوَاهُ، والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ". 

والصَّبرُ عنِ المعاصي أشدُّ، لا سيَّما عن معصيةٍ صارَتٍ عادةً مألوفةً؛ إذ يَتظاهرُ فيه على باعثِ الدِّينِ جُندانِ: جُندُ الهوَى، وجُندُ العادةِ، فإنِ انضمَّ إلى ذلك سهولةُ فعلِهِ وخفَّةُ المَؤنةُ فيهِ.. لم يصبرْ عنها إلَّا صدِّيقٌ؛ وذلكَ كمعاصي اللِّسانِ، فإنَّها هيِّنَةٌ سهلةٌ، وذلكَ كالغِيبةِ والكذبِ والمراءِ والثَّناءِ على النَّفسِ، ويحتاجُ في دفعِ ذلكَ إلى أشدِّ أنواعِ الصَّبرِ.

القسمُ الثاَّلثُ: ما لا يَرتبطُ، باختيارِ العبدِ ولكنْ لهُ اختيارٌ في دفعِهِ وتداركِهِ؛ كالذي ينالُهُ مكروهٌ مِن غيرِهِ بيدٍ أو لسانٍ، فالصَّبرُ على ذلكَ بتركِ المكافأةِ تارةً يجبُ، وتارةً يُستحبُّ، قالَ بعضُ الصحابةِ -رضِيَ اللهُ عنهُم-: "ما كنَّا نعدُّ إيمانَ الرَّجلِ إيمانًا إذا لم يصبرْ على الأذَى".

وقالَ اللهُ عزَّ وجلَّ خبرًا عن قولِ الأنبياءِ -عليهمُ السلامُ-: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم:12].

وقالَ تعالى: (وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [الأحزاب:48]. 

وقالَ تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) [الأحزاب:97-98].

القسمُ الرَّابعُ: ما لا يدخلُ أوَّلُهُ وآخرُهُ تحتَ الاختيارِ؛ كالمصائبِ بموتِ الأعزَّةِ، وهلاكِ الأموالِ، والمرضِ، وذَهابِ بعضِ الأعضاءِ، وسائرِ أنواعِ البلاءِ، فالصَّبرُ عليهِ مِنْ أعلى المقاماتِ. 

قال ابنُ عبَّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهُما-: الصَّبرُ في القرآنِ على ثلاثِ مقاماتٍ: صبرٌ على أداءِ الفرائضِ ولهُ ثلاثُمائةِ درجةٍ، وصبرٌ عن محارمِ اللهِ تعالى ولهُ ستُّمائةِ درجةٍ، وصبرٌ في المصيبةِ عندَ الصَّدمةِ الأُولَى ولهُ تسعُمائةِ درجةٍ.

وقال ﷺ: "قالَ اللهُ تعالى: إذا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِبَلاءٍ فَصَبَرَ وَلَمْ يَشْكُنِي إلَى عُوَّادِهِ.. أَبْدَلْتُهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ، فَإِنْ أَبْرَأْتُهُ.. أَبْرَأْتُهُ وَلَا ذَنْبَ لَهُ، وَإِنْ تَوَفَّيْتُهُ.. فَإِلَى رَحْمَتِي". 

وقالَ ﷺ عنِ اللهِ تعالى: "إذَا وَجَّهْتُ إلَى عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِي مُصِيبَةً فِي بَدَنِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ ذَلكَ بِصَبْرٍ جَمِيلٍ.. اسْتَحيَيْتُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنْ أَنْصِبَ لَهُ مِيزَانًا أَوْ أَنْشُرَ لَهُ دِيوَانًا". 

وقالَ ﷺ: "انْتِظَارُ الفَرَجِ بِالصَّبْرِ.. عِبَادَةٌ". 

وقالَ: "مِنْ إِجْلَالِ اللهِ تعالَى وَمَعْرِفَةِ حَقِّهِ.. أَلَّا تَشْكُوَ وَجَعَكَ وَلَا تَذْكُرَ مُصِيبَتَكَ".

فقد عرفتَ أنَّكَ لا تَستغني عنِ الصَّبرِ في جميعِ أحوالِكَ، وبه يَظهَرُ أنَّهُ شطْرُ الإيمانِ، وشطرُهُ الآخَرُ فيما يَتعلَّقُ بالأعمالِ.. الشُّكرُ؛ فقد قالَ ﷺ: "الإِيمَانُ نِصْفَانِ: نِصْفٌ صَبْرٌ وَنِصْفٌ شُكْرٌ"، وهذا باعتبارِ النظرِ إلى الأعمالِ والتعبيرِ بالإيمانِ عنها.

 

ما شاء الله لا قوة إلا بالله. يقول: يَحتاجُ المؤمن وكلُّ آدميّ أيضًا إلى الصَّبر "في جميعِ الأحوالِ"؛ لأنّ الذي يَلقاه المؤمن في حياته نوعان: 

  • أحدها: "يوافق" الطبيعة والهوَى والغَرَض.
  • والآخر: "يخالفه".

