(339)
(535)
(364)
الدرس الحادي والثلاثون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثالث: تزكية القلوب: تكملة شرح : خاتمة في مجامع الأخلاق والغرور منها
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
مساء الإثنين 2 ربيع الأول 1447هـ
خاتمةٌ في مجامع الأخلاق.. هل يمكن لإحسانِ الظاهر أن يسترَ خللَ الباطن؟ وكيف نُميِّز بين رجاءٍ يُنهِض إلى العمل وغرورٍ يُسكِّن الضمير؟ يلخّص الدرس أصول الأخلاق في صورةٍ متّسقة، مع كشفٍ لكيفية تسرّب الغرور فيقلب المقاصد ويستبدل الباقي بالفاني..
بسم الله الرحمن الرحيم
من كتاب (الأربعين في أصول الدين) وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- إلى أن قال:
فصلٌ
[في بيَانِ الأخلاقِ المذمومةِ في القلبْ]
ينبغي أن تَتفقَّدَ هذهِ الأخلاقَ في قلبِكَ، وتبدأَ بالأهمِّ فالأهمّ، فتُقبِلَ على أغلبِ هذهِ الصِّفاتِ، فتكسرَها على التَّدريجِ.
وأظنُّ أنَّ الأغلبَ عليكَ حبُّ الدُّنيا، وسائرُ المعاصي والأخلاقِ المذمومةِ تتبعُها.
ولا يمكنُكَ الخلاصُ مِنْ حبِّ الدُّنيا: إلَّا بأن تطلبَ خلوةً خاليةً، وتَتفكَّرَ في سببِ إقبالِكَ على الدُّنيا وإعراضِكَ عنِ الآخرةِ، فلا تجدُ لهُ سبباً إلَّا محضَ الجهلِ والغفلةِ؛ فإنَّ أقصى عمرِكَ في الدُّنيا مئةُ سنةٍ، فهَبْ أنَّ مملكةَ وجهِ الأرضِ تَسلَمُ لكَ مِنَ المشرقِ إلى المغربِ في مئةِ سنةٍ، أليسَ يفوتُكَ بها المملكةُ في مُدَّةٍ لا آخرَ لها وهيَ مملكةُ الآخرةِ؟!
فإن كانَ لا يدخلُ في خيالِكَ طولُ الأبدِ .. فقدِّرِ الدُّنيا كلَّها مملوءةً ذُرَةً، وقدِّر طائراً يأخذُ في كلِّ ألفِ ألفِ سنةٍ حبَّةً واحدةً، فتفنى الذُّرَةُ ولم ينقصْ مِنَ الأبدِ شيءٌ؛ لأنَّ الباقيَ أيضاً لا نهايةَ لهُ كما كانَ قبلَ ذلكَ.
وأنت ترى نفسَكَ ترضى بتعبِ الأسفارِ؛ إمَّا في تجارةٍ، أو في طلبِ رئاسةٍ، وهذا التَّعَبُ النَّاجزُ لأجلِ شيءٍ موهومٍ ربَّما يُدرِكُكَ الموتُ قبلَهُ، وربَّما لا يصفو لكَ إن ظفرتَ بهِ، وإنَّما ترضى بذلكَ؛ لأنَّكَ تَستحقِرُ التَّعبَ سنةً مثلاً بالإضافةِ إلى بقيَّةِ العمرِ، وجملةُ عمرِكَ بالإضافةِ إلى الأبدِ أقلُّ مِنْ سنةٍ بالإضافةِ إلى عمرِكَ، بل لا إضافةَ بينَهُما، فتفكَّرْ فيهِ لينكشفَ لكَ جهلُكَ على القربِ.
ولعلَّكَ تقولُ: إِنَّما أفعلُ ذلكَ علىٰ توقُّعِ العفوِ؛ فإنَّ اللّهَ تعالى كريمٌ رحيمٌ.
فأقولُ: ولِمَ لا تتركُ الحراثةَ والتِّجارةَ وطلبَ المالِ على توقُع العثورِ على كنزٍ في خرابٍ؟ فإنَّ الله كريمٌ لا ينقصُ مِنْ ملكِهِ شيءٌ لو عَرَّفَكَ في منامِكَ كنزاً مِنَ الكنوزِ حتَّىٰ تأخذَهُ!!
فإن قلتَ: ذلكَ نادرٌ وإن كانَ داخلاً في قدرةِ اللهِ تعالى.
