(370)
(606)
(339)
(535)
الدرس التاسع والعشرون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثالث: تزكية القلوب: شرح الأصل العاشر: الرياء (1)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
فجر الإثنين 2 ربيع الأول 1447هـ
قصد العمل… رياءٌ أم إخلاص؟ يوضح الحبيب عمر بن حفيظ حقيقة الرياء وحدوده، ولماذا يتسرّب إلى القول والهيئة والعمل، وكيف يتحوّل طلبُ المنزلة عند الناس إلى حجابٍ بين العبد وربّه؛ عرضٌ يعيد ضبط النية ويوقظ القلب.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
الأصل العاشر
في الرِّياء
"قال الله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) [الماعون:4-6].
وقال تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان:9].
وقال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ....) الآية [الكهف:110] ، وأراد به الإخلاص .
وقال ﷺ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ . الشَّرْكُ الْأَصْغَرُ " ، قِيلَ : وما هو؟ قال: " الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جَازَى الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمُ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمُ الْجَزَاءَ؟! ".
وقال ﷺ في حديثٍ طويلٍ: " يُقَالُ لِلْغَازِي وَالْعَالِمِ وَالْمُنْفِقِ إِذَا قَالَ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا: كَذَبْتَ؛ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ عَالِمٌ أَوْ شُجَاعٌ أَوْ جَوَادٌ، فَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ".
وقال ﷺ: " اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ "
قيل: ما هوَ؟ قَالَ: " وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أُعِدَّ لِلْقُرَّاءِ الْمُرَائِينَ "
وقال ﷺ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَمِلَ لِي عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي .. فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَأَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ".
وقال ﷺ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلاً فِيهِ مِقْدَارُ ذَرَّةٍ مِنَ الرِّيَاءِ".
وقال ﷺ: " إِنَّ أَدْنَى الرِّيَاءِ شِرْكٌ ".
وقال عيسى -عليه السَّلامُ-: " إذا كان يومُ صومِ أحدِكُم .. فليدهَنْ رأسَهُ ولحيتَهُ، ويمسحْ شفتيهِ ؛ لكيلا يرى النَّاسُ أَنَّهُ صائمٌ، وإذا أعطى بيمينِهِ .. فليُخْفِ عن شمالِهِ ، وإذا صلَّى .. فليُرْخِ سِترَ بابِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تعالى يَقْسِمُ الثَّناءَ كما يَقْسِمُ الرِّزْقَ".
ولهذا قال عمر -رضيَ الله عنهُ- لرجلٍ طأطأَ رقبتَهُ: (يا صاحبَ الرَّقبة؛ ارفع رقبتَكَ ؛ ليس الخشوعُ في الرِّقابِ، وإنَّما الخشوعُ في القلوب)
وقال نبينا ﷺ: " إِنَّ الْمُرَائِيَ يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ : يَا مُرَائِي، يَا غَادِرُ ، يَا فَاجِرُ، يَا خَاسِرُ؛ أَذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَكَ مِمَّنْ عَمِلْتَ لَهُ، فَلَا أَجْرَ لَكَ عِنْدَنَا".
وقال قتادة: إذا راءى العبدُ .. يقولُ الله تعالى: انظروا إلى عبدي كيفَ يستهزئُ بي.
وقال الحسنُ: صحبتُ أقواماً إن كانَ أَحَدُهُم لتَعْرِضُ لَهُ الحكمة؛ لو نطقَ بها .. نفعَتْهُ ونفعَتْ أصحابَهُ، وما يمنعُهُ منها إلا الشُّهرةُ.
فصلٌ
في بيان أصنافِ الرِّياءِ
"حقيقةُ الرِّياءِ: طلبُ المنزلةِ في قلوبِ النَّاسِ بالعباداتِ وأعمالِ الخير، وما يُراءى به ستَّةُ أصنافٍ:
الأَوَّلُ: الرِّياءُ مِنْ جهةِ البدنِ؛ وهو إظهارُ النُّحولِ والصَّفارِ؛ ليُظَنَّ بهِ السَّهرُ والصِّيام، وإظهارُ الحزنِ؛ ليُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ شَديدُ الاهتمامِ بأمرِ الدِّينِ، وإظهارُ شَعَثِ الشَّعَرِ؛ لَيُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ لَشَدَّةِ استغراقِهِ بالدِّينِ ليسَ يتفرَّغُ لنفسِهِ، وإظهار ذبولِ الشَّفتينِ؛ ليُستدَلَّ بهِ على صومِهِ، وخفضُ الصَّوتِ؛ ليُستدَلَّ بِهِ على ضَعفِهِ مِنْ شدَّةِ المجاهدةِ.
الثاني: الرِّياءُ بالهيئةِ؛ كحلقِ الشَّارب، وإطراقِ الرَّأْسِ في المشيِ، والهدوءِ في الحركةِ، وإبقاءِ أثر السُّجودِ على الوجهِ، وتغميضِ العينينِ؛ ليُظَنَّ بهِ أَنَّهُ في الوجدِ والمكاشفةِ، أو غائصٌ في الفكرِ.
الثالثُ: الرِّياء في الثّيابِ؛ كلبسِ الصُّوفِ، والثَّوبِ الخشنِ، وتقصيرِهِ إلى قريبٍ مِنْ نصفِ السَّاقِ، وتقصيرِ الكُمَّينِ، وتركِ الثَّوبِ مُخرَّقاً ووسخاً؛ ليُظَنَّ أَنَّهُ مُستغرِقُ الوقتِ عنِ الفراغِ له، ولبسِ المُرقَّعةِ، والصَّلاةِ على السَّجَّادَةِ؛ ليُظَنَّ أَنَّهُ مِنَ الصُّوفيَّةِ مع إفلاسِهِ عن حقائقِ التَّصوُّفِ، ولبسِ الدُّرَّاعةِ والطَّيلسانِ، وتوسيعِ الأكمامِ؛ ليُظَنَّ أَنَّهُ عالِمٌ، والتَّقنُّعِ فوق العِمامة بإزارٍ، ولبسِ الجواربِ ليُظَنَّ أَنَّهُ مُتقشِّفٌ؛ لشدَّةِ ورعِــهِ مِنْ غبارِ الطَّريقِ.