فالمُوافق؛ مثل "الصِّحَةِ والسَّلامةِ، والثَّروةِ والجاهِ، وكثرةِ العشيرةِ"، وما إلى ذلك مِن كل شيء تحبه النفس، يحتاج إلى صبر عليه كثير؛ "فإنَّهُ إن لم يَضبطْ نفسَهُ -فيه- طغَى واسترسلَ في التَّنعُّمِ واتِّباعِ الهوَى"، وانقاد إلى كِبْر وإلى غطرسة وإلى خروجٍ عن الحدود، "ونسيَ المبدأَ والمنتهَى".

والذي يقول: "بُلينا بفتنة الضَّرَّاء فصبرنا، وبُلينا بفتنة السَّرَّاء فلم نصبر"، هكذا يقول سيدنا معاذ بن جبل وهذا من تواضعه -عليه رضوان الله-؛ ولكنهم صبروا في الضّراء وفي السّراء -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-. 

ومع ذلك؛ رأى نفسه أنه ما قام بحق السرّاء على وجهها، وهو من أعلَمِ الناس بالحلال والحرام، مقبور في بلدكم هذه، مات في طاعون عمواس -عليه رحمة الله- وهو في الشباب -عليه الرحمة والرضوان- في نحو سبعة وأربعين كان عمره، وقد أرسله ﷺ إلى اليمن أولًا، ثم آخر عمره ودّعه وأرسله إلى اليمن وقال: "لعلك لا تلقاني بعدها، فلا تنسى أن تزورنا"؛ فلما عاد من اليمن وقد توفي ﷺ، أكبَّ على قبره وأخذ يبكي -عليه رضوان الله تعالى-، ثم خرج في الجهاد إلى الشام وتُوُفي في هذه البلدة عندكم في الأغوار، سيدنا معاذ -عليه رحمة الله ورضوانه-، وولده عبد الرحمن مقبور بجانبه عنده هنا، وهو مِن أعلم الصحابة.

 وقال: "يصبرُ على البلاءِ كلُّ مؤمنٍ، ولا يصبرُ على العافيةِ إلَّا صدِّيقٌ"؛ يقوم بحق العافية ويُحدَّها بحدودها ويُقيدها بقيودها ويَصرفها في مرضاة الرب -جل جلاله-.

قال: والصبر في هذه الأشياء الموافِقةِ للنفس: "ألَّا يَركن إليها، وأن يَعلَمَ أنَّ كلُّ ذلك وديعةٌ عندَه تُسترجَعُ -منه- على القُرب، وألَّا يَنهمِك في الغفلة والتَّنعُّم، وأن يُؤَدِّيَ حقَّ شُكرِ النِّعمة -وما إلى ذلك- ممَّا يطولُ شرحُه"؛ فكلُّ نِعمة من النِّعم أمانة من الأمائن، وتحتاج إلى القيام بحقِّها والشكر عليها وأداء واجبها.

ثُمّ "النوع الثاني: ما يُخالف الهوى"؛ والذي يخالف الهوى قال: "أربعة أقسام":

  1. الطاعات
  2. ثمّ ترك المعاصي

فعل الطاعات يحتاج إلى صبر، ترك المعاصي يحتاج إلى صبر.

  1. والثالث: ما لا اختيار له في أوَّلِه؛ ولكن له اختيار في المُدافعة عنه، فمن يعتدي عليه أحد، يؤذيه أحد، كيف يتصرف معه؟ يتعامل معه؟
  2. الرابع: ما لا اختيار له لا في بدايته ولا نهايته، آفة تنزل من السماء، أمراض تصيبه، ما يقدر يصلّح فيها شيء لا في البداية ولا في النهاية.

فهذه أربعة أقسام للصبر على ما يخالف الهوى.

قال: "فالطاعات"؛ تحتاج منّا إلى صبرٍ، "النفس تنفر عن بعضها بمجرد الكسل"، "وعن بعضها بالبخل"، وبعضها باجتماع الاثنين: البخل والكسل. 

فمثل الصلوات والأذكار والعبادات؛ الكسلُ، يؤخِّرُ عنها الكسل، ولذا وصف الله المنافقين حتى مع القيام للصلاة: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ)؛ لكن مِن أجْلِ الناس: (يُرَاءُونَ النَّاسَ) [النساء:142]؛ فهُم تاركون الصلاة كسلًا؛ ولكنْ لأَجْلِ الناس يقومون. 

أو: المانع منه بُخل النّفس؛ مثل الزكاة والصدقة، فالذي يمنع منها هذه الطاعات: البُخْل.

وقد يجتمع الاثنان مثل الحج والجهاد؛ فيه الكسل والبخل يجتمعون كلهن، ما أردناك تَحج ولا أردناك  تُجاهد وتَبذل في سبيل الله تعالى.

قال: "ويحتاج المطيع" في طاعته أن يصبر في بداية الطاعة ونيتها وتصحيح الإخلاص فيها، ثمّ في حالة العمل، ثمّ بعد العمل.

  • من قبل العمل: يحتاج إلى إخلاص القصد والنية، وإلى أن يصبر: "عن شوائب الرياء"، "ومكايد النفس وغرورها".
  • ثمّ في أثناء العمل: يحتاج إلى صبر على الإحسان والإتقان وأدائها على وجهها، ويؤديها بفروضها وسننها وواجباتها وشروطها، نعم، "مع حضور القلب فيها ونَفْيِ الوسواس" عنها.
  • ثُمّ بعد انتهاء العبادة: لا يَعتدّ بها، ولا يَذكرها، ولا يَفتخر بها، ولا يَرى نفسه عاملًا لشيءٍ، فيَحتاج صبر بعدَها كذلك.

هذا في جانب الطاعة، القسم الأول: مما يخالف الهوى.

الثاني: ترك "المعاصي"؛ أيضًا يخالف الهوى، "المُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ هَوَاهُ، والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوء"، رواه الحاكم في المستدرك. "المُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ هَوَاهُ، والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللهُ عنهُ".

قال: "والصبر عن المعاصي أشدُّ"، لذا درجاته أكبر، ولمّا كانوا في مجلس فيه بعض الأكابر في القرن الثالث من العارفين، يقولون: ما أفضل الطاعات؟ فذكر بعضهم كذا، وذكر بعضهم كذا، وذكر بعضهم كذا. قالوا لواحد ساكت: ما تقول؟ قال: أقول: أفضل الطاعات ترك المعاصي. قال لهم الحسن: تم الأمر، تم، تم، تم خلاص، هذا هو الكلام: أفضل الطاعات ترك المعاصي، فإنّ البُعْد عن الذنوب هو الأساس في الطاعات، والذي تتحوّل به الطاعة القليلة إلى كبيرة وأجرها كثير عظيم. 

يقول: "الصبر عن المعاصي أشَدُّ -حالًا-، لا سيَّما عن معصية صارت عادةً مألوفةً"، فقُدامه "جُندان:" 

  • الهوى 
  • والعادة 

كلهم يوقعونه فيها، ومثلها الإمام الغزالي: بالغيبة والكذب التي يعتادها الناس فتَصِير إلفًا وعادةً سهلةً، سهلةٌ على اللسان، فصار مدفوعًا إليها بدافع الهوى والعادة والإلْف. 

ولهذا تجدهم يتساهلون بها ويَغتابون حتى وهم منسوبون إلى خير ومنسوبون إلى علم ومنسوبون إلى دعوة، فلان، فلان، فلان… لاحول ولاقوة إلا بالله! وكلها معاصي كبيرة ولكنهم لا يُبالون بها، لا يَذكرون شيئًا لأجل علاجه ولا لأجل محتاجين إلى شيء من التقويم ولمَن يُحتاج إلى ذلك؛ ولكن يَتساهلون بذلك. قال هذا القسم الثاني: المعاصي.

القسم الثالث: "ما لا يرتبط باختيار العبد، ولكن له اختيار في دفْعه"، إذا ناله مكروه مِن أحدٍ بضربٍ أو بسَبٍّ أو بشَتْمٍ، فالصبرُ على ترك المكافأة أحيانًا يكون واجبًا وأحيانًا يكون مستحبًّا.

 يقول الصحابة: "ما كنَّا نَعدُّ إيمانَ الرجلِ إيمانًا إذا لم يصبرْ على الأذى". 

 وذكر عن الأنبياء: "(وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا) [إبراهيم:12]"، يقولون لقومهم. ويقول: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) [الأنعام:34]

وهكذا يقول: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم 11-12].

وبعدما قالوا واستعرضوا بعد ذلك كل قوّاتهم وأرادوا الفَتْك (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ…) اثبتوا واصبروا، (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُم الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ). [إبراهيم:13] وجاءت العاقبة بعد ذلك.

قال: (ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ).[إبراهيم:14]؛ كلُّ مَن خافَ مقامي وخافَ وعيدِي وثبتَ وصبرَ.. والذي يُضاد هذا والذي يَستعرض عضلاته عليّ هو الذي أُبعِده، فقط عليه يَصبِر، يَمشي في الطريق ويَثبُت.

وقال أحدُهم: ما أَوحَى إليهم ربُّهم: سُبُّوهم ولا رُدُّوا عليهم ولا قولوا ولا ...؛ ولكن  خَلُّوكم على ما أنتم عليه.. (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُم الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ)، كما فعل في بني إسرائيل مع فرعون وقومه -لا إله إلا الله-.

قال: "وقال تعالى لحبيبه محمد: (وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [الأحزاب:48]". 

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:97-99]؛ تمام، هذا قِسم. 

"القسم الرابع: ما لا دَخل لاختيارك فيه، لا في أوله ولا في آخره: مصائب، موت الأعزة، هلاك الأموال، وجود آفات ومرض" وما إلى ذلك. 

