الأربعين في أصول الدين - 34 | تكملة: الزهد ، والصبر (1)

للاستماع إلى الدرس

الدرس الرابع والثلاثون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: تكملة شرح الأصل الثالث: الزهد (2)، الأصل الرابع: الصبر (1)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

مساء الثلاثاء 3 ربيع الأول 1447هـ

هل يُقاس الزهد بقلّة ما في اليد أم بخفّة ما في القلب؟ يتضمن الدرس بيان حقيقة الزهد الذي يعيد ترتيب علاقة القلب بالدنيا، وأصله الذي يوقظ البصيرة، وثمرتِه التي تورث خفة السير وطمأنينة النفس، ويفتتح بداية أصل الصبر وموضعه في طريق السالك..

 

نص الدرس المكتوب :

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، من كتاب (الأربعين في أصول الدين) للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، رضي الله عنه ونفعنا بعلومه وعلومكم وسائر علوم الصالحين في الدارين آمين، إلى أن قال:

فصل

[في بيان حقيقة الزهد وأصله وثمرته]

للزهد في الدنيا: حقيقة، وأصل، وثمرة.

أما حقيقته: فهو عزوف النَّفْسِ عن الدنيا، وانزواؤُها عنها طوعاً مع القدرة عليها.

وأصله: العلم والنُّورُ الذي يُشرِقُ في القلب حتى ينشرح به الصَّدرُ، ويَتَّضح بهِ أنَّ الآخرة خير وأبقى، وأن نسبة الدنيا إلى الآخرة أقل من نسبة خَزَفة إلى جوهرة.

وثمرته: القناعة مِنَ الدُّنيا بقَدْرِ الضرورة، وهو قَدْرُ زادِ الرَّاكِبِ.

فالأصل نور المعرفة، فيُثمِرُ حال الانزواء، ويظهر على الجوارح بالكفِّ إلّا عن قَدْرِ الضرورة في زاد الطريق، والضروري مِنْ زادِ الطَّرِيقِ: مَسكَنٌ، ومَلبَس، ومَطْعَمُ، وأثاث.

أمّا المَطْعَمُ: فلهُ طُولٌ، وعَرْضٌ.

أمَّا طُولُه: فبالإضافة إلى الزَّمانِ.

وأقصى درجاته: الاقتصار على دفع الجوع في الحال، فإذا دفعه غدوة.. لم يَدَّخِر شيئاً لعَشائِهِ.

وأوسطه: أن يَدَّخِر لِشهرٍ إلى أربعين يوماً فقط.

وأدناه: أن يَدَّخِرَ لسنة، فإن جاوز ذلك.. خرج عن جميع أبواب الزهد، إلا ألّا يكون له كسبٌ ولا يأخذ من الأيدي؛ كداود الطَّائي رحمهُ اللهُ؛ فإنَّهُ مَلَكَ عشرين ديناراً، فأمسكها وقنع بها عشرين سنةً، فذلك لا يُبْطِلُ مَقامَ الزُّهد ودرجته في الآخرة، إلَّا عِندَ مَنْ شرط التَّوكُّل في الزهد.

وأَمَّا عَرْضُهُ: فأقلُّهُ نصف رطل، وأوسطه رطل، وأعلاه مُدٌّ، والزيادة عليه تُبطل رتبة الزهد.

وأما الجنس: فأقلُّهُ ما يَقُوتُ ولو النُّخالة، وأوسطه خبزُ الشعير، وأعلاه خبز البُرِّ غير منخول، فإن نُخِل.. فهو تنعُّمٌ لا زهد.

وأمَّا الإدامُ: فأقلُّهُ الخَلُّ والبَقْلُ والمِلْحُ، وأوسطه الأدهان، وأعلاه اللحم، وذلك في الأسبوع مرّة أو مرّتين، فإذا دام.. لم يكن صاحبه زاهداً.

قالت عائشة رضي الله عنها: "كان يأتي أربعون ليلة وما يُوقَدُ في بيتِ رسولِ اللهِ ﷺ مِصباح ولا نار".

وقيل: "ما شَبِعَ رسولُ اللهِ ﷺ منذ قَدِمَ المدينة ثلاثةَ أَيَّامٍ مِنْ خبز البُرِّ".

وأَمَّا المَلبَسُ: فأقلُّهُ ما يَستُرُ العورة، ويدفع الحر والبرد، وأعلاه قميص وسراويل ومنديل مِنَ الجنس الخَشِنِ، ويكون بحيث لو غسل ثوبه.. لم يجد غيره.

فإن كان صاحب قميصين.. لم يكن زاهداً.

قال أبو بُرْدةَ: أخرجَتْ عائشة رضي الله عنها كساء مُلبَّداً، وإزاراً غليظاً، فقالَتْ: "قُبِضَ رسولُ اللهِ ﷺ فِي هذين".

وصلَّى رسولُ اللهِ ﷺ في خميصة لها أعلام، فلما سلَّمَ.. قالَ: "شَغَلَنِي النَّظَرُ إِلَى هَذِهِ، أَذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْم... ".

وكانَ شِراك نعلِهِ قد خَلُقَ، فَأُبدِلَ بِسَيرٍ جديدٍ، فَلَمَّا سَلَّمَ من صلاته.. قالَ: "أَعِيدُوا الشِّرَاكَ الْخَلَقَ؛ فَإِنِّي نَظَرْتُ إِلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ".

وكان عليه السَّلامُ قد احتذى نعلين جديدين، فأعجبه حسنُهُما، فخرَّ ساجداً، فقال: "أَعْجَبَنِي حُسْنُهُمَا، فَتَوَاضَعْتُ لِرَبِّي خَشْيَةَ أَنْ يَمْقُتَنِي"، ثمَّ خرج بهما فدفعهما إلى أوَّلِ مسكين رآهُ.

وقد عُدَّ على قميص عمر -رضي الله عنه- اثنتا عشرة رقعةً، بعضُها مِنْ أَدَمٍ.

واشترى علي -رضي الله عنه- في خلافته ثوباً بثلاثة دراهم، وقطعَ كُمَّيْهِ مِنَ الرُّسغَينِ، وقال: "الحمد لله الذي كساني هذا مِنْ رِياشِهِ".

وقال بعضُهم: "قوَّمتُ ثوبَ سفيان ونعلَه بدرهم وأربعة دوانيق".

وقال علي -رضي الله عنه-: "إِنَّ اللهَ -عَزَّ وجلَّ- أَخذَ على أَئِمَّةِ الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال النَّاسِ؛ ليقتدي بهم الغنيُّ، ولا يُزرِيَ بالفقير فقرُهُ".

وأمَّا المَسكَنُ: فأدناه أن يَقنَعَ بزاوية في مسجد أو رباط؛ كأهل الصُّفَّةِ، وأعلاه أن يطلب لنفسه موضعاً خاصاً -وهي حُجْرة- إما بشراء أو إجارة؛ بشرط: أَلَّا تزيد سعتُهُ على قَدْرِ الحاجة، ولا يرفع بناءَهُ، ولا يهتمَّ بتجصيصِهِ، وفي الأثر: "إِنَّ من رفع بناءَهُ فوق ستَّةِ أذرعٍ.. ناداهُ منادٍ: إلى أين يا أفسق الفاسقين ؟!".

