(370)
(606)
(339)
(535)
الدرس الثلاثون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثالث: تزكية القلوب: تكملة شرح الأصل العاشر: الرياء (2)، ثم خاتمة في مجامع الأخلاق والغرور منها
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
ظهر الإثنين 2 ربيع الأول 1447هـ
يواصل في الدرس مباحث الرياء ومداخله في النيّة والعمل والقول، ثم يشرح خاتمة في مجامع الأخلاق: معنى "الصورة الباطنة" واعتدال قوى النفس والتوسّط بين الإفراط والتفريط، مع إشاراتٍ إلى غرور الأخلاق، كما يبيّن المنزلة العظمى لـ"حُسن الخُلُق" وذروته في خُلُق النبي ﷺ.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
فصلٌ
في بيانِ أحكامٍ واردِ الرياءِ
"لعلَّكَ تقولُ: ما أقدرُ على الانفكاكِ عن الرِّياءِ الخفيّ كما وصفتَهُ وإن قدرتُ على الرِياءِ الجليِّ، فهل تنعقدُ عبادتي معَ ذلكَ؟
فاعلمْ: أنَّ واردَ الرِّياءِ لا يخلو: إمَّا أن يَرِدَ معَ أوَّلِ العملِ، أو في دوامِهِ، أو بعدَ الفراغِ منهُ أمَّا ما يقارنُ الابتداءَ: فيبطلُهُ، ويمنعُ انعقادَهُ إن صارَ باعثاً مُؤثِّراً في الحملِ على العملِ، بل أوَّلُ العقدِ يجبُ أن يكونَ خالصاً، وإنَّما يبطلُ بالرِّياءِ الباعثِ على أصلِ العملِ، وأمَّا إذا لم يَحمِلْ إلَّا على المبادرةِ في أوَّلِ الوقتِ مثلاً.. فأظنُّ -والعلمُ عندَ اللهِ تعالىٰ- أنَّ أصلَ الصَّلاةِ يصحُّ، وإنَّما تفوتُهُ فضيلةُ المبادرةِ، ويعصي بقصدِ المراءاةِ بهِ، ولٰكنْ يسقطُ الفرضُ عنهُ.
وأمَّا ما يَرِدُ في دوامِ الصَّلاةِ: إن أبطلَ باعثَ الصَّلاةِ.. فيبطلُ الصَّلاةَ؛ مثالُهُ: أن يحضرَ في أثناءِ الصَّلاةِ نظَّارةٌ، ويَتذكَّرَ نسيانَ شيء، ولو خلا.. لقطعَ الصَّلاةَ، لكنَّهُ أتمَّ حياءً مِنَ النَّاسِ، فهذا لا يسقطُ الفرضَ؛ لأنَّ النِّيَّةَ قدِ انقطعَتْ، وانقطعَ باعثُ العبادةِ.
وأمَّا إذا لم تنقطعْ نيَّتُهُ، لكنْ صارَ مغموراً مغلوباً؛ كما لو حضرَ قومٌ، فغلبَ علىٰ قلبِهِ الفرحُ باطِلاعِهِم، وانغمرَ باعثُ لعبادةٍ.. فغالبُ الظّنِّ: أنَّهُ إنِ انقضىٰ ركنٌ، ولم يعاودْهُ الباعثُ الأصليُّ.. فسدَتْ صلاتُهُ؛ لأنَّا نستصحبُ نيَّةَ البدايةِ بشرطِ أَلَّا يَطرأ ما لو قارنَ ابتداءَها.. لمنعَ، وإن لم ينغمر باعثُ العبادةِ، ولٰكنْ حصلَ مُجرَّدُ سرورِ، ولم يُؤثِّرْ في العملِ، بل في تحسينِ الصَّلاةِ فقطْ.. فغالبُ الظَّبّ -واللهُ أعلمُ-: أنَّ الصَّلاةَ لا تفسدُ، ويتأدَّى الفرضُ.
وأمَّا ما يطرأُ بعدَ الصَّلاةِ مِنْ ذكرٍ وسرورٍ ومراءاةٍ: فلا ينعطفُ علىٰ ما مضىٰ، ولكنْ يعصي بهِ ويأثمُ، ويكونُ عقابُهُ بقَدْرِ قصدِهِ وإظهارِهِ، ومهما ظهرَتْ لهُ داعيةُ ذكرِ العبادةِ؛ إمَّا بالتَّصريحِ، وإمَّا بالتَّعريضِ.. فذلكَ يدلُّ على أنَّ الرِّياءَ كانَ خفيّاً في باطِنِهِ".
فصْلٌ
في علاجِ داءِ الرياءِ
"إذا عرفتَ حقيقةَ الرِّياءِ وكثرةَ مداخلِهِ، فعليكَ بالتَّشمُّرِ لِمعالجتِهِ، وعلاجُهُ: دفعُ الأسبابِ الباعثةِ عليهِ؛ وهيَ ثلاثةٌ: حبُّ المدحِ، وخوفُ الذَّمِّ، والطَّمعُ.
أمَّا حبُّ المدحِ: كمَنْ يهجمُ على صفّ القتالِ ليُقالَ: إنَّهُ شُجاعٌ، أو يُظهِرُ العباداتِ ليُقالَ: إنَّهُ ورعٌ .. فعلاجُهُ: ما ذكرناهُ في علاجِ حبِّ الجاهِ؛ وهوَ: أن يعلمَ أنَّهُ كمالٌ وهميٌّ لا حقيقةً لهُ، وعلاجُهُ في الرِّياءِ خاصَّةً: أن يُقرِّرَ على نفسِهِ ما فيهِ مِنَ الضَّرر؛ فإنَّ العسلَ وإن كانَ لذيذاً، فإذا عَلِمَ أنَّ فيهِ سمّاً.. سَهُلَ تركُهُ، فليُقرِرْ على نفسِهِ: أنَّهُ يُقالُ لهُ في يومِ فقرِهِ بسببٍ ريائِهِ: يا فاجرُ، يا غاوي؛ استهزأتَ باللهِ عزَّ وجلَّ، وراقبتَ العبادَ، وتَحبَّبتَ إليهِم، واشتريتَ حمدَهُم بذمِّ اللهِ تعالىٰ، وطلبتَ رضاهُم بسخطِهِ، أمَا كانَ أحدٌ أهونَ عليكَ مِنَ اللهِ تَعالىٰ؟!
فلو لم يكنْ إلَّا هٰذا الخِزْيُ والخَجْلةُ.. لكانَ كافياً في المنع عنهُ، كيفَ وقدِ انضمَّ إليهِ العقوبةُ، وإحباطُ العبادةِ، وأنَّهُ ربَّما يَترجَّحُ بهِ كِفَّةُ السَّيِّئاتِ بعدَ أن قارنَتْ كِفَّةَ الحسناتِ، فيكونُ سببَ هلاكِهِ؟!
وليُقرِّرْ على نفسِهِ: أنَّ رضا النَّاسِ غايةٌ لا تُدرَكُ، ومَنْ طلبَ رضا النَّاسِ بسخطِ اللهِ تعالىٰ.. أسخطَهُم عليهِ، فكيفَ يتركُ رضا اللهِ بما لا يطمعُ في حصولِهِ؟!
وأمَّا الباعثُ الثَّاني -وهوَ الخوفُ مِنْ ذمِّهِم-: فيُقرِّرُ علىٰ نفسِهِ: أنَّ ذمَّهُم لن يضرَّهُ إن كانَ محموداً عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، فلِمَ يَتعرَّضُ لذمِّ اللهِ ومقتِهِ خوفاً مِنْ ذمِّ الخَلْقِ؟! ويكفيهِ: أنَّ النَّاسَ لو علموا ما في باطنِهِ مِنْ قصدِ الرِّياءِ.. لمقتوهُ، ويأبى اللهُ إلَّا أن يكشفَ سرَّهُ حتَّىٰ يُعرَفَ نفاقُهُ، فيمقتَهُ النَّاسُ أيضاً بعدَ أن مقتَهُ اللهُ تعالىٰ، ولو أخلصَ وأعرضَ بقلبِهِ عنهُم، وجَرَّدَ نظرَهُ إلى اللّهِ تعالىٰ.. لكشفَ لهُم إخلاصَهُ لهُ فأحبُّوهُ.
وأمَّا باعثُ الطَّمعِ: فيدفعُهُ بأن يعلمَ أنَّ ذلكَ أمرٌ موهومٌ، وفواتُ رضا اللهِ تعالىٰ ناجزٌ، ويعلمَ أنَّ الله تعالى هوَ المُسخِّرُ للقلوبِ، وأنَّ مَنْ طَمِعَ في الخَلْقِ.. لم يَخلُ عنِ الذُّلِّ والمَهانةٍ والمِنَّةِ، ومَنْ أعرضَ عنِ الطَّمعِ في الخَلْقِ.. كفاهُ اللهُ تعالَىٰ، وسَخَّرَ لهُ القلوبَ.
فإذا أحضرَ في قلبِهِ نعيمَ الآخرةِ، والدَّرجاتِ الرَّفيعةَ، وعَلِمَ أنَّ ذلكَ يفوتُ بالرِّياءِ.. أعرضَ قلبُهُ عنِ الخَلْقِ، واجتمعَ همُّهُ، وفاضَتْ عليهِ أنوارُ الإخلاصِ، وأمدَّهُ اللهُ سبحانَهُ بمَعونتِهِ وتوفيقِهِ".
فَصْلٌ
في علاجِ واردِ الرِّياءِ بغتةً
"لعلَّكَ تقولُ: إنِّي قرَّرتُ هٰذا كلَّهُ علىٰ نفسي، ونفرَ عنِ الرِّياءِ قلبي، ولكن ربَّما هجمَ عليَّ واردُ الرِّياءِ بغتةً في بعضِ العباداتِ عندَ اطِلاعِ الخَلْقِ، فما العلاجُ عندَ هجومِهِ؟
فاعلمْ: أنَّ أصلَ هٰذا العلاجِ: أن تُخفيَ عبادتَكَ كما تخفي فواحشَكَ؛ ففيهِ السَّلامةُ، رُوِيَ: أنَّ بعضَ أصحابٍ أبي حفصٍ الحدَّادِ ذمَّ الدُّنيا وأهلَها، فقالَ لهُ: أظهرتَ ما كانَ سبيلُكَ أن تُخفيَهُ، لا تجالسْنا بعدَ هذا.