ثمَّ منهُم مَنْ يطلبُ المنزلةَ في قلوبِ أهل الصَّلاحِ، فيلازمُ الثَّوبَ الخَلَقَ، ولو كُلِّفَ لبسَ ثوبٍ جديدٍ حسنٍ ممَّا يُباحُ في الشَّرع ولبسَهُ السَّلفُ.. لكان عندَهُ كالذَّبحِ؛ إذ يخافُ أن يقولَ النَّاسُ: قد بدا لهُ مِنَ الزُّهْدِ!!
ومنهم مَنْ يطلبُ المنزلةَ مِنَ السَّلاطينِ والتُّجَّارِ بنفيسِ الثِّيابِ الصُّوفِ المُرقَّعة، ولو لبسَ خُلْقانَ الثِّياب.. لازدرَوهُ، ولو لبسَ فاخرَ الثِّيابِ.. لم يعتقدوا زهدَهُ، فيطلبُ المُرقَّعاتِ المصبوغَةَ، والفُوَطَ الرَّقيقةَ، والأصواف الرَّفيعة، فتكون ثيابُهُم في القيمةِ والنَّفاسةِ كثيابِ الأغنياءِ، وفي اللَّونِ والهيئةِ كثياب الصُّلحاءِ، ولو كُلِّفوا أن يَلبَسوا الخَلَقَ.. لكانَ عندَهُم كالذَّبحِ؛ خِيفَةً مِنَ السُّقوط من أعينِ الأغنياءِ، ولو كُلِّفوا لبسَ الخَزِّ والقصبيِّ والدَّبيقيِّ وما يُباحُ لبسُهُ، وقيمتُهُ دونَ قيمةِ ثيابِهِم.. لاشتدَّ عليهم؛ خوفاً مِنْ سقوطِ منزلتِهِم مِنْ قلوبِ الصُّلحاءِ؛ إذ يقولون: بدا لهُ مِنَ الزُّهْدِ.
الرَّابعُ: الرِّياءُ بالقولِ؛ كرياءِ أهلِ الوعظِ والتَّذكيرِ في تحسينِ الألفاظِ وتسجيعِها، والنُّطقِ بالحكمةِ والأخبارِ وكلام السَّلفِ، معَ ترقيقِ الصَّوتِ وإظهارِ الحزنِ، مع الخلوِّ عن حقيقةِ الصِّدقِ والإخلاصِ في الباطنِ، بل ليُظَنَّ بهِ ذلك، فهو يُظهرُ الحزنِ في الملأ، ويعصي اللهَ في الخلوة، وكادِّعاءِ حفظِ الحديثِ، ولقاءِ الشُّيوخ، والمبادرةِ إلى الحديثِ أَنَّهُ صحيحٌ أو سقيمٌ؛ ليُظَنَّ بهِ غزارةُ العلم، وكتحريكِ الشَّفتين بالذِّكر، والأمر بالمعروفِ والنَّهي عنِ المُنكَرِ بمشهدِ النَّاسِ، مع خلوِّ القلب عن التَّفجُّعِ بالمعصية، وكإظهارِ الغضب على المُنكَراتِ، والأسفِ على المعاصي، مع خلوِّ القلب عنِ التألُّمِ بهِ.
الخامسُ: الرِّياءُ بالعملِ؛ كتطويلِ القيام، وتحسينِ الرُّكوعِ والسُّجودِ، وإطراقِ الرَّأْس، وقلَّةِ الالتفات، والتَّصَدُّق، والصَّومِ، والحجِّ، والإخباتِ في المشي، وإرخاءِ الجفون، مع أنَّ اللهَ تعالى يعلمُ مِنْ باطِنِهِ أَنَّهُ لو كان خالياً .. لَمَا فعلَ شيئاً مِنْ ذلكَ، بل تساهلَ في الصَّلاةِ، وأسرعَ في المشي، وقد يفعلُ ذلك في المشيِ، فإذا شعرَ باطِّلاع غيرِهِ عليهِ .. عادَ إلى السَّكينةِ؛ كي يُظَنَّ به الخشوعُ .
السادسُ: الرِّياءُ بكثرةِ التَّلامذة والأصحابِ، وكثرةِ ذكرِ الشُّيوخِ؛ ليُظَنَّ أَنَّهُ لقيَ شيوخاً كثيرةً، وكَمَنْ يُحِبُّ أن يزورَهُ العلماءُ والسَّلاطينُ؛ ليُقالَ: إِنَّهُ مِمَّنْ يُتبرَّكُ بِهِ.
فهذه مجامعُ ما يُراءى به في الدِّينِ، وكلُّ ذلكَ حرامٌ، بل هو مِنَ الكبائرِ"
الحمد لله يُكْرِمُ مَن شاء بتطهير باطنه عن الالتفات إلى ما سِواه، ويُقبِل بقلبه عليه فيُقبل عليه تعالى بما هو أهله مما لا يتفوّهُ به فاه. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سعِدتْ بالخضوع له القلوبُ والجِباه، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المُنيب الخاضع الخاشع الأوَّاه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المُختار، جامع الكمال وفيض النَّوال، سيدنا محمد وعلى آله خير آل، وعلى صحابته أرباب الكمال، وعلى من والاهم واتّبعهم بإحسان في النيّات والمقاصد والأقوال والأفعال، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين، سادات أهل الصِّدق مع الكبير المُتَعال، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقرَّبين، وعلى جميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في هذا الأصل التحذير مِن الرِّياء، وهو أن يُقصَد بشيء من طاعات إلهنا وعبادته شيئًا من الكائنات والمخلوقات كائنًا ما كان (فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110].
وهذا الإخلاص لوجه الله تعالى يَطّلِعُ الملائكة على أوائِله وظواهرِ معانيه، وله أسرار تكون بين المُخلِص وبين إلهِهِ -سبحانه وتعالى- لا يطَّلِع عليها ملَكٌ ولا غيره، سرّ من أسراره يقذِفه في قلب من يشاء من عباده، فنسأل الله أن يقذِفُ في قلوبنا أنوار الإخلاص لوجهه الكريم، حتى لا يكون لنا قول إلا وهو المُراد به، ولا يكون لنا فِعل إلا وهو المُراد به، ولا يكون لنا قصد ولا نيّة ولا حركة ولا سُكون ولا أخذ ولا عطاء إلا وهو المقصود به والمُراد به -سبحانه وتعالى- نُريد بذلك وجهه لا نلتفت إلى ما سواه، اللهم أكرمنا بذلك.
وأورَد لنا تحذير الحق تعالى مِمَّن يُرائي بالصَّلاة ولا يُبالي بتأخيرها عن أوقاتها، قال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) [الماعون:4-6] -والعِياذ بالله تعالى-
ووصف بذلك أهل النّفاق، وقال: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 142]
ونقل عن أهل الصدق معه من المؤمنين به قولهم لمن يُطعِمونه من الفقراء والمساكين
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان:8-9] الله لا إله إلا الله.
فإنهم يُنزِّهون أنفسهم حتى عن ثناء المُثني عليهم أو إرادة، أو الالتفات إلى دعاء الدَّاعي لهم بواسطة ما يقومون به من الأعمال في التعليم والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- لا إله إلا الله،
يقول لنا شيخنا الحبيب محمد الهدَّار -عليه رحمة الله- عندما بدأنا الرُّجوع إلى حضرموت والخروج إليها في الاهتمام بأمر الدَّعوة والقيام بها، قال: وكان سلَفُكم يقومون بخدمة الناس ودعوتِهم وتعليمهم ولا يلتفِتون إلى شيء من الناس، ولا حتى: جزاك الله خير، ما يلتفتون إلى أن أحدًا يقول لهم: جزاكم الله خيرًا، فإنهم يريدون وجه الله -جلَّ جلاله-.
فهم القوم الذين هُدوا *** وبفضل اللَه قد سعدوا
ولغير اللَه ما قصدوا. *** مع القرآن في قرَنِ.
قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) .
مازال التَّصديق لقوله ﷺ لِمَن سأله: الرجل يُقاتِل شجاعةً، والرجل يُقاتِل حميَّةً، والرجل يُقاتِل لِيُرَى مكانه، والرجل يُقاتِل للمَغنم، والرجل يُقاِتل للذِّكْرِ، أيُّهم في سبيل الله؟ فقال: "مَن قاتلَ لتكون كلمةُ الله هي العُليا فهو في سبيل الله"، فنزلت الآية الكريمة.
وقال ﷺ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ . الشَّرْكُ الْأَصْغَرُ، قيل: وما هو؟ قال: الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جَازَى الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمُ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمُ الْجَزَاءَ؟!" هل سيُعطونكم شي ثواب؟ سيُعطونكم شي ثواب؟ سيُعطونكم شي حسنات؟ سيُعطونكم شي نجاة من النار؟ سيُعطونكم شي ثبات على الصراط؟ اذهبوا لعندهم، لا حول ولا قوة إلا بالله، لأنهم قصدوهم بشيء من عباداتهم. وهكذا كما جاء في رواية سيدنا الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في المعجم الكبير والبيهقي في الشعب وغيرهم.
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أشار إليه في صحيح مسلم: "إن أول من تُسَعَّرُ بهم النار ثلاثة: رجل كان في مظهر الغزو والجهاد في سبيل الله ولكن كان له غرض ومَقصَد أن يُقال إنه شجاع وأنه جريءٌ وأنه مُجاهدٌ، وآخر في مظهر العِلم والتَّعليم لكنه كان مرادُهُ أن يُقال للنّاس إنه عالم وأن يُذكَر بذلك، والثالث في مقام الإنفاق والعطاء والبَذل في سبيل الله ولكن في قلبه مُراد أن يُقال إنه شُجاع، إنه سخيٌّ، إنه جوادٌ" وما إلى ذلك. قال عليه الصلاة والسلام: "فيوقِف الحقُّ -سبحانه وتعالى- هذا المقتول، فيقال له فيُعَرِّفُهُ نِعَمَهُ فيعرِفها، فيقول: ما عملتَ فيما أعطيتك؟ يقول: يا رب قاتلت في سبيلك حتى استشهدت، فيقول الله: كذَبتْ. وتقول الملائكة: كذَبتْ. يقول الله: إنما أردت أن يُقال هو جريء، هو شجاع، فقد قِيل، فأُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقِيَ في النَّار.
ثم أوتي بالعالم فيُعَرِّفُهُ نِعَمَهُ فيعرفها، فيقول: ما عملت فيها؟ يقول: تعلَّمت فيك العلم وقرأت فيك القرآن وعلَّمت فيك القرآن، فيقول الله: كذَبتْ، وتقول الملائكة: كذَبتْ، إنَّما أردتَ أن يُقال هو قارئ هو عالم، قرأتَ القرآن ليُقال هو قارئ، وتعلّمتَ العلم ليُقال هو عالم. فأُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقِيَ في النَّار.
ويقوم الثالث، فيُعَرِّفُهُ نِعَمَهُ فيعرفها، فيقول: ما عملت فيما أعطيتك؟ يقول: يا رب أنفقته في سبيلك، يقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، إنما أنفقت ليُقال هو سخيٌّ، هو جوادٌ، فأُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقِيَ في النار"
قال ﷺ: "فهؤلاء الثلاثة أول عباد الله تُسَعَّرُ بهم نار جهنم يوم القيامة". أجارَنا الله من نارِه ورزَقنا كمال الإخلاص لوجهه الكريم.
وفي سنن الترمذي وابن ماجه يقول: وقال ﷺ: " تعوّذوا بالله واسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ " نعوذ بك اللهم من جُبِّ الحَزن.. قيل: ما : ما هوَ؟ قَالَ: " وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أُعِدَّ لِلْقُرَّاءِ الْمُرَائِينَ".
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "مَنْ عَمِلَ لِي عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي .. فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ، -كله لغيري- وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَأَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ"، لا يقبل الشركة -سبحانه وتعالى-.