ومات رسولُ اللهِ ﷺ ولم يضع لَبِنَةً على لَبِنَةٍ، ولا قَصَبَةً على قَصَبةٍ.

وقال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: مرَّ بنا رسولُ اللهِ ﷺ ونحنُ نُعالِجُ خُصّاً، فَقَال: "إِنَّ الْأَمْرَ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ".

واتَّخذ نوح عليه السَّلامُ بيتاً مِنْ خُصٍّ، فقيل له: "لو بنيتَ؟" فقال: "هذا كثيرٌ لِمَنْ يموتُ".

وقال ﷺ: "مَنْ بَنَى فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ .. كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

وقال ﷺ: "كُلُّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَا أَكَنَّ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ".

وأما أثاث البيت: ففيه أيضاً درجات.

وأدناها: حال عيسى بن مريم عليه السَّلامُ؛ إذ لم يكن معه إِلَّا مُشط وكُوزٌ، فرأى إنساناً يمشُطُ بأصابعه، فرمى المشط، ورأى آخر يشرب بيده، فرمى الكُوزَ.

وأوسطه: أن يستعمل مِنَ الجنس الخشن واحداً في كل غرض، ويجتهد أن يستعمل واحداً في أغراض.

قال عمر -رضي الله عنه- لعمير بن سعد وهو أمير حمص: "ما معَكَ مِنَ الدُّنيا؟" فقال: "معي عصاي أتوكَّأُ عليها، وأقتل بها حيَّةً إن لقيتُها، ومعي جرابي أحمل فيه طعامي، ومعي قصعتي آكل فيها، وأغسل رأسي وثوبي، ومعي مَطهرتي أحمل فيها شرابي ووَضوئي، فما كان بعد هذا مِنَ الدُّنيا.. فهو تبعٌ لِمَا معي"، فقال: "صدقت".

وقال الحسن: "أدركتُ سبعينَ مِنَ الأخيار ما لأحدهم إلَّا ثوبه، وما وضع أحدهم بينه وبين الأرض ثوباً".

وكان فِراشُ رسولِ اللهِ ﷺ الذي ينام عليه.. وسادةً مِنْ أَدَم حشوها ليفٌ، وعباءة مثنيَّةً خَشِنةٌ.

فهذهِ سيرةُ الزُّهَّادِ في الدنيا، فمن حُرِمَ هذه الرُّتبة .. فلا أقلَّ من أن يتحسَّر على فواتها، و يجتهد في أن يكون قربُهُ منهم أكثرَ من قربِهِ من المُتنعِّمينَ في الدنيا."

 

صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله، الحمد لله الذي يَمدُّ نظر أهل التوفيق لِما به الارتقاء إلى أعلى مراتب الدنو من حضرته، والفوز بالمُلْك العظيم الحقيق، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خَلَقَ الموت والحياة لِيبلُوَنا أيُّنا أحسن عملًا، واختبر العباد بما يَعرِضُ لهم في مسارهم في هذه الحياة؛ لِيُميِّزَ بين الفريقين؛ مَن جدَّ واجتهد واستعدَّ للمَعاد، ومن غفِلَ وذَهِلَ عن مهمّاته وواجباته فاشتغل بما يقطعه عن حسن المعاد وأطال أملًا، ونشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله إمام العارفين به، وسيد الزاهدين في كل ما سواه تعالى في علاه. أَدِم اللهم صلواتك على الرحمة المُهداةِ والنّعمة المُسداةِ، السراج المنير سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومن على منهجه سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين مَعادن الأنوار والأسرار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين.

ويتحدث الشيخ الإمام الغزالي -عليه رحمة الله- في هذا الأصل من المنجيات والأخلاق المحمودات: أصل الزهد؛ عن "حقيقة الزهد وأصله وثمرته". 

وقال: أن أصله هو: "العلم" 

  • العلم بالحقيقة، المُقترن بالنور "الذي يُشرِقُ في القلب".
  • العلم بزوال الدنيا؛ وأنها خُلِقَت اختبارًا.
  • العلم ببقاء الآخرة؛ وأنّ إليها المآل والمَرَدُّ حتمًا. 
  • والعلم بعظيم ما فيها؛ من درجات لأهل النعيم، ومن شدائد وأهوال ودركات لأهل الجحيم.       

إذا علم ذلك يقينًا؛ علمًا خَالَط قلبه، أشرق نُورٌ في قلبه يدعوه لأن يُؤثِر المُلكَ العظيم والنعيم المقيم، فيتعامل مع الفانيات تعامل من أدرك المراد منها، ومن استعملها واستخدمها فلم تستعمله ولم تستخدمه، ومَلَكَها فلم تملكه، هذا العلم هو أصل الزهد؛ بما اتّضح به للمؤمن: "أنَّ الآخرة خير وأبقى، وأن نسبة"؛ جميع ما في، "الدنيا إلى الآخرة أقل"؛ بكثير، "من نسبة خَزَفة إلى جوهرة"؛ وما من عاقل يؤثر الخزفة على الجوهرة، وهي لا تساوي عُشرَ عُشرِ عُشرِ عُشرِ ثَمَنِ الجوهرة، هذه الخزفة، معلوم.

هذا العلم يثمر حقيقة الزهد؛ وهو: "عزوف النَّفْسِ" عمّا لا تحتاج إليه ولا تستعين به على الخير والقرب من الله في الدنيا، شغلًا بالاستعداد لِـ اللقاء وإعداد الارتقاء للدرجات العُلا. 

فيثمر ذلك: "القناعة"؛ بما لا يعنيه، وبما لا يفيد وينفع ويساعد في السير إلى الله -تبارك وتعالى- فيكتفي بما يضطر إليه وما هو محتاج إليه، مثل: الراكب الذي يسافر فيأخذ معه الزاد الذي يمشي به في الطريق، ولا يكلّف نفسه حمل الأحمال التي لا يأكلها ولا يحتاج إليها في طريقه، وإلا صارت ثقل عليه والتعب، وربما قعد عن اللحاق بالركب، أو خسر بسبب الحمل الزائد الذي حمله معه، فهو يكتفي بالزاد الذي يستعمله في الطريق حتى يوصله إلى المقصد. 

قال: "فالأصل نور المعرفة، فيُثمِرُ حال الانزواء، ويظهر على الجوارح بالكفِّ إلّا عن قَدْرِ الضرورة في زاد الطريق"؛ والذي يضطر إليه الإنسان في الحياة: "مَسكَنٌ، ومَلبَس، ومَطْعَمُ، وأثاث"؛ وكل منها له حالات؛ ما بين دنيا ووسطى وعليا.

فيقول في المطعم: "فلهُ طُولٌ، وعَرْضٌ"؛ 

  • طوله بالإضافة إلى الزمان. 
  • وعرضه بالإضافة إلى مادته. 