فاعلمْ: أنَّ توقُّعَ العفوِ معَ خرابِ الأعمالِ والأخلاقِ كتوقُّع كنز في خرابٍ، بل أبعدُ منهُ وأندَرُ، وقد نبَّهَكَ اللهُ تعالى عليهِ.
فقالَ: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) [النجم:39]، وقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص:28]، ورغَّبَكَ عن طلب المالِ، فقالَ: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود:6].
فما بالُكَ تُكذِّبُ بكرمِهِ في الدُّنيا، ولا تَتَّكلُ عليهِ، ثمَّ تخدعُ نفسَكَ بالكرمِ في الآخرةِ، وأنتَ تعلمُ أنَّ ربَّ الدُّنيا والآخرةِ واحدٌ؟!"
جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
الحمدُ لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أيُّنا أحسن عملًا، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أسعدُنا من عَلِمَ خطابه وعقَله، ونشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيد أهل الكمال وإمام المقربين الفُضلاء، اللهم أدم صلواتك على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، ومن والاهم واتبعهم نيةً وقولًا وفعلًا، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا من هو بكل فضلٍ وكرمٍ أولى.
يقول: "الأخلاق المذمومة" مغرسها "القلب"، فيجب أن تتفقد قلبك وهو محل نظر ربك لتخلِّصه مما يُذَم ومما يكرهه العليّ الأعظم، ومما لا يحبه مَن بيده ملكوت كل شيء، ومما لا يحبه عبده وصفوته رسوله محمد ﷺ، فتُخلي قلبك عمَّا لا يحبه الله ولا يحبه رسوله، ولا تتحلى إلا بوصفٍ محبوب لله ولرسوله تقرُب من الله ورسوله قربًا تكسب به المُلك المؤبد.
و "تَتفقَّدَ هذهِ الأخلاقَ في قلبِكَ، وتبدأَ بالأهمِّ فالأهمّ،" والأغلب الذي عليه أكثر الناس أنَّ الأغلُبَ عليهم "حبُّ الدُّنيا،" ويتبعها "سائرُ" وبقية الذنوب و "المعاصي والأخلاقِ المذمومةِ"؛ يتبع حب الدنيا.
فكيف تتخلص من حب الدنيا؟ إلا بأن يتحكم فيك:
فتخرج عن الغفلة وتخرج عن الجهالة؛ وكل خارجٍ عن الغفلة والجهالة لا يستطيع أن يحب الدنيا، بل يرى أن ذلك هلاك، وأن ذلك هو المُفوّت عليه النعيم المقيم، وأن ذلك هو الذي يَستَبدل به الخلود والأبد والبقاء، وأنَّه سبب لنقصه ولظَفرِ عدوّه به، فكيف يرضى له به!
لكن، كيف يتمكن منك العلم والعقل والذكر؟ فهذا الذي قال يحتاج للوصول إليه إلى "خلوةً"؛ "تطلبَ خلوةً خاليةً، وتَتفكَّرَ" (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) -صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم- (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سبأ:46-47].
فالرجوع إلى حسن التفكر إمَّا بمساعدة أخ وإمَّا بالخلوة، وتكرر على نفسك الحقيقة حتى تخرج من الوهم والظن والخيال، الذي حُبس فيه أكثر الناس، (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)، إِلَّا الظَّنَّ.. إِلَّا الظَّنَّ.. (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام:116]، يَخْرُصُونَ، يَخْرُصُونَ… ما هم حول الحقيقة أصلًا؛ ظنون وخرص وأوهام ملكتهم فهم وراءها يعملون، وعلى حسبها وبإيحائها يعملون، ويسمون أنفسهم قادة ومفكرين وعباقرة ومخترعين، وهم وراء الظن والوهم.
(وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) [النجم:28]، (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام:116] أمَّا الحقيقة ففي سرِ لا إله إلا الله، حققنا الله بها.
قال: "وتَتفكَّرَ في سببِ إقبالِكَ على الدُّنيا وإعراضِكَ عنِ الآخرةِ، فلا تجدُ لهُ سبباً إلَّا محضَ الجهلِ والغفلةِ؛" تصَّور وتخيل وفكِر بإنصاف:
وأصحاب الشيخوخة:
الشيخوخة وصلوا المائة، كم تعرف من الذين وصلوا المائة في قريتك، في بلادك، في أصحابك؟ كم؟ مائة، مائتين، عشرة، تقدر تجيب عشرة من الذين وصلوا المائة في جميع أقاربك وأصحابك وأهل بلدك؟ كم؟ هات خمسة، يصعب عليك أكثر خمسة، فلان وفلان وفلان، ما المعنى؟ اعقل، أعطيناك الفرصة وأُمدَّ لك في العمر، ووصلت للمائة، وبعدها ماذا كسبت؟ ماذا حصّلت؟ إلى ماذا انتهيت؟ وإلى أين؟ وما وراءك؟ يا الله!..
قال: لو فرضنا أنَّك في خلال مائة سنة سُلِّم لك زِمام الأمر من شرق الأرض إلى غربها، هذا كلام بعيد ما يكون، ما هو إلا بعضها، الدنيا وما فيها مئة سنة، ثُمَّ فوتَّ بها نعيم الأبد والخلود، كنت مجنون، أهبل، غافل، بليد، أحمق، فكيف وأنت فيما تطلبه من هذه الفانيات وتركن إليه لا تتعمَّر إلا من المائة سنة هذه إلا عشر سنين، خمس سنين، عشرين سنة، وانتهت، وبهذا الذي أدركته في خلال السنوات المحدودة، فوّتَّ مُلك الأبد ونعيم الأبد!! اعقل، حذِّر عقلك، حذَّر عقلك وقلبك، واذكر، ودع عنك الغفلة والجهالة.
إذا كان الأمر كذلك، فلا يجوز لو تُعمَّر عمر نوح أن تتعرض لفوات درجة من درجات الجنة، كيف بدرجات كثيرة؟ كيف بالجنة كلها أن تفوتك بسبب معصية؟ ولن تجد عمر نوح ولا غيره، ولو فرضنا مع عمر نوح عمر من قبله ومن بعده، وجعلناك الملك على الأرض من أيام نبينا آدم إلى أن تقوم الساعة، ولكن بعدها عذاب الأبد وهلاك الأبد ونكد الأبد وسخط الأبد… لكنت مجرم ظالم على نفسك طاغي، باغي، أبله، بليد! كيف والأمر بعيد جدًا جدًا جدًا جدًا عمرك القصير، وعلاقتك بالدنيا فيه حقير، حقير جدًا جدًا، قال: وتصوَّر الأبد والخلود، كيف؟
يقول: لو فرضنا أننا ملأنا الأرض بذُرة، حبات الذُرة ملئ الأرض، لا غرفة ولا حوش هذا ملء الأرض، وهناك طائر في كل ألف ألف سنة -مليون سنة- يأخذ حبة واحدة ويرحل، و بعد ألف ألف سنة يرجع، يأخذ حبة ويرحل، لو كان ملء كفي كم سيأخذ هذا؟ ملء غرفة؟ ملء الأرض، لو فرضنا ذلك، لنفد جميع حب الذرة من طرف الأرض إلى طرفها، وأهل الجنة في جنتهم وأهل النار في نارهم، هذا أبد يا أبلَه! هذا خلود، هذا دوام، هذا شيء عظيم ما له غاية ولا نهاية، كيف تفوِّته بمناسبة أيش؟ خلِّص نفسك، لماذا يضحكوا عليك بهذا العَرَض الذي يضعونه أمامك؟ وياليتك ترجع بخفيّ حنين، سهل لو خفيّ حنين ولكن سترجع بحسرة الأبد..
البدوي كان يريد أن يشتري من حنين خُفّين أعجبته ما رضي، الثمن غالي ما أطاعه، فتركه، وتحيّل له، لمّا زوَّد راحلته بما يحتاجه، وباع ما عنده واشترى ما يحتاجه من البلاد وزوّد الراحلة وبيسافر، تقدّم في الطريق وضع واحد من الخُفّين، في مكان كان على ممر البدوي وواحد بعد مسافة طويلة وضع الثاني، وهو يمشي وقع نظره على الخف الأول، قال: ما أشبه هذا بخف حُنين! لأنَّه واحد لو كان معه الثاني لأخذتهما، مشى، ولما شاهد الثاني قال هذا الثاني موجود! خرج من الناقة وتركها، وذاك متربّص له أخذ الناقة وما فيها، وهو راح يجيب الخف رجع حصّل الخف الثاني والناقة ما لها أثر، ويتلفت يمين شمال ولا عاد حصلها، ورجع إلى بلاده، قالوا: بماذا رجعت؟ أعطيناكم مبالغ لتجيب لنا الحاجات؟ قال: رجعت بخفيّ حُنين!! يضربونه مَثَل، هذا أحسن من الذي يفوِّت الآخرة من أجل الدنيا، يا ليت خُفيّ حُنين، بل هو همَّ الأبد وغمَّ الأبد ونكد الأبد وعذاب الأبد -والعياذ بالله تعالى- لكل من كفر، ولكل من استكبر.
قال: "وأنت ترى نفسَكَ ترضى بتعبِ الأسفارِ؛ إمَّا في تجارةٍ، أو في طلبِ رئاسةٍ، وهذا التَّعَبُ النَّاجزُ لأجلِ شيءٍ موهومٍ ربَّما يُدرِكُكَ الموتُ قبلَهُ، وربَّما لا يصفو لكَ إن ظفرتَ بهِ، وإنَّما ترضى بذلكَ؛ لأنَّكَ تَستحقِرُ التَّعبَ سنةً مثلاً بالإضافةِ إلى بقيَّةِ العمرِ، وجملةُ عمرِكَ بالإضافةِ إلى الأبدِ أقلُّ مِنْ سنةٍ بالإضافةِ إلى عمرِكَ، بل لا إضافةَ بينَهُما"، الأولين أيضًا كانوا يروحون في أعمال وغيرها، يشتغلون سنة سنتين، ويرجعون خلاص باقي عمره بالمحصول يمشّي نفسه، وعندما تطورنا ما عاد صرنا كذا، صار طول الوقت وهو يلهث وراء شيء من هذا المتاع.
قال: وعمرك كله بالنسبة إلى الأبد أيش يساوي؟ ما يساوي شيء، ولا يوم بالنسبة إلى عمرك وهكذا.
يقول: لا، لا أنا متوكل، كيف متوكل؟ أتوقع عفو الله، يعفو عني ويسامحني.. تمام، وما لك لا تتوقع كرم الله في الدنيا وتقعد عن الحراثة، والوظيفة، والعمل والسعي؟ قال: لا! كيف لا؟ أليس هو الكريم نفسه؟ هو العفو الكريم ممكن يكرمك في يوم تُحصِّل كنز -ما شاء الله- كثير كبير فما عاد تحتاج إلى شيء؟ نم.. قال: لا، لا! لماذا لا؟ قال: هذا نادر يكون، وإن كان داخل في قدرة الله نعم.
قال: وتوقعك للعفو والمسامحة مع إصرارك على الذنب أبعد وأندر من هذا، أندر من حصول هذا، هذا يحصل كثير -لا إله إلا الله-. يقول لك ربك: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء:123]، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].
يقول إذًا؛ تفكّر في حقيقة هذه الدُّنيا، وإلى كم تُلهيك؟ ويمكنك فيها مع قِصرها وحقارتها، أن تتزوّد بخير زاد، وترقى إلى مراتب المحبة والوداد، وتلحق بخيار العباد، ويُهيَّأ لك أبد وخلود في جنات تجري من تحتها الأنهار، فيها ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ إذا تحققت بهذا وذُقته، أترضى بحب الدُّنيا بعد ذلك؟! أترضى بشيء فيها يقطعك عن العزيز المالك -جلّ جلاله-؟!
فصلٌ
[في بيان أمور الآخرة، وذكرِ أصنافِ النَّاس فيها]
لعلَّكَ تقولُ: عواقبُ أمورِ الدُّنيا قدِ انكشفَتْ لي بالعِيانِ، واطمأنَّ قلبي إليها، وأمَّا أمرُ الآخرةِ .. فلم أشاهدْهُ، ولستُ أجدُ التَّصديقَ الحقيقيَّ في قلبي، فلذلكَ فتَرَتْ رغبتي في تركِ الدُّنيا نقداً بما هوَ موعودٌ نسيئةً، ولستُ أثقُ بهِ.
فأقولُ: لو كنتَ مِنْ أربابِ البصائرِ.. لأنكشفَ لكَ أمرُ الآخرةِ صريحاً كما انكشفَ أمرُ الدُّنيا، فإن لم تكنْ مِنْ أهلِهِ.. فتفكَّرْ في أقاويلِ أربابِ البصائرِ؛ فإنَّ النَّاسَ في أمرِ الآخرةِ أربعةُ أصناف:
صنفٌ أثبتوا الجنَّةَ والنَّارَ كما وردَ بهِ القرآنُ، وقد سمعتَ أنواعَ نعيمِها، وأنكالَ جحيمِها.
وصنفٌ ثانٍ لم يثبتوا اللَّذَّاتِ والآلامَ الحِسِّيَّةَ، بل أثبتوهُما على سبيلِ التَّخييلِ، كما في المنامِ، حتَّىٰ يكونُ كلُّ واحدٍ في جنَّةِ أو نارٍ يراها وحدَهُ، وزعموا أنَّ تأثيرَ ذلكَ فيهِ كتأثيرِ الحقيقةِ؛ لأنَّ تألِّمَ النَّائمِ كتأثُمِ اليقظانِ، وإنَّما يَخلُصُ عنهُ بالتَّنبُّهِ، وذلكَ في الآخرةِ دائمٌ لا انقطاعَ لهُ.
وصنفٌ ثالثٌ أثبتوا آلاماً عقليَّةً ولذَّاتٍ عقليَّةً، وزعموا أنَّ ذلكَ أعظمُ مِنَ الحِسِّيَّةِ، ومثَّلوا ذلكَ باستشعار لذَّةِ المُلْكِ، واستشعارِ زوالِها؛ فإنَّ زوالَ المُلْكِ يُورِثُ آلاماً كثيرةً بدنيَّةً على مَنْ يَظفَرُ بهِ عدوُّهُ، ويأخذُ مملكتَهُ ويستسخرُهُ، معَ أنَّ ظفرَ العدوِ لا يُؤلِمُ البدنَ.
وهؤلاءِ هم أصنافُ النُّظَّارِ -أعني: الأصنافَ الثَّلاثةَ- وفيهِمُ الأنبياءُ والأولياءُ والحكماءُ، وكلُّهُمُ اتَّفقوا على إثباتِ سعادةٍ مُؤبَّدةٍ، وشقاوةٍ مُؤبَّدةٍ؛ فإنَّ السَّعادةَ لا تُنالُ إلَّا بتركِ الدُّنيا، والإقبالِ على اللهِ عزَّ وجلَّ، ولو مرضتَ ولم تكنْ مِنْ أهلِ البصيرةِ في طبِّ، ورأيتَ أفاضلَ الأطبَّاءِ قدِ اتَّفقوا على شيءٍ.. لم تَتوقَّف في اتّباعِهِم.
وصنفٌ رابعٌ ليسوا مِنَ النُّظَّارِ في الأمورِ الإلهيَّةِ، بل مِنَ الأطبَّاءِ والمُنجِّمينَ، اقتصرَ نظرُهُم على الطَّبائعِ الأربعِ ومِزاجِها، ورأَوا قوامَ الرُّوحِ موقوفاً عليها، ولم يتفطَّنوا لحقيقةِ الرُوحِ الإلهيّ الحقيقيِّ الذي هوَ العارفُ باللهِ تعالى، بل لم يدركوا إلَّا الرُّوحَ الجسمانيَّ الذي هوَ بخارٌ أنضجَتْهُ حرارةُ القلبِ، يَنتشِرُ في العُروقِ الضَّواربِ إلىٰ جميعِ البدنِ، فيقومُ بهِ الحسُّ والحركةُ، وهيَ الرُّوحُ التي تُوجدُ للبهائمِ أيضاً.
فأمَّا الرُّوحُ الخاصُّ الإنسانيُّ المنسوبُ إلى اللهِ سبحانَهُ حيثُ قال: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي)[الحجر:29] .. فلم يَتفطَّنوا لهُ، فظنُّوا أنَّ الموتَ عَدَمٌ، وأنَّه يرجعُ إلى فسادِ المِزاجِ.
وأنتَ في حقِّ هؤلاءِ بينَ أمرينِ: إمَّا أن تُجوِّزَ غلطَهُم، أو تَعلَمَ قطعاً صحَّةَ قولِهِم.
فإن جَوَّزتَ خطأَهُم.. لزمَكَ الإعراضُ عنِ الدُّنيا بمُجرَّدِ الاحتمالِ؛ فإنَّكَ لو كنتَ صادقَ الجوع، وظفرتَ بطعامٍ، وهممتَ بأكلِهِ، فأخبركَ صبيٌّ أنَّ فيهِ سمّاً، أو أنَّ حيَّةً ولغَتْ فيهِ .. قاسيتَ الجوعَ وتركتَ الأكلَ؛ لأنَّكَ تقولُ: إن كانَ كاذباً.. ليسَ تفوتُني إلَّا لذَّةُ الأكلِ، وإن كانَ صادقاً.. ففيهِ الهلاكُ!! وبمثلِ هذا الاحتمالِ لا يمكنُ الهجومُ عليهِ.
فليتَ شعري!! معَ احتمالِ الخلودِ في النَّارِ كيفَ يستجرئُ العاقلُ الهجومَ عليهِ؟! وكيفَ لا يكونُ كاليقينِ التَّامِّ في الحذرِ منهُ؟! حتَّىٰ تنبَّه الشَّاعرُ معَ ركاكةِ عقلِهِ فقالَ:
زَعَمَ ٱلْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا *** لَا تُحْشَرُ الْأَمْوَاتُ قُلْتُ إِلَيْكُمَا
إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ *** أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا
فإن قلتَ: إنّي أعلمُ ضرورةً صدقَ هؤلاءِ، وأنَّ الموتَ عَدَمٌ، وأنَّهُ لا عقابَ ولا ثوابَ، وأنَّ الأنبياءَ والأولياءَ كلَّهُم مغرورونَ أو مُلبِّسونَ، وإنَّما الذي انكشفَتْ لهُ حقيقةُ الحقِّ هوَ هذا الطَّبيبُ الجاهلُ، وزعمتَ أنِّي أعلمُ ذلكَ كما أعلمُ أنَّ الاثنينِ أكثرُ مِنَ الواحدِ، حتَّى لا يخالجُني فيهِ ريبٌ.
فيدلُّ هذا على فسادِ المِزاجِ، وركاكةِ العقلِ، والبعدِ عن قَبُولِ العلاجٍ، ولكنْ معَ هٰذا يُقالُ لكَ: إن كنتَ تطلبُ الرَّاحةَ في الدُّنيا .. فقد يتقاضاكَ عقلُكَ أيضاً مجاهدةَ الشَّهَواتِ وكسرِها؛ فإنَّ الرَّاحةَ في الحُرِّيَّةِ والخلاصِ عن أسرِ الشَّهَواتِ، لا في اتِّباعِها؛ فإنَّها إذا تسلَّطَتْ على النَّفسِ.. فهيَ آلامٌ ناجزةٌ، تحملُ النَّفسَ على احتمالِ كلِّ ذلّ ومَشقَّةٍ، وما المستريحُ في الدُّنيا إلَّا تاركُها والزاهدُ فيها، وأمَّا طالبُها.. فلا يزالُ منها في عَناءِ."
ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
هكذا يذكر -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- بيان شؤون الآخرة، وأقسام النَّاس فيها. يقول: قد يأتيك وهمك وخيالك ووسوسة عدوك لك، ووهم نفسك ويقول لك: الدُّنيا مشاهَدة أمام عيني، والآخرة أمرها لست أُشاهده؛ فـ "فتَرَتْ رغبتي في تركِ الدُّنيا نقداً" هي نقد أشاهده "بما هوَ موعودٌ نسيئةً، ولستُ أثقُ بهِ."
"فأقولُ: لو كنتَ مِنْ أربابِ البصائرِ .. لأنكشفَ لكَ أمرُ الآخرةِ صريحاً كما انكشفَ أمرُ الدُّنيا" (قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس:78-79]، فإذا ما كنت كذلك فأمامك "أربابِ البصائرِ" انظر ماذا قالوا: "فإنَّ النَّاسَ في أمرِ الآخرةِ أربعةُ أصناف:
قال: "هؤلاءِ" الثلاثة "النُّظَّارِ"؛ يعني: الذين لهم نظر في الأمر وبحث، "كلُّهُمُ" أجمعوا "على إثباتِ سعادةٍ مُؤبَّدةٍ، وشقاوةٍ مُؤبَّدةٍ"؛ إذًا هل يمكن ترك السَّعادة المؤبدة لأجل سعادة غير مؤبدة، ولا اكتساب الشَّقاوة المؤبدة بسعادة مُنقضية؟ أبد ما يمكن هذا…
يقول: ولكن هؤلاء، ليسوا من "النُّظَّارِ" أيضًا، ورأوا هذه الدُّنيا وحدها "ولم يتفطَّنوا لحقيقةِ الرُوحِ الإلهيّ الحقيقيِّ، بل لم يدركوا إلَّا الرُّوحَ الجسمانيَّ الذي هوَ بخارٌ أنضجَتْهُ حرارةُ القلبِ" الحس الحيواني هذا، "فأمَّا الرُّوحُ الخاصُّ الإنسانيُّ (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِى) [الحجر:29] .. فلم يَتفطَّنوا لهُ".
إذًا؛ أمام هؤلاء أنت "بينَ أمرينِ: إمَّا أن تُجوِزَ غلطَهُم هذا، أو تَعلَمَ قطعاً صحَّةَ قولِهِم".
"فإن جَوَّزتَ خطأَهُم.." فالنُّظَّار والأصناف الثَّلاثة كلّها يثبتون سعادة الأبد أو شقاوة الأبد؛ فانتبه لنفسك.
إن قُلت: أنا مصدقهم هؤلاء -والعياذ بالله تعالى- مع أنك قال: أنت لو توقعت الخطر، لو كنت جائع وبعدين حصّلت لك على قرص تمام من الخبز وطعام حسن، ولكن قال لك صبيٌّ -صبي!- قال لك: هذا فيه سُم أو قال لك: حية جاءت ولغت فيه، أكلت منه، ستقول خلاص ما أريده، أنت جائع والأكل أمامك، لا تريده، لماذا ما تريد؟ تقول: يمكن صدق كلامه، وسأموت، فأحسن لي أن أترك لذة أكلة ولا أخسر الحياة كلها، تتركه.. وهذا قول صَّبي، وإذا عندك قول لك أنبياء وصدّيقين، وعارفين وأولياء ملء الأرض، مروا وقالوا لك، وعادك ما تصدق؟ عندك شك فيهم؟ أم تؤثر الدُّنيا على الآخرة وتترك احتمال …
قال: "فإن جَوَّزتَ خطأَهُم... لزمَكَ الإعراضُ عنِ الدُّنيا"؛ لأن الأمر مُحتمل، فإذا قلت: أنا جازم بالخطأ، وأن الموت عدم ولا عقاب ولا ثواب -لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- قال: عندك "فسادِ المِزاجِ، وركاكةِ" في "العقلِ، والبعدِ عن قَبُولِ العلاجٍ، ولكنْ معَ هٰذا يُقالُ لكَ: إن كنتَ تطلبُ الرَّاحةَ في الدُّنيا .. فقد يتقاضاكَ عقلُكَ أيضاً مجاهدةَ الشَّهَواتِ وكسرِها؛ فإنَّ الرَّاحةَ في الحُرِّيَّةِ والخلاصِ عن أسرِ الشَّهَواتِ، لا في اتِّباعِها؛ فإنَّها إذا تسلَّطَتْ على النَّفسِ.. فهيَ آلامٌ ناجزةٌ، تحملُ النَّفسَ على احتمالِ كلِّ ذلّ ومَشقَّةٍ، وما المستريحُ في الدُّنيا إلَّا تاركُها" لا طالبها "وأمَّا طالبُها.. فلا يزالُ منها في عَناءِ." وانظر أمامك، مَن منهم مُستريح؟ حد مُشرَّد، وحد مخوَّف، وحد مسجون، وحد محكوم عليه، وحد كل يوم يحلم الانقلاب عليه… وحد جاءه حظر على حقه الحساب، وحد… قدامك شوفهم، وحد أصم، وحد أعمى، وحد ما عاد يقدر يمشي ويقوم… ما ارتاحوا!... فأنت تريد تمشي إلى أين؟ ما لك؟ حتى لو أنت غير مُصدّق بالآخرة، كان عقلك يهديك بأن لا تسقط هذه السّقطة، ورتب لنفسك شيئًا من الحرية والكرامة.
"فإن لم تكنْ في أمرِ الآخرةِ على تخمينٍ، ولا مِنْ مشاهدةِ آفاتِ الدُّنيا علىٰ يقينٍ" .. ما عاد نقدر نتكلم معك، أنت الحيوانات أحسن منك وأفهم منك، وخرجت نهائيًا عن أي ذرة عن أي مسكة من العقل، من الفهم -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
03 ربيع الأول 1447