وقال ﷺ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلاً فِيهِ مِقْدَارُ ذَرَّةٍ مِنَ الرِّيَاءِ".
وقال ﷺ: "إِنَّ أَدْنَى الرِّيَاءِ شِرْكٌ "؛ الشرك الخفي.
"وقال عيسى عليه السَّلامُ: إذا كان يوم صومِ أحدكم .. فليدهن رأسه ولحيته، -حتى لا يظن الصوم- ويمسح شفتيه؛ لكيلا يرى النَّاسُ أَنَّهُ صائم، وإذا أعطى بيمينه.. فليُخْفِ عن شمالِهِ، -في الصدقة- وإذا صلَّى.. فليُرْخِ سِترَ بابِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تعالى يَقْسِمُ الثَّناءَ كما يَقْسِمُ الرِّزْقَ".
"ولهذا قال عمر -رضي الله عنه- لرجل طأطأ رقبته: يا صاحب الرقبة ؛ ارفع رقبتك ؛ ليس الخشوع في الرقاب، وإنما الخشوع في القلوب". لك قلب خاشع بينك وبين الله، لا تحني رقبتك قُدامنا لنظنّ بك أنك خاشع؟ ما هذا بخشوع؛ الخشوع أن يكون قلبك مُمتلئ بتعظيم الحق -سبحانه وتعالى- وأنت متذلّل بين يديه. قال الله عن سادتنا الأنبياء: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90] صلوات الله وسلامه عليهم.
وقال نبيّنا ﷺ: "إِنَّ الْمُرَائِيَ يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ: يَا مُرَائِي، يَا غَادِرُ، يَا فَاجِرُ، يَا خَاسِرُ -هذه اسماؤه في القيامة- أَذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَكَ مِمَّنْ عَمِلْتَ لَهُ، فَلَا أَجْرَ لَكَ عِنْدَنا"
وقال قتادة: " إذا راءى العبد.. بشيء من طاعته وعباداته خلقه، يقول للملائكة: انظروا إلى عبدي كيف يستهزئ بي" في صورة عبادة لي وهو يريد غيري، يلتِفت إلى سواي. أعاذنا الله
"وقال الحسن: صحبتُ أقواماً إن كانَ أَحَدُهُم لتَعْرِضُ لَهُ الحكمة؛ لو نطق بها .. نفعَتْهُ ونفعَتْ أصحابه، وما يمنعه منها إلا الشهرة"، خوفه أن يكون مقصوده الشُّهرة، وطلب الشُّهرة، فيسكت ولا ينطق بتلك الحكمة خشية أن يريد السمعة والشُّهرة بين الناس.
وبماذا يُرائي الناس؟ وقد لخّص الأصناف التي يحصل بها الرياء في الطاعات والعبادات، يقول: أن معنى الرِّياءِ: "طلب المنزلة في قلوبِ النَّاسِ بالعبادات وأعمال الخير"، أن يكون له غرض في أيٍّ عمل من أعمال الطاعة والثواب والقُرُبات والعبادات مكانة عند الناس، أو منزِلة في قلوبهم، أو ثناء منهم، أو تحصيل شيء مما عندهم إلى غير ذلك. قال: بماذا يُراءون؟
قال بعضهم: أراد مَنزِلةً في قلوب أهل الزهد والذين يعتقدون في الزاهدين، وأراد مَنزِلة عند السَّلاطين وبعض أهل الوَجاهة في الدنيا، فإن لبس ثياب مُرقَّعة ومُخرَّقة أو وسِخة فيُزدرى عند الأغنياء وعند السَّلاطين، وإن لبس ثياب جميلة وجيدة وحسنة فيُزدَرى عند أهل الاعتقاد في الزهد والتصوّف.
فقال: يُحضِر مُرقَّعات غالية ثمينة، ربما يزيد ثمنها عن كثير من ثياب الأغنياء، ويظهر بها حتى يُعتَقد هنا ويُعتَقد هنا. فإذا تشبّث بإرادة المَنزِلة عند الخلق، لو كلّفته لبس ثوب غير هذا يصير مثل الذَّبح له، شديدٌ عليه، لأنه يخاف من سُقوط المنزِلة عند الخلق، والعياذُ بالله تبارك وتعالى. فهذا يُرائي بالثِّياب.
وأن الناس يأتون إلى عنده فلان وفلان، فيتكلّف أن يستزير فلان وفلان، لا لِصحَّة قصد في التبرُّك بهم ولا لاستِمطار الرحمة بوُصولهم إلى منزلِه، ولكن ليُقال جاء إلى منزله فلان وقصد منزله فلان وزاره فلان، والحق يعلم ما يجيش به الصدرُ والجَنان.
وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
"وأمَّا طلبُ المنزلةِ في قلوبِ النَّاسِ بأفعالٍ ليسَتْ مِنَ العباداتِ وأعمالِ الدِّينِ.. فليسَتْ بحرامٍ، مالم يكنْ فيها تلبيسٌ، كما ذكرناهُ في طلبِ الجاهِ؛ فأهلُ الدُّنيا قد يطلبونَ الجاهَ بكثرةِ المالِ والغلمانِ، وحسنِ الثّيابِ الفاخرةِ، وحفظِ الأشعارِ، وعلمِ الطّبِ والحسابِ والنجومِ والنَّحوِ واللُّغةِ، وغيرِ ذلكَ مِنَ الأعمالِ والأحوالِ، ولم يحرمْ ذلكَ ما لم ينتهِ إلى الإيذاءِ بالتَّكبُّرِ، وإلى أخلاقٍ أخرى مذمومةٍ، وإنَّما استقصينا أقسامَ ما بهِ الرِّياءِ؛ لأنَّهُ أغلبُ الأخلاقِ الذَّميمةِ على النُّفوسِ، فمَنْ لا يعرفُ الشَّرَّ ومواقعَهُ..لايمكنُهُ أن يتَّقيَهُ".
ومما علمنا ﷺ في نفي الرياء قوله: "اللهم إني أعوذ بك أن أُشرِكَ بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرُكَ لِما لا أعلم". لئلَّا يتَّخذَه الشيطان أيضًا وسيلةَ التخويفِ مِنَ الرِّياء لتَركِ العمل، فيحمِلهُم على تَرك الأعمال الصَّالحة تخويفًا لهم مِنَ الرِّياء، وما قصدُه يخافوا من الرِّياء ولكن قصدُه أن لا يعملوا حتى لا يُثابُوا، فلكن يكره الإنسان خاطِر الرِّياء ويقرأ هذا الدعاء النبوي: " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك لِما لا أعلم".
وقال المؤلف -رحمه الله ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
فصلٌ
في بيانِ درجاتِ الرِّياءِ
"الرِّياءُ على درجاتٍ:
إحداها: ألَّا يكونَ بالأمورِ الدِّينيَّةِ والعباداتِ؛ كالذي يلبسُ عندَ الخروجِ ثياباً حسنةً خلافَ ما يلبسُهُ في الخلوةِ، وكالذي ينفقُ في الضِّيافاتِ وعلى الأغنياءِ أموالاً ليُعتقَدَ أَنَّهُ سخيٌّ، لا ليُعتقَدَ أنَّهُ ورعٌ صالحٌ ، فذلكَ ليسَ بحرامٍ؛ فإنَّ تملُّكَ القلوبِ كتملُّكِ الأموالِِ.
نعم؛ القليلُ منهُ صالحٌ نافعٌ، والكثيرُ منهُ يلهي عن ذكرِ اللهِ تعالى؛ كالكثيرِ مِنَ المالِ، ومهما انصرفَتِ الهمَّةُ إلى سعةِ الجاهِ .. فيجرُّ ذلكَ إلى الغفلةِ والمعاصي، فيكونُ محذوراً لذلكَ، لا لنفسِهِ.
وأمَّا إظهارُ الشَّمائلِ التي ذكرناها ليَعتقِدَ النَّاسُ فِيهِ الدِّينَ والورعَ .. فحرامٌ لشيئينِ:
أحدُهُما: أنَّهُ تلبيسٌ إذا أرادَ أن يعتقدَ النَّاسُ أَنَّهُ مُخلِصٌ مطيعٌ للهِ تعالى مُحِبٌّ، وهو بهذهِ النِّيَّةِ فاسقٌ ممقوتٌ عندَ اللهِ تعالى، ولو سلَّمَ الرَّجلُ دراهمَ إلى جماعةٍ يُخيِّلُ إليهم أنَّهُ يجودُ عليهِم بها وإنَّما هي دُيونٌ لازمةٌ.. عصى بهِ لتلبيسِهِ وإن لم يطلبْ بهِ أن يُعتقَدَ صلاحُهُ؛ لأنَّ ملكَ القلوبِ بالتَّلبيسِ حرامٌ.
الثَّاني: أنَّهُ إذا قصدَ بعبادةِ اللهِ تعالى خَلْقَ اللهِ .. فهو مُستهزِئٌ، ومَنْ وقفَ بينَ يدي ملِكٍ في مَعرِضِ الخدمةِ وليسَ غرضُهُ ذلك، بل غرضُهُ ملاحظةُ عبدٍ مِنْ عبيد الملِكِ، أو جاريةٍ من جواريهِ .. فانظر ماذا يَستحِقُّهُ مِنَ النَّكالِ؛ لاستهزائِهِ بالملِكِ، فكأنَّهُ إذا قصدَ العبادَ بالعبادةِ .. فقدِ اعتقدَ أنَّ عبادَ اللهِ أقدرُ على نفعِهِ وخيرِهِ مِنَ اللهِ تعالى؛ إذ عظمةُ العبادِ في قلبِهِ دعتْهُ إلى أن يَتجمَّلَ عندَهُم بعبادةِ اللهِ تعالى، ولهذا سُمِّيَ الرِّياءُ: الشِّركَ الأصغرَ.
ثم يزدادُ الإثمُ بزيادة فسادِ القصدِ والنِّيَّةِ؛ إذ مِنَ المرائينَ مَنْ لا يطلبُ إِلَّا مُجرَّدَ الجاهِ.
ومنهم مَنْ يطلبُ أن يُودَعَ الودائعَ، ويُوَلَّى الأوقافَ ومالَ الأيتامِ؛ ليختزلَ منها، وذلكَ أخبثُ لا محالةَ.
ومنهم مَنْ يرائي ليقصدَ أن يتقرَّبَ إليه النِّساءُ والصبيانُ؛ ليَتمكَّنَ مِنَ الفُجورِ، أو ليَكثُرَ عندَهُ المالُ؛ ليَصرِفَهُ إلى الخمرِ والملاهي، وهذا هوَ الأعظمُ؛ إذ جعلَ عبادةَ اللهِ تعالى وسيلةً لهُ إلى مخالفتِهِ والعياذُ باللهِ مِنْ ذلك .
فصلٌ
في بيانِ ما تكونُ به المراءاةُ
كما يعظمُ الرِّياءُ ويَتغلَّظُ إثمُهُ بسببِ اختلافِ الغرضِ الباعثِ عليهِ؛ فيعظمُ أيضاً بما بهِ المراءاةُ، وبقُوَّةِ قصدِ الرِّياءِ.
أمَّا ما بهِ المراءاةُ .. فهو على ثلاثِ درجاتٍ:
أغلظُها: أن يرائيَ بأصلِ الإيمانِ؛ كالمنافقِ يُظهِرُ أَنَّهُ مسلِمٌ ولم يُسلِمْ بقلبِهِ، وكالمُلحِدِ ومُعتقِدِ الإباحةِ يُظهِرُ أَنَّهُ مستديمُ الإيمانِ وقد انسلَّ منهُ باطنُهُ .
الثانيةُ: الرِّياءُ بأصلِ العباداتِ؛ كَمَنْ يُصلِّي ويُخْرِجُ الزَّكَاةَ بينَ يَدَيِ النَّاسِ والله يعلمُ مِنْ باطِنِهِ أَنَّهُ لو خلا بنفسِهِ .. لم يفعلْ ذلك .
الثالثةُ -وهيَ أدناها-: ألا يرائيَ بالفرائضِ، بل بالنَّوافلِ؛ كالذي يُكثِرُ النَّافلةَ، ويُحسِنُ هيئةَ الفريضةِ، ويُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ أجودِ مالِهِ، أو يَتهجَّدُ ، أو يصومُ يومَ عرفةَ وعاشوراءَ والله يعلمُ مِنْ باطنِهِ أنَّهُ لو خلا بنفسِهِ.. لم يفعلْ شيئاً من ذلك، وهذا أيضاً حرامٌ وإن كانَ لا ينتهي شدَّةُ العقوبةِ فيهِ إلى حدِّ الرِّياءِ بالأصولِ.
وأمَّا تغليظُهُ بدرجاتِ القصدِ: فهوَ أَنَّهُ قد يتجرَّدُ قصدُ الرِّياءِ حتَّى يُصلِّيَ مثلاً على غيرِ طهارةٍ لأجلِ النَّاسِ ويصومَ، ولو خلا بنفسِهِ.. لأفطرَ.
وقد ينضافُ إليهِ قصدُ العبادةِ أيضاً، وله ثلاثُ أحوالِ :
إحداها: أن تكونَ العبادةُ باعثةً مُستقِلَّةً؛ لوْ خلا بنفسِهِ.. لفعلَ، ولكن زادَهُ رؤيةُ غيرِهِ ومشاهدتُهُ نشاطاً، وخفَّ عليهِ العملُ بسببِهِ، فأرجو ألَّا يُحبِطَ ذلك القدرُ عملَهُ، بل تصحُّ عبادتُهُ ويُثابُ عليها، ويُعاقَبُ على قصدِ الرِّياءِ، أو يُنقَصُ مِنْ ثوابِهِ .
الثَّانيةُ: أن يكونَ قصدُ العبادةِ ضعيفاً؛ بحيثُ لوِ انفردَ عن النَّاسِ.. ما استقلَّ بالحملِ على العبادةِ، فهذا لا تصحُّ عبادتُهُ، والقصدُ الضَّعيفُ لا ينفي عنهُ شدَّةَ المقتِ.
الثَّالثةُ: أن يتساوى القصدانِ؛ بحيثُ يَستقِلُّ كلُّ واحدٍ بالحملِ لو انفردَ، أو لا يَنبعِثُ الفعلُ بأحدِهِما بل بمجموعِهِما، فهذا قد أصلحَ شيئاً وأفسدَ مثلَهُ بل أكثرَ منهُ، فالغالبُ أَنَّهُ لا يَسلَمُ رأساً برأسٍ، ويحتملُ أن يُقالَ: إذا تساوى القصدانِ.. فأحدُهُما كفَّارَةٌ للآخَرِ، وقولُهُ تعالى: " أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ" يدلُّ على أنَّهُ لا يقبلُهُ، ولا يثيبُهُ عليه، أمَّا أَنَّهُ يُعاقِبُهُ عليهِ.. ففيه نظرٌ، فالأغلبُ عندي -والعلمُ عند الله تعالى-: أنَّه لا يخلو عن إثمٍ وعقابٍ.
خلَّصنا الله ونقَّانا عن جميع الشوائب.
يقول -عليه رحمة الله تعالى-: أن "المراءاةُ .. فهو على ثلاثِ درجاتٍ" من غير شك:
يعني لولا رؤية النَّاس له، وطلبُه المنزلة فيهم ما فعلَه من أصلِهِ، ولا يقوم يُصلِّي أصلًا، ولا يصوم، ولا يُخرِج زكاة إلا من أجل النَّاس ينظُرون إليه، فهذا أيضًا مُرائي بأصولِ العبادات، ليس كالمُنافق الخارج من الدِّين، ولكنه فاسق مُضيِّع للفرائض.
ولو كان خاليًا بنفسه لم يفعل ذلك .. فهذا من جهة ما تكون به المراءاة بعد أن ذكر أن "الرِّياء عَلى درجات":
ثم بعد ذلك قال: "يزدادُ الإثمُ بزيادة فسادِ القصدِ والنِّيَّةِ":
فَيُظهِر العبادة والورع؛ لِيُعتَقَد فيه الورع والعبادة، فيتمكن من أن يُودِع الناس عنده الودائع، وأن يُوَلُّوه على أموال الوقف وأموال اليتامى، ويقولون: هذا إنسان وَرِع، وهو قصده كلُّه أن يقال هذا أن يُوَلُّوه، هذا أخبث من الأول الذي يقول أراد منزلة عند الناس وبس، هذا أراد معصية من وراء الظُّهور بالعبادة، أراد يعصي، أراد يسرق، أراد يأخذ أموال الناس، أراد يتوصّل إلى أي شيء مُحرّم آخر، قال: فيشتدُّ عليه الإثم أكثر.
وبعد ذلك إما أن يكون مُتجرِّد بقصد الرياء، فلا مقصود له إلا المراءاة، فهذا لا شك أنه ساقط وعليه الإثم.
وقد ينضاف أيضًا قصد العبادة مع قصد الرياء، كيف؟
فيقول:
وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
فصلٌ
في بيانِ أنَّ الرِّياءَ جليٌّ وخفيٌّ
"اعلم: أنَّ بعض الرِّياءِ جليٌّ، وبعضَهُ خفيٌّ، وبعضَهُ أخفىٰ مِنْ دبيبِ النَّملِ.
أمَّا الجليُّ: فما يبعثُ على العملِ، حتَّى لولاهُ.. لم يرغبْ في العملِ.
وأمَّا الخفيُّ: أَلَّا يَستقِلَّ بالحملِ عليهِ، ولكنْ يُخفِّفُ العملَ، ويزيدُ في نشاطِهِ؛ كالذي يَتهجَّدُ كلَّ ليلةٍ، وإذا كانَ عندَهُ ضيفٌ.. زادَ نشاطُهُ.
وأخفى منهُ: ألا يزيدَ نشاطُهُ، ولكنْ لوِ اطَّلَعَ غيرُهُ على تهجُّدِهِ قبلَ فراغِهِ أو بعدَهُ.. فرحَ بهِ، ووجدَ في نفسِهِ هِزَّةً، وذلكَ يدلُّ على أنَّ الرِّياءَ كانَ مُستكِنّاً في باطنِ القلبِ استكنانَ النَّارِ تحت الرَّمادِ، حَتَّى تَرشَّحَ منهُ السُّرورُ عند الاطِّلاعِ، وقد كانَ غافلاً عنهُ قبلَهُ.
وأخفى منهُ: أَلَّا يُسَرَّ بالاطِّلاعِ، لكنْ يَتوقَّعُ أن يُبدَأَ بِالسَّلامِ ويُوقَّرَ، ويَتعجَّبُ ممَّنْ يسيءُ إليهِ، ولا يسامحُهُ في المعاملةِ ولا يحترمُهُ، وذلكَ يدلُّ على أَنَّهُ يَمُنُّ على النَّاسِ بعملِهِ، فَكَأَنَّهُ يَتوقَّعُ احترامَهُم وتوقيرَهُم لعبادتِهِ معَ إخفائِهِ عنهُم، وأمثالُ هذهِ الخفايا لا يخلو عنها إلَّا الصِّدِّيقون، وجميعُ ذلكَ إثمٌ، ويُخافُ منه إحباطُ العملِ.
نعم؛ لا بأسَ أن يفرحَ باطِّلاعِ غيرِهِ عليهِ إذا كانَ فرحُهُ باللهِ تعالى؛ من حيثُ أظهرَ منهُ الجميلَ، وسترَ منهُ القبيحَ، معَ أَنَّهُ قصدَ سَترَهُما جميعاً، فيفرحُ بلطفِ صنعِ الله تعالى، وكذلكَ يفرحُ لأَنَّهُ يُبشِّرُهُ بأَنَّهُ حيثُ أحسنَ صنعَهُ بهِ في الدُّنيا فكذلكَ يصنعُ به في الآخرةِ، أو يفرحُ ليقتديَ بهِ مَنْ يراهُ، أو يطيعُ اللهَ بحملِهِ لهُ عليهِ، وعلامةُ هذا: أن يفرحَ أيضاً إذا اطَّلِعَ على غيرِهِ ممَّنْ تُرتجى قدوتُهُ.
ومِنْ أجلِ خفاءِ أبوابِ الرِّياءِ، وشدةِ استيلائِهِ على الباطنِ..احترزَ أُولُو الحزمِ؛ فأخفَوا عبادتَهُم، وجاهدوا أنفسَهُم، وقد قالَ عليٌّ -رضيَ اللهُ عنهُ-: " إِنَّ اللهَ عَزَّ وجلَّ يقولُ للقُرَّاءِ يومَ القيامةِ: ألم يكنْ يُرخَّصُ عليكُم في السِّعرِ؟ ألم تكونوا تُبدَؤُونَ بالسَّلامِ؟ ألم تكنْ تُقضى لكمُ الحوائجُ؟ لا أجرَ لكم؛ فقدِ استوفيتُم أجورَكُم".
فاجتهدْ إن أردتَ الخلاصَ أن يكونَ النَّاسُ عندَكَ كالبهائمِ والصِّبيانِ، ولا تُفرِّق في حقِّ عبادتِكَ بينَ وجودِهم وعدمِهِم، وعلمِهِم بها أو غفلتِهِم عنها، وتقنعَ بعلمِ الله تعالى وحدَهُ، وتطلبَ الأجرَ منهُ؛ فإنَّهُ لا يقبلُ إلَّا الخالصَ؛ كي لا تُحرَمَ مِنْ فائدتِهِ في أحوجِ أوقاتِكَ إليه".
اللهم ارزقنا كمال الإخلاص لوجهك الكريم.
قال: "بعض الرِّياءِ جليٌّ" ظاهر، "وبعضَهُ خفيٌّ" دقيق، "وبعضَهُ أخفىٰ مِنْ دبيبِ النَّملِ" كما جاء في الحديث.
قال: أما قد أحيانا قد يكون الفرح لبعض الصَّالحين ليس من أجل اطِّلاع الناس عليه او من أجل منزلة عنده، ولكن من أجل نَظَرُه مُعاملة الله كيف "أظهرَ منهُ الجميلَ، وسترَ منهُ القبيحَ"، وعلى ذاك يزدادُ تواضُعه، ثم بعد ذلك يرجو أنه كما عامَلَه بهذه المُعاملة في الدنيا أن يُعامِلَه في الآخرة كذلك ويستُر قبائِحه كلَّها.
فهذا فَرَح غير مذموم، فَرَح محمود؛ لأنه فَرَح بالله تعالى وبالرَّجاء فيما عند الله -سبحانه وتعالى- إذا صحَّ له ذلك.
أو كان مِمَّن يُقتَدى به فيفرح باطِّلاعِهم على شيءٍ من أعماله لِيَعملوا مثله.
قال: "وعلامةُ -صِدقِه في ذلك- أن يفرحَ أيضاً إذا اطَّلِعَ على غيرِهِ ممَّنْ تُرتجى قدوتُهُ" ليعملوا مثله، فهذا علامة أنه صادق في أنه يُريدُهم أن يَقتدوا وأن يزدادوا من الطَّاعات.
فأمَّا إذا كان لا يفرح إلا باطِّلاعهم عليه هو فقط! أما على غيره لا، لا يُحبُّ ذلك؛ فهذا دليل أنه مُرائِي وأنه كذَّاب.
قال: "ومِنْ أجلِ خفاءِ أبوابِ الرِّياءِ"، مضى أُولُو الحزمِ وخِيار الأُمَّة على إخفاء ما استطاعوا من عِباداتِهم وطاعاتِهم. لا إله إلا الله.
وذكر عن سيدنا علي قول ونحوه -أورَدُه البيهقي في شعب الإيمان- يقول: أنه يُقَال لبعض "القُرَّاء" وبعض المُظَاهِرين بالعِبادة وبالعِلم في الدنيا، "يومَ القيامةِ: ألم يكنْ يُرخَّصُ عليكُم في السِّعرِ؟ ألم تكونوا تُبدَؤُونَ بالسَّلامِ؟ ألم تكنْ تُقضى لكمُ الحوائجُ؟" فهذه أجوركم قد استعجلتُمُوها وقد أخذتُمُوها في الدنيا. والعِياذُ بالله تبارك وتعالى.
فاجتهدْ إن أردتَ الخلاصَ أن يكونَ النَّاسُ عندَكَ كالبهائمِ والصِّبيانِ، ولا تُفرِّق في حقِّ عبادتِكَ بينَ وجودِهم وعدمِهِم، وعلمِهِم بها أو غفلتِهِم عنها، وتقنعَ بعلمِ الله تعالى وحدَهُ، وتطلبَ الأجرَ منهُ؛ فإنَّهُ لا يقبلُ إلَّا الخالصَ؛ كي لا تُحرَمَ مِنْ فائدتِهِ في أحوجِ أوقاتِكَ إليه".
قال: "فاجتهدْ إن أردتَ الخلاصَ أن يكونَ النَّاسُ عندَكَ كالبهائمِ والصِّبيانِ" يعني: في عدم قصدِهم، ماهو في احتقارهم؛ مثال ما تقدَّم، المُتكبِّر يرى النَّاس والعَوَام الحمير أوكالحيوانات، ليس المُراد هذا، ماهو المُراد؟ أنَّك لا تقصُدُهم بالعبادة كما لا تتأثَّر ولا يتغيَّر باطنك برُؤية حيوان، لا يتغيّر باطنُك. فأنت كذلك إذا الناس صغيرهم أو كبيرهم شافَك، مثل الحيوانات تماما، لا تقصدهم ولا يتأثَّر باطنك بهم، هذا المُراد.
قال: "ولا تُفرِّق في حقِّ عبادتِكَ بينَ وجودِهم وعدمِهِم، وعلمِهِم بها أو غفلتِهِم عنها"، ومُرادُك الله -سبحانه وتعالى- وهو العالِمُ بذلك.
وهكذا.. كما ذكر بعض الأخيار أرسلَ إلى وكيلِِهِ مالاً وبنى مسجداً في قرية من القرى، حتى نَسَب الناسُ المسجدَ إلى الوكيل هذا؛ يقولون: مسجد فُلان.. مسجد فلان، وهو ولا مِن عنده ريال واحد، كلُّه حق المُوَكِّل يُرسِل له، وبعد مدة.. وكان لا يعرف ذلك إلا خواصّ من الناس. فجاء بعد مدة إلى البلد، المُوَكِّل هذا، فالخواصّ هؤلاء جاؤوا لعنده وقالوا: نحن نعرف أنّ المسجِدَ لك، وأن أهل البلد كلهم الآن يُسمُّونه حق فُلان، فقرّرنا نعمل اجتماع ونُعلِّم الناس بأنك أنت الذي أنفَقْتَ، وبنيتَ المسجد، قال: لا، .. لماذا؟! قال: الذي بنيتُه من أجلِه، يَعْلَمُ أم لا يعلم؟ الذي بنيتُه من أجله، يدري أم ماهو داري؟ الله أدرى وأعلم، قال: خلاص، أنا ما بنيتُه للنَّاس حتى تروحون تُعلِمون الناس! الذي بنيته من أجله داري، وهو عالم -سبحانه وتعالى-، هو الذي سيُثيبَنا وسيؤجِرَنا. ليس الناس؟ وما رضِي يخليهم يعملون هكذا.
رزقَنا الله خالِصَ النيّات وصالِحَها وصافيها، ورقّانا في تَقوى أعلى مَراقِيها، ونزّهَنا وطهَّرنا وصَفّانا عن جميع شوائِب الرِّياء، ظاهِرَها وخافيها، وصغيرها وكبيرَها، قاصِيها ودَانيها. وجعلنا مِمَّن يُخلِص لوجهه الكريم، ويثبِّتنا على الإخلاص في كُلِّ نيّة وقَصد وإرادة وفِعل وقَول وحركة وسُكون. ويثبّتنا فيمَن يهدون بالحقّ وبه يعدِلون، ويقينا جميع الشُّرور وكل مَحذور في الدنيا والبَرزَخ ويوم النُّشور، ويختِم لنا ولكم بأكمَلِ الحُسنى وهو راضٍ عنا.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
سؤال:
مثلًا: خدمة الأم لأبنائها بِدافِع العاطفة والفِطرة، ما هو حُكم القِيام به؟
الجواب:
نيّتها؛ مُجرَّد الفطرة فِطرة، وإن كانت بحُكم إيمانِها جعلتْ مع ذلك قُربَة إلى الله تبارك وتعالى، نعم.. ولكن هذه الفِطرة والطَّبيعة تكون في الأمور العادية، مثل: الطَّعام واللِّباس وما إلى ذلك. وأمَّا ما كان من تربية لهم؛ زجْرٍ عن المكروهات والمُحرّمات، فهذا بلا شك تُثاب عليه؛ لأنه يُراد به وجه الله تبارك وتعالى. وكذلك بِرُّ الولد لوالِدِه أو لأمِّه، كذلك قد يكون بدافِع الفِطرة والطَّبيعة، فيَنقُص بذلك ثوابه، وقد يُريدُ به وَجه الله تبارك وتعالى، وقد يكون لِئلّا يلُومُه الناس، فهذا ما قصدُه الناس، ولكن إذا أخلص لوجه الله؛ ظهرت عليه الآثار كما ظهرت على أويس القرني -عليه رحمة الله تعالى- بِبِرِّه لأُمِّه، ورفعَ الله قدْرَه.
قالوا: كثير من الناس يبرُّون آباءِهم وأمَّهاتِهم، لكنْ ما يظهر عليهم الأَثَر؛ لأنَّهم ما قصَدوا وَجه الله، ولا أرادُوا به الله تعالى، إنَّما لئلّا يتحدّث عليهم النَّاس، أو بحُكمِ مُجرَّد الطَّبيعة والفِطرة، بعيدًا عن قَصدِ وَجه الله تبارك وتعالى، و"إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى".
03 ربيع الأول 1447