وقال: "الصَّبر عليه من أعلى المقامات. يقول سيدنا عبد الله بنُ عبَّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهُما-: الصَّبرُ في القرآنِ على ثلاثِ مقاماتٍ: صبرٌ على أداءِ الفرائضِ ولهُ ثلاثُمائةِ درجةٍ، وصبرٌ عن محارمِ اللهِ تعالى ولهُ ستُّمائةِ درجةٍ، وصبرٌ في المصيبةِ عندَ الصَّدمةِ الأُولَى ولهُ تسعُمائةِ درجةٍ".

"وذكر لنا الحديث القدسي يقول: إذا ابتليتُ عبدي ببلاءٍ فصبرَ ولم يَشْكُني إلى عُوَّادِه.. أبدلتُه لحمًا خيرًا من لحمه ودمًا خيرًا من دمه، فإن أبرأتُه وعافيتُه.. أبرأتُه ولا ذنبَ له، وإن توفيتُه.. فإلَى رحمتي"؛ لأنه صَبَرَ، ولا قال: بي وبي، ولا شَكَا إلى العُوَّاد الذين يَعُودُونه في مرضه.

وكناَّ نشهدهم بسبب التربية، حتى العَوَام يكون ما عنده مِن شِدّة وما عنده مِن مرض، كائن ما كان، ولو شديد، لمّا تأتي تسأله: كيف حالك؟ يقول: الحمد لله، في لطف، في لطف من الله، أنا في فضل ربي، الحمد لله، الذي يجيء من ربي كله زين، يقولون هكذا وهم مرضى؛ بسبب ما تعلموه من مجالسة الأكابر، وتُحصّلُه عامي؛ لكن عاميّ ما شاء الله مُرَسّخ على الإيمان واليقين، يُكلِّمك بكلام الخَواص وهو عاميّ.. ذَوقُ الحمدِ يجيء به، ولا شكوَى ولا جَزَع؛ الذي يأتي من ربك زين، الحمد لله، الحمد لله، في لطف، في لطف، أنا أحسن إن شاء الله، أنا في عافية -لا إله إلا الله-.

بعد هذا يقول في الحديث الثاني الذي رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، وابن عَدِيّ في "الكامل": "إذا وَجَّهتُ إلى عبدٍ من عبادي مصيبةً في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استَقبَل ذلك بصبرٍ جميلٍ، استحيَيتُ منه يوم القيامة أن أَنصِبَ له ميزانًا أو أَنشُرَ له ديوانًا"، قال له مُسامَحَة فقط؛ يسامحه ويعفو عنه جزاء ما كان صبَر.

"وانتظارُ الفرجِ بالصبرِ.. عبادةٌ". 

و"إنَّ مِن إجلالِ اللهِ ومَعرِفةِ حقِّه ألّا تشكُوَ وجعَك ولا تَذكُرَ مُصيبتَك".

 إذًا؛ "لا تَستغنِي عن الصَّبر في جميع الأحوال"، رزقنا الله حُسن الصَّبر وحُسن الشُكر.

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ-13].

 

الأصل الخامس 

في الشكر

قال الله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ-13].

وقال: (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم-7].

وقال: (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة-152].

وقال: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران-144].

 وقال: (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ) [النساء-146].

وقال النبيﷺ: "للطَّاعِم الشاكِر مَنزلَةُ الصائمِ الصابرِ عند الله". 

وكان رسول الله ﷺ يبكي في تهجُّده، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: وما يبكيك وقد غفر الله لك ما تَقدَّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟".

 وقال: يُنادَى يوم القيامة: "ليقُم الحمَّادون"؛ فتقومُ زمرةٌ فيُنصَبُ لهم لِواءٌ فيدخلون الجنة. فقيل: ومَنِ الحمّادون؟ قال: "الذين يَشكرون الله على كلِّ حالٍ" . 

وقال: "الحمدُ لله رِداءُ الرحمن".

 

فصلٌ 

في بيان حقيقة الشكر

اعلَم: أن الشكرَ من المقامات العالية، وهو أعلى من الصبر والخوف والزهد وجميع المقامات التي سبق ذكرُها؛ لأنها ليست مقصودةً في أنفسها، وإنما تُرادُ لغيرها. فالصبر يُرادُ منه قَهْرُ الهوى، والخوفُ سوطٌ يسوقُ الخائفَ إلى المقامات المقصودة المحمودة، والزهدُ هَرَبٌ من العلائق الشاغلة عن الله تعالى. 

وأمَّا الشكرُ.. فمقصودٌ في نفسه، ولذلك لا ينقطعُ في الجنة، وليس فيها توبةٌ ولا خوفٌ ولا صبرٌ ولا زهدٌ. والشكرُ دائمٌ في الجنة.

ولذلك قال الله تعالى: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس-10].

وتَعرِفُ ذلك بأن تعرفَ حقيقةَ الشكر، وأنه يَنتظمُ من علمٍ وحالٍ وعملٍ. 