واعلمْ: أنَّ إخفاءَ العبادةِ إنَّما يَشُقُّ في البدايةِ ، فإذا صارَ ذلكَ عادةً.. أَلِفَ الطَّبعُ لذَّةَ المناجاةِ في الخلوةِ، ومهما هجمَ واردُ الرِّياءِ.. فعلاجُهُ: أن تُجدِّدَ على قلبِكَ ما رسخَ فيهِ مِنْ قبلُ مِنَ المعرفةِ بالتَّعرُّضِ لمقتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، معَ عجزِ النَّاسِ عن منفعتِكَ ومضرَّتِكَ، حتَّى تنبعثَ منهُ كراهيةٌ لداعيةِ الرِّياءِ.
ثمَّ الشَّهوةُ تدعو إلىٰ إجابةِ الرِّياءِ بتحسينِ العملِ والفرح بهِ، والكراهيةُ تدعو إلى ردّهِ والإعراضِ عنهُ ، وتكونُ اليدُ للأقوى؛ فإن قويَتِ الكراهيةُ حتَّىٰ منعَتْكَ مِنَ الرُّكونِ إليه ، واستصحبتَ حالتَكَ التي كنتَ عليها؛ فلم تزِدْ ولم تنقصْ ، ولم تتكلَّفْ إظهارَ الفعلِ وانتشارَهُ .. فقدِ اندفعَ عنكَ الإثمُ، ولم تُكلَّفْ أكثرَ مِنْ ذلكَ.
وأمَّا دفعُ الخواطرِ، ودفعُ الطَّبعِ عنِ الميلِ إلى قَبُولِ النَّاسِ.. فلا يدخلُ تحتَ التَّكليفِ، وإنَّما منتهى التكليفِ الكراهيةُ، والإباءُ عن إجابةِ الدَّاعيةِ".
الحمد لله مكرمِنا بالعلاج لكل ذي اعُوجاج، ومانحِ الشفاء لكل متوجهٍ بالصدق إليه على خير منهاج، ومنقِّي بواطن كل من استضاء بنور عبده السراج، اللهم أدم صلواتك على عبدك المختار هادينا إليك ودالنا عليك سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن سار في سبيله إلى يوم الوقوف بين يديك، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أكرم الخلائق عليك، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعد؛
فيتحدث الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- فيما يرد من واردات الرياء وكيفية دفعها، وأطال الكلام في هذا الباب لأنه رآه الغالب؛ الغالب على أكثر المسلمين وأكثر المتوجهين إلى -الله تبارك وتعالى- بأنواع العبادة.
فإن منه كما تقدم خفي ومنه أخفى من دبيب النمل، والغرابة أن من ورائه العُجب وهو أخفى من الرياء، وفي الرياء ما هو أخفى من دبيب النمل، فالله يخلصنا من جميع تلك الشوائب، ويرفعنا إلى عالي المراتب.
قال: "لعلَّكَ تقولُ: ما أقدرُ على الانفكاكِ عن الرِّياءِ الخفيّ" هذا الذي "وصفتَهُ" وبيَّنت لنا طرقه ومداخله "وإن قدرتُ على الرِياءِ الجليِّ، فهل تنعقدُ عبادتي معَ ذلكَ؟" وتصح أم لا؟
قال: "واردَ الرِّياءِ لا يخلو: إمَّا أن يَرِدَ معَ أوَّلِ العملِ، أو في دوامِهِ، أو بعدَ الفراغِ منهُ"، إذا سألت من جهة فقهية عن صحة عباداتك من صلاة هل يسقط بها الفرض أو لا؟ ومن صوم يسقط به الفرض أو لا؟ من زكاة هل يسقط بها الفرض أو لا؟ قال فهذا من جهة الفقه، وقد تحدث عنه الإمام الغزالي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- بكلام لا يعتاده غالب الفقهاء أو أكثر الفقهاء، فإنهم ما يُعَرِّجون على ما ينازل القلب من الإرادات والنيات في الغالب، ويكتفون بأمر الظاهر ويقولون: الشريعة تحكم بالظاهر، وقد ناقش الإمام الغزالي أنهم يستدلون على إبطال العبادات وغيرها من أنواع المعاملات بأدلة أضعف بكثير وأقل من الأدلة التي وردت في إبطال العبادات بهذه المقاصد وهذه الإيرادات، ويقيمون عليها شروطًا يبطلون بها أنواعًا من العبادات وغيرها، وهذه أحاديث صريحة وآيات صريحة من حقها أن تُأخذ بعين الاعتبار.
فقال: واردَ الرِّياءِ.. إمَّا:
يمنع انعقاد العبادة من أصلها "إن صارَ باعثاً مُؤثِّراً في الحملِ على العملِ" فما بعثه على أن يصلي هو شهود الخلق ورؤيتهم وخوف مذمتهم أو رجاء مدحتهم وما إلى ذلك.
هو سيصلي على كل حال، أحد حضر أو لا أحد حضر، أحد رآه أو ما أحد رآه، ولكن من أجل " المراءاةِ" يبادر بالصلاة، من أجل " المراءاةِ" يُحَسِّن الصلاة ويطولها، فهذا ما يبطِل أصل انعقاد الصلاة، الصلاة تنعقد ويسقط بها الفرض، ولكن يُحاسب على هذا الذي يطرأ عليه ويفوته من الثواب وما إلى ذلك. "وأمَّا إذا لم يَحمِلْ إلَّا على المبادرةِ في أوَّلِ الوقتِ مثلاً.. يقول: فأظنُّ -والعلمُ عندَ اللهِ تعالىٰ- أنَّ أصلَ الصَّلاةِ يصحُّ، وإنَّما تفوتُهُ فضيلةُ المبادرةِ" ما يحسب له؛ فضيلة الإحسان في الصلاة والتطويل لا تحسب له؛ لأنه انبعث من أجل الخلق، ويسقط الفرض الذي لولا الخلق لأداه كما هو، الحالة التي يؤدي بها الصلاة لو لم يحضر أحد من الخلق هذا الذي يحسب له، وما زاد على ذلك مما أحدثه من أجل رؤية الخلق باطل ولا يصح، هذا ما يحصل من البواعث ودواعي الرَّياء في ابتداء العمل.
بأن كان يدخل الصلاة من أجل الله ولا يراعي الخلق، أو يصوم من أجل الله ولا يراعي الخلق، أو يؤدي الزكاة أيضًا من أجل الله ولا يراعي الخلق، لكن أثناء الصلاة، أثناء الصوم، أثناء أدائه للزكاة، يعرض له عوارض الرياء، قال: "إن أبطلَ الباعثَ" من أصله يبطل به، مثلاً يحضر في أثناء الصلاة له فكر ويتذكر نسيان شيء، لو ما كان أحد عنده لقطع الصلاة ورجع إليه، لكنه أتمها حياء من الناس، قال: هذا الباعث الآن عاد على الأصل، عاد على الأصل بحيث أنه يقينًا كان سيقطع الصلاة، يقينًا كان سيمنع الزكاة ولم يخرجها في ذلك الحال والوقت وهو يؤدي بعضها، يقينًا كان سيفطر من الصوم لكن لأن الناس عنده أخّر ذلك، قال: هذا عادت باعثته على الأصل وهو الدخول في العبادة فأبطلته؛ مثل من يتردد في قطع الصلاة يقول الفقهاء فتبطل صلاته إذا تردد في قطع الصلاة، بل لو شك في النية في الصلاة تبطل صلاته عندهم، إذا مر عليه مقدار الركن وهو شاك هل نوى الصلاة أم لا وهذا من باب أولى؛ لأنه ما أتم إلا حياء من الناس، قال: "فهذا لا يسقطُ الفرضَ"، روح صلِّ صلاة ثانية، هذه ما كملتها إلا لأجل الناس ولولاهم لقطعتها وخرجت منها. قال: "وأمَّا إذا لم تنقطعْ نيَّتُهُ" وصار طارئاً عليه في أثناء العبادة ما يتعلق بأصل العبادة، ما كان سيقطعها "لكنْ صارَ مغموراً مغلوباً؛ كما لو حضرَ قومٌ" -وهو يصلي- "فغلبَ علىٰ قلبِهِ الفرحُ باطِلاعِهِم، وانغمرَ باعثُ العبادةٍ" قال: هذا إذا "انقضىٰ ركنٌ، ولم يعاودْهُ الباعثُ الأصليُّ.. فسدَتْ صلاتُهُ" مثل الذي مر عليه وقت وهو شاك في الدخول للصلاة في النية.
قال: "لأنَّا نستصحبُ نيَّةَ البدايةِ بشرطِ أَلَّا يَطرأ ما لو قارنَ ابتداءَها.. لمنعَ، وإن لم ينغمر باعثُ العبادةِ، ولٰكنْ حصلَ مُجرَّدُ سرورِ، ولم يُؤثِّرْ في العملِ، بل في تحسينِ الصَّلاةِ فقطْ.. -مثلًا- فغالبُ الظَّبّ -واللهُ أعلمُ-: أنَّ الصَّلاةَ لا تفسدُ، ويتأدَّى الفرضُة"، ولكن هذا التحسين الذي طرأ لا يُثاب عليه؛ لأنه ما طرأ عليه إلا بباعث الخلق وإرادة الخلق، فكيف؟ من أين يُحَصِّل الثواب؟ بل ربما يُحاسب عليه.
انتهى من الصلاة وبعدها قال: الله صلينا صلاة عجيبة نحن وفلان وفلان ما شاء الله -لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- والناس ولا يدرون بصلاته "بعدَ الصَّلاةِ مِنْ ذكرٍ وسرورٍ" باطلاع الخلق أو "مراءاةٍ: فلا ينعطفُ علىٰ ما مضىٰ،" ما تبطل الصلاة من أصلها، "ولكنْ يعصي" بهذا القصد، بهذه الإرادة الطارئة عليه "ويكونُ عقابُهُ بقَدْرِ قصدِهِ وإظهارِهِ، ومهما ظهرَتْ لهُ داعيةُ ذكرِ العبادةِ؛ إمَّا بالتَّصريحِ، وإمَّا بالتَّعريضِ.. فذلكَ يدلُّ على أنَّ الرِّياءَ كانَ خفيّاً في باطِنِهِ".
وهكذا يذكر الإمام الشعراني -عليه رحمة الله تعالى- كان واحدًا من الخيار قصابًا يبيع اللحم، وكان يصوم، فصام عشرين سنة لم يعلم به أحد، أخفى صومه، قال: فحسده الشيطان وأراد أن يبطل صومه، لا يستطيع أن يبطل صومه كله، كان أقل شيء أن يبطل فضيلة الإخفاء؛ الإخفاء الذي لم يدع أحدًا يدري به، وكان بينه وبين الله سر ولم يدرِ به أحد، حتى أهل بيته وقرابته لا يعرفون أنه صائم، فإذا لم يقدر أن يبطل الصوم من أصله، يبطل ثواب الإخفاء هذا لأنه ثواب كبير، قال: فتصور بصورة مشتري للحم من عنده، فجاء الشيطان يقول: زن لي اللحم أريده كذا وكذا، زان له، قال: زِدني فإن لي ثلاثة أيام وأنا صائم، فزاده، قال: زِدني فإن لي ثلاثة أيام أنا صائم حتى اليوم الرابع، فزاده قليلًا. قال: أقول لك ثلاثة أيام وأنا صائم، ثلاثة أيام، ثلاثة أيام، ثلاثة أيام؟! أنا لي عشرين سنة! استثاره حتى أظهر، فلما قال: ضحك وترك اللحم وراح، وعرف أن هذا الشيطان، ما قصده إلا أن يظهر الذي أخفاه في هذه المدة كلها هكذا قدر عليه.
يقول الشيخ الشعراني: يعني أنه ما كان متربيًا على يد شيخ، وإلا ما يقدر الشيطان عليه.
وهكذا يقول: كنت أذكر ثواب صدقة السر وإخفاء الصدقة، وعندي بعض التجار في القاهرة، قال: فجاء إلى عندي وقال: شوف أنا اليوم من الآن نويت أخرج صدقتي كلها بالسر، ولا عاد أُظهر شيئاً منها قلت له: ما بتتمكن من ذلك حتى تتربى، وتتربى على يد شيخ ينزل ما في باطنك من إرادة الخلق والالتفات إليهم، ويثبت في باطنك عظمة نظر الله تعالى، قال: سمعت كلامك تمام، وسمعت الحديث الذي جبته، ومن الآن خلاص ولا عاد أظهر صَدقاَتي وسأجعلها سر إن شاء الله، قال: بعد أيام جاءني واحد وقع في أزمة شديدة، قلت له: روح عند فلان الفلاني، تعال له في الليل حيث لا يكون عنده أحد ولا شيء، وقله عليه كذا كذا، وقل له أنك محتاج، راح إلى عنده قصده فأعطاه، فأعطاه المبلغ فرجع، قال للشيخ: أعطاني كذا، قال: بارك الله فيك، امش، قال: جاءني ثاني يوم صاحب الصدقة، قال: الناس هذه الأيام في حاجة وكذا، وبعضهم تقع لهم نكبات وهكذا، قال: أنا داري أنه يريدنا ندرى، قال: سكتت، قال الشيخ: جاءني اليوم الثاني بعده يقول: هالأيام فيها أزمة هذه حتى بعض الناس وحتى واحد قصده واحد كذا وأعطاه، هذا جاب المبلغ الذي أعطاه، قلت له: طيب مرحبا، جاء اليوم الثالث قال: شوف هذاك اللي ذكرت لك هو أنا، هذا جاءني، أنا ما أحب إلا بس أنت شيخي ما أحب أخفي عليك شيء، قال: قد قلت لك من أول يوم أنا اللي أرسلته لك، ومر علي قبلك وأنا الذي قلت له اعمل كذا، وجئت هنا ثاني يوم تحوم حول القضية، وأعطاه ثاني يوم صرحت أكثر وذكرت المبلغ وأنا داري من أول، واليوم الثالث فتحت ما عندك وأنا داري أنه ما بتخليك نفسك ولا شيطانك، قال له: تربَّى، روح تربَّى حتى تستطيع تعبد الله على كمال الإخلاص، -اللهم ارزقنا كمال الإخلاص لوجهك الكريم-.
قال: "ومهما ظهرَتْ لهُ داعيةُ ذكرِ العبادةِ؛ إمَّا بالتَّصريحِ، وإمَّا بالتَّعريضِ.. فذلكَ يدلُّ على أنَّ الرِّياءَ كانَ خفيّاً في باطِنِهِ"، فيُعرِض عنه فإذا أعرض عنه ولم يذكر شيئاً ما يأثر عليه بشيء.
قال: "إذا عرفتَ حقيقةَ الرِّياءِ وكثرةَ مداخلِهِ،. فعليكَ بالتَّشمُّرِ لِمعالجتِهِ، وعلاجُهُ: دفعُ الأسبابِ الباعثةِ عليهِ؛" ما هو السبب الذي يبعث على الرياء؟
الطمع في شيء من هذا من المال، من الجاه، من السلطة، من النفوذ، من الحاجات التي تكنها في نفسك، فهذا الذي يحملك على أن ترائي الناس.
قال: "أمَّا حبُّ المدحِ: كمَنْ يهجمُ على صفّ القتالِ ليُقالَ: إنَّهُ شُجاعٌ، أو يُظهِرُ العباداتِ ليُقالَ: إنَّهُ ورعٌ .. فعلاجُهُ: ما ذكرناهُ في علاجِ حبِّ الجاهِ؛" أن هذا أمر صوري وهمي، يفوت ثواب العبادة، ويورد صاحبه على مورد المهانة في القيامة والخزي بين يدي الله تعالى، فليعلم ذلك ويرتفع عن ذلك، ويطلب الكمال الحقيقي بأن يكون مجاهدًا في سبيل الله مخلصًا لوجه الله، يبتغي وجه الله -تبارك وتعالى- ويرضى الله عنه، هذا كمال حقيقي وكمال خيره يدوم ونعيمه يتأبد.
قال: وهكذا وفي خصوص الرياء يذكر "ما فيهِ مِنَ الضَّرر" فإنه يخرب عباداته وطاعاته، ويفوت عليه الثواب مقابل ماذا؟ مقابل أناس لا يقدرون أن يثيبوه، لا يقدرون أن يعطوه حسنات، لا يقدرون أن يرفعوا له الدرجات، ليش من أجلهم تبطل ثوابك وتبطل ارتفاعك في الدرجات؟
يقول: فتكون مثل ماذا؟ إذا عرض لك هذا العارض، مثل من عُرض له عسل يعرف أنه وضع فيه سم، يرغب فيه؟ الأصل يحبه؛ العسل محبوب، لكن لمَّا دري أن وسطه سم، ما أريد! ما أريد!، ألا تحب العسل؟ يقول: أنا ما أريده ولا بغيته، ولا يحدِّث نفسه أن يتناول شيء منه أبدًا لأنه داري أن وسطه سم؛ وهكذا عمل إبليس، يجيب لك العبادات يحط وسطها السم، فلا ترضا بكلامه، وكيف تعرض نفسك لأن يقال لك: "يا فاجر، يا غاوي" يا غادر يا مرائي ومنافق في القيامة؟ لماذا تشتري هذا بمناسبة ماذا؟ تشتري حمد الناس بسخط الله -تبارك وتعالى-؟ تشتري رضا الناس بسخط الجبار الأعلى -سبحانه وتعالى-؟ أين عقلك؟ فتبتعد عن هذا الموجب للخزي والخجل يوم القيامة، وتمتنع عنه ولا ترضى بهذا الخاطر الذي خطر عليك، وتتذكر "أنَّ رضا النَّاسِ غايةٌ لا تُدرَكُ، ومَنْ طلبَ رضا النَّاسِ بسخطِ اللهِ تعالىٰ..." سخط عليه، وأسخط عليه الناس أيضًا فابتعد عن هذا؛ وهذا باعث المدح.
"الباعثُ الثَّاني -وهوَ الخوفُ مِنْ ذمِّهِم-"، ما يريد أحد يتكلم عليه، يتيقن "أنَّ ذمَّهُم لن يضرَّهُ إن كانَ محموداً عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، فلِمَ يَتعرَّضُ لذمِّ اللهِ ومقتِهِ خوفاً مِنْ ذمِّ الخَلْقِ؟! ويكفيهِ: أنَّ النَّاسَ لو علموا ما في باطنِهِ مِنْ قصدِ الرِّياءِ.. لمقتوهُ" والحق تعالى إذا تمادى الإنسان في قصد الناس يكشفه للناس، ويعلم الناس بعد ذلك ولو بعد سنين أنه كذاب مرائي، فيرجعون يكرهونه، وهذا من تعجيل العقوبة في الدنيا، وباقي المخاطبة في الآخرة، -لا إله إلا الله- والمخلصون الذين يخفون أعمالهم يجعل الله عليهم نورانية ويحببهم إلى قلوب الخلق، وهذا من تعجيل الثواب في الدنيا وهم لا يلتفتون إليه، ثم يدخر لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
"وأمَّا باعثُ الطَّمعِ: فيدفعُهُ بأن يعلمَ أنَّ ذلكَ أمرٌ موهومٌ،" وأن الخلق لا يستطيعون تقديم ولا تأخير ولا نفع ولا ضر إلا بالله -سبحانه وتعالى-، فأعرض عن الطمع في الناس، قال: "فإذا أحضرَ في قلبِهِ نعيمَ الآخرةِ، والدَّرجاتِ الرَّفيعةَ، وعَلِمَ أنَّ ذلكَ يفوتُ بالرِّياءِ.. أعرضَ قلبُهُ عنِ الخَلْقِ، واجتمعَ همُّهُ، -على ربه جلَّ جلاله- وفاضَتْ عليهِ أنوارُ الإخلاصِ"،اللهم أفض على قلوبنا أنوار الإخلاص، وأمدنا سبحانك بمعونتك وتوفيقك.
قال: "لعلَّكَ تقولُ: إنِّي قرَّرتُ هٰذا كلَّهُ علىٰ نفسي" بحمد الله ودخلت، ولم أدري إلا "هجمَ عليَّ واردُ الرِّياءِ بغتةً" وأنا "في بعضِ العباداتِ " وبعدها؟ "فما العلاجُ عندَ هجومِهِ؟"
قال: "أصلَ هٰذا العلاجِ: أن تُخفيَ عبادتَكَ" التي تستطيع إخفاءها، فما استطعت أن تخفيه جعلته في الخفاء أفضل، فيه السلامة، لمَّا "بعضَ أصحابٍ أبي حفصٍ الحدَّادِ ذمَّ الدُّنيا وأهلَها" قالوا: هذا شيء كان ينبغي أن تخفيه بينك وبين الله، تظهره لنا لنعتقد أنك زاهد؟ "لا تجالسْنا بعدَ" اليوم، وانظر لك غيرنا تجالسهم،هذا الذي يريد مراءاة الخلق لا يجلس عندنا،
وقال: "أنَّ إخفاءَ العبادةِ إنَّما يَشُقُّ في البدايةِ"، ولكن يفتح الله تعالى باب حلاوة الطاعة "لذَّةَ المناجاةِ" فيرجع يفرح بإخفاء العبادات لما يجد فيها من الحلاوة واللذة.
قال: "ومهما هجمَ واردُ الرِّياءِ.. فعلاجُهُ: أن تُجدِّدَ على قلبِكَ ما رسخَ فيهِ مِنْ قبلُ مِنَ المعرفةِ":
وهكذا حتى تكره دواعي الرياء ولا تلتفت إليها، وشهوتك تدعو إلى الرياء، والقلب والعلم يدعوك إلى رد هذا الداعي والإعراض عنه، وبعدها ما قوي عليك هو الذي يأخذك.
قال: "وأمَّا دفعُ الخواطرِ، ودفعُ الطَّبعِ عنِ الميلِ إلى قَبُولِ النَّاسِ.. فلا يدخلُ تحتَ التَّكليفِ، وإنَّما منتهى التكليفِ.." أن تكره؛ تكره قصد الناس وما يطرأ على بالك من إرادتهم؛ تكره ذلك فقط، هذا غاية ما كُلِّفت به، ولكن الحق من سنته أنك إذا قمت بهذا التكليف فإنه يتجلى عليك تجليًا ينزع من باطنك الالتفات إلى الخلائق، فتصير خالصًا له، تصير عبدًا خالصًا له، وهذا عادته مع من قام بحد التكليف وحق التكليف، ولم يزل يطلب الإخلاص لوجه ربه ويكره دواعي الرياء، فإذا كان كذلك فلا بد له أن يَرِد عليه وارد يسِلُّ من قلبه كل أثر للالتفات إلى الخلق، فيصبح عبدًا لا قصد له إلا الله، ويصح أن يقول: لا مقصود إلا الله، -لا إله إلا الله-.
وهذه الرعونات النفسية تبقى منها شوائب حتى مهما بالغ الإنسان في المجاهدة، حتى يأتي هذا الوارد وهذا التجلي من الله؛ يتجلى عليه بالجلال فيحرق ما فيه من جميع الآفات والالتفات إلى الكائنات، وهنالك يفنى ثم يحييه -سبحانه وتعالى- بالبقاء على رسوخ وثبات.
فُنُوا عن الكون جملة *** لما بدا طالع الجلال
وأحياهمُ بعد موتهم *** بالجمع في مشهد الجمال
حتى صفا إبريز تبرهم *** فلا يساويه قط مال
هذا هو الملك بلا مراء *** بلا انعزال ولا اغتيال
ملك عظيم لا أحد يقدر يعزلك منه، ولا تقوم عليك ثورة ولا مضادة ولا ارحل ولا شيء من كلام الناس.
هذا هو الملك بلا مراء *** بلا انعزال ولا اغتيال
هذه علوم محققه *** رجالها نعم من رجال
يقينهم لا ارتياب فيه *** وهديهم ليس به ضلال
قد اقتدوا ثم جاهدوا *** وشاهدوا فانتفى المحال
الله يكرمنا بتنوير البواطن وحسن المآب إليه.
وقال المؤلف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
فَصْلٌ
في إظهارِ الطاعاتِ لأجلِ الاقتداءِ، أو إخفائِها خوفاً مِنَ الرِّياءِ
"يجوزُ إظهارُ الطَّاعاتِ لأجلِ اقتداءِ النَّاسِ وترغيبِهِم إذا صحَّتِ النِيَةُ، ولم يكنْ معَهُ شهوةٌ خفيَّةٌ، وعلامتُهُ: أن يُقدِّرَ أنَّ النَّاسَ لو اقتدَوا بأحدٍ أقرانِهِ، وكُفِيَ مؤونةَ التَّرغيبِ، وأُخبِرَ بأنَّ أجرَهُ في الإسرارِ كأجرِهِ في الإظهارِ.. فلا يرغبُ في الإظهارِ .
فإن كانَ ميلُهُ إلىٰ أن يكونَ هوَ المقتدىٰ بهِ أكثرَ.. ففيهِ داعيةُ الرِّياءِ؛ لأنَّهُ إن كانَ يطلبُ سعادةَ النَّاسِ وخلاصَهُم.. فقد حصلَ ذلكَ بغيرِهِ، ولم يفتْهُ إلَّا إظهارُ نفسِهِ.
وكذلكَ يجوزُ كِتمانُ المعاصي والذُّنوبِ، ولكنْ بشرطِ: ألَّا يكونَ غرضُهُ أن يُعتقَدَ فيهِ الورعُ، بل ألَّا يُعتقَدَ فيهِ الفسقُ.
ولا بأسَ بفرحِهِ باستتارِ معاصيه، وحزنِهِ بانكشافِها؛ إمَّا فرحاً بسَترِ اللهِ تعالَىٰ عليهِ، وإمَّا فرحاً بموافقةِ أمرِ اللهِ تعالَىٰ؛ فإنَّهُ تعالَىٰ يحبُّ كِتمانَ المعاصي، وينهى عنِ المجاهرةِ بها، وإمَّا لأنَّهُ يكرهُ أن يُذَمَّ فيتألَّمَ بهِ؛ إذ التَّألُّمُ بذمِّ النَّاسِ ليسَ بحرامٍ، بل يُوجِبُهُ الطَّبعُ، وإنَّما الحرامُ الفرحُ بمدحِ النَّاسِ إيَّاهُ بالعبادةِ؛ فإنَّ ذلكَ كأجرٍ يأخذُهُ على العبادةِ، وإمَّا لأنَّهُ يخافُ أن يُقصَدَ بسوءٍ إذا عُرِفَتْ معصيتُهُ، وإمَّا لأنَّهُ يَستحيي مِنْ ظهورِها، والحياءُ غيرُ الرِّياءِ، ولاكنَّهُ قد يمتزجُ بهِ.
وأمَّا تركُ الطَّاعةِ خوفاً مِنَ الرِياءِ.. فلا وجهَ لهُ، قالَ الفضيلُ: مِنَ الرِّياءِ: تركُ العملِ خوفاً مِنَ الرِّياءِ ، أمَّا العملُ لأجلِ النَّاسِ.. فهوَ شركٌ.
بل ينبغي أن يعملَ ويُخلِصَ، إلَّا إذا كانَ العملُ فيما يَتعلَّقُ بالخَلْقِ؛ كالقضاءِ والإمامةِ والوعظِ، فإذا عَلِمَ مِنْ نفسِهِ أنَّهُ بعدَ الخوضِ فيهِ لا يملكُ نفسَهُ، بل يميلُ إلىٰ دواعي الهوى.. فيجبُ عليهِ الإعراضُ والهربُ، كذلكَ فعلَ جماعةٌ مِنَ السَّلفِ.
وأمَّا الصَّلاةُ والصَّدقةُ.. فلا يتركُهُما إلَّا إذا لم تحضرْهُ أصلاً نيَّةُ العبادةِ، بل لو تَجرَّدَتْ نيَّةُ الرِّياءِ.. فلا يصحُّ عملُهُ، فليتركْهُ.
أمَّا ما اعتادَ فعلَهُ، فحضرَ جماعةٌ، فخافَ علىٰ نفسِهِ مِنَ الرِّياءِ.. فلا ينبغي أن يتركَهُ، بل ينبغي أن يستمرَّ علىٰ عادتِهِ، ويجتهدَ في دفعٍ باعثِ الرِّياءِ".
خَاتِمَة
في مجامع الأخلاق ومواقع الغرور فيها
"اعلمْ: أنَّ الأخلاقَ الذَّميمةَ كثيرةٌ، ولكنْ ترجعُ أصولُها إلىٰ ما ذكرناهُ، ولا يكفيكَ تزكيةُ النَّفسِ عن بعضِها حتَّى تَتزكَّىٰ عن جميعِها، ولو تركتَ واحداً منها غالباً عليكَ.. فذلكَ يدعوكَ إلى البقيَّةِ؛ لأنَّ بعضَها يرتبطُ بالبعضِ، ويتقاضىٰ بعضُ الأخلاقِ الذَّميمةِ بعضاً، ولا ينجو إلَّا مَنْ أتى اللهَ بقلبِ سليمٍ، والسَّلامةُ المُطلَقةُ لا تُنالُ بدفعٍ بعضِ الأمراضِ، بل إنَّما تُنالُ بالصِّحَّةِ المُطلَقةِ؛ كما أنَّ لحُسنَ لا يحصلُ بحسنِ بعضِ الأعضاءِ ما لم يَحسُنْ جميعُ الأطرافِ.
والنَّجاةُ في حُسْنِ الخُلُقِ، وقد قالَ النَّبيُّ ﷺ: "أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي ٱلْمِيزَانِ .. الْخُلُقُ ٱلْحَسَنُ".
وقالَ النَّبيُّ ﷺ: "بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ".
وقيلَ لهُ: ما الدِّينُ؟ قالَ: "الْخُلُقُ ٱلْحَسَنُ".
وقالَ : "حُسْنُ ٱلْخُلُقِ خُلُقُ ٱللهِ".
وقالَ ﷺ: "أَفْضَلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً.. أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً".
وقد كثرَتِ الأقاويلُ في تحقيقِهِ وبيانِ حدّه، والأكثرونَ تَعرَّضوا بعضٍ ثمراتِهِ، ولم يحيطوا بجميعٍ تفصيلِهِ.
والذي يُطلِعُكَ على حقيقتِهِ: أن تعلمَ أنَّ الخَلْقَ والخُلُقَ عبارتانِ، فيُرادُ بالخَلْقِ الصُّورةُ الظَّاهرةُ، وبالخُلُقِ الصُّورةُ الباطنةُ؛ وذلكَ لأنَّ الإنسانَ مُركَّبٌ مِنْ جسدٍ يُدرَكُ بالبصرِ، ومِنْ رُوحٍ ونفْسٍ تُدرَكُ بالبصيرةِ لا بالبصرِ، ولكلّ واحدٍ منهُما هيئةٌ؛ إمَّا قبيحةٌ، وإمَّا حسنةٌ.
والنَّفسُ المُدرَكةُ بالبصيرةِ أعظمُ قدراً، ولذلكَ أضافَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ إلىٰ نفسِهِ، وأضافَ البدنَ إلى الطِينِ، فقالَ: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) [ص:71-72]، ووصفَ الرُّوحَ بأمرٍ ربَّانيٍّ، فقالَ: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء:85]، وأعني بالرُّوحِ والنَّفسِ ها هنا معنىً واحداً؛ وهوَ الجوهرُ العارفُ المُدرِكُ مِنَ الإنسانِ بإلهامِ اللهِ تعالَىٰ، كما قالَ: ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس:7-10]
وَكما أنّ للحُسْنِ الظاهرِ أركاناً؛ كالعينِ والأنفِ والفمِ والخدِ، ولا يُوصَفُ الظَّاهرُ بالحُسْنِ ما لم يَحسُنْ جميعُها.. فكذلكَ الصُّورةُ الباطنةُ لها أركانٌ، لا بدَّ مِنْ حُسْنِ جميعِها حتَّىٰ يَحسُنَ الخُلُقُ؛ وهيَ أربعةُ معانٍ: قُوَةُ العلمِ، وقُوَّةُ الغضبِ، وقُوَّةُ الشَّهوةِ، وقُوَّةُ العدلِ بينَ هٰذهِ القوى الثَّلاثِ، فإذا استوتْ هذهِ الأركانُ الأربعةُ، واعتدلَتْ وتناسقَتْ.. حصلَ حسنُ الخُلُقِ.
أمَّا قُوَّةُ العلمِ: فاعتدالُها وحسنُها: أن تصيرَ بحيثُ يُدرَكُ بها الفرقُ بينَ الصِّدقِ والكذبِ في الأقوالِ، وبينَ الحقِّ والباطلِ في الاعتقاداتِ، وبينَ الجميلِ والقبيحِ في الأعمالِ.
فإذا صلحَتْ هذهِ القُوَّةُ كذلكَ.. حصلَتْ منها ثمرةُ الحكمةِ، وهيَ رأسُ الفضائلِ، بل قالَ الله عزَّ وجلَّ: (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة:269].
وأمَّا قوَّةُ الغضبِ: فاعتدالُها: أن يقتصرَ انقباضُها وانبساطُها علىٰ موجبِ إشارةِ الحكمةِ والشَّرعِ، وكذلكَ قُوَّةُ الشَّهوةِ.
وأمَّا قُوَّةُ العدلِ: فهيَ في ضبطِ قُوَّةِ الغضبِ وقُوَّةِ الشَّهوةِ تحتَ إشارةِ الدِّينِ والعقلِ؛ فالعقلُ منزلتُهُ منزلةُ النَّاصحِ، وقُوَّةُ لعدلِ هيَ القدرةُ، ومنزلتُها منزلةُ المنفِّذِ الممضي لإشارةِ العقلِ، والغضبُ والشَّهوةُ هما اللَّذانِ تَنفُذُ بهِما الإِشارةُ، وهما كالكلبِ والفرسِ للصَّيَّادِ.
فإن حَسُنَ بعضُ هٰذهِ دونَ بعضٍ؛ كانَ كما لو حَسُنَ بعضُ أعضاءِ الوجهِ، فلا يُطلَقُ اسمُ الحُسْنِ عليهِ إِلَّا إذا حَسُنَ الجميعُ واعتدلَ، فإذا حسنَتْ واعتدلَتْ.. انشعبَ منهُ جميعُ الأخلاقِ المحمودةِ.
أمَّا قُوَّةُ الغضبِ: فيُعبَّرُ عنِ اعتدالِها بالشَّجاعةِ، واللهُ تعالى بحبُّ الشَّجاعةَ، وإن مالَتْ إلى طرفِ الزِّيادةِ.. سُمِيَتْ تَهوُّراً، وإن مالَتْ إلى النُّقصانِ.. تُسمَّىٰ جُبْنا، ويَنشعِبُ مِنِ اعتدالِها: خُلُقُ الكرَمِ والنَّجدةِ ، والشَّهامةِ والحِلمِ، والثَّباتِ وكظمِ الغيظِ، والوَقارِ والتُّؤَدَةِ .
وأمَّا إفراطُها: فيحصلُ منهُ خُلُقُ التَّهوُّرِ والصَّلَفِ، والبذَخِ والاستشاطةِ، والكِبْرِ والعُجْبِ.
وأمَّا تفريطُها: فيحصلُ منهُ الجبنُ والمَهانةُ، والذِّلَّةُ والخَساسةُ، وعدمُ الغَيرةِ، وضَعفُ الحَمِيَّةِ على الأهلِ، وصِغَرُ النَّفسِ.
وأمَّا الشَّهوةُ: فيُعبَّرُ عنِ اعتدالِها بالعِفَّةِ، وعن إفراطِها بالشَّرَهِ، وعن تفريطها وضَعفِها بالخمودِ.
فيصدرُ مِنَ العفَّةِ: السَّخاءُ والحياءُ، والصَّبرُ والسَّماحةُ والقناعةُ، والورعُ والمساعدةُ، والظَرْفُ وقِلَّةُ الطَّمعِ.
ويصدرُ عن إفراطِها: الحِرصُ والشَّرَهُ، والوَقاحةُ والتَّبذيرُ، والتَّقتيرُ والرِياءُ، والهُتكةُ والمَجَانَةُ، والمَلَقُ والحسدُ والشَّماتةُ، والتَّذلِّلُ للأغنياءِ، واستحقارُ الفقراءِ، وغيرُ ذلكَ.
وأمَّا إذا مالَ إلى التفريطِ: فيصدرُ منهُ الخمودُ والتخنَّثُ.
وأمَّا قُوَّةُ العقلِ: فيصدرُ مِنِ اعتدالِها حُسْنُ التَّدبيرِ، وجودةُ الذِّهنِ، وثقابةُ الرَّأي، وإصابةُ الظَّنِّ، والتَّفطُّنُ لدقائقِ الأعمالِ، وخفايا آفاتِ النَّفْسِ.
وأمَّا إفراطُها: فيحصلُ منهُ الجربزةُ والدَّهاءُ، والمكرُ والخداعُ.
ويحصلُ مِنْ تفريطِها وضَعفِها: البَلَهُ والحمقُ، والغمارةُ والبلادةُ والانخداعُ.
فهذهِ هيَ روابطُ الأخلاقِ، وإنَّما معنىٰ حسنِ الخُلُقِ في الجميعِ.. توسُّطٌ بينَ الإفراطِ والتَّفريطِ ؛ فخيرُ الأمورِ أوسطُها ، وكلا طرفَيْ قصدِ الأمورِ ذميمٌ ، ولذلكَ قالَ عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء:29]، وقالَ تعالىٰ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67]، وقالَ تعالىٰ: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29].
ومهما مالَ واحدٌ مِنْ هذهِ الجملةِ إلى الإفراطِ والتَّفريطِ.. فبَعْدُ لم يكملْ حُسْنُ الخُلُقِ".
الله يحسن أخلاقنا، اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
قال: "يجوزُ إظهارُ الطَّاعاتِ لأجلِ اقتداءِ -اقتداء من اقتدى به- وترغيبِهِم إذا صحَّتِ النِيَةُ، ولم يكنْ معَهُ شهوةٌ خفيَّةٌ". ما علامة أنَّه صادق؟ أنَّه لمَّا يُظهر العبادات ويرونه يتنفل فيتنفلون، ويرونه يصوم فيصومون، قال: علامة صدقك أنك لا تريد المنزلة عند الناس ولكن تريد الثواب باقتدائهم بك، أن لو أظهر الله واحدًا ثانيًا يقتدون به لفرحت بذلك؛ هذا علامة أنك صادق، ولأنك أصدق سعادة الناس وقربهم إلى الله حصل الحمدلله، وكُفيت المؤونة أنت، فإذا قال لك: النفس والهوى، قال لك: إن أنت أردت الثواب؛ وشي من ذا وذا وواحد ثاني؛ وأنت أردت بذا الثواب، الثواب حاصل لك بالنية إذا صحَّت وصلحت، حصل لك الثواب وواقع الناس قد تحول إلى قربهم وصلتهم بالله على يد غيرك خلاص، وأنت لك مثل ذلك الثواب ولا عليك شيء، وأمَّا الذي يقول: لا لا أنا أردت أنا أنا؛ أنا أنا.. انظر شيخها واحد اسمه إبليس (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ ) [ص:76].
"وكذلكَ يجوزُ" في الشرع "كِتمانُ المعاصي والذُّنوبِ،" بل يحب الله ذلك، وزجر النبي ﷺ عمن يفعل معصية ثم يحدث بها أصحابه وجلساءه، وجعل ذلك من هتك الستر وأنَّه سبب لفضيحته في القيامة -والعياذ بالله تعالى- بل يجب أن يخفي أنواع الذنوب والمعاصي فلا تظهر، لأن الله ما يحب ظهور الذنوب بين الخلق -سبحانه وتعالى- والسيئات، (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور:19]، ولهذا أوجب ليس على الفاعل نفسه؛ بعض المعاصي الله تعالى لا يحب ذكرها بين الناس وانتشارها على وجه الخصوص، وعلى وجه العموم جميع المعاصي.
فبعضها على وجه الخصوص حتى ليس فاعلها وحده، الذي رآها وشاهدها يجب عليه يكتم، فإن أظهرها نقيم عليه الحد هو، ولا نقيم الحد على صاحب المعصية لأنَّه لا يوجد شهود، قال: إذا كان يوجد شاهد واحد أو اثنين أو ثلاثة نضربهم هم، نعطيهم حد القذف، نضربهم لماذا تكلموا؟ نضربهم حد القذف هم ما نكلمهم إلا لمَّا يأتوا أربعة أو يقر يعترف، إذا ما أقر واعترف ولا جاؤوا أربعة لا نتعرض له، يقولون ثلاثة يا جماعة، ثلاثة عدول عقَّال قدامكم شفناه بعيوننا، لماذا تتكلمون؟ تعالوا، ما دام لا يوجد رابع ولا هو اعترف خذوا أنتم من ثمانين جلدة، ثمانين جلدة، ثمانين جلدة، روحوا حتى لا يظهر على أيديكم السوء في المجتمع ولا في بلاد المسلمين ولا بين المسلمين.
الحق تعالى ما يحب ذكر هذه الذنوب ولا نشرها بين الناس كما تفعل القنوات وبعض البرامج، ينشرون الفاحشه ويحبون تشيع الفاحشة بينهم، هذه خطة إبليس، أمر يكرهه الله، ويكرهه رسوله، ويكرهه الصالحون، بل يحبون كتم ذلك مهما كان مِن الفاعل ومِمَّن رأى حتى لا تشيع الفاحشة بين الذين آمنوا، وتصفى بواطنهم في الحضور مع الله -تبارك وتعالى- والانصراف إلى ما ينفعهم ويفيدهم في الدنيا والآخرة.
قال: "ولا بأسَ بفرحِهِ باستتارِ معاصيه"، من حيث أنَّ الستار يرجو منه أن يستره في الآخرة كما ستره في الدنيا، ويحذر بانكشافها من خشية ألم الذم في الدنيا، ومن خشية الفضيحة يوم القيامة.
وكذلك لا سبيل يقول: لـ "تركُ الطَّاعةِ خوفاً مِنَ الرِياءِ.." لا؛ "فلا وجهَ لهُ"، لا يمكن تترك الطاعة خوفًا من الرياء، اعمل الطاعة وكن على قدم الإخلاص.
ولهذا الذي يقول في السؤال أنَّه مادام ترك العمل لأجل الناس رياء، فلماذا نخفي الطاعات والعبادات؟! نخفيها لِما نخاف على أنفسنا، ولِما يكون في بدايات جميع عامة الناس والمسلمين؛ بداياتهم ضعف والتفات إلى الخلق، فيخفونها حتى تصلح، وقد أسلفنا أنَّه مر معنا إذا عمل على إخفائها قُوبل من الحق -تبارك وتعالى- بالنظر منه وتجلّي يخرج عنه قصد الخلق، حينئذٍ يستوي عنده إظهارها وإخفاؤها، أمَّا من البداية فلا يغالط نفسه يقول: يستوي عندي إظهارها وإخفاؤها، فهو مُتلفِّت في الباطن إلى ما يقول الناس وإلى ما ينظر الناس، فرحٌ بهم، فيريد أن يتخلص من هذا، فهذا شأن المبتدئين وهم عموم المؤمنين.
وهكذا لا سبيل لـ "تركُ الطَّاعةِ خوفاً مِنَ الرِياءِ.."، وأمَّا هل الأفضل يخفي عبادته أم يظهرها مع عدم النظر للخلق؟ إن كان قد وصل إلى حالة استواء، استواء رؤية الخلق وعدمهم فكل فضله واضح في الأمرين، إلا أن اقترن به أنَّه يوجد من يقتدي به ومن ينشطهم للخير فيكون الإظهار أفضل.
وأمَّا إذا لم يصل إلى هذه الحالة وهذه الدرجة فالإخفاء له أفضل حتى يصل إليها؛ ولهذا قال أيضًا من كان يعتاد شيئًا من الأعمال الصالحة فحضر ناس فقال: أخاف أن يكون رياء، قال: لا تترك العمل المعتاد وقم واعمل واكره ما يطرأ عليك من الرياء واحذر منه، ولا تترك العمل الذي تعتاده خوفًا من الرياء؛ فيضحك عليك إبليس، كان يريد يعطيك الرياء لأجل أن يفسد العمل، قمت أنت قربت المشوار له ما عاد تعمل أصلًا، خلاص ماعاد شي، ما عاد تتعبه يفسد عليك الثواب، هو كله محدود الثواب، فما عاد هذا، فهذا توفر له أنت النشاط، سينشط عليك في شيء ثاني، هذا خلاص ما عاد عملته؛ فلا تترك العمل من أجل الناس كما لا تعمل من أجل الناس.
قال: "الأخلاقَ الذَّميمةَ كثيرةٌ، ولكنْ ترجعُ أصولُها إلىٰ ما" ذكر -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- "والنَّجاةُ في حُسْنِ الخُلُقِ" اللهم حسن أخلاقنا.
"وقد قالَ النَّبيُّ ﷺ: "أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي ٱلْمِيزَانِ .. -أي: ميزان الحسنات يوم القيامة- الْخُلُقُ ٱلْحَسَنُ"، وبذلك يقول بعض تابعي التابعين: حدثنا الحسن عن الحسن عن أبي الحسن عن جد الحسن: "أن أحسن الحسن الخلق الحسن"، "أحسن الحسن الخلُق الحسن"، حدثه الحسن البصري حدثه عن الحسن بن علي عن علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ، فقال: حدثنا الحسن عن الحسن عن أبي الحسن عن جد الحسن "أنّ أحسن الحسن الخُلُق الحسن"، فهذا أحسن شيء وأعظم ما يوضع في الميزان يوم القيامة.
فكيف يكون الخلق الحسن؟
قالوا: الخلُق الحسن، أنت عندك خَلْق وخُلُق:
صورتك الظاهرة ما توصف بالحُسن إلا إذا اجتمعت فيها محاسن عدد من الأعضاء؛ مجموع الأعضاء، وكذلك صورتك الباطنة ما تكون حسنة ولا تكون حسن الخُلُق إلا إذا تكاملت معك الصفات الحسنة ولم يبقَ فيها شيء مشوه، أمَّا إذا بقي شيء تشويه ما توصف بالخلق الحسن، كما لا يوصف بالصورة الحسنة من في بعض أعضائه تشويه، ما يقال له صاحب صورة حسنة وهكذا صاحب الخلُق الحسن -لا إله إلا الله-.
يقول: فخلقك الله وجعل لك جسدًا هذا خَلقُك، وجعل لك نفسًا مدركة بصيرة روحًا أضافها إلى نفسه تشريفاً: "(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [ص:72]"
قال: "للحُسْنِ الظاهرِ أركاناً؛ كالعينِ والأنفِ والفمِ والخدِ" لا يوصف أنه صاحب صورة حسنة صاحب خَلق حسن إلا باجتماع الحسن فيها كلها، "فكذلكَ الصُّورةُ الباطنةُ"؛ الصورة الباطنة قال قائمة عندك من: علم، وغضب، وشهوة، والعدل بين هذه القوى؛ هذا صورتك الباطنة، مقدار عِلمك وحالك مع الغضب وحالك مع الشهوة وكيفية العدل بينهن وتصريفهن وتقويم أحوالهن.
إذا المحاسن اجتمعت في الأربع؛ فأنت حسن الخُلق، صورتك الباطنة حسنة، وعلى قدر حُسن الباطن يكون حالة البعث في القيامة؛ ما عاد تحكم الصور الظاهرة في القيامة، ما في إلا صورهم الباطنة التي تظهر.
يقول: هذه القوى عندك .."قُوَةُ العلمِ، وقُوَّةُ الغضبِ، وقُوَّةُ الشَّهوةِ، وقُوَّةُ العدلِ" التي هي عبارة عن القدرة.
فكيف عملت؟ "فإذا استوتْ هذهِ الأركانُ الأربعةُ، واعتدلَتْ وتناسقَتْ.. حصلَ حسنُ الخُلُقِ".
يقول: إذا صلحت هذه القوة، "قُوَّةُ العلمِ: فاعتدالُها وحسنُها"..، عقلك وعلمك إذا تبيّن له بالميزان الصحيح "الفرقُ بينَ الصِّدقِ والكذبِ في الأقوالِ، وبينَ الحقِّ والباطلِ في الاعتقاداتِ، وبينَ الجميلِ والقبيحِ في الأعمالِ"، أدركت من العلم قوة تنتفع بها وتستطيع بمساعدة قوة العدل بين الغضب والشهوة أن تضبط مملكتك وتضبط باطنك حتى تصير حسن الخلق.
قوة العلم إذا اعتدلت تهتدي وتدرك حقيقة الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، بين الحق والباطل في الاعتقادات، بين الحسن والقبيح في الأفعال، فإذا صرت مميزًا لها بميزان صحيح، وميزان الله الذي أنزله على الأنبياء، فعندك من قوة العلم ما يكفيك.
"وأمَّا قوَّةُ الغضبِ: فاعتدالُها: أن يقتصرَ انقباضُها وانبساطُها علىٰ موجبِ إشارةِ الحكمةِ والشَّرعِ،" والعقل؛ لا تنطلق من نفسها، غضب مزموم بزمام وقت ما يأذن الشرع ويحكم العقل بالانبعاث ينبعث، ووقت ما يكون أمر الشارع فيه والعقل بالكظم ينكظم.
يقول: "وكذلكَ قُوَّةُ الشَّهوةِ"، اعتدالها وصلاحها أن تكون مُنقادة، مثل الكلب المُعلم ومثل الفرس المُعلم؛ فالفرس المُعلَّم ينفع في القيام به في المهام والحرب وغيره، وكذلك الكلب المُعلَّم في الصيد وغيره يُنتفع به، قبل ما يكون معلَّمًا أنت انفسك يخرشك، أنت بنفسك وليس يأتي لك بالصيد، ولكن إذا تعلَّم وتهذب، فكذلك الغضب والشهوة تكون تحت إشارة العقل والدين، تَمكُّنك من ذلك وقُدّرتك عليه بإرادتك وما أوتيت من قدرة يتم بها استقرار أمر هذه المملكة الباطنة فيك.
بعد ذلك قال: "فإن حَسُنَ بعضُ هٰذهِ دونَ بعضٍ.." لا تُسمى حَسن الخُلُق حتى تستكمل حُسن الخُلُق.
بعد ذلك ما الذي يحصل من اعتدالها أو تفريطها وإفراطها؟
كل واحدة من هذه إذا أُفْرطت أو نقصت تضر وإذا اعتدلت تم الأمر.
قال: "قُوَّةُ الغضبِ: فيُعبَّرُ عنِ اعتدالِها" إذا اعتدلت وانضبطت، تصدر منها "الشَّجاعةِ،" هذا أمر مطلوب.
"وإن مالَتْ إلى طرفِ الزِّيادةِ.." قال: "تَهوُّراً، وإن مالَتْ إلى النُّقصانِ.. تُسمَّىٰ جُبْنا،" فالوسط هو المطلوب الشجاعة، وكذلك من اعتدال هذه القوة الغضبية قال: "خُلُقُ الكرَمِ والنَّجدةِ ، والشَّهامةِ والحِلمِ، والثَّباتِ وكظمِ الغيظِ -والثبات- والوَقارِ والتُّؤَدَةِ"، هذا كله من انضباط قوة الغضب واعتدالها.
"وأمَّا إفراطُها: فيحصلُ منهُ خُلُقُ التَّهوُّرِ والصَّلَفِ، -يعني: مجاوزة الحد والقدر في الأمور- والبذَخِ -يشبهه- والاستشاطةِ، والكِبْرِ والعُجْبِ"؛ كلها تتفرع من الإفراط في قوة الغضب.
والتفريط فيها "فيحصلُ منهُ الجبنُ والمَهانةُ، والذِّلَّةُ والخَساسةُ، وعدمُ الغَيرةِ -يعني: يصير إنسان سلبي دائمًا في أموره- وضَعفُ الحَمِيَّةِ على الأهلِ، وصِغَرُ النَّفسِ"، وصغر المرادات والأمنيات؛ بسبب التفريط في هذه القوة.
كذلك "الشَّهوةُ:" إذا اعتدلت يصدر من صاحبها العِفّة، ومن العِفّة هذا يتفرع: "السَّخاءُ والحياءُ، والصَّبرُ والسَّماحةُ والقناعةُ، والورعُ والمساعدةُ، -للآخرين- والظَّرْفُ"؛ أو يقووا: الظُرف أو الظَّرف معناه براعة وكياسة ووعي للقلب وذكاء، يقال له: فلان ظريف؛ إذا عنده براعة في الأمور وكياسة وحذق وإدراك حسن يقال له ظريف، فلان ظريف. هذا من أين يأتي؟ يأتي من اعتدال الشهوة.
إذا جاء الإفراط فيها وقع "الحِرصُ والشَّرَهُ، والوَقاحةُ والتَّبذيرُ، والتَّقتيرُ والرِياءُ، والهُتكةُ" كله تبع للشهوة هذا إذا أُفْرط فيها، "والهُتكةُ والمَجَانَةُ" يعني: كثرة الهزل "والمَلَقُ والحسدُ والشَّماتةُ، والتَّذلِّلُ للأغنياءِ" كل هذا من فرط الشهوة، "واستحقارُ الفقراءِ، وغيرُ ذلكَ".
وأمَّا إذا فُرِّطَ فيها وضعفت يصيبه "الخمودُ والتخنَّثُ"، وقلة الرغبة في الدرجات العلا والمقامات الرفيعة وما إلى ذلك، ويأتي منه تشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، تحصل سقاطة بسبب تفريط جانب هذه الشهوة.
"وأمَّا قُوَّةُ العقلِ:" فهو الأمير الناصح "فيصدرُ مِنِ اعتدالِها حُسْنُ التَّدبيرِ، وجودةُ الذِّهنِ، وثقابةُ الرَّأي، وإصابةُ الظَّنِّ، والتَّفطُّنُ لدقائقِ الأعمالِ، وخفايا آفاتِ النَّفْسِ"، والتفطن للمآلات والنتائج في الأشياء.
فإذا أُفْرطت وزادت على حدها "فيحصلُ منهُ الجربزةُ" يعني: المكر والاحتيال "والدَّهاءُ والمكرُ والخداعُ" فإذا تحولت القوة العقلية التي عندك مكّارة مُتحيّلة تخدم النفس، تخدم الهوى، تخدم الشهوة، تخدم الغضب بأنواع الحيَل والمكر، بدل أن تحكمها وتنصحها وتُعدّلها، تخدمها بكل ما فيها من إفراط -والعياذ بالله تعالى-؛ فيتحول الطاقة الكبيرة التي هي آلة لقربك ومعرفتك بالله إلى خدّامة للنفس والهوى، تُرضي إبليس، ويندفع عنك جميع معاني الأُنس بالحق والقرب منه -جلَّ جلاله- وتصير في حالة خسيسة مع كل خسيس؛ لأنك حوَّلت الناصح الحاكم إلى تابع خادم، كان ناصح وحاكم رجع الآن مُخادع خادم.
ظلمت وما إلا لنفسك يا فتى *** ظلمتَ وظلمُ النفس من أقبح الظُّلمِ
قال: "ويحصلُ مِنْ تفريطِها -إذا نقصت- البَلَهُ والحمقُ، والغمارةُ -يعني: قلة إدراك للأمور وقلة تجربة- والبلادةُ والانخداعُ"، يخدعك أي واحد، فإذًا لا بد من الاعتدال.
قال: "فهذهِ هيَ روابطُ الأخلاقِ، وإنَّما معنىٰ حسنِ الخُلُقِ في الجميعِ.. توسُّطٌ بينَ الإفراطِ والتَّفريطِ "، يقول -عليه رضوان الله- أنه هذه نالها الصادقون من المؤمنين وفوقهم الصديقون وفوقهم الأنبياء، كمالات في اعتدال هذه القوى، قال: ولكن الغاية في الكمال فيها كلها مجموعة، قال: ما أُعطيه أحد في الخلق إلا واحد سماه الله محمدًا ﷺ هذا من كل الجوانب بكل معانيها، صفاه تصفية ونقاه تنقية واصطفاه لنفسه وأعطاه أتمّ الكمال في كل حال من الأحوال ﷺ، وبعده سادتنا الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم- كلهم أهل كمال ولكنهم ليسوا الذروة في الكمال، الذروة في الكمال لسيدهم وكلهم كمَّل، وهم في ذروة دونها من بعدهم من الصدّيقين، ودون الصدّيقين هناك من المؤمنين بلغوا رتبة كمال إنساني ولم يصلوا إلى مراتب الصدّيقية، فهؤلاء فوق هؤلاء وهؤلاء فوق هؤلاء.
والرأس الذي جعله الله مظهر الكمال الخَلْقي والإنساني محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف؛ لذا تجد في الغالب إمداد الله بالتقويم والإعدال في الأخلاق على قدر التعلق القلبي به، وكل مؤمن به تعلق قلبه بهذا الجناب يُمد بكثير من تعديل أخلاقه وتصفية ذاته، يدل على ذلك ما جاء في الأحاديث، يقول في الأحاديث عن أقرب الخلق إليه يوم القيامة من؟ قال: "أحاسنكم أخلاقاً"، أم قال: "أكثركم صلاة علي" لماذا؟ لأن الذين أكثرهم صلاة عليه هم أحسن الخلق، ومن هم أحسن خُلُق هم المتعلقين به، لا يتم تمام حسن الخلق لواحد يكره محمدًا ﷺ، لا يتأتى، أو ينقص في محبته، ولكن على قدر محبة هذا الحبيب ﷺ تسري الأخلاق، وهو الذي وصفه الخلاّق: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
نَبيٌ عَظيمٌ خلُقه الخُلُق الَّذي *** لَهُ عَظّمَ الرَحمَنُ في سَيد الكُتْبِ
سبحان الله هذا بيت من قصيدة لإمام الحداد أبقاه الله مكتوب من قريب ثلاثة قرون، لا يزال مكتوب في الحجرة الشريفة عند المواجهة، لمّا تجي إذا واجهت قبر النبي ﷺ فعلى يمينك الشباك فوقه مكتوب:
نَبيٌ عَظيمٌ خلُقه الخُلُق الَّذي *** لَهُ عَظّمَ الرَحمَنُ في سَيد الكُتْبِ
وكانت القصيدة كلها لسيدنا الحداد نُقشت داخل الحجرة:
سَلَكنا الفَيافي وَالقِفار عَلى النَجبِ *** تَجِدُّ بنا الأشواق إلى حادي الرَكب
فسِرْنا عليها بالعشية والذي *** يَليها مِن اللَيل البَهيم عَلى القُتبِ
يَلذُّ لَنا أَن لا يَلذَّ لَنا الكَرى *** لَمَا خالَطَ الأَرواح مِن خالص الحُب
وما زال هذا دأبَنا وصنيعنا *** إِلى أَن أَنَخنا العَيس بِالمَنزلِ الرَحبِ
نَزَلنــا بِخَيــر العــالمين مُحَمــد *** نَـبي الهُـدى بَحـر النَدى سَيد العَرَب
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، اللهم ارزقنا حسن المتابعة له.
فَصْلٌ
في إصلاحِ الأخلاقِ الذميمةِ بالمجاهدةِ
"طريقُ إصلاحِ هٰذهِ الأخلاقِ كلِّها المجاهدةُ والرِّياضةُ.
ومعنى المجاهدةِ: أن تُكلِّفَ الصِّفةَ المُفرِطةَ الغالبةَ خلافَ مقتضاها، فتعملَ بنقيضِ موجبِها.
فإن غلبَ البخلُ.. فلا تزالُ تَتكلَّفُ البذلَ بالجهدِ، وتداومُ عليهِ مرَّةً بعدَ أخرى، حتَّىٰ يسهلَ عليكَ البذلُ في محلِهِ.
فإن غلبَ التَّبذيرُ.. فلا تزالُ تَتكلَّفُ الإمساكَ حتَّىٰ يصيرَ عادةً، فيسهلُ عليكَ الإمساكُ في محلِهِ، وكذلكَ في خُلُقِ الكِبْرِ وسائرِ الأخلاقِ، وقد ذكرناهُ في (كتابِ رياضةِ النفسِ) على التَّفصيلِ.
وينبغي أن تعلمَ: أنَّ مَنْ يبذلُ تكلُّفا فليسَ بسخيّ، وأنَّ مَنْ يَتواضعُ تكلُّفاً وهوَ ثقيلٌ على نفسِهِ فهوَ عاطلٌ عن خُلُقِ التَّواضعِ، بِلِ الخُلُقُ: عبارةٌ عن هيئةٍ للنَّفْسِ يصدرُ عنها الفعلُ بسهولةٍ مِنْ غيرِ رويَّةٍ وتكلُّفٍ، لكنِ التَّكلُّفُ هوَ طريقُ نحصيلِ الخُلُقِ؛ فإنَّهُ لا يزالُ يَتكلَّفُ أوَّلاً حتَّىٰ يصيرَ ذلكَ طبعاً وعادةً.
فيُفهَمُ مِنْ هٰذا: أنَّ البخيلَ قد يبذلُ، وأنَّ السَّخيَّ قد يمسكُ؛ فلا تنظرْ إلى الفعلِ، بل إلى الهيئةِ الرَّاسخةِ التي تصدرُ منها الأفعالُ بيسرٍ وسرعةٍ مِنْ غيرِ تكلَّفٍ.
واعلمْ: أنَّ تفاوتَ النَّاسِ في الحُسْنِ الباطنِ كتفاوتِهِم في الحُسْنِ الظَّاهرِ، ولن يَسلَمَ الحُسْنُ المُطلَقُ إِلَّا على النُّدورِ، وإنَّما سَلِمَ ذلكَ لرسولِ اللهِ ﷺ؛ حتَّىٰ أثنى اللهُ سبحانَهُ عليهِ فقالَ: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
وليسَتِ النَّجاةُ موقوفةً على الكمالِ البالغِ، لكِن على أن يكونَ لميلُ إلى الحُسْنِ أكثرَ؛ فإنَّ القبيحَ المُطلَقَ في الظَّاهرِ ممقوتٌ، والحُسْنَ المُطلَقَ معشوقٌ، وما بينَهُما درجاتٌ؛ فالقريبُ مِنَ الحُسْنِ المُطلَقِ أسعدُ في الدُّنيا مِنَ القريبِ إلى القبيحِ المُطلَقِ؛ فكذلكَ تَتفاوتُ سعادةُ الآخرةِ بحَسَبِ تفاوتِ حُسْنِ الصُّورةِ الباطنةِ"
فَصْلٌ
في التحذيرِ مِنَ الغُرورِ
"اعلمْ: أنَّكَ قد تظنُّ بنفسِكَ حُسْنَ الخُلُقِ وأنتَ عاطلٌ عنهُ، فإيَّاكَ أن تَغترَّ، وينبغي أن تُحكِّمَ فيهِ غيرَكَ، فتسألَ عنهُ صديقاً بصيراً لا يُداهِنُكَ.
وبالجملةِ: إذا نسبَكَ غيرُكَ إلىٰ سوءِ الخُلُقِ.. أوشكَ أن تكونَ كذلكَ؛ لأنَّ أكثرَ الأخلاقِ يَتعلَّقُ بالغيرِ، فينبغي أن تُظهِرَ لهُم.
ومِنْ مواقعِ الغُرورِ فيهِ مثلاً: أن تغضبَ فتظنَّ أنَّكَ تغضبُ للهِ تعالىٰ، وتُظهِرَ العبادةَ وتظنَّ أنَّكَ تُظهِرُ للاقتداءِ، أو تكفَّ عنِ الأكلِ، أو عن طلبِ الدُّنيا، أو تكظمَ الغيظَ، وإنَّما يَهُونُ عليكَ ذلكَ أن تُعرَفَ بهِ، فيكونُ الرِياءُ هوَ الباعثَ على الجميع، ولذلكَ يكثرُ مواقعُ الغُرورِ فيهِ على ما ذكرناهُ في (كتابِ الغُرورِ) مِنَ (الإحياء)، فإنَّ هٰذا الكتابَ لا يَحتمِلُ استقصاءَهُ".
يقول -عليه الرحمة والرضوان-: "طريقُ إصلاحِ هٰذهِ الأخلاقِ كلِّها المجاهدةُ والرِّياضةُ"، قال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69]؛ "تُكلِّفَ الصِّفةَ المُفرِطةَ الغالبةَ خلافَ مقتضاها، فتعملَ بنقيضها" حتى تعتدل، وذكر لنا الأمثلة في ذلك.
ويتفاوت الناس في الحُسن الباطن مثل تفاوتهم في الحُسْن الظاهر، ويقول: "ولم يَسلَمَ الحُسْنُ المُطلَقُ إِلَّا على النُّدورِ،"؛ كما هو في الأنبياء، ولا يبلغ إلى الذروة في ذلك الحسن في جميع الأخلاق وجميع الشؤون إلا لرسول الله، "وإنَّما سَلِمَ ذلكَ لرسولِ اللهِ ﷺ؛ حتَّىٰ أثنى اللهُ سبحانَهُ عليهِ فقالَ: (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:1-4]"، صلوات الله وسلامه عليه، وإن كانت النجاة ليست موقوفة على الكمال ولكن أهل الكمال لهم درجات، وما كمل غير من جالس رجال الكمال.
وقال بعد ذلك: احذر من الغرور، فنفسك تقول أنك ورع وأنت لست ورع، تقول لك إنك متواضع وأنت لست متواضع، هي تضحك عليك دائمًا، لا تصدقها، اختبرها؛ ادخل إلى السوق تشوف، تشوف نفسك صدقًا أنت متواضع أو لست متواضع؟ صدقًا أنت مخلص؟ فلا تقنع بمجرد دعوى النفس، ولكن جد واجتهد حتى تتحقق بهذه الخصال الفاضلة.
وهذا أيضًا السائل يقول: الكلام الذي نسمعه، هل ممكن نتحقق بكل هذا الكلام ونتخلص من هذه الأمراض من خلال حضورنا الدورة؟
يكون ذلك بأمرين:
فإذا أكرم الله أحدنا بذلك فيوشك أنه يريد أن يحققه، ويريد أن يُخَلِّقَه ويريد أن يهبه هذه المواهب، إذا بعث فيه عزيمة الصدق والهمة والنية؛ أن يعمل؛ وأن يطبِّق؛ وصحبه الخضوع والانكسار وكثرة الإلحاح على الله والاعتماد عليه، فبأنفسنا لا نستطيع، وبه -سبحانه وتعالى- نتمكن ويمكن وصولنا إلى مثل هذا، فيكون هذا بذرة؛ بذرة تثمر الوصول إلى التحقق بكل ذلك -يا رب اسلك بنا أشرف المسالك-.
كذلك فيما يعرضونه على المستشارين سواء من الإخوان في الله أو المشايخ لإنقاذهم من شيء من المعايب، كذلك يُذكَر ما يُحتاج فقط لذكره للتخلص من دون استرسال في أن وقعت في كذا وكذا وكذا، إلا بمقدار ما يُحتَاج به إلى التخلص من هذا الأمر السيء والعمل السيء، فهذا هو المقصود أن يتخلص وأن يخرج، وفيه أيضًا بعده يمكن أن يُحصِّل هذه الفائدة من خلال طلب كيفية العلاج من فعل كذا وكذا، ومن فعل كذا وكذا على وجه العموم، رزقنا الله الإخلاص والصدق.
حننَّ الله روحه الكريمة علينا، وعطّف قلبه الشريف علينا، وجعلنا من المقتدين به والسائرين في دربه والشاربين من شربه، ويعيذنا به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ويصفِّي به صفاتنا ويحسِّن به أخلاقنا ويوسِّع به أرزاقنا ويتولانا به في جميع شؤوننا، ويجعلنا منه على بال في كل حال ويرفعنا به إلى المراتب العوال، ويجعلنا مذكورين في حضرته في خير ما يذكره المحبوبون والمقربون وبالمذكورون في حضرة مولانا العلي الأعلى رب العالمين، خير ما يذكر عباده الذين أحبهم واجتباهم وقرَّبهم واصطفاهم وعفى عنهم وعافاهم وسامحهم وبدل سيئاتهم إلى حسنات تامات موصلات، وأن يكفينا ما أهمنا من أمر دنيانا وما لا نهتم به وما هو أعلم به منا، وأن يهدينا إلى أحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا هو وأن يصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا هو، وأن يقينا كل سوء حاصل بعلمه في الدارين وأن يحلينا بكل زين ويخلِّينا عن كل شين ويجعلنا لحبيبه الأعظم قرة عين، ويجعل كلًا من أهلينا وأولادنا وأحبابنا وطلابنا وأصحابنا لحبيبه الأعظم قرة عين، ويجمعنا به في الدارين ويرزقنا مرافقته في الحياتين، ويسعدنا بقربه ويسقينا من شربه في لطف وعافية، ويصلح أحوال أمته ويتدارك أهل الإسلام في غزة والضفة الغربية وأكناف بيت المقدس؛ وفي الشام واليمن ومصر والعراق وليبيا وسوريا وجميع الشرق والغرب وجميع بلاد المسلمين في جميع الأقطار يغيثهم وينظر إليهم ويرحمهم ويدفع السوء عنهم، ويرحمنا أجمعين بأكمل حسنى وهو راضٍ عنا، ويبارك لنا في خاتمة هذه الدورة وهذه الأيام ويجعل لنا فيها نظرة منه، ويلحقنا بعباده الكرام الأصفياء الأتقياء الصالحين في لطف وعافية.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ،
اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
[قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم]
لـمـا وقفتُ تجـاه قبر مُحَمّــَدٍ *** نـاديـتُه يـا مـنـتهى الآمــــــــــالِ
أنـا قـاصــدٌ أنـا وافدٌ أنـا واردٌ *** أنـا مـن ذنـوبـي حامـل الأثقـالي
أنـا خـاطئ ومخلّطٌ ووسـيلتي *** أنّي وفــدت عـلى الجناب العالي
لـمـا رأيـتُ النّازلـيـن بقبره *** قـد أزمعـوا فـي السّير والـتـرحـالي
زاد اشـتياقي نحوه وصبابتي *** وخرجــت فـيـهـم سـاحبَ الأذيـال
حتى نزلنـا منزلاً قـد أقبلـــتْ *** أفراحُه فـي غايـــــة الإقبــــــــالي
وبـدت لنا الأعـلام مـن وادي قُبا *** ومـن العقـيـق ونخلها والضال
والقبّةُ الخضرا زهت وتبـلجت *** وتبسّمت عـن ثغرهـــــا العَسّالي
فتـواجـدتْ أرواحنـا وتـمايلـت *** مـن شـوقهـا كـالشّـارب الـمــيّال
وجلت لنا عـين اليقـيـن وحقه *** فـي حضــرةٍ تزكـو بـهـا أعـمالي
عـند الـذي نزل الكتاب بمدحه *** وعـلـيـه صَلّى الـواحـدُ الـمتعالي
فـوقفتُ فـي ذاك الـمقــام مسلّمًــــا *** ومعـظّمًا فـي حالــة استقـبال
والقلب يرجف من مهابة أحمد *** والعيــن تذرف دمعـــها السيال
قلت السلام عليك يامن قربه *** غرضي وفيه تكـاثـــرت أقـوالي
منا السلام عليك عــــدة كلما *** ذكــــر السـلام مكـررا متــوال
منا السلام عليك يـامن نوره *** أجـلا الظـلام وزال كـل ضلالي
منا السلام عليك يا بدر الدجى *** يا مرسلا قد عم بالإرســـــال
منا السلام عليك يا هادي هدى *** ودعـا الى باب الكريم الوالي
منا السلام عليك عدة كمال رب *** العرش ثم بعد كل كمال
أرجو السلامة بالسلام من الردى *** ومن العدا ومن العدو القالي
إن الـمهابة ألجمتني هاهـنـا *** وخرسـتُ عـن تعـداد ما في بالي
ولأنـتَ أدرى بالذي هـو طلـبتي *** وببغـيـتي من جملة الأحـوالي
قـمْ يـا رسـولَ الله قـومةَ ماجدٍ *** واشفعْ إلى ذي المجد والإجلال
يـا راحـمَ الـمستـرحـمـيـن ورحـمةً *** للعـالـمين ورافـع الاغـلال
مـاذا أقـول وما مديحي فـيك *** يـا عزّي ويا كـنزي ويـا منوالي
يـا من هو الأب الشفـيـق عـنــايةً *** للـمستجـير الخائف الـبطّال
إشفع تشفع يامشفع واستغث *** ياخير من داس الثرى بنعــــــال
إني بمولـــدك الشريف مولع *** ومديح مدحـك منتهى آمـــالــي
أنا في جوارك من مكابدة البلا *** ومـن الوبـا والفقـر والإذلالي
صلى عليــــك الله ربي دائما *** وعلى الصحـابة كلهـــــم والآل
والحمـــد لله الكـــريم ختامها *** حمـــداً على إنعـامه المتــوالي
03 ربيع الأول 1447