يقول: "أمَّا طُولُه: فبالإضافة إلى الزَّمانِ، وأقصى درجاته"؛ وأعلاها: الاقتصار على ما يدفع الجوع في الحال، فإذا دفع جوعه غدوةً لم يدّخر شيئًا للمساء، هذا أعلى الدرجات. 

"وأوسطه: أن يَدَّخِر لِشهرٍ إلى أربعين يوماً"؛ ما يكفيه حدود الشهر إلى أربعين يومًا.

 "وأدناه:" أقله قالوا: "أن يَدَّخِرَ لسنة"؛ فإنه لبيان الجواز، أمسك ﷺ قوت بعض أمهات المؤمنين مدة سنة؛ ليُبين الجواز للناس، ومع ذلك فإنهم ينفقونه، حتى أتاه الضيف فبعث إلى أبياته التسعة فلم يوجد في كل منها إلا الماء، وليس فيها ما يطعم به الضيف، حتى أخذ الضيفَ بعضُ أصحابه وعشّاه بعشاء أولاده، كما هو مشهور في القصة، ونزل فيه قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9].

قال: فإذا ادّخر لأكثر من سنة "خرج عن جميع أبواب الزهد"؛ ما أدرك هذه المنزلة، ولم يكن في إثم ولا حرام، إلا: 

  • إن صَحِبَهُ شك في الرزق 
  • أو جزع لا يليق 
  • أو اعتماد واستناد لغير الله -تبارك وتعالى- 

وإلا لا يكون فيه الحُرمة، ولكنه لا يصل إلى درجة الزهد إذا كان يدّخر ما يكفيه أكثر من عام.

قال: "إلا ألّا يكون له كسبٌ؛ ولا يأخذ من الأيدي؛ كداوود الطَّائي رحمهُ اللهُ؛ فإنَّهُ مَلَكَ عشرين ديناراً"؛ مرّة جاءته إرث أو نحوه، "فأمسكها"؛ من أجل أن تكفيه، فكفته عشرين سنة، عشرين دينارًا لعشرين سنة، في السنة ينفق دينار واحد لحاجاته -عليه الرضوان-. 

قال: "فذلك لا يُبْطِلُ مَقامَ الزُّهد ودرجته في الآخرة، إلَّا عِندَ مَنْ شرط التَّوكُّل في الزهد"، ويقول: إنّ هذا يناقض التوكل، ولكن ليس مناقضًا له بكل وجه؛ إذا تركه من حيث أنّه حلال وميسّر له من وجه ظاهر للحِلِّ، وهو أيضًا يتفرّغ لشؤون التقرب إلى الرحمن مع النقاء والطهر، ولا يعرّض نفسه للشغل بالكسب وما إلى ذلك؛ فما يخرج عن دائرة الزهد في مثل هذا الحال: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة:220]، (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ) [البقرة:284]، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة:235].

قال: "وأَمَّا عَرْضُهُ"؛ يعني: مقدار المادة التي يتناولها، "فأقلُّهُ نصف رطل، وأوسطه رطل، وأعلاه مُدٌّ، والزيادة عليه"؛ ما عاد يكون زاهد، مُد كامل يأكله في اليوم. 

يقول: "وأما الجنس: فأقلُّهُ"؛ ما يغذّيه من أي شيء كان "ولو النُّخالة، وأوسطه خبزُ الشعير، وأعلاه خبز البُرِّ غير منخول"؛ أمّا إذا يُنخل البُّر… قال: كانوا الشعير لا ينخلونه، قالوا: ماذا تعملون به؟ قالوا: ننفخه فَيَفِرُّ ما يَفِر ونقشِّر الباقي. 

والآن اكتشفوا أن في قشر الشعير فوائد كثيرة صحية لجسد الإنسان، وفوائده.. قد كانوا أصحّاء والصحة عندهم معروفة إلى الأوقات القريبة قبل انتشار بعض هذه التَمَحْذُقَات في شؤون الصحة وما إليها، كان يُشاهد الرجل والمرأة يبلغون الثمانين والتسعين في الغالب، وغالبهم بصره جيد، وسمعه جيد، ولا يحتاج كرسي يجلس عليه، ولا يحتاج نظّارة يلبسها، الكثير، كثرة في ما قبل السبعين سنة والثمانين سنة.. 

وأيضًا من أدركناهم من الشيابة كانوا كثرة منهم بهذه الصورة، من دون استعمال شيء من الفيتامينات والأدوية هذه.. من المأكولات الصحية بحكم العادة التي يأكلونها، ومنه هذا قشر الشعير بأن يختلط به وكذلك البُر. والآن جاءوا لهم في تقدمهم وتطورهم بالدقيق الأبيض هذا، منزوع القشر والفوائد الغذائية كلها، وصاروا الآن يتحاشون منه في كثير من دول التقدم، ويشتهر عند بعض الأطباء أن: "الأبيضين" عَدُوَّا الصحة؛ الدقيق الأبيض والملح أو السكر، خصوصًا السكر المُصنّع، فأضراره كثيرة على البدن. 

قال: "وأمَّا الإدامُ: فأقلُّهُ الخَلُّ والبَقْلُ والمِلْحُ"؛ ونحوه، "وأوسطه الأدهان، وأعلاه اللحم"؛ ويستعمل اللحم يقول في حدود: "في الأسبوع مرّة أو مرّتين"؛ في الأسبوع؛ وهذا أصح للجسد. 

قال: "فإذا دام"؛ كل يوم يريد لحم، كل يوم يريد لحم، فما عاد يدخل في دائرة الزُّهّاد. قال: كما سمعتم قول سيدنا عمر لابنه: "كل يومًا خبزًا ولحمًا، ويومًا خبزًا وزيتًا، ويومًا خبزًا وسمنًا، ويومًا خبزًا وملحًا، ويومًا خبزًا خالصًا" بلا شيء؛ يعني: تعوّد ونَوِّع أكلاتك حتى لا يكون النوع العالي من الإدام هو الضروري لك. 

"قالت عائشة رضي الله عنها: كان يأتي أربعون ليلة وما يُوقَدُ في بيتِ رسولِ اللهِ ﷺ مِصباح ولا نار؛ قال: فما قوتكم؟ قالت: الأسودان؛ التمر والماء. و "ما شَبِعَ رسولُ اللهِ ﷺ منذ قَدِمَ المدينة ثلاثةَ أَيَّامٍ"؛ متوالية، "مِنْ خبز البُرِّ"، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

يقول: "وأَمَّا المَلبَسُ: فأقلُّهُ ما يَستُرُ -به- العورة، ويدفع الحر والبرد، وأعلاه قميص وسراويل ومنديل مِنَ الجنس الخَشِنِ، ويكون بحيث لو غسل ثوبه.. لم يجد غيره"؛ هذا في أعلى المراتب، كان عليها جماعة من الصحابة والتابعين وبعض الأخيار على ممر القرون. 

قال: "فإن كان صاحب قميصين"؛ خرج عن دائرة أهل الزهد.