أما العلمُ: فهو الأصل، فيُثمرُ الحالَ، والحالُ يُثمرُ العملَ. فهذه ثلاثة أركان:

الأول: العلمُ بالنِّعمة والمُنعِم، مع العلم بأنَّ النِّعَم كلَّها من الله تعالى وهو المُنفرِد بجميعها، والوسائطُ كلُّهم مُسخَّرون مقهورون.

وهذه المعرفةُ وراءَ التقديسِ والتوحيدِ؛ فإنهما داخلانِ فيها، بل الرُّتبةُ الأولى في معارف الإيمان.. التقديسُ. 

ثم إذا عرفتَ ذاتًا مقدسةً وعرفتَ أنه لا مُقدّسُ إلا واحدٌ.. فهو التوحيدُ، ثم إذا علمتَ أن كل ما في العالَم هو موجودٌ من ذلك الواحد والكل نعمةٌ منْه خاصةٌ.. فهو الحمدُ.

وإلى هذا الترتيبِ الإشارةُ بقولهﷺ: "ومن قال "سبحان الله" فَله.. عشر حسنات، ومن قال "لا إله إلا الله".. فَله عشرون حسنة، ومن قال "الحمد لله".. فَله ثلاثون حسنة". 

وهذا؛ لأن التقديس والتوحيد داخلان في الحمد، والحمدُ تقديسٌ وتوحيدٌ وزيادةٌ. وهذه الدرجات بإزاء هذه المعارف.

وأمّا حركةُ اللسانِ: ففضلُها بحَسَب صدورِها عن المعرفة، أو تجديدِها للاعتقاد في القلب؛ فإن الفَمَ آلةٌ لإزالة الغفلة لينمحيَ أثرُها، فإن انضم إليه الغفلة.. انمحى أثرها.

واعلَم: أنك إذا اعتقدتَ أنَّ لغير الله تعالى دخلًا في النِّعمة الواصلةِ إليك.. لم يصحَّ حمدُك، ولم تَتِمَّ معرفتُك وشكرُك، وكنتَ كَمَن يَخلَعُ عليه المَلِكُ وهو يرى أنّ لعناية الوزير دخلًا في خِلعَة المَلِك، أو في إيصالها إليه، أو في تيسيرها، وكل ذلك إشراكٌ في النِّعمة، ويَتوزَّع فرحُك بالنعمة عليهما!!

نعم؛ لو رأيتَ الخِلعَة الواصلةَ إليك بتوقيع المَلِكِ بقلمه.. فذلك لا يَنقُصُ من شكرِك؛ لأنك تعلَمُ أن القلم مُسخَّرٌ له لا دخل له في النعمة بنفسه، ولذلك لا يلتفتُ قلبُك إلى الفرح بالقلم والشكرِ له. وكذلك قد لا يلتفتُ إلى الخازن والوكيل؛ إذ تَعلَمُ أنهما مضطران إلى الإعطاء بعد الأمر، مُسخَّران لا مَدخلَ لهما بأنفسهما في النعمة.

فكذلك من انفتحت بصيرتُه.. علِمَ أن الشمسَ والقمرَ والنجومَ والأرضَ مسخراتٌ بأمر الله تعالى؛ كالقلم والكاغَد والحِبر في التوقيع. 

وأن قلوبَ الخلقِ خزائنُ الله تعالى ومفاتيحَها بيدِ الله عز وجل، يفتحها بأن يسلِّط عليها دواعيَ جازمةً حتى تعتقدَ أن خيرها في البَذل مثلًا، وعند ذلك لا يستطيعُ تركَ البَذل، فيكونُ مُضطَرًّا إلى الاختيار؛ لِمَا سُلّط عليه من دواعي الاختيار؛ فإنه لا يُعطيك أحدٌ شيئًا إلّا لغرضِ نفسه، ليستفيدَ به في في الآجل ثوابًا أو في العاجل ثناءً وذكرًا، أو غيرَ ذلك. وما لم يَعلم أن منفعتَه في منفعتِك، فلا يعطيك.

فإذًا؛ ليس هو مُنعمًا عليك، إذ يسعى لنفسه، إنَّما المُنعِمُ عليك مَن سخَّره بتسليط هذه الدواعي عليه، وقرَّر في نفسه أن غرضَه منوطٌ بالأداءِ والإنعام.

فإن عرفتَ الأمورَ كذلك.. كنتَ موَحِّدًا وتُصُوِرَ منك الشكرُ، بل هذه المعرفةُ هي عينُ الشكرِ. قال موسى عليه السلام في مناجاته: "إلهي، كيف خلقتَ آدم بيدك، وفعلتَ وفعلتَ، فكيف شَكرَك؟ قال: "عَلِمَ أن ذلك منِّي، فكانت معرفتُه شكرًا".

 

اللهم ما أصبح بنا من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر على ذلك.

يقول: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ-13]. ومع ذلك فيه زيادة: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم-7].

(وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة-152].

(وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران-144].

(مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ) [النساء-146].

"للطَّاعِمِ الشاكرِ منزلةُ الصائمِ الصابرِ عند الله" كما جاء في سنن الترمذي وابن ماجة عن نبينا ﷺ.

"وكان رسول الله ﷺ يبكي في تهجُّده، قالت عائشة -رضي الله عنها-: ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدَّمَ مِن ذنبك وما تأخَّرَ؟ قال: "أَفَلَا أكونُ عبدًا شكورًا؟"."

 وفي هذه الأمة يَكثُر فيها الحمّادون، وهو من خواص وصفهم، وهم الذين يَستشعرون فضل الله وجوده وإنعامه وإحسانه، ويشكرونه بالنّية والفعل والقول والحركة والسكون.

 يقول: "يُنادَى يوم القيامة لِيَقُم الحَمّادون؛ فتقومُ زُمرةٌ من الناس فيُنصَبُ لهم لِواءٌ يَدخلون الجنةَ". بغيرِ حساب هؤلاء، "قيل: ومَنِ الحَمّادون؟ قال: "الذين يَشكرون الله على كل حال"". أُمَّتَه الحَمّادون؛ يَحمدون الله على الشدة والرخاء، وَهُم أول مَن يَدخل الجنة يوم القيامة من هذه الأمة.. الحمّادون. 

  • أول أمة تدخل الجنة: أمة النبي محمد. 
  • وأول أمة النبي محمد تدخل الجنة: الحمّادون؛ الذين يستشعرون منَّة الله تبارك وتعالى عليهم.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

قال: وهذا "الشكر من المقامات العالية"، مِن عُلُوِّه أنه يَبقى مع المؤمنين حتى في الآخرة، حتى في الجنة، مع أن كثير من المقامات الرفيعة في الدنيا خلاص تنتهي بعد الدنيا، ما عاد فيها منها شيء، مثل التوبة، مثل الخوف، مثل الزهد هذه ما عاد تكون في الجنة هناك، في الجنة ما عاد فيها توبة، توبة، كيف توبة؟! ما فيها خوف، ما فيها زهد، زهد كيف؟! مقامات شريفة في الدنيا كانت.. لكن الشكر يبقى فيها موجود؛ فهو إذًا مقامٌ باقٍ ومستمرٍ. 

وهذا مثل المعارف التي تبقى مع الإنسان نافعة في القبر وفي القيامة وفي الجنة، المعرِفة بالله تعالى، هذه العلوم؛ العلم بالله وأسمائه وصفاته، علم مستمر دائم باقٍ ما ينقطع بالموت ولا يزال يُنتفع به حتى وسط الجنة، فالله يرزقنا النصيب الوافي من معرفته.

قال: 

  • "الصَّبر يُراد منه.. قَهْر الهوَى". 
  • "والخَوفُ.. سَوطٌ يَسُوق الخائف للمقاماتِ المحمودةِ". 
  • "والزُّهدُ.. هَرَبٌ مِنَ العلائقِ الشاغلة عن الله". 
  • "لكن الشُّكر مقصودٌ لِذاته"، هو مقصود بذاته، لا لسبب ثاني، هو نفسُه محمودٌ ومشكورٌ وهو المراد.

رزقنا الله شكره وذكره. 

يقول أهل الجنة، يقول: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس-10]، يحمدون الله تعالى في الجنة.

 "وتَعرفَ ذلك بأن تَعرفَ حقيقة الشكر يَنتظِم من علمٍ وحالٍ وعملٍ"؛ فذَكر لنا العلم. ما هو العلم؟ 

"العلمُ بالنِّعمة والمُنعِم، مع العلم بأنَّ النِّعَم كلَّها من الله تعالى وهو المُنفرِد بالإنعام" (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل-53] جل جلاله. 

"والَوسائط مُسخَّرون"، الوسائط الظاهرة من هذه الأسباب والماديات والناس، والوسائط الباطنة كذلك مِن أولياء الله وأنبيائه وصالحي عباده والدعوات والأعمال الصالحة، وسائط لكن كلها مُسخَّرة مقهورة، وهو المُتفرِّد بالإعطاء بذاته.

قال: "وهناك رُتَبٌ في المعرفة بالله'، منها التَّقديس: 

  • وهو أن تَعلَم تَنَزُّهَهُ عن مشابهة الخَلق وعن أن يُحيط به أحد وتَعاليه عن كل ما لا يَليق بجلاله.. "هذا تَقديس".

بعد ذلك.. 

  • إذا عَرفتَ أنه هو الذي يستحق هذا الوصف وحده دون سواه.. "هذا توحيد"؛ 

لكن وراء التَّقديس والتوحيد:

  •  تَعلم أنه هو المنعِم والمُتفضِل ولا يشاركه في النِّعمة أحد.. "وهذا هو الشُّكر".

 فإذًا هو مقامٌ في المعرفة بعد التَّقديس وبعد التَّوحيد، وأورد الحديث: 

  • "سبحان الله"، بعشر حسنات، قال هذا: تَّقديس. 
  • "لا إله إلا الله"، بعشرين حسنة، قال هذا: توحيد. 
  • قال "الحمد لله"، بثلاثين حسنة، هذا: شُكر.

الحمد لله، هذه الباقيات الصالحات تَوَزعت على سادتنا الخلفاء الراشدين، 

  • فكان سيدنا أبو بكر الصدّيق يَغلُب عليه؛ التهليل، التوحيد.. كلّما تكلم كلمة يقول: "لا إله إلا الله". 
  • وسيدنا عمر يَغلُب عليه التكبير، يُكبر "الله أكبر" كلّ ما تكلم يقول: "الله أكبر". 
  • سيدنا عثمان يَغلُب عليه التسبيح، كلّما تكلم يقول: "سبحان الله". 
  • سيدنا علي يغلب عليه الحمد، كلّما تكلم يقول: "الحمد لله". 

فتَوَزَّعَت عليهم، يعني: هذا الغالب عليهم، هم يسبحون ويحمدون كلهم؛ ولكن هذا الغالب عليه التهليل: سيدنا أبو بكر. هذا الغالب عليه التكبير: سيدنا عمر. هذا الغالب عليه التسبيح: سيدنا عثمان. هذا الغالب عليه التحميد: سيدنا علي. 

قال: "التقديسُ والتوحيدُ داخلان في الحمدِ، والحمدُ تقديسٌ وتوحيدٌ وزيادةٌ".

قال: "وحركةُ اللسانِ: ففضلُها بحَسَب صدورِها عن المعرفة، أو تجديدِها للاعتقاد في القلب؛ فإن الفَمَ" إنما هو "آلةٌ لإزالة الغفلة لينمحيَ أثرُ الغفلة، فإن انضم الغفلة إلى النطق .. انمحى أثر اللسان"، كأنك ما قلت شيء.

  •  فإذا يقول "الحمد لله" وهو مُستشعِر المنّة من الله.. أفادت فائدة لأنها صَدرت من معرفة أو جَدّدت في القلب الاعتقاد أن الفضل لله.
  •  وإذا قال "الحمد لله، الحمد لله" والقلب غافل.. ما كأنه قال شيء؛ ما كأنه قال شيء لأن اللسان فقط آلة لتمحو عن القلب الغفلة، فإذا انضمّت للغفلة يقول "لا إله إلا الله" أو "الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله" وهو غافل قلبه.. ولا حصَّل شيء، ما كأن هناك شيء ولا كأنه قال شيء.

 فالله ينظر إلى قلوبنا، ويشغل ألسنتنا بحمده وشكره وذكره وما هو أحب إليه، إنه أكرم الأكرمين.

قال بعد ذلك: "تُوقن أنه لا يَستقِل أحدٍ بإيصال النعمة إليك"، لا من الوسائط الظاهرة ولا من الوسائط الباطنة، ولكنهم أسباب وأبواب، والمُتصرِّف هو جلّ جلاله.. ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر على ذلك. 

وكثيرًا ما تنصرف عقول الناس إلى الوسائط، خصوصًا الوسائط الظاهرة من هيئاتٍ وجماعاتٍ وحكوماتٍ وأراضٍ وأمثال هذه الوسائط الظاهرة. وبعضهم أيضًا يلتفتُ إلى الوسائط الباطنة، والوسائط الباطنة أيضًا وإن كان الاغترار فيها أقل، وهي مجرد أيضًا أسباب ووسائط، والمُنعِم هو الله تبارك وتعالى بجميع المعاني؛ يعني: لا يَستقِل أحدٌ من الخلقِ بإسداءِ شيء، ولا بصرف شيء، ولا بإعطاء شيء، ولا بمنع شيء؛ إلا به سبحانه وتعالى، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

دخل بعض الصالحين عند بعض المسؤولين في أمر؛ فكانوا ما نَفذوا الأمر. خَرج، وسمعه واحد عند الباب تحت يقول: شُف يا رب لمّا ما أَردتَ، ما تَحرَّك قلب الرجال ولا رضي، الأمرُ لك. وهو يقول كذا تحت الباب، ذاك تحرك قلبه، قال: رُدُّوا عليَّ الرجال.. فرَدُّوا الرجال، وقَّع له ومشّاه له الأمر، خرج قال: شُفت  يوم رضيتَ كيف صلَّحت.. وذاك يسمعه تحت الباب: "شُفت يوم رضيتَ كيف صلَّحتَ؟ حَرَّكتَ قلبه وجعلتَه يوقع لأنك أنت أردت الآن… أول ما أردت ما قَدَر يصلَّح شيء، ذا الحين لمّا أردت، على رغم أنفه!.. فالأمرُ أمرُه جلَّ جلاله.

قالوا ولهذا إذا واحد جاءت له عطيَّة ورأى توقيع المَلِك بقلمه، يشكر المَلِك، لكن ما يقول: القلم، القلم، جزاك الله خيرًا يا قلم! أحسنت يا قلم! كيف أحسنت ياقلم؟! القلم مجرد مُسخَّر. والخلق هؤلاء كلهم أقلام، ولا يَكتب إلا هو سبحانه وتعالى.. يُسخِّر لك قريب، بعيد، يُسخِّر لك صديق، يّسخِّر لك عدو، والمُحرِّك هو، هو المُحرِّك جل جلاله، وهذه كلها مُتحرِّكة بأمره سبحانه وتعالى.

 ثم مع ذلك كلّه، قال: "إذا أُجرِيَتُ لك النعمة على يدِ أحد، فاشكره؛ لكن لا تَعتقد أنه مُستقلٌ" ولا أنه بنفسه أعطاك. هؤلاء تحت الأمر، كلهم، سواءٌ على يد مَلِك، على يد نبي، على يد وليّ، أو على يد عامة الناس، هو الذي أجراها، النعمة هو الذي أجراها جل جلاله من عنده، لا أحد منهم مُستقلٌّ بشيء، ولكنهم وسائط وعلى درجاتٍ عند الله تبارك وتعالى.

وهكذا، يقول: "فكذلك من انفتحت بصيرتُه.. علِمَ":

  •  أن الشمسَ والقمرَ والنجومَ والأرضَ مسخراتٌ بأمر الله تعالى؛ كالقلم والكاغَد" -الوَرَق- "والحِبر في التوقيع". 
  • "وأن قلوبَ الخلقِ خزائنُ الله تعالى ومفاتيحَها بيَدِ الله عز وجل، يفتحها بأن يسلِّط عليها دواعيَ جازمةً حتى تعتقدَ أن خيرها في البَذل.." تبذل، "وعند ذلك ما يستطيع ترك البذل"، لأن الله سَلَّط عليه الدواعي. 

أو تتراءى أن خيرَها في الإمساك.. تُمسِك. (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). [فاطر:2] فالمُنعِم على الحقيقة هو وحده جل جلاله.

"يقول سيدنا موسى: يا رب، خلقتَ آدم بيدك، وأسجدتَ له الملائكة، وعلمتَه الأسماء، وأعطيتَه فكيف شكرَك؟ قال: "يا موسى، عَلِمَ أن ذلك مِنِّي؛ فكانت معرفتُه شكرًا" لا إله إلا هو جلّ جلاله.

وقال بعض الأنبياء في مناجاته للرب: "إلهي، كيف أشكرك؟ وأنا كلّما شكرتك بشيء كان الذي شكرتك به نعمة جديدة منك سيقت إليَّ، فكيف أشكرك؟ فأوحى الله إليه: "إذا علمتَ ذلك فقد شكرتني" خلاص يعني: اكتفيتُ منكم بهذا. وإلَّا أيش بيصلّح المخلوق للخالق؟.. ولا شيء! "لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني".

  • تُدركَ حقيقة أنها مِنْهُ 
  • وتَعلَمَ أن غيره ما يقدر يعطيك إياها.
  • تقول: "الحمد لله" و"الحمد لله" نعمة جديدة من عنده أنعمَ بها عليك. 

واكتفى منّا بذلك سبحانه، ووعدنا عليه زيادة: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7].

اللهم لك الحمد شكرًا، ولك المنُّ فضلًا، أتمّ النِّعمةَ علينا، وتولّنا في الحسّ والمعنى، وارفعنا إلى أعلى مراتب القُرْبِ منك والدنُوِّ إليك والفَهم عنك، وارزقنا العثور على المَطلَبِ الأَسْنى والمَشرَبِ الأهنى، أعنّا على الذكر والشكر حيثما كنا وأينما كنا في السر وفي الجهر، واجعل ألسنتنا لك حامدة وشاكرة، واجعل قلوبنا لك حامدة وشاكرة، واجعل أرواحنا لك حامدة وشاكرة، واجعل أسرارنا لك حامدة وشاكرة، واجعلنا لك ذاكرين حيثما كنّا، مَذكورين في حضرتك بخير ما تَذكُر به مَحبوبيك والمُقرّبين إليك مِمَّن سَبَقت لهم منْك سوابق الإفضال والإحسان والامتنان والمَنْح والعطايا الجِزال، يا حي يا قيوم يا منّان يا كريم، أيدي الفقراء بالفضل منك وبالمنَّة وبالنِّعمة امتدت إليك، وبالنِّعمة تَنال القبول لديك، وبالنِّعمة تُضاعَف خيراتها، وبالنِّعمة تَدفع عنها الآفات، وبالنِّعمة تَجمعها في دائرة خير البريّات، وبالنِّعمة تَجمعها في أعلى الجنات، من غير سابقة عذابٍ ولا عتابٍ ولا فتنةٍ ولا حسابٍ ولا توبيخٍ ولا عقابٍ. 

بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ

 إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ 

الْفَاتِحَة

تاريخ النشر الهجري

05 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

27 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام