(370)
(606)
(339)
(535)
الدرس الثالث والثلاثون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الرابع: الأخلاق المحمودة: تكملة شرح الأصل الأول: التوبة (2)، الأصل الثاني: الخوف، الأصل الثالث: الزهد (1)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر الثلاثاء 3 ربيع الأول 1447هـ
ما الذي يُثبّت التوبة حين تتكاثف العوائق؟ وكيف يهدي الخوفُ القلبَ بدون أن ينقلب قنوطًا؟ يتابع الحبيب عمر بن حفيظ مباحث التوبة وترتيب محاورها، ثم بيان الخوف وموضعه في سَير القلب، وبداية الزهد: معناه العام وحدوده الأولى وعلاقته بترك الفضول لا ترك النِّعَم..
بسم الله الرحمن الرحيم
وبِسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
فصْلٌ
في الكلامِ على الصغائرِ مِنَ الذنوبِ
"التَّوبةُ عنِ الذُّنوبِ كلِّها مُهِمَّةٌ واجبةٌ، وعنِ الكبائرِ أهمُّ، والإصرارُ على الصَّغيرةِ أيضاً كبيرةٌ؛ فلا صغيرةَ معَ إصرارٍ، ولا كبيرةَ معَ رجوعٍ واستغفارٍ.
وتواترُ الصَّغائرِ عظيمُ التَّأثيرِ في تسويدِ القلبِ، وهوَ كتواترِ قطراتِ الماءِ على الحَجَرِ؛ فإنّهُ يُحدِثُ فيهِ حفرةً -لا محالةَ- معَ لينِ الماءِ وصلابةِ الحجرِ.
وتعظمُ الصَّغيرةُ بأسبابِ:
أحدُها: أنَ يَستصغِرَها العبدُ، ويَستهِينَ بها، فلا يَغتمَّ بسببِها.
قالَ بعضُهم: الذَّنبُ الذي لا يُغفَرُ.. قولُ العبد: ليتَ كلَّ شيءٍ عملتُهُ مثلُ هذا.
الثَّاني: السُّرورُ بها، والتَّبجُّحُ بسببِها، واعتقادُ التَّمكُّنِ منها نعمةً، حتَّىٰ إنَّ المذنبَ ليَفخَرُ فيقولُ: ما رأيتَني كيفَ شتمتُهُ؟!وكيفَ مَزَّقتُ عِرْضَهُ؟! وكيفَ خدعتُهُ في المعاملةِ؟! وذلكَ عظيمُ التَّأثيرِ في تسويدِ القلبِ.
الثَّالثُ: أن يتهاونَ بسَترِ اللهِ تعالى عليهِ، ويظنَّ أنَّ ذلكَ لكرامتِهِ عندَ اللهِ تعالى، ولا يدري أنَّهُ ممقوتٌ، وقد أُمهِلَ ليزدادَ إثماً، فيكونَ في الدَّركِ الأسفلِ مِنَ النَّارِ.
الرَّابعُ: أن يُجاهِرَ بالذَّنبِ ويُظهِرَهُ، أو يذكرَهُ بعدَ فعلِهِ، وفي الخبرِ: كُلُّ ٱلنَّاسِ مُعَافىً إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ.
الخامسُ: أن تَصدُرَ الصَّغيرةُ مِنْ عالِمٍ يُقتدَىٰ بهِ، فذلكَ عظيمٌ؛ لأنَّها تبقىٰ بعدَ موتِهِ، فطُوبىٰ لِمَنْ ماتَ وماتَتْ معَهُ ذنوبُهُ، ومَنْ سَنَّ سُنَّةً سِيِّئةً.. فعليهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عملَ بها إلى يومِ القيامةِ.
ورُوِيَ: أنَّ بعضَ علماءِ بني إسرائيلَ تابَ عن ذنوبهِ وبدعتِهِ، فأوحى اللهُ تعالىٰ إلى نبيِّ زمانِهِ: إنّ ذنبَكَ لو كانَ فيما بيني وبينَكَ.. لغفرتُهُ لكَ، ولكنْ كيفَ بمَنْ أضللتَ مِنْ عبادي فأدخلتَهُمُ النَّارَ؟!.
وعلى الجملةِ: فلا باعثَ على التَّوبةِ إِلَّا الخوفُ الصَّادرُ عنِ البصيرةِ والمعرفةِ، فلنذكرْ فضيلة الخوفِ".
الأصل الثّاني
في الخوف
"وقد جمعَ اللهُ تعالىٰ للخائفينَ الهدىٰ والرَّحمةَ والعلمَ والرِّضوانَ، وناهيكَ بذلكَ فضلاً؛ فقالَ تعالىٰ: (هُدًى وَرَحمَةٌ لِلَّذينَ هُم لِرَبِّهِم يَرهَبونَ) [الأعراف:154].
وقالَ: (إِنَّما يَخشَى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَمٰٓؤُاْ) [فاطر: 28]. وقالَ تعالىٰ: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم وَرَضوا عَنهُ ذلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ) [ البينة:8]
وقالَ ﷺ: "رَأْسُ الْحِكْمَةِ . . مَخَافَةُ اللهِ".
وقالَ: "مَنْ خَافَ ٱللهَ تَعَالَىٰ.. خَوَّفَ ٱللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَنْ خَافَ غَيْرَ اللهِ تَعَالَىٰ.. خَوَّفَهُ اللهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ".
وقالَ ﷺ: "قَالَ اللهُ تَعَالَىٰ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي؛ لَا أَجْمَعُ عَلَىٰ عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ ؛ فَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا، أَخَفْتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا.. أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"".
الحمد لله مُكرمنا بالبيان لسلوك الطريق إليه على خير اتزان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، استوى في علمه السر والإعلان، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أنزل عليه القرآن، وخصصه بعطاياه ومنحه الرزان. اللهم أدِم صلواتك على أكرم الخلق عليك، سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن تبعهم بإحسان وعلى منهجهم سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الأنوار والأسرار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
يذكر لنا الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- وجوب التوبة عن جميع الذنوب، ثم ملازمتها -كما أشرنا- على وجه الرقي والندب والاستحباب لأهل المقامات والمراتب العُلا؛ وإن تنقوا عن الكبائر وعن الصغائر من الذنوب، وعن المكروهات، وعن الشبهات، فلا يزالون مترقّين في عليّ الدرجات، يقول: "التَّوبةُ عنِ الذُّنوبِ كلِّها مُهِمَّةٌ واجبةٌ"، صغيرها وكبيرها، سرّها وعلانيتها. وقال: "والإصرارُ على الصَّغيرةِ أيضاً كبيرةٌ"، المعصية الصغيرة الإصرار عليها، والعزم على العود إليها، والقيام بها كبيرة من الكبائر يحوّلها. "فلا صغيرةَ معَ إصرارٍ"، فكل ذنب صغير مع إصرار صاحبه عليه يعود إلى كبير، ويعود إلى إثم كثير، "ولا كبيرةَ معَ رجوعٍ واستغفارٍ"، إذا أُكرم صاحب المعصية الكبيرة بالندم والرجوع إلى ربه -سبحانه وتعالى- واستغفاره وصدق اللجأ إليه فلا كبيرة، فيُبدّل السيئات حسنات -جل جلاله-.
قال: "وتواترُ الصَّغائرِ -الاستمرار فيها كل يوم كل يوم كل يوم- عظيمُ التَّأثيرِ في تسويدِ القلبِ". قال: مثل ما ترى القطرة من الماء، والماء لين خفيف ما يؤثر، حتى تقول كذا بإصبعك وبيدك، ولكن هذه القطرة الخفيفة إذا استمر تواترها على حجرة صماء كبيرة قوية، تبدأ بالحفرة فيها وتحفرها، ثم بعد مدة تجد حفرة عميقة من القطرة هذه لأنها توالت. أما أول يوم، ثاني يوم ما يظهر شيء؛ لكن إذا توالت وإذا بها تحفر، وكذلك الصغائر إذا توالت واستمرت تؤثر في القلوب تأثير إبعاد، وإفساد وإظلام لها -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
قال: والصغائر تكبر بأسباب، المعصية الصغيرة تصير كبيرة بأسباب تلصق بها، فتحولها إلى كبيرة، فذكر لنا خمسة، قال:
ويراها كأنها ليست بشيء حين يفعلها، فهذا يعظّم إثمها ويكبر وزرها، لأنه استهان بها. أتدري هي معصية لمن؟ تعصي بها من؟ هي صغيرة، تعصي بها من؟ تعصي بها كبير، تعصي بها العليّ العظيم، كيف تستهين بها؟ فالإستِهانة بها من أسباب تكبيرها، وتكبير إثمها ووزرها -والعياذ بالله تعالى-. ولذا قال: "الذَّنبُ الذي لا يُغفَرُ.. قولُ العبد: ليتَ كلَّ شيءٍ عملتُهُ مثلُ هذا"، وهو معصية! كيف مثل هذا؟ يعني هذا أنت راضٍ به!؟ تعامل الله به! فإذًا لا يغفره لك، طالما تتمنّى أنه مثله -فالعِياذ بالله تعالى-، ولهذا قالوا: المؤمن يرى ذنبه كجبل فوق رأسه يخاف وقوعه عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا فأطاره. فرق بين المؤمن والمنافق، المؤمن يعظم عنده خطر الذنب صغيره وكبيره، ويعلم أنه ماله ملجأ إلا إلى الرب العزيز فيندم ويتوب ويخاف.
وأشد من هذا وهو عدم المبالاة بها، أشد من هذا أن يعمل صغيرة ويفرح بها، أو فوق الفرح يتبجح بها، فتتحول إلى كبيرة، مجرد التهاون بها أو الاستخفاف يحولها إلى كبيرة، فكيف بالسرور بها والتبجح بها؟ ويظن أن تمكنه منها كأنها نعمة، وهي نقمة رماك في القاذورات وتعدّها نعمة؟! أبعدك عن بابه وتعدّها نعمة؟ أوقعك في مخالفته! يقول لصاحبه: شفت كيف شتمته؟ سببته؟ نزلته؟ طلعته؟ شفت ! فرحان بأنه سبّ، يتحوّل إلى ذنب كبير، يعظم الذنب، عادك فرحان مفتخر أنك تعرف تسب! سباب المسلم فسوق، يعني أتقنت الفسق يا قليل الأدب! وتفرح بذلك بدل ما تندم وتستغفر، وتقول هتكت عرض أخي المؤمن، عار عليّ. يقول: رويته شغله وعملته، زرّعته طلعته نزلته، مسحت به الأرض، هذا فخر لك؟! هذه أعمال السَّقَطة والفاسقين وأنت تفتخر بها! أين أنت من أعمال المقرّبين والعقلاء والصادقين؟
هذا هو الفخر، هذه ميزات المقرّبين، وأنت تفتخر بميزات الفسّاق! وصفات الساقطين من عين الخلّاق! فيعظم بذلك أثر الذنب، ويعظم تسويد القلب به، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ويقول: شوف كيف خدعته، خليته أبله لا يعرف شيئًا، وأنا أخذت البضاعة عليه، تخادع المؤمن ورأى نفسه ذكي وشاطر؟ وأنت إلا شيطان! لأن استعمال المكر والخديعة في الوصول للأغراض فِعل إبليس، وأنت إبليسي كبير الآن، بأي شيء تفتخر؟ بأي شيء تفتخر؟ هذا اختلال الميزان عند الإنسان إذا غفل عن الرحمن يختل ميزانه.
وكأنه غير مؤاخذ بالذنوب، نقول له: عيب عليك، إذا سترك فاستحي منه وارجع إليه، وقل: يا رب لا أعود ولك الحمد على ما سترت، وأدم الستر علي، ولا تفضحني في الدنيا ولا تفضحني في الآخرة، أما أن يرتب لك إبليس ونفسك أنك أنت بمكانة عند الله ما عليك شيء اعمل كيف! كيف! هذا الذي ما أَذِن به لنبي ولا لصديق مقرب، أنت من أين جاء لك الإذن هذا؟ -والعياذ بالله-، واستحلال ما حرّم الله -سبحانه وتعالى- من أكبر الذنوب وأبعدها عن المغفرة -والعياذ بالله تعالى-.
قال: "ويظنَّ أنَّ ذلكَ لكرامتِهِ عندَ اللهِ تعالى، ولا يدري أنَّهُ ممقوتٌ، -أي: مبغوض- وقد أُمهِلَ ليزدادَ إثماً" -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. فإنك إذا تحب ابنك أو صاحبك أو طالبك، إذا وقع في خطأ وزلل تنبهه بسرعة مباشرة، وتذكّره من أجل يرجع، وإذا واحد ما تحبه ولا تبالي به بتخليه مرة وثانية لما يفتضح. وكذلك إذا أحبّ الحق أحد بمجرد ما يخطئ يُنبَّه، يذكّره، تجيء له الدقة وهزة ارجع، راجع حسابك، انتبه لنفسك، استقيم، وإذا سقط من عين الله، ما يبالي به الله تعالى، ذنب بعد ذنب، ومعصية بعد معصية، (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ)[الروم: 10]، فيرجع إلى الكفر والعياذ بالله، ولأن المعاصي بريد الكفر، يعني: رسوله، تقول: أنا واصل، أنا بجي بعد المعصية والذنب الكفر بيجيء، كثرة الذنوب تؤدي -والعياذ بالله- إلى انتزاع الإيمان، نعوذ بالله من غضب الرحمن، نسأله أن يتوب علينا من جميع الذنوب، صغيرها وكبيرها، قليلها وكثيرها، أولها وآخرها، فهو خير التوّابين وخير الغافرين.
لأن هذا دليل استخفافه، دليل عدم المبالاة، فالمجاهرة بالذنب ومن حقه أن يُستر، وقال ﷺ: من أتى شيئًا من هذه القاذورات فلْيَستَتِرْ بسِترِ اللهِ، ولْيَتُبْ إلى اللهِ؛ فإنَّه مَن يُبدِ لنا صَفحَتَه، نُقِمْ عليه -الحد- كتابَ اللهِ عزَّ وجلَّ".
ويتبعونه الناس ويكونون وراءه، الصغيرة ما عادها صغيرة الآن ، صارت كبيرة ويموت؛ واللي تبعوه كلهم آثامهم عليه، مثل آثامهم يأخذها هو، ما عادت صارت صغيرة لأنها صدرت من صاحب منزلة يُقتدى به، ويُهتدى به، فلهذا على من أقامه الله مقام الاقتداء أن يحذر أشدّ الحذر حتى لا يُقتدى به في شيء يخالف الشرع والهدي، فيكون عليه الآثام لكل من تبعه، ولكل من اغتر بفعله. وتراهم يقولون: قد فلان يفعل، قد فلان يفعل، ينصحونهم ويقعدون يقولون: قد فلان، ما تشوف فلان العالم فلان؟ أنا مثله -لا حول ولا قوة إلا بالله-، فصار سبب للإضلال، "ومَنْ سَنَّ سُنَّةً سِيِّئةً.. فعليهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عملَ بها إلى يومِ القيامةِ".
ويذكر في هذه الرواية عند ابن أبي شيبة في المصنف الخطيب والفقيه المتفقه أن بعض علماء بني إسرائيل أضلّ الناس كثير، وكان في بدعته واستخفافه ببعض الذنوب، واتبعوه الناس كثيرًا، ثم وتاب ورجع، ولما رجع إلى الله، "فأوحى اللهُ تعالىٰ إلى نبيِّ زمانِهِ: إنّ ذنبَكَ لو كانَ فيما بيني وبينَكَ.. لغفرتُهُ لكَ، ولكنْ كيفَ بمَنْ أضللتَ مِنْ عبادي فأدخلتَهُمُ النَّارَ؟!" كم من واحد تعرّض للغضب والسخط ودخل النار على يدك بسبب تلبيسك وكذبك، وما تكتب وما تنشر بين الناس؟ فهنا ايش يصلح لك؟ كم ضليت؟ كم من واحد؟ أين حقهم هؤلاء كلهم؟ لا إله إلا الله، هذا خطر.
قال: "والباعثَ على التَّوبة" والصدق فيها والمبادرة إليها "الخوفُ" إن كان عندك من عظمته وجلاله خوف، فأنت بسرعة تعود إليه، وهو بهذا الوصف الكبير، يقول بعض العارفين: سبحانك، كل من خاف أحدًا هرب منه؛ لكن من خافك هرب إليك، من خافك أين يروح؟ يرجع لك ويقف على بابك، ومن غير هذا ما في حيلة، أين يروح، ما له مهرب، ما له فكة، لكن لو كان غيرك، يشرد منه، يروح، يسافر من الدولة يروح للدولة الثانية، ولا عاد يصل إليه. لكن أنت من خافك، ماشي طريق إلا يهرب إليك، يرجع لعندك ويقرّ لك ويعترف ويندم، وأنت الذي تبدّل سيئاته إلى حسنات. قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)[الفرقان: 68-70].
فما هو الخوف؟
يقول: الخوف "جمعَ اللهُ تعالىٰ للخائفينَ الهدىٰ والرَّحمةَ والعلمَ والرِّضوانَ"، (هُدًى وَرَحمَةٌ لِلَّذينَ هُم لِرَبِّهِم يَرهَبونَ) [الأعراف:154]" يخافون منه أولاً، والعلم لهم أيضًا، الهدى والرحمة والعلم "(إِنَّما يَخشَى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَمٰٓؤُاْ) [فاطر: 28]" والرضوان أيضًا لهم ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم وَرَضوا عَنهُ ذلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ) [ البينة:8]، فالهدى عندهم، والرحمة عندهم، والعلم عندهم، والرضوان لهم، من؟ الخائفون الذين يخشون الله -سبحانه وتعالى-.
كما أثنى على الذين يقومون بخدمة الدين والشريعة، ويدعون إليه تعالى وهم خائفون، قال: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا)[الأحزاب: 39]. هؤلاء بجنب الأنبياء والمرسلين يكونون ، يقول ﷺ أقرب الناس من الأنبياء يوم القيامة العلماء والشهداء، قال: أما العلماء فدلّوا الناس على ما بُعث به الرسل، فلهذا يكون قريبين منهم، وأما الشهداء فبذلوا أرواحهم فيما بُعِث به الرسل، فيكونون قريبين منهم فأقرب الناس من الرسل يوم القيامة العلماء والشهداء، لكن العالم الذي يدل الناس على ما بعث به الرسل هذا يكون قريب، أما عالم بعّد الناس، ولم يدلهم سكت ساكت ما يقرُب من الرسول، يقرّب من الرسول إذا دلّ الناس على ما بعث به الرسول. والشهيد كذلك إذا كان قدّم روحه لما بعث به الرسول، وأما إن كان لقومية أو رغبة في الملك وإلى غير ذلك، فلا يقرب من الرسول، إن كان قدم روحه لأجل ما بعث به الرسول، "لتكون كلمة الله هي العليا"، هذا هو الذي يقرب من الرسل يوم القيامة.
يقول: "رَأْسُ الْحِكْمَةِ.. مَخَافَةُ اللهِ" هذا رأس الحكمة، كان بعض المتوجهين والمجتهدين في أيام الطلب ما يفهم المسائل الكثيرة، ولكنه ما شاء الله مُكِبّ ومجتهد وعلى حذر من المكروهات، وكان يقول: هذا فلان عنده رأس الحكمة، ونحن عندنا علم مسائل، لكن هذا عنده رأس الحكمة، "رَأْسُ الْحِكْمَةِ.. مَخَافَةُ اللهِ"، قال عنده هذا، ونحن عندنا مجرد معلومات، لكن هذا عنده رأس الحكمة، "رَأْسُ الْحِكْمَةِ.. مَخَافَةُ اللهِ".
وقالَ: "مَنْ خَافَ ٱللهَ تَعَالَىٰ.. خَوَّفَ ٱللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ"، تهابه الحيوانات؛ حتى في أحيان كثير من السباع تهابه؛ وحتى الظلمة والفساق يرتعدون منه -سبحان الله-! وما عنده شيء يقابلهم به من جهة المادة ولا القوة الظاهرة.
وكانت هذه خِلعة على الإمام محمد -صاحب مرباط بن علي- أنواع السلاطين والظلمة من ذِكره يفرقون، وإذا رأوه كادوا يرتعبون من مشاهدته، وهو متواضع يمشي في حاله، وقائم بخدمة الشريعة والدين، لكن تهابه القلوب، وسُقي السم مرّتين فلم يفعل فيه شيئًا، سم قاطع يقتل خلق الله، ما أثّر فيه لا أول مرة ولا ثاني مرة، فالمتصل بالله شأنه شأن، ويقذف الله هيبته في كل شيء.
وكان ﷺ من رآه بديهة هابه، لما قدم الوفد الذين أرسلهم كسرى، من أرسل إلى عامله في صنعاء في اليمن، يقول له: أرسل اثنين إلى هذا، لما وصلهم كتاب النبي ﷺ قال: قل لهم يأتوني به، هاتوه إلى هنا بغطرسته، وصلوا إلى المدينة المنورة، وجاءوا يكلمون النبي ﷺ، قال لهم: غدًا أُجيبكم، ما بالكم هكذا؟ لماذا تطلقون الشوارب وتحلقون اللّحى؟ قالوا: ربنا أمرنا بذلك -يقصدون الملك حقهم- قال: لكن ربي أمرني أن أُحفي الشارب، وأن أُعفي اللحية، كره النظر إليهم، في اليوم الثاني جاءوا، قال لهم: إن ربي قتل ربكم البارحة، إن ربي قتل ربكم البارحة، سلّط عليه ابنه فقتله البارحة هذا في فارس، والنبي ﷺ في المدينة المنورة، وهم امتلأوا رعبًا لما شافوه ورجعوا إلى صنعاء، أخبروا الوالي حق صنعاء بما يقوله -كان تبع فارس-، قالوا: هذا كلام كبير، قال: في صنعاء ما جاء خبر، إن كان وقع صدق فهذا نبي، وإن كان ماشي منه الكلام حقه بنصلح له شيء ثاني، حتى جاءت الكتب لهم، ورسل من ولد كسرى، أنه اسمه خان قومه وجماعته، وأني قتلته، والان عندي الولاية، ولا تكلمو هذا الرجل واتركوه، وحصلوا التاريخ الليلة اللي قال النبي ﷺ، في نفس الليلة كانت القتل هناك، إن ربي قتل ربكم البارحة، سلّط عليه ابنه فقتله، فكان يقول للوالي في صنعاء: ما رأيت أخوف منه ولا أهيب منه، ما شعرت برعب في حياتي، في قتال ولا في مقابلة ملوك، كما رأيته من محمد، لما قابلت محمد طول عمري ماشفت مثل هذا الرعب والهيبة، يقول له: كان معه جند؟ قال: لا، كان يمشي وحده ﷺ ما معه جند، لكن قال: ما شعرت طول عمري في قلبي هيبة ولا فزع مثلما قابلته ﷺ، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه ﷺ.
وكان جالسًا محتبيًا بيديه في المسجد، أقبل عليه أعرابي فلما وقع نظره عليه ارتعد -أعرابي- قال له: هون عليك، هون عليك، إني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد -يعني: اللحم المجفف، طعام الفقراء والمساكين-، قال: أنا إلا من بيت فقير ﷺ، وأين الملوك عنده!! ولكن هو هكذا، يقول لها: هون عليك، هون عليك، لست بملك، إني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد يا ربّ صلّ عليه وعلى آله وصحبه.
ويقول: "وَمَنْ خَافَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى .. خَوَّفَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ"، فمات! وتراهم هؤلاء الذين يخافون غير الله، يرسلون حقهم العيون والمخابرات، في الدولة الواحدة بينها وبين الثانية يرسل مائة ألف، مائة وعشرين ألف مخبرين، وكلهم خوف؛ يخافون من كل شيء. يسمع الباب يتحرك يمكن يفزع، يسمع أي خبر فيه شيء من حواليه ويفزع؛ لأنه ما خاف الله، "وَمَنْ خَافَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى .. خَوَّفَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ومَنْ خَافَ اللَّهَ تَعَالَى .. خَوَّفَ اللَّهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ"، وقال ﷺ: "ونُصرت بالرعب مسيرة شهر"، "قال ﷺ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي ؛ لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ ، وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ؛ فَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا .. أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا .. أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" ففي الخوف الأمان .
وقال المؤلف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
فصلٌ
في بيانِ حقيقةِ الخوفِ
"اعلمْ: أنَّ حقيقةَ الخوفِ هوَ تألُّمُ القلبِ واحتراقُهُ بسببِ توقُّعٍ مكروه في الاستقبالِ، وقد يكونُ ذلكَ الخوفُ مِنْ جريانِ ذنوبٍ، وقد يكونُ الخوفُ مِنَ اللهِ تعالى بمعرفةِ صفاتِهِ التي تُوجِبُ الخوفَ لا محالةَ، وهٰذا أكملُ وأتمُّ؛ لأنَّ مَنْ عرفَ اللهَ.. خافَهُ بالضَّرورة؛ ولذلكَ قالَ اللهُ تعالىٰ (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28].
وقد أوحى اللهُ تعالىٰ إلىٰ داوودَ -عليهِ السَّلامُ-: خَفْني كما تَخافُ السَّبُعَ الضَاريَ.
ولذلكَ قالَ النَّبيُّ ﷺ: "أَنَا أَخْوَفُكُمْ لِله تَعَالَىٰ".
واعلمْ: أنَّ الواقعَ في مخالبِ السَّبُع إنَّما لا يَخافُهُ إذا لم يَعرِفِ السَّبُعَ؛ فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ مِنْ صفةِ السَّبُعِ أنَّهُ يُهلِكُهُ ولا يبالي، فإن تركَهُ لمْ يكنْ لرقَّتِهِ عليهِ وشفقتِهِ؛ فإنَّهُ أحقرُ عندَهُ مِنْ أن يُشفِقَ عليهِ.. فلا بدَّ مِنْ أن يَخافَهُ.
وللهِ المثلُ الأعلى وهوَ العزيزُ الحكيمُ، ولكنْ مَنْ عَرَفَ أنَّهُ لو أهلكَ العالَمينَ لم يُبالِ، ولم يَنقُصْ شيءٌ مِنْ مُلكِهِ؛ (قُل فَمَن يَملِكُ مِنَ اللَّهِ شَيئًا إِن أَرادَ أَن يُهلِكَ المَسيحَ ابنَ مَريَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرضِ جَميعًا)[المائده:18]، وكم أهلكَ مِنْ عبادِهِ في الدُّنيا، وعرَّضَهُم لأنواعِ العذابِ، ولم تأخذْهُ رِقَّةٌ ولا شفقةٌ؛ فإنَّ ذلكَ مُحالٌ عليهِ.. فلا بدَّ وأن يَخافَ.
فمعرفةُ الجلالِ والعزَّةِ والقهر والاستغناءِ.. يُورِثُ الهيبةَ بالضَّرورةِ، وهٰذا أكملُ أنواعِ الخوفِ وأفضلُها".
فَصلٌ
في كيفيةِ تحصيلِ الخوفِ
"علاجُ الخوفِ وتحصيلُهُ على رتبتينِ :
إحداهُما: معرفةُ اللهِ تعالَىٰ؛ فإنَّها تُوجِبُ الخوفَ بالضَّرورةِ؛ فإنَّ الواقعَ في مخالبِ السَّبُعِ لا يحتاجُ إلى علاجٍ ليَخافَ إن كانَ يَعرِفُ السَّبُعَ .
ومَنْ عرفَ جلالَ اللهِ تعالىٰ واستغناءَهُ، وأنَّه خَلَقَ الجنَّةَ وخَلَقَ لها أهلاً، وخَلَقَ النَّارَ وخَلَقَ لها أهلاً، وأنّهُ تمَّتْ كلمتُهُ بالسَّعادةِ والشَّقاوةِ في حقّ كلِّ أحدٍ صدقاً وعدلاً، وأنَّ ذلكَ لا يُتصوَّرُ لغيرِهِ، ولا يَصرِفُهُ عن تنفيذِ قضائِهِ الأزليِّ صارفٌ، وهوَ لا يدري ما الذي سَبَقَ بهِ القضاءُ في حقِّهِ، ولا يدري ما الذي يُختَمُ لهُ بهِ، واحتملَ عندَهُ أن يكونَ مَقضيّاً لهُ بشقاوةِ الأبدِ.. فهذا لا يُتصوَّرُ ألَّا يخافَ.
وأمَّا مَنْ عَجَزَ عن حقيقةِ المعرفةِ: فعلاجُهُ النَّظرُ إلى الخائفينَ، ومشاهدةُ أحوالِهِم، أو سماعُ ذلكَ؛ فإنَّ أخوفَ خَلْقِ اللهِ.. الأنبياءُ والأولياءُ والعلماءُ وأهلُ البصيرةِ، وأعظمَ الخَلْقِ أمناً الغافلونَ الأغبياءُ، الذينَ لا يَمتدُّ نظرُهُم لا إلى السَّابقةِ، ولا إلى الخاتمةِ، ولا إلىٰ معرفةِ جلالِ اللّهِ تعالىٰ.
وهٰذا كما أنَّ الصَّبيَّ لا يَخافُ الحيَّةَ ما لم ينظرْ إلى أبيهِ يَخافُها ويهربُ منها، وترتعدُ فرائصُهُ إذا رآها، فينظرُ إليهِ فيُقلِدُهُ، ويَستشعِرُ خوفَهُ وإن لم يَعرِفْ بالحقيقةِ صفةَ الحيَّةِ، وقد قالَ ﷺ: مَا جَاءَنِي جِبْرَائِيلُ عَلَيْهِ ٱلسَّلَامُ قَطُّ إِلَّا وَهُوَ يَرْتَعِدُ فَرَقاً مِنَ ٱلْجَبَّارِ.
وقيلَ: لمَّا ظهرَ على إبليسَ ما ظهرَ.. طَفِقَ جبريلُ وميكائيلُ -عليهِما السَّلامُ- يبكيانِ، فأوحى اللهُ -سبحانَهُ- إليهِما: ما لكما تبكيانٍ؟ قالا: يا ربِّ؛ ما نأمنُ مكرَكَ، فقالَ اللهُ تعالىٰ: هٰكذا كونا، لا تأمنا مكري؛ فلا يأمنُ مكرَ اللهِ إلَّا القومُ الخاسرونَ.
وقيلَ: لمَّا خَلَقَ اللهُ تعالى النَّارَ.. طارَتْ أفئدةُ الملائكةِ عن أماكنِها، فلمَّا خَلَقَ بني آدمَ.. عادَتْ.
وكانَ أزيزُ قلبِ إبراهيمَ -عليهِ السَّلام- يُسمَعُ في الصَّلاةِ مِنْ مَسيرةٍ ميلٍ.
وبقيَ داوودُ -عليهِ السَّلامُ -أربعينَ يوماً ساجداً لا يرفعُ رأسَهُ، حتَّىٰ نبتَ الرِّعْيُ مِنْ دموعِهِ.
وقالَ أبو بكرِ الصِّدِّيقُ -رضيَ اللهُ عنهُ- لطائرٍ: ليتَني مثلُكَ يا طائرُ ولم أُخلَقْ بَشَراً.
وقالَ أبو ذرّ -رضيَ اللهُ عنهُ-: وَدِدتُ لو أنِّي شجرةٌ تُعضَدُ.
وقالَتْ عائِشةُ -رضيَ الله عنها-: وَدِدتُ لو أنِّي كنتُ نسياً نسيّاً.
وقد حكينا أحوال الخائفينَ في (كتاب الخوفِ والرَّجاءِ) مِنْ كتبِ (إحياءِ علومِ الدِّينِ)، فليَتأمَّلِ القاصرُ عن ذُرْوةِ المعرفةِ أحوالَ الأنبياءِ والأولياءِ والعارفينَ؛ ليَعلَمَ أنَّهُ أحقُّ بالخوفِ منهُم، وإذا تأمَّلَ ذلكَ بالحقيقةِ.. غلبَهُ خوفُهُ.
غلبه خوفه، الله أكبر.
يقول: كيف نعرف "حقيقةَ الخوفِ"؟ قال: "هوَ تألُّمُ القلبِ واحتراقُهُ بسببِ توقُّعٍ مكروه في الاستقبالِ".
والحَزَن: يكون بحصول شيء في الماضي حصل؛ يحزن عليه. وأهل التقوى (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس:62] يقول لهم: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ )[فصلت:31-32].
قال: "وقد يكونُ ذلكَ الخوفُ" إما بسبب:
قال: "(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]"، ومَن قصُر عن معرفة هذا العِظَم والجلال، فليُقلِّد الخائفين من الملائكة والنبيين والصديقين والصالحين، يُقلِّدهم في خوفهم من الله -تبارك وتعالى-.
قال: "أوحى الله تعالى إلى داوود -عليه السَّلامُ: خَفْني كما تخافُ السَّبْعَ الضَّارِي، وقالَ ﷺ : "أَنَا أَخْوَفُكُمْ لِلَّهِ تَعَالَى""؛ لأنه أعرف الخلق بالله ﷺ "أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له" كما جاء في البخاري وغيره.
ويقول: وقع في "مخالبِ السَّبُع إنَّما لا يَخافُهُ إذا لم يَعرِفِ السَّبُعَ؛ أمّا مَنْ عَلِمَ أَنَّ مِنْ صفةِ السَّبُعِ أَنَّهُ يُهْلِكُهُ ولا يبالي، فإن تركَهُ لمْ يكنْ لرقَّتِهِ عليهِ وشفقتِهِ" -به وإن فتكَ بهِ فتك به- "وللهِ المثلُ الأعلى، ولكنْ مَنْ عَرَفَ أنَّهُ لو أهلكَ العالَمينَ لم يُبالِ"، (قُل فَمَن يَملِكُ مِنَ اللَّهِ شَيئًا إِن أَرادَ أَن يُهلِكَ المَسيحَ ابنَ مَريَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرضِ جَميعًا)[المائده:18]، ولم يَنقُصْ شيءٌ مِنْ مُلكِهِ"، قال: "وكم أهلكَ مِنْ عبادِهِ -المعرضين والجبارين- في الدُّنيا، وعرَّضَهُم لأنواعِ العذابِ، ولم تأخذْهُ رِقَّةٌ ولا شفقةٌ؛ فإنَّ ذلكَ مُحالٌ عليهِ.. - من علم هذا- فلا بدَّ وأن يَخافَ. فمعرفةُ الجلالِ والعزَّةِ والقهر والاستغناءِ.. يُورِثُ الهيبةَ بالضَّرورةِ، وهٰذا أكملُ أنواعِ الخوفِ وأفضلُها".
قال: إن انتهيت لهذه المعرفة فهي "تُوجِبُ الخوفَ بالضَّرورةِ"، ومَنْ عرفَ جلالَ اللهِ تعالىٰ واستغناءَهُ، وأنَّه خَلَقَ الجنَّةَ وخَلَقَ لها أهلاً، وخَلَقَ النَّارَ وخَلَقَ لها أهلاً، وأنّهُ تمَّتْ كلمتُهُ بالسَّعادةِ والشَّقاوةِ في حقّ كلِّ أحدٍ صدقاً وعدلاً، وأنَّ ذلكَ لا يُتصوَّرُ لغيرِهِ، ولا يَصرِفُهُ عن تنفيذِ قضائِهِ الأزليِّ صارفٌ، -ولا يقدر أحد يمنعه- وهوَ لا يدري ما الذي سَبَقَ بهِ القضاءُ في حقِّهِ"، والإنسان ما يدري، "ولا يدري ما الذي يُختَمُ لهُ بهِ"، يالله بها، يالله بها، يالله بحسن الخاتمة.
"واحتملَ عندَهُ أن يكونَ مَقضيّاً لهُ بشقاوةِ الأبدِ.." أو بالسعادة، فكيف ما يخاف؟! ضروري يخاف..
"ومَنْ عَجَزَ عن حقيقةِ المعرفةِ": قال: يُقلِّد؛ مثل الصبي ما يعرف ضرر الحيّة، وأن فيها سمًّا وتقتل الإنسان، لكن يشوف أبوه يَفزع من الحيّة ويَرتعد منها، فيرجع هو يفزع منها بالتقليد لوالده، وهو ما يَعرف أن فيها سمًّا وأنها تقتل الإنسان؛ لكن بالتقليد، فيقلد، فأنت قلِّد الأنبياء، وقلِّد العارفين والأصفياء، إذا قصُرَت معرفتك بجلال الله -تبارك وتعالى-.
يقول: "مَا جَاءَنِي جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَطُّ إِلَّا وَهُوَ يَرْتَعِدُ فَرَقاً مِنَ الْجَبَّارِ"-جلّ جلاله-، ويُروى أن سيدنا جبرائيل وميكائيل لمّا حَلَّ بإبليس ما حَلّ، أخذا يبكيان؛ "فأوحى اللهُ -سبحانَهُ- إليهِما: ما لكما تبكيانٍ؟ قالا: يا ربِّ؛ ما نأمنُ مكرَكَ، فقالَ اللهُ تعالىٰ: هٰكذا كونا، لا تأمنا مكري، فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ".
لا إله إلا الله.
قال: وكانَ أزيزُ قلبِ إبراهيمَ -عليهِ السَّلام- يُسمَعُ في الصَّلاةِ" من مسافة؛ اهتزازه من خشية الله -تبارك وتعالى-.
قال: "وبقيَ داوودُ -عليهِ السَّلامُ -أربعينَ يوماً ساجداً لا يرفعُ رأسَهُ، حتَّىٰ نبتَ الرِّعْيُ مِنْ دموعِهِ" -عليه الرضوان-، صلوات الله عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
ويقول سيدنا "أبو بكرِ الصِّدِّيقُ -رضيَ اللهُ عنهُ- لطائرٍ: ليتَني مثلُكَ يا طائرُ ولم أُخلَقْ بَشَراً"، يتعرض للحساب والعقاب، وهو أُكرم بأعظم كرامة بصحبة زين الوجود ﷺ، ونص الله على صُحبته في القرآن: (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40]، ولكن إذا غَلَب عليه الخوف قال مثل ذلك.
"وقالَ أبو ذرّ -رضيَ اللهُ عنهُ-: وَدِدتُ لو أنِّي شجرةٌ تُعضَدُ"، وليس آدمي أُسأل.
"وَدِدتُ لو أنِّي كنتُ نسياً نسيّاً" تقول السيدة عائشة، وهكذا، قال: شوف أخبارهم في مثل (كتاب الخوفِ والرَّجاءِ) وفيما نُقل عنهم، فقَلِّدهم وخَفْ من ربك -سبحانه وتعالى-، الله يكرمنا.
وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
فصْلٌ
في تقلُّبِ العبدِ بينَ الخوفِ والرجاءِ
"الخوفُ سوطٌ يسوقُ العبدَ إلى السَّعادةِ، ولا ينبغي أن يُفرَطَ حيثُ يُورِثُ القنوطَ؛ فذلكَ مذمومٌ، بل إذا غلبَ.. ينبغي أن يُمزَجَ الرَّجاءُ بهِ.
نعم ؛ ينبغي أن يَغلِبَ الخوفُ الرَّجاءَ ما دامَ العبدُ مُقارِفاً للذُّنُوبِ، فأمَّا المطيعُ المُتجرِدُ للهِ تعالىٰ.. فينبغي أن يَعتدِلَ خوفُهُ ورجاؤُهُ "؛ مثلَ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- حيثُ قالَ: لو نُودِيَ: لَيَدخُلَنَّ الجنَّةَ جميعُ الخَلْقِ إلَّا رجلاً واحداً.. لخفتُ أن أكونَ أنا ذلكَ الرَّجلَ، ولو نُودِيَ: لَيَدخُلَنَّ النَّارَ جميعُ الخَلْقِ إلَّا رجلاً واحداً.. لرجَوتُ أن أكونَ أنا ذلكَ الرَّجلَ.
وأمَّا إذا قربَ الموتُ.. فالرَّجاءُ وحُسْنُ الظَّنِّ بربِّهِ ينبغي أن يَغلِبا عليهِ؛ قالَ ﷺ: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ ٱلظَّنَّ بِرَبِّهِ".
والرَّجاءُ يخالفُ التَّمنِّيَ؛ فإنَّ مَنْ لا يَتعهَّدُ الأرضَ، ولا يَبُثُّ لبَذْرَ، ثمَّ ينتظرُ الزَّرعَ.. فهوَ مُتمنّ مغرورٌ، وليسَ براجٍ، إنَّما الرَّاجي مَنْ تَعهَّدَ الأرضَ وسقاها، وبثَّ البَذْرَ، وحصَّلَ كلَّ سببٍ يَتعلَّقُ باختيارِه، ثمَّ بقيَ يرجو أن يدفعَ اللهُ الصَّواعقَ والقواطعَ، وأن يُمكِنَهُ مِنَ الحصادِ بعدَ الإنباتِ.
ولذلك قالَ -عزَّ وجلَّ-: (إِنَّ الَّذينَ آمَنوا وَالَّذينَ هاجَروا وَجاهَدوا في سَبيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرجونَ رَحمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ) [البقرة: 218].
وبالجملةِ: فثمرةُ الرَّجاءِ التَّرغيبُ في الطَّلبِ، وثمرةُ الخوفِ التَّرغيبُ في الهربِ، ومَنْ رجا شيئاً.. طلبَهُ، ومَنْ خافَ شيئاً.. هربَ منهُ .
وأقلُّ درجاتِ الخوفِ: ما يَحمِلُ على تركِ الذُّنوبِ، وعلى الإعراضِ عنِ الدُّنيا، وما لا يَحمِلُ على ذلكَ.. فهوَ حديثُ نفسٍ وخواطرُ لا وزنَ لها، تشبهُ رِقّةَ النِّساءِ ولا ثمرةَ لها، بلِ الخوفُ إذا تمَّ.. أثمرَ الزُّهدَ في الدُّنيا، فلنذكرِ الزُّهدَ ومعناهُ".
الأصل الثالث
في الزهد
"قالَ الله تعالىٰ: (وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى ما مَتَّعنا بِهِ أَزواجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَياةِ الدُّنيا لِنَفتِنَهُم فيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقى) [طه :131].
وقالَ تعالى: (مَن كانَ يُريدُ حَرثَ الآخِرَةِ نَزِد لَهُ في حَرثِهِ وَمَن كانَ يُريدُ حَرثَ الدُّنيا نُؤتِهِ مِنها وَما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَصيبٍ) [الشورى:20].
وقالَ في حقِّ قارونَ: ﴿فَخَرَجَ عَلى قَومِهِ في زينَتِهِ قالَ الَّذينَ يُريدونَ الحَياةَ الدُّنيا يا لَيتَ لَنا مِثلَ ما أوتِيَ قارونُ إِنَّهُ لَذو حَظٍّ عَظيمٍ) [القصص:79]، ثمَّ قالَ: (وَقالَ الَّذينَ أوتُوا العِلمَ وَيلَكُم ثَوابُ اللَّهِ خَيرٌ لِمَن آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا وَلا يُلَقّاها إِلَّا الصّابِرونَ) [القصص:80]، فبيَّنَ أنَّ الزُّهدَ مِنْ ثمراتِ العلمِ.
وقال النبيُّ ﷺ: "مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ الدُّنْيَا، شَتَّتَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ الْآخِرَةُ جَمَعَ اللهُ لَهُ هَمَّهُ، وَحَفِظَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ".
ولمَّا سُئِلَ ﷺ عن قوله تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلامِ) [الأنعام:125]، وعن معنى الشرح قال: النُّورُ إِذَا دَخَلَ الْقَلْبَ انْشَرَحَ الصَّدْرُ وَانْفَسَحَ، قيل: وهل لذلك مِنْ علامة؟ قَالَ : نَعَمِ؛ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوتِ قَبْلَ نُزُولِهِ".
وقال ﷺ: "أَسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قالوا: إِنَّا نستحيي، فقال: تَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَتَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ!!".
وقال: "مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا أَدْخَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْحِكْمَةَ قَلْبَهُ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَعَرَّفَهُ دَاءَ الدُّنْيَا وَدَوَاءَهَا، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا سَالِماً إِلَى دَارِ السَّلَامِ".
وقال: "لَا يَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ أَلَّا يُعْرَفَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ، وَحَتَّى تَكُونَ قِلَّةُ الشَّيْءِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كَثْرَتِهِ".
وقال: "إذَا أراد اللهُ بِعَبدٍ خَيرًا زَهَّدَهُ في الدُّنيَا ورَغَّبه في الآخِرة، وبصَّره بعيوب نَفسِه".
وقال ﷺ: "ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ تَعَالَى، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ".
وقَالَ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا بِغَيْرِ تَعَلُّمِ، وَهُدًى بِغَيْرِ هِدَايَةٍ فَلْيَزْهَدْ فِي الدُّنْيَا"".
هكذا، قال: يجب على المؤمن أن يكون متقلبًا بين الخوف والرجاء، "الخوفُ سوطٌ يسوقُ العبدَ إلى السَّعادةِ"، والرجاء -أيضًا-: داعٍ يدعوه إلى العبادة ولزوم سبيل السعادة.
قال: "ولا ينبغي أن يُفرَطَ -في الخوف ويزيد- بحيث يورث القنوط" واليأس.
"فذلكَ مذمومٌ، بل إذا غلبَ.. ينبغي أن يُمزَجَ الرَّجاءُ بهِ".
قال: نعم، "ما دامَ العبدُ مُقارِفاً للذُّنُوبِ" ينبغي أن يغلب جانب الخوف حتى ينزجر، "فأمَّا المطيعُ المُتجرِدُ للهِ تعالىٰ.. فينبغي أن يَعتدِلَ خوفُهُ ورجاؤُهُ ".
كما نُقل عن سيدنا عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- حيثُ قالَ: لو نُودِيَ: لَيَدخُلَنَّ الجنَّةَ جميعُ الخَلْقِ إلَّا رجلاً واحداً.. لخفتُ أن أكونَ أنا ذلكَ الرَّجلَ، ولو نُودِيَ: لَيَدخُلَنَّ النَّارَ جميعُ الخَلْقِ إلَّا رجلاً واحداً.. لرجَوتُ أن أكونَ أنا ذلكَ الرَّجلَ" ،الواحد، خوفه عظيم ورجاؤه عظيم، واعتدل خوفه ورجاؤه.
"وأمَّا إذا قربَ الموتُ.."؛ فسواء الطائع والعاصي، والصغير والكبير، ينبغي أن يعظم رجاؤهم، ويتضاعف على خوفهم، وأن يحسنوا الظن بذلك؛ لقول نبينا ﷺ: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ"، كما جاء في صحيح مسلم وغيره.
يقول الحق تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظن بي ما شاء".
دَخل على شاب وهو في سكرات الموت قال: "كيف تجدك؟" قال: أرجو ربي وأخاف ذنبي. فقال ﷺ: "ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف".
قال: "والرَّجاءُ يخالفُ -غير- التَّمنِّيَ"، التَّمنِّيَ: يُمنّي نفسه أشياء ما سعى إليها، ولا تَسبّب في حصولها ويُمنّي نفسه بها، ومَن تَسبب وبَذل الجهد، فهذا: صاحب رجاء، كمِثل مَن حرَث و"مَنْ تَعهَّدَ الأرضَ وسقاها، وبثَّ البَذْرَ" وتعهّدها؛ فهذا يرجوا، يرجوا أن تُحفظ وتُحرس ولا يصيبها صواعق ولا شيء من القواطع حتى تُثمر، وحتى يَتمكن من الحصاد؛ هذا رجاء صحيح.
ومَن كان لا زرَع ولا بَذر ولا حَرث ولا سَقى، ويقول: بنحصد بنحصد! تحصد إيش؟ ماذا تحصد؟ يقول ما ندري لو طلع زرع بنحصد! هذا تمني اسمه ما هو رجاء، "والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني".
وقال: "إن الله يقول: (إِنَّ الَّذينَ آمَنوا وَالَّذينَ هاجَروا وَجاهَدوا في سَبيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرجونَ رَحمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ) [البقرة: 218]"، يعني: هؤلاء رجاؤهم صحيح، هؤلاء أهل الرجاء، آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، هؤلاء يصح منهم الرجاء ورجاؤهم صحيح.
قال: "فثمرةُ الرَّجاءِ التَّرغيبُ في الطَّلبِ، وثمرةُ الخوفِ التَّرغيبُ في الهربِ، ومَنْ رجا شيئاً.. طلبَهُ، ومَنْ خافَ شيئاً.. هربَ منهُ".
ولهذا قال: إذا كان عندك خوف صحيح؛ فيَحمِلك "على تركِ الذُّنوبِ، وعلى الإعراضِ عنِ الدُّنيا، وما لا يَحمِلُ على ذلكَ.. فهوَ حديثُ نفسٍ وخواطرُ".
عندك رجاء صحيح: يحملك على لزوم الباب وكثرة الطاعات، هذا الرجاء صحيح.
يقول: "أنا عندي رجاء" وما يعمل!، هذا دليل على أنه كذاب، أما لو كان يرجو لتهيأ، فإذًا، مهمة الخوف: ترك الذنوب والغفلة والإعراض عن الدنيا؛ فإذا لم تُثمر ذلك؛ فالخوف هذا كاذب.
ومهمة الرجاء: فِعل الطاعات والملازمة لِباب رب الأرض والسماوات.
رزقنا الله حقيقة الخوف وحقيقة الرجاء، وكل مقام من مقامات اليقين ثبّتنا الله عليه، ثبّت قدمنا فيه، ورقّانا إلى أعلى الرتب.
قال: والخوف إذا صحّ، قال: "أثمرَ الزُّهدَ في الدُّنيا"، والإعراض عنها.
يقول الله -لأزهد خلقه في الدنيا-؛ (وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى ما مَتَّعنا بِهِ أَزواجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَياةِ الدُّنيا لِنَفتِنَهُم فيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقى) [طه :131]، ما أعطاك وأتاك وأعدّ لك خير من كل ما عند أهل الدنيا.
قال الله تعالى: (مَن كانَ يُريدُ حَرثَ الآخِرَةِ نَزِد لَهُ في حَرثِهِ وَمَن كانَ يُريدُ حَرثَ الدُّنيا نُؤتِهِ مِنها وَما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَصيبٍ) [الشورى:20].
(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود:15-16]
(فَخَرَجَ) قَارُونُ (عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ…) وقوارين كل زمان كذلك، يخرجون على الناس بزينتهم، حتى في زمانك فيه قارون، فيه قوارين، وهم يستعرضون زينتهم قدامك، وأنت واحد من الفريقين:
والنتيجة بعدين تجي للجميع في قارون كل زمان، تجي النتيجة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ)، (مِن فِئَةٍ) وهم يتخذون لهم فئات فئات فئات، ترتيبات متعددة عندهم؛ (فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ) ثم ظهرت الحقيقة، (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ ) وفي قراءةٍ: (لَخُسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)، ثم قال في حُكمه الذي لا مَردّ له: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:81-83]، اللهم اجعلنا منهم.
وقال النبيُّ ﷺ: " مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ الدُّنْيَا، شَتَّتَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ الْآخِرَةُ جَمَعَ اللهُ لَهُ هَمَّهُ، وَحَفِظَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ".
﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلامِ)[الأنعام:125]، سُئل نبينا عن الشرح، قال: "إن النُّورُ إِذَا دَخَلَ الْقَلْبَ انْشَرَحَ الصَّدْرُ وَانْفَسَحَ، قيل: وهل لذلك مِنْ علامة؟ قَالَ: نَعَمِ؛ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوتِ قَبْلَ نُزُولِهِ"، اللهم اشرح صدورنا.
وقال ﷺ: "أَسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ"، قالوا : إِنَّا نستحيي، فقال: تَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَتَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ !!". يعني: فأين الحياء؟..
قال في اللفظ الآخر: "ليس ذاكم، إنّ من استحى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليَذكر الموت والبِلَى".
قال: "مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا أَدْخَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْحِكْمَةَ قَلْبَهُ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَعَرَّفَهُ دَاءَ الدُّنْيَا وَدَوَاءَهَا، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا سَالِمًا إِلَى دَارِ السَّلَامِ".
أنت السلام يا ربنا ومنك السلام، وإليك يعود السلام، فحَيِّنا ربنا بالسلام، وأدخلنا برحمتك دارك دار السلام، تباركت ربنا وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام.
وقال: "لَا يَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ أَلَّا يُعْرَفَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ ، وَحَتَّى تَكُونَ قِلَّةُ الشَّيْءِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كَثْرَتِهِ"، وقال: "إذَا أراد اللهُ بِعَبدٍ خَيرًا زَهَّدَهُ في الدُّنيَا ورَغَّبه في الآخِرة، وبصَّره بعيوب نَفسِه".
قال بعض الصحابة لنبينا: دُلني على عمل إذا عملتُه أحبني الله وأحبني الناس، قال ﷺ: "ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ تَعَالَى، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ".
وفي هذه الرواية يقول: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا بِغَيْرِ تَعَلُّمِ، وَهُدًى بِغَيْرِ هِدَايَةٍ فَلْيَزْهَدْ فِي الدُّنْيَا".
ويكون هذا متصلًا إذًا بحُسن الظن بالله -تبارك وتعالى-، مُحسن الظن بتكفُله بالرزق، وحُسن الظن بإغاثته، وحُسن تدبيره، ويترتّب عليه الزهد.
وأحسنوا ظنكم فإنه إلى الخير سُلَّم *** من قَبض به عَرَف، حتى ولو ما تَعلَّم
أكرمنا الله وإياكم بنور الإقبال عليه.
ارزقنا كمال الاعتماد عليك، والاستناد إليك، والإقبال الكلي عليك، والقبول الكامل لديك، وحسن التذلل بين يديك. أكرمنا بما أنت أهله، وأصلح لنا الشأن كله، وفّر حظنا من حبيبك محمد ﷺ، وفّر حظنا من قربه، وفّر حظنا من حبه، وفّر حظنا من الشُرب من شربه، وفّر حظنا من الفنا فيه، وفر حظنا من الفنا به فيك، وفر حظنا من البقاء بك فيه، وفّر حظنا من الاتباع له، وفّر حظنا من الاهتداء بهديه، وفر حظنا من نصرته، وفر حظنا من متابعته، وفّر حظنا من خدمة شريعته وملته وسنته وهديه وأمته. اجعلنا في أنفع أمته لأمته، وأبرك أمته على أمته. انفعنا بأُمَّته عامة وبخاصتهم خاصة.
أعلِ درجات المنتقلين إلى رحمتك، سمية بنت محمد بن عبد الله بن الحاج علي، وعلي بن محمد عواد بني عواد، ونجاح بنت صالح بن عثمان الجوارنة، اغفر لهم وارحمهم، وأعلِ درجاتهم، وكَثِّر مثوباتهم، وضاعف حسناتهم.
اجعل قبور كل منهم روضة من رياض الجنة، واعذهم من الآفات والعاهات واجعل لهم من العذاب جُّنة، اللهم وارفع لهم أعلى المراتب لديك والمنزلة عندك، وتقبل جميع حسناتهم، وضاعف كل حسنة من حسنات كل منهم إلى ما لا نهاية، وتجاوز عن جميع سيئاتهم، وبدل كل سيئة من سيئات كل منهم إلى حسنات تامات مواصلات،
وتَحمّل عن كل منهم ومنا جميع التبعات، وأظلهم بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، وأظلهم بظل اللواء المعقود، لواء الحمد المشهود في اليوم الموعود، وأوردهم على الحوض المورود في أوائل أهل الورود.
أسعدهم بأعلى السعادة، واخلفهم في أهليهم وذويهم وقرابتهم بخلف صالح، واجعل مستقر روح كل منهم في فردوسك الأعلى، واجمعهم بأهاليهم وذراريهم وذرياتهم في جنات العلا، من غير سابقة عذاب ولا عتاب، ولا فتنة ولا حساب، ولا توبيخ ولا عقاب.
واجعلها أبرك ليلة عليهم وأسعد الليالي لديهم، وأن الله يرحم موتانا وأحيانا برحمته الوسعية، ويرفع لنا مراتب قربه الرفيعة، ويصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين، ويعجِّل بالفرج للمسلمين، والغياث الكامل التام لأهل غزة ولأهل الضفة الغربية ولأكناف بيت المقدس، وللمسلمين في جميع المشارق والمغارب.
ويدفع جميع المصائب والنوائب عنا وعنهم، ويحوّل الأحوال إلى أحسنها لهم ولنا، ويَردنا إلى ما هو أحب إليه وأرضى له، في جميع شؤوننا وأحوالنا، لا يكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقه طرفة عين ولا أقل من ذلك، في عافية تامة.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
(قصيدة للإمام علي الحبشي)
معتمد في جميع أمري على من براني *** ربي الله لي في كل حاله يراني
به قيامي ومنه العون في كل شان *** وهولي حصن مانع من حوداث زماني
حسبي أني اليه أنسب وعلمه كفاني *** بالعطا والمدد من قبل ما اطلب بداني
ليس لي قصد غيره ما معي قصد ثاني *** قمت بالباب تحت الباب عاكف وحاني
لي طمع فيه يغفر لي وإن كنت جاني *** فإن له جود غامر كل قاصي وداني
يا جزيل العطايا من بعينه رعاني *** لُذت بك لُذت بك خايف فجد لي بامان
واعطني ماطلبته من جميع الاماني *** خصني من نوالك بالعطا الامتناني
واهدني للطريقه واحيي ميت جناني *** ذا مرادي الذي قد أعربت به لساني
ثم من بعد هذا عاد مقصود ثاني *** وهو قربي من المختار طه اليمان
حل من حيث ما قد حل في أعلى مكاني *** بعدما تشهد عيناي مشهد عيان
رب صل عليه انه مرادي وشاني *** معتمد في جميع امري على من براني
04 ربيع الأول 1447