"قال أبو بُرْدةَ: أخرجَتْ عائشة رضي الله عنها كساء مُلبَّداً، وإزاراً غليظاً، فقالَتْ: قُبِضَ رسولُ اللهِ ﷺ فِي هذين".

"وصلَّى رسولُ اللهِ ﷺ في خميصة لها أعلام"؛ بعد الصلاة أخرجها، وقال: "اذْهَبُوا بها إلى أبِي جَهْمِ، وائْتُونِي بأَنْبِجَانِيِّة أبِي جَهْمِ"؛ من فقراء الصحابة كان أبو جهم، قال: أنبجانيته التي يلبسها هاتوها لي وخذوا هذه له. "وكانَ شِراك نعلِهِ قد خَلُقَ، فَأُبدِلَ بِسَيرٍ جديدٍ، فَلَمَّا سَلَّمَ من صلاته.. قالَ: "أَعِيدُوا الشِّرَاكَ الْخَلَقَ"؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فيما جاء عند ابن المبارك. 

يقول: "عُدَّ على قميص عمر -رضي الله عنه- اثنتا عشرة رقعةً، بعضُها مِنْ أَدَمٍ"؛ يعني: من جلد، حتى القميص الذي قد دخل به بيت المقدس، لمّا فَتَحَ بيت المقدس، كان مُرقّعًا: فيه نحو أربعَ عشرة رقعة، فتح بيت المقدس ورجع، كان يمشي هو وخادمه من المدينة، يقول له: نوبة بنوبة؛ أحيانًا يُركب الخادم وهو يقود الجمل، وأحيانًا يركب هو الجملَ والخادمُ يقود، حتى لمّا وصلوا كانت النوبة عند الخادم فقال له: يا أمير المؤمنين تطلع، قال: نوبتك، اطلع أنت! ودخل يقود الجمل الذي عليه خادمه!.. -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-، الله يحفظ علينا بيت المقدس ومقدّساتنا وبلاد المسلمين من شر المعتدين والظالمين والغاصبين والمفترين.

قال: "واشترى علي رضي الله عنه في خلافته ثوباً بثلاثة دراهم، وقطعَ كُمَّيْهِ مِنَ الرُّسغَينِ". "وقال بعضُهم: قوَّمتُ ثوبَ سفيان ونعلَه بدرهم وأربعة دوانيق".

 قال سيدنا علي: "إِنَّ اللهَ عَزَّ وجلَّ أَخذَ على أَئِمَّةِ الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال النَّاسِ؛ ليقتدي بهم الغنيُّ، ولا يُزرِيَ بالفقير فقرُهُ". 

يا أهل المشاة القُـوى *** سيروا بسير الضعيف

وإلا خذوا ما مــــعه *** يمــشي وظهره خفيف

"سيروا بسير ضعفائكم".

قال: "المَسكَنُ: فأدناه أن يَقنَعَ بزاوية في مسجد أو رباط"؛ هذه قناعة أهل الصُّفَّة، يقعدون في زاوية في المسجد النبوي، يكونون ما بين ثمانين وإذا زادوا يصلون إلى ثلاثمائة. 

قال: "وأعلاه أن يطلب لنفسه موضعاً خاصاً -وهي حُجْرة- إما بشراء أو إجارة"؛ ما تزيد "على قَدْرِ الحاجة"

وذكر كراهة رفع البناء: "فوق ستَّةِ أذرعٍ"؛ يعني: الطابق، وذكر من حديث سيدنا أنس بن نعيم في الحُلية: "إذا بنى الرجل المسلم سبعة أو تسعة أذرع.. ناداه مناد من السماء: أين تذهب يا أفسق الفاسقين؟!". 

"وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: مرَّ بنا رسولُ اللهِ ﷺ ونحنُ نُعالِجُ خُصّاً، فَقَال: "إِنَّ الْأَمْرَ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ"".

"واتَّخذ نوح عليه السَّلامُ بيتاً مِنْ خُصٍّ، فقيل له: لو بنيتَ؟ فقال: هذا كثيرٌ لِمَنْ يموتُ"؛ مع أنه عَمَّرَ كم؟! فوق الألف.. كما عُمر كم مِنّا؟ حدود ألف ومائتين سنة عمره، المُدّة التي بقي بها من بعد نزول الوحي عليه إلى أن هلك قومه: تسعمائة وخمسين، قبلها كان؛ قبل نزول الوحي عليه، ثم بعد أن نزل من السفينة وأقام في الأرض؛ هذا حدود ألف ومائتين سنة عمر سيدنا نوح عليه السلام.

قالوا له: اِبْنِ لك بيت أقوى من هذا الذي تبنيه، قال: "هذا كثيرٌ لِمَنْ يموتُ". وقال: وسُئِلَ لمّا تُوفي، قال له بعضهم: كيف رأيت الدنيا يا نوح يا نبي الله؟ قال: "كَدار له بابان؛ دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر"، هذا عمره ألف ومائتين سنة، كما عُمر: أبي، وجدي، وجد أبي، وجد جدّي، وجد أبو جدي، و..، قرون كثيرة.. كلهم في عمر واحد! ومع ذلك رآها قصيرة.

فما أقصر الدنيا بالنسبة للدوام والبقاء المقبل على الجميع.. الله يجعل لنا محل مبارك في الدار الباقية إن شاء الله في قرب الشفيع ﷺ.

يقول: "وأثاث البيت" كذلك ذَكر فيه الدرجات، والأمر كله يعود إلى معنى من قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:76]. 

وذكر سيرة الزهد، "فمن حُرم هذه الرتبة"، أقل أي شيء يتحسر على فواتها ويغبط أهلها.. أما يغبط أهل الفضول وأهل المباهاة بالدنيا! فهذا يعرضه للحسرة الكبيرة في القيامة. وقال يشابههم في بعض الشيء ويتوسط في أموره.

 

فصل

[في بيانِ درجاتِ الزُّهدِ]

الزُّهدُ على درجاتٍ:

إحداها: أن يزهدَ و نفسُهُ مائلةٌ إلى الدنيا، و لكنْ يجاهدُها، و هذا مُتزهِّدٌ و ليسَ بزاهدٍ، و لكنْ بدايةُ الزُّهدِ التَّزَهُّدُ.

الثانيةُ: أن تنفِرَ نفسُهُ عن الدنيا و لا تميلَ إليها، لعلمِهِ أنَّ الجمعَ بينها و بينَ نعيمِ الآخرةِ غيرُ ممكنٍ، فتسمحُ نفسُهُ بتركِها، كما تسمحُ نفسُ مَنْ يبذُلُ درهماً ليشتريَ بهِ جوهرةً، و إنْ كانَ الدِّرهمُ محبوباً عندَهُ، و هذا زاهدٌ.

الثَّالثةُ: ألَّا تميلَ نفسُهُ إلى الدُّنيا و لا تَنفِرَ عنها، بل يكونُ وجودُها و عدمُها عندَهُ بمثابةٍ واحدةٍ، و يكونُ المالُ عندَهُ كالماءِ، و خزانةُ اللهِ تعالى كالبحرِ، فلا يلتفتُ قلبُهُ إليهِ رغبةً و نفوراً، و هذا هوَ الأكملُ؛لأنَّ الذي يُبغِضُ شيئاً و هوَ مشغولٌ بهِ كالَّذي يحبُّهُ، و لذلكَ ذمَّ الدُّنيا قومٌ عندَ رابعةَ العدويَّةِ، فقالتْ:" لولا قدْرُها في قلوبِكم .. ما ذممتُمُوها".

و حُمِلَ إلى عائشةَ -رضيَ اللهُ عنها- مئةُ ألفِ درهمٍ، فلم تَنفِرْ عنها، و لكنْ فرَّقتْها في يومِها، فقالَتْ خادمتُها: لوِ اشتريتِ بدرهمٍ لحماً تُفطرينَ عليهِ؟! فقالتْ: "لو ذكَّرتِني .. لفعلتُ".

فهذا هوَ الغنى، و هو أكملُ مِنَ الزُّهدِ، و لكنَّهُ مَظِنَّةُ غرورِ الحمقى، إذ كلُّ مغرورٍ يَستشعِرُ في نفسِهِ أن لا علاقةَ لقلبِهِ معَ الدُّنيا!! و علامةُ ذلكَ: ألَّا يُدرِكَ الفرقَ بينَ أن يُسرَقَ جميعُ مالِهِ،أو يُسرقَ مالُ غيرهِ، فما دامَ يُدرِكُ الفرقَ بينَ أن يُسرَقَ جميعُ مالِهِ، أو يُسرَقَ مالُ غيرِهِ، فما دامَ يدركُ التَّفرقَةَ .. فهوَ مشغولٌ بهِ.

 

فصل

[في بيانِ كمالِ الزُّهدِ]

كمالُ الزهدِ هو الزهدُ في الزهدِ، بألا يعتدَّ به ولا يراهُ منصباً، فإنَّ مَنْ تركَ الدُّنيا وظنَّ أنَّهُ تركَ شيئاً، فقد عظَّم الدُّنيا، إذِ الدُّنيا عِندَ ذوي البصائرِ .. لا شيءَ. وصاحبُها كمَن مَنَعَهُ عن دار المَلِكِ كلبٌ على بابِهِ، فألقى إليهِ لُقْمَةَ خُبزٍ و شَغَلَهُ بِها ودخَلَ دارَ المَلِكِ وجلسَ على سريرِ المَلِكِ. فالشيطانُ كلبٌ على بابِ اللهِ تعالى، والدُّنيا كلُّها أقَلُّ مِنْ لُقْمَةٍ بالإِضافةِ إلى المُلْكِ الأُخرَوِيِّ، إذِ اللُّقمَةُ لها نِسبَةٌ إلى المُلْكِ؛ إِذْ تفنى بأمثالِها، والآخرةُ لا يُتَصَوَّرُ أن تفنى بأمثالِ الدُّنيا؛ لأنَّها لا نهايةَ لها".

 

فصل

[في بيانِ درجاتِ الزُّهدِ باعتبارِ الباعثِ عليهِ]

الزُّهدُ باعتبار الباعثِ عليهِ .. على ثلاثِ درجاتٍ:

  • إحداها: أن يكونَ باعثُهُ الخوفَ من النَّارِ، و هذا زهدُ الخائفينَ.
  • الثَّانيةُ -و هيَ أعلى منها-: أن يكونَ باعثُهُ الرَّغبةُ في نعيمِ الآخرةِ، و هذا زُهدُ الرَّاجينَ، و العِبادةُ على الرَّجاءِ أفضلُ مِنها على الخَوفِ؛ لأنَّ الرَّجاءَ يقتضي المحَبَّةَ.
  • الثَّالثةُ -و هيَ أعلاها- :أنْ يكونَ الباعِثُ عليهِ التَّرَفُّعُ عنِ الالتفاتِ إلى ما سِوى الحقِّ؛ تنزيهاً للنَّفسِ عنهُ، و استحقاراً لِمَا سوى اللهِ تعالى، و هذا زُهدُ العارِفينَ، و هوَ الزُّهدُ المُحَقَّقُ، و ما قبلَهُ معاملةٌ؛ إذ ينزلُ صاحبُهُ عن شيءٍ عاجلاً؛ ليعتاضَ عنه أضعافَهُ آجِلاً.

 

فصل

[في بيانِ درجاتِ الزُّهدِ باعتبارِ ما فيهِ الزُّهدُ]

الزُّهدُ باعتبارِ ما فيهِ الزُّهدُ .. على درجاتً:

و كمالُهُ: الزُّهدُ في كلِّ ما سوى اللهِ تعالى في الدُّنيا و الآخرةِ.

و دونَهُ: الزّهدُ في الدُّنيا خاصَّةً دونَ الآخرةِ، ثُمَّ يدخُلُ فيهِ كلُّ ما فيهِ حظٌّ عاجِلٌ، و تَمَتُّعٌ في الدُّنيا ؛ مِنْ مالٍ و جاهٍ و تَنَعُّمٍ.

و دونَ ذلكَ : أنْ يزهدَ في المالِ دونَ الجاهِ، أو في بعضِ الأشياءِ دونَ البعضِ، و ذلكَ ضعيفٌ؛ لأنَّ الجاهَ أَلَذُّ و أشهى مِنَ المالِ، فالزُّهدُ فيهِ أَهَمُّ.

 

بيان درجات الزهاد: والزهد على درجات، منها:

  • درجة المتزهد: وهو غير الزاهد، وهو أن يزهد ونفسه مائلة، ولكنه يجاهدها، قال هذا ليس زاهد، إلا أن يكون له برودة على قلبه وعدم التفات أصلاً. وأما ما دام يتركها وهو مكابد ضافط عليها فهذا مُتزهِّدٌ، ولكنَّ التزهدُ بدايةُ الزهدِ يقول؛ "الحِلمُ بالتَّحَلُّمِ، والعِلْمُ بالتَّعَلُّمِ"، والزُّهْدُ بالتَّزَهُّد كذلك. 
  • الثاني: أن تنفر نفسه عن الدنيا ولا تميل إليها لعلمه أنه لا يُجمع بينها وبين الآخرة، ولِما تفوّت عليه من الخير، فتسمح نفسه بتركها، قال: هذا زهد.
  • ولكن فوقه ما هو أعلى منه: أن لا تميل نفسه للدنيا ولا تنفر عنها، بل يكون وجودها وعدمها عنده بمثابة واحدة؛ يكون المال عنده مثل الماء، خزانة الله تعالى كما البحر، فلا يلتفت قلبه إليها لا بالرغبة ولا بالنفور؛ قال: هذا الأكمل. 

لأن أيضًا من يتعلق ببغض شيء يكون مشغول به بعض الشيء؛ مشغول ببغضه، هذا لا يتعلق ببغضه ولا بحبه، معلّق بالله، فلا عاد يحبها ولا يبغضها الدنيا؛ إن جاءت وإن راحت كله سواء عنده، يصرفها في مصارفها.


فقيرهم حرٌّ وذو المال منفِقٌ *** رجاء ثواب الله في صالح السُّبل
لقد رفضوا الدنيا الغرور وما سعوا *** لها، والذي يأتي يبادَرُ بالبذل


"ذمَّ" ناس "الدُّنيا قومٌ عندَ رابعةَ العدويَّةِ، فقالتْ: لولا قدْرُها في قلوبِكم .. ما ذممتُمُوها"، ليش تشغلوا أنفسكم بها؟ إلا لأنها كبيرة عندكم قعدتم تذمون تذمون… ولأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو جاء أحد عندك جلس يأخذ منك وقت يقول لك: جناح البعوضة حقير، جناح البعوضة بنفخة تطيّره، جناح البعوضة ما يساوي شيء… إلى متى جناح البعوضة؟ خلاص مليت أنا كلام الدنيا ما يساوي جناح بعوضة، الدنيا الدنيا الدنيا… هي ما هي شيء أصلاً حتى تبالغ فيها هذه المبالغة.

 

لهذا يقول: من تركها وهو يظن أنه ترك شيء عظيم فهو معظّم لها! ولهذا قال واحد من أرباب الدنيا لزاهد من الصالحين، يقول له: يا زاهد. قال  الزاهد: بل أنت أزهد مني، أنا صاحب ثروة وأموال، كيف أنا أزهد منك؟ قال: أنت زهدت في الدرجات العلى، وزهدت في القرب من العلي الأعلى، وزهدت في مرافقة النبيين، هذا شيء خطير يُزهد فيه! أما أنا فزهدت فيما لا يساوي جناح بعوضة.. زهدي كله إنما في شيء حقير، أما أنت زهدت في الأشياء الكبيرة، زهدت في المُلك الكبير، زهدت في مرافقة النبيين، زهدت في الدرجات العلى عند الرب؛ أنت أزهد منّي أما زهدت في ماذا؟ زهدت في شيء حقير يذهب ويتلاشى ويفنى، لكن أنت أزهد مني! فكانت عبرة له. لا إله إلا الله…

و "هذا هوَ الغنى، و هو أكملُ مِنَ الزُّهدِ"، "حُمِلَ إلى عائشةَ رضيَ اللهُ عنها مئةُ ألفِ درهمٍ، فلم تَنفِرْ عنها، لكن أخذتها وفرّقتها في نفس اليوم، وهي صائمة كانت وتفطر على تمرات، قالت لها الخادمة: لو تركتِ درهم واحد من هذه التي فرقتِها اليوم نشتري لك به لحم تفطرين عليه؟ قالت: لو ذكرتِني وباقي شيء منها نعم.. ليست ملتفتة إليها، تعلمَتْ هذا منه ﷺ، لأنه قد حصل لها مثل هذا معه -عليه الصلاة والسلام- في حياته، قالت: لو تركتَ لنا درهماً نفطر عليه يا رسول الله لحم، قال لها: لو ذكرتيني لفعلت. فسرى إليها الوصف.

 

قال: "وكمالُ الزهدِ بألا يعتدَّ به ولا يراهُ منصباً"، لأنه زهد في شيء حقير يعني؛ عرف حقارة الدنيا. وهكذا قال: فإذا واحد بيدخل عند الملك ويتحدث معه ويُجلسه على سريره، فحصّل كلب في الطريق بيمنعه، فرمى له لقمة شغله بها، فراح يشتغل بها، ودخل بعدين يقول: أنا بذلت لقمة.. أنا زهدت في لقمة، أنا رميت لقمة، لقمة؟ أنت دخلت عند الملك، وأجلسك على سريره إيش من لقمة!! إيش تساوي اللقمة عنده هذا؟ّ قالوا: الشيطان والدنيا هذا الكلب، الشيطان كلب على باب الملك، ملك الملوك، ربك بيقربك ويدنيك إليه، والدنيا أقل من لقمة بالنسبة للآخرة. الدنيا كلها بالنسبة للآخرة أقل من لقمة. قال: خله يلعب باللقمة، وأنت ادخل عند الملك، ولا تقول أنا أعطيت لقمة، أنا تصدقت بلقمة، أنا وصلت المقام باللقمة… لقمة ما تساوي شيء بالنسبة لما أنت طالبه!..  أرانا الله الدنيا كما أراها عبادَه الصالحين، وأرانا الآخرة كما أراها عبادَه الصالحين، ورزقنا قصدَه في كل شأنٍ وفي كل حين، اللهم آمين.

  قال: و"كمالُ الزهدِ هو الزهدُ في الزهدِ"، بأن لا يعتد بنفسه شيئاً، ويقول اللقمة لها نسبة إلى المُلك تُفنى بأمثالها، والآخرة لا يُتصوّر أن تفنى بأمثال الدنيا، فهي أحقر؛ فالدنيا بالنسبة للآخرة أحقر من اللقمة بالنسبة للدنيا. 

الزُّهدُ باعتبارِ الباعثِ عليهِ ثلاثُ درجاتٍ: 

  • إما أن يكون باعثه الخوف من الحساب والعذاب والنار، قال: "هذا زهدُ الخائفينَ"
  • أو يكون الباعث عليه الرغبة في الدرجات والقرب، "هذا زُهدُ الرَّاجِينَ"، وهو أعلى. 
  • ولكن أعلى منه أن يكون الباعث على الزهد الترفع عن الالتفات إلى ما سوى الحق، تنزيهًا للنفس عنه واستحقارًا لما سوى الله، "هذا زُهدُ العارِفينَ"

  قال: "هذا الزُّهدُ المُحَقَّقُ، والذي قَبْلَه معاملةٌ" ينال صاحبه بها شيء من الخير، ولكن هذا الذي عرف الحقيقة، وحلَّ طلب ربّه وتعظيم ربِّه وإرادة ربِّه وقَصْدُ ربِّه من قلبه كل محل ما عاد أبقى له شيء ثاني، هذا هو الأعلى الرفيع.

 

فصل

[في بيانِ فضلِ الفقيرِ و ما جاءَ فيهِ مِنْ نصوصٍ]

الزُّهدُ: أنْ تنزويَ عنِ الدُّنيا طَوعاً معَ القدرةِ عليها، أمَّا إِنِ انزوتِ الدُّنيا عنكَ و أنتَ راغِبٌ فيها .. فذلكَ فقرٌ و ليسَ بزهدٍ.

و لكنْ للفقيرِ أيضاً فضلٌ على الغنيِّ؛ لأنَّهُ مُنِعَ عنِ التَّمتُّعِ بالدّنيا قهراً، وهوَ أفضلُ ممَّن مُكِّنَ منَ الدُّنيا و التَّمتُعِ بها حتَّى أَلِفَهَا واطمَأَنَّ إليها ولمْ يتجافَ قلبُهُ عنها، فيعظُمُ عليه الألمُ والحسرةُ عند الموتِ، وتكونُ الدُّنيا كأنَّها جنَّتُهُ، وتكونُ كأنَّها سِجْنُ الفقيرِ إذْ يشتهي الخَلاصَ مِنْ آلامِهَا.   

و الفقرُ من أسبابِ السعادةِ؛ قال النَّبيُّ ﷺ:" إنَّ الله تعالى يحمي عبدَهُ المؤمنَ عن الدُّنيا و هُوَ يُحِبُّهُ كما يحمي أحدُكُمْ مَرِيضَهُ الطَّعامَ وَ الشَّرابَ".  

وَ قالَ: "يَدْخُلُ فُقَراءُ أُمَّتي الجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ .. بِخَمْسِ مِئَةِ عَامٍ".

و قالَ: "خيرُ هذِهِ الأُمَّةِ فُقَرَاؤُها".

وَ قالَ ﷺ: " إذا رأيتَ الفَقرَ مقْبِلاً .. فَقُلْ: "مرحباً بِشِعارِ الصّالِحِينَ، وَ إِذَا رأيتَ الغِنى مُقْبِلاً .. فَقُلْ: ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ"

و قالَ موسى عليه السلام:  يا ربِّ؛ من أحِبَّاؤُكَ مِنْ خَلْقِكَ؛ حتَّى أُحِبَّهُم لأَجْلِكَ؟ فَقَالَ : كُلُّ فقيرٍ فقيرٍ.

و اعلمْ: أنَّ الفقيرَ إنْ كانَ قانِعاً بما أُعطِيَ، غيرَ شديدِ الحِرْصِ على الطَّلَبِ .. فدرجتُهُ قريبةٌ مِنْ درجةِ الزَّاهدِ.

قال ﷺ: "طوبى لِمَنْ هُدِيَ للإِسلامِ ، و كانَ عَيْشُهُ كَفافاً ، وَ قَنِعَ بِهِ". 

و قال ﷺ : "الفقراءُ الصُّبَّرُ هم جُلَساءُ اللهِ تعالى".

و قال ﷺ: "أحَبُّ العبادِ إلى اللهِ تعالى..الفقيرُ القانِعُ".

وأوحى اللهُ تعالى إلى إسماعيلٓ -صلوات الله عليه و سلامُهُ- :"اطلُبني عندَ المنكسرةِ قلوبُهُم"، قال: "ومٓنْ هُمْ؟" قال: "الفقراءُ الصّٓادقونٓ".

وعلى الجُملةِ: إنما يَعظُمُ ثوابُ الفقيرِعندَ القناعةِ والصبرِ والرِّضا، والصَّبرُ على الفقرِ مبدأُ الزُّهدِ، و لا تتمُّ هذه المقاماتُ إلا بالصَّبرِ، فلْنذكرْهُ.

 

الأصل الرابع

في الصبر

"قال تعالى: (وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال:46]. وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم، فقال عز من قائل:

(أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة:157]. 

و قال تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل:96].

و قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ )[السجدة:24].

و قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر:10].

و ذكر الله سبحانه في القرآن الصبر في نيفٍ و سبعين موضعاً.

و قال النبي ﷺ:" الصبر نصف الإيمان". 

و قال: "من أقل ما أوتيتم.. اليقين، وعزيمة الصبر، و من أُعطِيَ حظَّهُ منهما لم يبالِ بما فاته من قيام الليل و صيام النهار".

و قال: "الصبر كنز من كنوز الجنة".

و سئل رسول الله ﷺ مرة عن الإيمان فقال: "هو الصبر".

و قال عيسى عليه السلام: إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون."

 

اللهم صل على سيدنا محمد وآله. هكذا يذكر الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ما الذي فيه الزهد؟ 

قال: "كمال الزهد في كل ما سوى الله جلّ جلاله"، فيكون مراده الله، وقصده الله، ووجهته إلى الله، وطلبه رضوان الله -سبحانه وتعالى- قال: "فهذا كماله، ودونه الزهد في الدنيا خاصة دون الآخرة"، يكون راغب بما عند الآخرة. ولكن أيضاً الرغبة في الآخرة على درجات، بعضها يكون ألصق بإرادة الحق -تبارك وتعالى- ومن لاحظ منها فقط مقايسة ما يتنعّم به في الدنيا ليُنعّم جسده في الآخرة، فهذا ناقص وساقط. 

وبعد ذلك أن يزهد في المال دون الجاه، أو في بعض الأشياء دون بعض، وهذا أضعف ما يكون فيما ينسب إلى الزهد. قال: و"الجاهَ أَلَذُّ و أشهى مِنَ المالِ" ورفضه أصعب الأشياء. وكثير من الناس يقوون على رفض المال، لكن الجاه والمنزلة يصعب رفضهان رفض الجاه الذي رفضه أصعب الأشياء.

 

وبعد ذلك ذكر لنا ما ورد في فضل الفقير من النصوص، وقال: "أنْ تنزويَ عنِ الدُّنيا طَوعاً معَ القدرةِ عليها، أمَّا إِنِ انزوتِ الدُّنيا عنكَ و أنتَ راغِبٌ فيها، فذلكَ فقرٌ و ليسَ بزهدٍ.". لكن الفقير أيضًا له فضل على الغني إذا: 

  • لم يكن جزوع 
  • ولا متبرّم بما هو فيه 
  • ولا ملتفت لما في أيدي الناس

 قال: "وهوَ أفضلُ ممَّن مُكِّنَ منَ الدُّنيا و التَّمتُعِ بها حتَّى أَلِفَهَا واطمَأَنَّ إليها ولمْ يتجافَ قلبُهُ عنها" فيكون حسرته عند الموت أشد، لأنه ألفها واطمأن إليها. 

وقال: قد يكون "الفقر من أسباب السعادة"، فإن بعض الدنيا الذي يلهي ويغوي، يحمي ربنا المؤمن عنه كما يحمي أهل المريض مريضهم عن الطعام الذي يضرّه والشراب الذي يضره، فيحمونه عنه رحمةً به ومحبةً له. 

وهكذا ما جاء في دخول الفقراء قبل الأغنياء إلى الجنة. وما جاء أيضًا أن سيدنا موسى قال للرحمن: "من أحِبَّاؤُكَ مِنْ خَلْقِكَ؛ حتَّى أُحِبَّهُم لأَجْلِكَ؟ فَقَالَ: كُلُّ فقيرٍ فقيرٍ"؛ كيف فقير فقير؟ يعني متحقق بالفقر، وفقير شديد الحاجة وهو قانع وهو مكتفٍ بعلم الله تعالى، وهو عزيز النفس. قال: "إنْ كانَ قانِعاً بما أُعطِيَ، غيرَ شديدِ الحِرْصِ على الطَّلَبِ" فهو من مثل الزهّاد، "فدرجتُهُ قريبةٌ مِنْ درجةِ الزَّاهدِ." 

"طوبى لِمَنْ هُدِيَ للإِسلامِ، و كانَ عَيْشُهُ كَفافاً، وَ قَنِعَ بِهِ". وفي صحيح الإمام مسلم: "قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً وقنّعه الله بما آتاه". 

  • "أفلح"؛ أي: سعِد ونال الفوز والسعادة. 
  • "من أسلَم ورُزِق كفافاً"؛ أي" مقدار الحاجة. 
  • "وقنّعه الله بما آتاه". 

وفي الحديث: "" الفقراءُ الصُّبَّرُ هم جُلَساءُ اللهِ تعالى"، "أحَبُّ العبادِ إلى اللهِ تعالى..الفقيرُ القانِعُ". "وأوحى اللهُ تعالى إلى إسماعيلٓ -صلوات الله عليه و سلامُهُ- :اطلُبني عندَ المنكسرةِ قلوبُهُم" من أجلي، "قال: ومٓنْ هُمْ؟ قال: الفقراءُ الصّٓادقونٓ".

 

قال: "يَعظُمُ ثوابُ الفقيرِعندَ القناعةِ والصبرِ والرِّضا"، فـ "الصَّبرُ على الفقرِ مبدأُ الزُّهدِ"، فتكلم عن الصبر وما ورد فيه.

قال تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46]، جمع للصابرين… يقول سيدنا عمر بن الخطاب: "نعم العدلان ونعمت العلاوة"؛ عدلان وعلاوة: 

  • قال سبحانه وتعالى: (أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ) عدلان. 
  • (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) علاوة. 

"نعم العدلان ونعمت العلاوة". قال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157]. وإذا أقبل الملائكة على أهل الجنة في غرفهم ودخلوا عليهم من أبواب غرفهم، ما يذكرون لهم من أوصافهم إلا الصبر: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:23-24].

وقال الحق: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر:10]، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة:24].

ويقول ﷺ: "الصبر نصف الإيمان". ويقول: "من أقلّ ما أوتيتم"؛ يعني: يناله القليل منكم "اليقين، وعزيمة الصبر، و من أُعطِيَ حظَّهُ منهما لم يبالِ بما فاته من قيام الليل و صيام النهار"، إذا عنده يقين وعزيمة صبر. 

و قال: "الصبر كنز من كنوز الجنة"، "و سئل رسول الله ﷺ مرة عن الإيمان فقال: "هو الصبر"."

يقول: "إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون". 

قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). [العصر]. وسيأتي بعد ذلك البيان عن شؤون الصبر ودرجاته عند الله.

قال الإمام الحداد:

يا صابراً اصبر وبشّر من صبر *** بالنصر والفرج القريب وبالظفر

 

نال الصبور بصبره ما يرتجي *** وصَفَت له الأوقات من بعد الكدر

يقول:

وكم محنةٍ كابدتها وبليةٍ  ***  إلى أن أتانا الله بالفتح والنصر

صبرت لها حتى انقضى وقتها الذي *** به وُقّتت في سابق العلم والذكر

ولو أنني بادرتها قبل تنقضي *** بما تقتضيه النفس في حالة العسر

من الجزع المذموم والغمّ والأسى *** لكنتُ قد استجلبتُ ضرًّا إلى ضرِّ

وكتب بعضهم يعزي بعض من مات عليه بعض أقاربه، قال: إعلم إنك إن صبرت نفذ قضاء الله وأنت مأجور، وإن جزعت نفذ قضاء الله وأنت مأزور! القضاء سينفذ على كل حال لكن أنت إما تكون مأجور أو مأزور،  فإن صبرت نفذ قضاء الله وأنت مأجور، وإن جزعت نفذ قضاء الله وأنت مأزور. لا إله إلا الله…

قال عبد الله بن عباس: لما توفي والدي العباس ما عزاني أحد مثل ما عزاني به أعرابي. قال لي: 

اصبر نكن بك صابرين فإنما *** صبر الرعية بعد صبر الراسِ 

خيرٌ من العباس صبرك بعده *** والله خيرٌ منكَ للعباس

أنت أحسن أم ربك؟ هو راح عند ربه، أنت أحسن أم ربك؟ الله خيرٌ منك للعباس…

وخير من وجود أبوك العباس عندك.. صبرك من بعده وقيامك بالخُلُق الكريم فهذا أحسن من وجوده، وربك أحسن له منك أنت والله خيرٌ منك للعباس…. رحمة الله عليه.

وكم محنةٍ كابدتها وبليةٍ  ***  إلى أن أتانا الله بالفتح والنصر

صبرت لها حتى انقضى وقتها الذي *** به وُقّتت في سابق العلم والذكر

ولو أنني بادرتها قبل تنقضي *** بما تقتضيه النفس في حالة العسر

من الجزع المذموم والغمّ والأسى *** لكنتُ قد استجلبتُ ضرًّا إلى ضرِّ

وما جزع الإنسان في حالة البلا *** سوى تعبٍ في الحال يذهبُ الأجر

 

ويقول:

هَوِّن عليك نوائب الدهر*** يَهُن عليك كلُّ ما يجري

وكُن للّطف الله مستنظرًا *** من حيث لا تدريه أو تدري

فكم له من فرجٍ عاجلٍ*** يكشف البأساءَ والضُّرِّ

فحسِّن الظنّ بمولاك في الــ*** أحوالِ من يُسرٍ ومن عُسرِ

وروِّحْ القلب برَوْح الرضا *** تعيشُ في أُنسٍ وفي بِشرِ

وكن من الشكر على غايةٍ *** إن النعيم الصِّرْفَ في الشكرِ

نعم وعوِّل في جميع الأمور *** ما دُمتَ في الدنيا على الصبر

لازلت في الدنيا؟ إذًا عوّل على الصبر.. ما تتجاوز الدنيا أبدًا.. إذا جئت للعيش الهنيء نعم، أما ما دمت في الدنيا، عليك بالصبر.

نعم وعوِّل في جميع الأمور *** ما دُمتَ في الدنيا على الصبر

فإنها دار المحن والأسى *** من غير ما شكٍّ ولا نُكْرِ

طوبى لمن جانبها واتّصف *** بالزهد فيها مدة العمر

يا رب وفقنا وسدد وكُن *** عونًا لنا في السِرِّ والجهر 

واغفر لنا والطُف بنا دائمًا *** واختم لنا بالخير والبِرِّ

 آمين اللهمّ آمين. 

سؤال:

ما الفقر الذي تُعوّذ منه؟

الفقر المقرون بالجزع والتبرّم والضجر، أو المؤدي إلى ارتكاب الكذب أو الغش أو المداهنة في الدين أو السرقة أو وغير ذلك؛ هذا الفقر المُتَعوَّذ منه. والفقر المحمود الذي يصحبه الرضا والسلامة والطمأنينة وهكذا… 

 

الله يرزقنا الاستقامة، ويُتحفنا بالكرامة، وينعِم علينا بفضله بما هو أهله. ويكتبنا في ديوان أهل الصدق من خيار الخلق.

 إلى حضرة النبي محمد

 اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه 

الفاتحة.

تاريخ النشر الهجري

04 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

26 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام