(535)
(339)
(608)
(381)
الدرس الثامن والعشرون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثالث: تزكية القلوب: الأصل الثامن: الكبر، والأصل التاسع: العجب
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
مساء الأحد 1 ربيع الأول 1447هـ
يتضمن الدرس شرح أصلَيْ الكِبْر والعُجْب: العلامات الظاهرة للكِبر في السلوك والمعاملة (كالترفّع في المجالس، ازدراء الناس، ردّ الحقّ)، ومناشئه الباطنة وآثاره على القلب والعِشرة. ثم يشرع في أصل العُجب: حقيقته بوصفه استعظامًا للنفس والعمل، ونسيان إضافة النعم إلى المُنعِم، والفارق بين الفرح بالنِّعمة والشعور بالاستغناء.
بسم الله الرحمن الرحيم
وسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
الأصل الثامن
في الكبر
"قال الله تعالى: (كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر:35].
وقال تعالى: ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:72].
وقال رسولُ اللهِ ﷺ: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: الْعَظَمَةُ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي؛ فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا.. قَصَمْتُهُ".
وقالَ ﷺ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ".
وقالَ ﷺ: "يُحْشَرُ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ، يَطَؤُهُمُ النَّاسُ؛ لِهَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
وقال ﷺ لبلال: "إِنَّ فِي جَهَنَّمَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ: هَبْهَبُ، حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُسْكِنَهُ كُلَّ جَبَّارٍ، فَإِيَّاكَ يَا بِلَالُ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَسْكُنُهُ".
وقالَ ﷺ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ نَفْخَةِ الْكِبْرِ".
وقال ﷺ: "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ".
وقالَ ﷺ: "مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ، وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ.. لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ".
وقال ﷺ في فضيلةِ التَّواضع: "مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ.. إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا.. رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى".
وقال ﷺ: "طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَسْكَنَةٍ".
وأوحى اللهُ تعالى إلى موسىٰ عليه السَّلامُ: "إِنَّما أَقبَلُ صلاةَ من تواضعَ لعظمتي، ولم يَتَعظَّمْ على خَلْقي، وألزمَ قلبَه خوفي، وقَطَعَ النَّهَارَ بِذكْري، وكفَّ نفسَهُ عنِ الشَّهَوَاتِ مِنْ أجلي".
وقال نبينا ﷺ: "إِذَا تَوَاضَعَ الْعَبْدُ لِلَّهِ .. رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ".
وقال ﷺ: "إِنَّ التَّوَاضُعَ لَا يَزِيدُ الْعَبْدَ إِلَّا رِفْعَةً، فَتَوَاضَعُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى".
وقال ﷺ: "إِنَّهُ لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ فِي يَدِهِ، فَيَكُونَ مِهْنَةً لِأَهْلِهِ، يَدْفَعُ بِهِ الْكِبْرَ عن نَفْسِهِ".
فصلٌ
في بيانِ حقيقةِ الكِبْرِ
حقيقةُ الكِبْرِ: أن يرى نفسَهُ فوقَ غيرِهِ في صفاتِ الكمالِ، فَيحصلُ فيهِ نفخةٌ وهِزَّةٌ مِنْ هٰذهِ الرَّذيلةِ والعقيدةِ ؛ ولذلكَ قالَ ﷺ: "أَعُوذُ بِكَ مِنْ نَفْخَةِ ٱلْكِبْرِيَاءِ".
ولذلكَ استأذنَ بعضُهُم عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- ليعظَ النَّاسَ بعدَ الصُّبحِ، فقالَ: لا، أخشى أن تنتفخَ حتَّى تبلغَ الشُّريَّا .
ثمَّ هذهِ النَّفخةُ يصدرُ منها أفعالٌ على الظَّاهرِ؛ كالتَّرفُّعِ في المجالسِ، والتَّقدُّمِ في الطَّريقِ، والنَّظرِ بعينِ التَّحقيرِ والغضبِ إذا لم يُبدَأْ بالسَّلامِ، وقُصِّرَ في حوائجِهِ وتعظيمِهِ، ويحملُهُ على أن بأنفَ إذا وُعِظَ وعُلِمَ، ويُعنِّفَ إذا وَعَظَ وعَلَّمَ، ويجحدَ الحقَّ إذا ناظرَ، وينظرَ إلى العامَّةِ كأنَّهُ ينظرُ إلى الحميرِ.
وإنَّما عُظِّمَ الكِبْرُ حنَّىٰ لا يدخلُ في الجنَّةِ مَنْ كانَ في قلبِهِ مثقالُ ذرَّةٍ منهُ.. لأنَّ تحتَهُ ثلاثةَ أنواعِ مِنَ الخبائثِ العظيمةِ:
أوَّلُها: أنَّهُ منازعةُ اللهِ تعالى في خصوصِ صفتِهِ؛ إذِ الكبرياءُ رداؤُهُ كما قالَ؛ فإنَّ العظمةَ لا تليقُ إلّا بهِ، ومِنْ أينَ تليقُ العظمةُ بالعبدِ الذَّليلِ الذي لا يملكُ مِنْ أمرِ نفسِهِ شيئاً فضلاً عن أمرِ غيرِهِ ؟!
الثَّانيةُ: أنَّه يحملُهُ على جحدِ الحقِّ، وازدراءِ الخلقِ.
قالَ ﷺ في بيانِ الكِبْرِ: "الْمُتَكَبِّرُ : مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ، وَغَمَصَ ٱلنَّاسَ"، والأنفةُ مِنَ الحقِّ تُغلِقُ بابَ السَّعادةِ، وكذا استحقارُ الخَلَق.
وقالَ بعضُهُم: إنَّ اللهَ سبحانَهُ خَبَأَ ثلاثاً في ثلاثٍ: خَبَأَ رضاهُ في طاعتِهِ؛ فلا تَحقِرَنَّ شيئاً منها؛ لعلَّ رضا اللهِ فيهِ، وخَبَأَ سخطَهُ في معصيتِهِ؛ فلا تَحقِرَنَّ شيئاً منها، صغيرةً كانَتْ أو كبيرةً؛ فلعلَّ سخطَ اللهِ تعالىٰ فيها، وخَبَأَ ولايتَهُ في عبادِهِ؛ فلا تَحقِرَنَّ أحداً منهُم ؛ فلعلَّهُ وليُّ اللهِ تعالىٰ.
الثَّالثةُ: أنَّهُ يَحُولُ بينَهُ وبينَ جميعِ الأخلاقِ المحمودةِ؛ لأنَّ المُتكبِّرَ لا يَقدِرُ أن يُحِبَّ للنَّاسِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ، ولا يَقدِرُ على التَّواضعِ، ولا على تركِ الأَنَفةِ والحسدِ والغضبِ، ولا يَقدِرُ علىٰ كظمِ الغيظِ، ولا على اللُّطفِ في النُّصحِ، ولا على تركِ الرِّياءِ.
وبالجملةِ: فلا يبقى خُلُقٌ مذمومٌ إلَّا ويُضطَرُّ المُتكبِّرُ إلى ارتكابِهِ، ولا خُلُقٌ محمودٌ إلَّا ويُضطَرُّ إلى تركِهِ".
-والعياذ بالله-.
الحمد لله الكبير المتعال، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، منه المبتدأ وإليه المآل، وصلى الله وسلم على أكرم عباده عليه، وأعظمهم تذلُّلًا بين يديه، عبده المختار المحض سيدنا محمد، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يتحدث الشيخ في هذا الأصل الثامن عن: الكِبْرِ، وهو: دعوى الإنسان أنّ له فضلًا وقدرًا ومكانةً، وأنه قاطعًا جازمًا أفضل من غيره مِن أحدٍ من خلق الله -جل جلاله وتعالى في علاه-؛ وفي هذا جراءةٌ على الله تعالى في منازعته في صفته التي لا تليق إلا به من الكبرياء والعظمة، وفيه أيضًا تجرّؤٌ على عباد الله سبحانه وتعالى، وقطعٌ بما لا سبيل للقطع فيه.
قال تعالى في صرف المتكبرين عن فهم حقائق الخطاب الرباني:
وقال عن النار:
يقول في الحديث القدسي: "وقال رسولُ اللهِ ﷺ: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: الْعَظَمَةُ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي؛ فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا.. قَصَمْتُهُ"؛ أهلكته، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وقالَ ﷺ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ"، اللهم أعذنا من الكِبْر وخَلِّصنا من جميع شوائبه.
ويقول: "يُحْشَرُ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ"؛ فكأنهم نمل، فهو بهيئته وجسده يتحول إلى مثل الذَّرّة؛ يمشي على بطنه في الأرض، ويُجمعون في وادٍ بُولِس، حيث يطؤهم أهل الموقف -والعياذ بالله تعالى-: (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف: 20]؛ فيهينهم الله -تبارك وتعالى- على قَدْر ما عاندوا وتكبروا في الأرض.
وقال: "إِنَّ فِي جَهَنَّمَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ: هَبْهَبُ، حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُسْكِنَهُ كُلَّ جَبَّارٍ، فَإِيَّاكَ يَا بِلَالُ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَسْكُنُهُ"؛ أي: تواضع، ومُت على التواضع.
وقالَ ﷺ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ نَفْخَةِ الْكِبْرِ".
"لَا يَنْظُرُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ"؛ بأن يُسبِلَ إزارًا أو قميصًا، أو جبةً أو رداءً أو عِمامة، عذبةً أوغير ذلك،
فالإسبال:
وكل إسبال لهذه الثياب للكِبْر والتَّعَاظُّم يُعَرِّض صاحبه ألّا ينظر الله إليه -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
"مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ، وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ .. لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"، اللهم أجرنا من غضبك.
"ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله تعالى"؛ كان يقول أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة -عليهم رحمة الله-: يا قوم؛ أريدوا بعلمكم الله، فإني لم أجلس مجلسًا قطّ أنوي فيه أن أتكبر إلا لم أقم حتى أفتضح، ولم أجلس مجلسًا قطّ أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقُم حتى أَعلُوَهُم؛ فإن الله يرفع من تواضع.
"طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَسْكَنَةٍ"؛ أي: تَذَلُّل ونزول إلى ما لا يليق به في الحد، ومَن يترك المجلس ويجلس هناك منفردًا في صف النعال، مَالَك؟ قال: متواضع! ما هذا تواضع.
"وأوحى اللهُ تعالى إلى موسىٰ عليه السَّلامُ: "إِنَّما أَقبَلُ صلاةَ من تواضعَ لعظمتي، ولم يَتَعظَّمْ على خَلْقي، وألزمَ قلبَه خوفي، وقَطَعَ النَّهَارَ بِذكْري، وكفَّ نفسَهُ عنِ الشَّهَوَاتِ مِنْ أجلي"؛ كما قال في الآية: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27].
ووَكّل الله تعالى بالعبد بحَكَمَتِهِ مَلَكًا، إن تواضع رفعه، وإن تكبَّر وضعهُ، و"إِذَا تَوَاضَعَ الْعَبْدُ لِلَّهِ .. رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ"؛ إشارة إلى معنى المبالغة في الرِّفعة والعُلوّ، أي: إلى الدرجات الرفيعة.
و"إِنَّ التَّوَاضُعَ لَا يَزِيدُ الْعَبْدَ إِلَّا رِفْعَةً، فَتَوَاضَعُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى".
وقال ﷺ: "جاءني مَلَكٌ في حجم الكعبة"، فقال: "إن الله يُخيّرك أن تكون نبيًا ملكًا أو رسولًا عبدًا"، قال: "فاخترت أن أكون رسولًا عبدًا"، قال: "فشكر الله لي ذلك" وقال: (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79]، صلوات ربي وسلامه عليه.
وذكر: "حقيقة الكِبْرِ: أن يرى نفسَه فوق غيره في -فيه شيء من- صفات الكمال"؛ فيقطع بذلك، "فيَحصُل فيه نفخةٌ وهِزَّةٌ"؛ وما تكون الفوقية ولا الخيرية في عقيدة المؤمنين إلا بمن كان عند الله خيرًا وفوق؛ وهذا أمر جعله الله غيبيًا، لا يطَّلع الخلق عليه فيما بينهم البين، عَلّمهم قدْر الأنبياء ومراتب الصديقين، ثم أمرهم أن يتواضعوا، ثم صار الأنبياء سادة الناس في التواضع وقدوتهم فيه -صلوات الله وسلامه عليهم-، مع عُلُوِّ قدْرهم عند الله تبارك وتعالى.
يقول: "فَيحصلُ فيهِ نفخةٌ وهِزَّةٌ مِنْ هٰذهِ الرَّذيلةِ"؛ واعتقاد أنه أفضل، وقالَ ﷺ: "أَعُوذُ بِكَ مِنْ نَفْخَةِ ٱلْكِبْرِيَاءِ" .
وجاء أنهم أَثْنَوا على رجل عنده ﷺ، وقالوا: إنه صاحب إقبال، وصاحب عبادة، وصاحب طاعة، وصاحب كذا..، فأقبل: دخل عليهم في المجلس وماء الوضوء يقطر من لحيته؛ فقالوا: هذا يا رسول الله الذي أثنينا عليه وذكرناه لك، قال: "لكني أرى على وجهه سَفعة من الشيطان"، فلما دخل عنده يصافحه، قال له النبي: "هل حدّثتك نفسك حين أقبلت أنك خيرُ مَن في المجلس؟" قال: نعم، قال: "فقد رأيتها عليك، سَفْعَةً من الشيطان سَفَعَكَ بها" -لا إله إلا الله-.
وقال: "استأذنَ بعضُهُم عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- ليعظَ النَّاسَ بعدَ الصُّبحِ، -فنظر إليه- فقالَ: لا، -سيدنا عمر يحب الدعوة إلى الله ويحب النصيحة؛ لكنه يقول لهذا لا! قال له- أخشى أن تَنْتَفِخَ حتَّى تبلغَ الثُّريَّا"، يعني: تأتي بين أصحاب محمد ﷺ والسابقين والأوائل والكبار، وتُصلّح نفسك واعظ؛ لأنّ قصدك النصح والدعوة! لها مواطن ولها أماكن، تأتي أمام أصحاب القرآن وتقوم! قال: "لا، أخشى أن تَنْتَفِخَ حتَّى تَبلغ الثُّريَّا".
ومِن هذه النفخة الباطنية في اعتقاده أنه أفضل؛ يأتي على الظاهر أفعال منها:
قال: وهذا "ينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى"؛ حيوانات و"حمير" -لاحول ولاقوة إلا بالله-.
قال: والكبر كان بهذه المثابة في تعظيم إثمه؛ بحيث "لا يدخلُ في الجنَّةِ مَنْ كانَ في قلبِهِ مثقالُ ذرَّةٍ منهُ"؛ من كبر، لِمَ هذا؟ قال: "لأنَّ تحتَهُ ثلاثةَ أنواعِ مِنَ الخبائثِ -المهلكة- العظيمةِ":
وهكذا؛ فهذا الأمر لا يليق إلا به؛ فإذا جئت تتكبر على أحد من خلقه؛ فقد نازعته سبحانه وتعالى. وأراد بعض السفهاء أن يستهزئ ببعض العارفين، قال: كان يمشي على دابته -حمار- وسلَّم عليهم، قال له: يا شيخ؛ أسألك أنت أفضل أم حمارك هذا؟ شوف السؤال! قال: أنت أفضل أم حمارك هذا الذي أنت عليه؟ فقال له الشيخ: إن أنا جُزْتُ الصراط ودخلت الجنة؛ فأنا أفضل منه، وإن سقطت في النار؛ فهو أفضل مني. وذاك سكت لم يعد يَعرف ماذا يقول له، استحى على نفسه.
وهكذا، كان سيدنا أويس القرني -عليه الرحمة-، الذي ذكره الرسول ﷺ كما جاء في صحيح مسلم وروايات أخرى، نَوّه بشأنه ورَفعه ﷺ، وكان يأتي إلى المزبلة يلتقط ما وجد من الكُسَر المَرمية وينظفها ويغسلها، يَتصدق ببعضها ويأكل بعضها؛ فيصادف أحيانًا كلب يأتيه أيضًا فيأخذ كسر، يقول: يا كلب، خذ مما يليك وأنا مما يليني، خذ من كذا وأنا من كذا، فإن أنا جُزت على الصراط فأنا خير منك، وإن دخلت النار فأنت خير مني. سيد التابعين هذا: أويس بن عامر، حتى في الحديث جاء نصٌ: "خيرُ التابعينَ رجلٌ يقالُ له أُوَيْسُ ابِن عامِر"، خير التابعين -عليه رضوان الله-، حتى قال لسيدنا عمر وعلي: "يا عمر ويا عليُّ، إذا أنتما لقيتما أُوَيسًا القَرَنِيَّ، فاسألاه أن يستغفر لكما؛ يغفر الله لكما"، -عليهم الرضوان- شفت ما رضي يتكبر على كلب! الله أكبر.
قال: فيه منازعةُ اللهِ تبارك وتعالى؛ و"العظمةَ لا تليقُ إلّا بهِ، ومِنْ أينَ تليقُ العظمةُ بالعبدِ الذَّليلِ الذي لا يملكُ مِنْ أمرِ نفسِهِ شيئاً فضلاً عن أمرِ غيرِهِ ؟!".
ولمّا مشى بعضهم مِشْيَة التَّكَبُّر، أراد أن يعظه بعض الصالحين، قال له: ليست هذه مشية من في بطنه خراء؛ هذه مشية واحد ليس في بطنه خراء؟ وأنت! يعني: ما يليق بك تمشي هذه المشية، اعرف قدْرك، واعترف بقدْر نفسك.
ومشى بعض السلاطين، فأبعدوا الناس عنه من الطريق، وبقي واحد شايب في الطريق، فجاؤوا وقالوا له: وسِّع الطريق، يقول لهم: الطريق واسعة، تفضلوا، أحد يمر؛ فلما جاء هذا على فرسه وجد هذا وحده في الطريق، والطريق لا أحد فيها إلا هو؛ قرب منه، قال له: لِمَ لَمْ توسّع الطريق؟ قال: ليست ضيقة فأوسعها، هي تسع كثيرًا، قال: أظنك لا تعرفني، أنت لا تعرف أنا مَن؟ قال: بلى، أعرفك جيدًا، قال: مَن أنا؟! قال: أنت من أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وفيما بينهما تحمل في بطنك العذرة، هذا أنت، من أولك لآخرك أعرفك.
لمّا نطق به من قلب خاضع خاشع، ذاك خَضَعْ، راح وتركه، قال: هذا هو، كيف ما أعرفك! هذا أولك، وهذا آخرك، وهذا أوسطك؛ أولك نطفة، وآخرك جيفة، وفيما بينهما تحمل العذرة -لا إله إلا الله-.
"الْمُتَكَبِّرُ: مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ"، أي: رده ولم يقبله، "وَغَمَصَ النَّاسَ"، أي: احتقرهم، "والأنفةُ مِنَ الحقِّ تُغلِقُ بابَ السَّعادة، وكذا استحقارُ الخَلْقِ"؛ شقاوة، "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".
"وقالَ بعضُهُم" -يُروى عن سيدنا جعفر الصادق- أنه قال: "إِنَّ الله سبحانَهُ خَبَأَ ثلاثاً في ثلاث":
قال: بل وبالجملةِ:
ويأتي بعلاج الكبر في الفصول الآتية.
وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
فصلٌ
في علاجِ الكِبْرِ بالإجمالِ
العلاجُ الجُمْلِيُّ لقمعِ رذيلةِ الكِبْرِ: أن يعرفَ الإنسانُ نفسَهُ، وأنَّ أوَّلَهُ نُطفةٌ مَذِرةٌ، وآخرَهُ جِيفةٌ قَذِرةٌ، وهوَ فيما بينَ ذلكَ يَحمِلُ العَذِرةَ، ويفهمَ قولَهُ تعالى: (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) [عبس: 17-21].
فليعلمْ: أنَّهُ خُلِقَ مِنْ كَتْمِ العَدَم، وأنَّهُ لم يكنْ شيئاً مذكوراً، فلا شيءَ أقلُّ مِنَ العَدَمِ، ثمَّ خلقَهُ مِنْ ترابِ ، ثمَّ مِنْ نطفةٍ، ثمَّ مِنْ علقةٍ، ثمَّ مِنْ مضغةٍ ليسَ لها سمعٌ ولا بصرٌ ولا حياةٌ ولا قُوَّةٌ، ثمَّ خلقَ لهُ ذلكَ كلَّهُ وهوَ بعدُ علىٰ غايةِ النُّقصانِ، تستولي عليهِ الأمراضُ والعللُ، وتتضادُّ فيهِ الطَّبائعُ، فيهدمُ بعضُها بعضاً، فيمرضُ كرهاً، ويجوعُ كرهاً، ويعطشُ كرهاً، ويريدُ أن يَعلَمَ الشَّيءَ فيجهلَهُ، ويريدُ أن ينسى الشَّيءَ فيذكرَهُ، ويكرَهَ الشَّيءَ فينفعَهُ، ويشتهيَ الشَّيءَ فيضرَّهُ، لا يأمنُ في لحظةٍ مِنْ أن يُختلَسَ روحُهُ أو عقلُهُ أو صحَّتُهُ أو عضوٌ مِنْ أعضائِهِ.
ثمَّ آخرُهُ الموتُ، والتَّعرُضُ للعقابِ والحسابِ؛ فإن كانَ مِنْ أهلِ النَّارِ.. فالخنزيرُ خيرٌ منهُ، فمِنْ أينَ يليقُ بهِ الكِبْرُ وهوَ عبدٌ مملوكٌ ذليلٌ لا يَقدِرُ علىٰ شيءٍ؟!
قالَ الحسنُ البصريُّ -رحمَهُ اللّه- لبعض مَنْ يتبخترُ في مِشيتِهِ : ما هٰذهِ مِشيةُ مَنْ في بطنِهِ خُرءٌ.
فكيفَ يليقُ الكِبْرُ بمَنْ يغسلُ العَذِرةَ بيدِهِ مرَّتينِ في كلِّ يومٍ وهوَ حاملٌ لها على الدَّوامِ؟!
فصَلٌ
في علاجِ الكِبْرِ بالتفصيلِ
علاجُ الكِبْرِ على التَّفصيلِ بالنَّظرِ إلىٰ ما بهِ التَّكبُّرُ ؛ وهوَ أربعُ خصالٍ:
الأوّلُ: العلمُ .
قالَ النَّبيُّ ﷺ: "آفَةُ ٱلْعِلْمِ الْخُيَلَاءُ".
وقالَ ﷺ: "لَا تَكُونُوا مِنْ جَبَابِرَةِ ٱلْعُلَمَاءِ ، فَلَا يَفِي عِلْمُكُمْ بِجَهْلِكُمْ".
وقلَّما يخلو العالِمُ مِنْ آفةِ الكِبْرِ؛ فإنَّهُ يرىٰ نفسَهُ فوقَ النَّاسِ بالعلمِ الذي هوَ أشرفُ فضيلةٍ عندَ اللهِ تعالىٰ، فيتكبَّرُ تارةً بالدِّينِ؛ بأن يرىٰ نفسَهُ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ أفضلَ مِنْ غيرِهِ، وتارةً في الدُّنيا؛ بأن يرى حقَّهُ واجباً على النَّاسِ، ويتعجَّبَ منهُم إن لم يتواضعوا لهُ .
وهذا بأن يُسمَّىٰ جاهلاً أَولىٰ؛ لأنَّ العلمَ الحقيقيَّ: ما يُعرّفُهُ ربَّهُ ونفسَهُ، وخطرَ خاتمتِهِ، وحُجَّةَ اللهِ تعالىٰ عليهِ، ويلاحظُ الخاتمةَ؛ فلا يرى جاهلاً إلَّا ويقولُ: إنَّهُ عصى اللّهَ تعالىٰ بجهلٍ ، وأنا عصيتُهُ بعلمِ ، فحُجَّةُ اللهِ تعالى عليَّ آكدُ، قالَ أبو الدَّرداءِ -رضيَ اللهُ عنهُ-: مَنِ ازدادَ علماً.. ازدادَ وجعاً.
وقالَ اللهُ تعالى لنبيِّهِ ﷺ:(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 215].
وقالَ ﷺ: "يَكُونُ قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ ٱلْقُرْآنَ، فَلَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقُولُونَ: قَدْ قَرَأْنَا ٱلْقُرْآنَ، فَمَنْ أَقْرَأُ مِنَّا؟ وَمَنْ أَعْلَمُ مِنَّا؟"، ثمَّ التفتَ وقالَ : "أُولَٰئِكَ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ، أُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ".
ومِنْ هٰذا اشتدَّ حذرُ السَّلفِ، حتَّىٰ إنَّهُ أَمَّ حذيفةُ رضيَ اللهُ عنه مرَّةً بقومٍ، فلمَّا سلَّمَ.. قالَ: لتلتمسُنَّ إماماً غيري، أو لتصلُّنَّ وحداناً؛ إنّي رأيتُ في نفسي أنَّهُ ليسَ في القومِ أفضلُ مِني.
وينبغي أن يتذكَّرَ الإنسانُ أنَّه كم مِنْ مسلمِ نظرَ إلىٰ عمرَ -رضيَ الله عنهُ- قبلَ إسلامِهِ فاستحقرَهُ، ثمَّ كانَتْ خاتمةُ عمرَ -رضيَ الله عنهُ- كما كانَتْ، وذلكَ المسلمُ لعلَّهُ ارتدَّ بعدَهُ، فكانَ المُتكبِّرُ مِنْ أهل النَّارِ، والمُتكبَّرُ عليهِ مِنْ أهلِ الجنَّةِ!!
وما مِنْ عالِمِ إلَّا ويَتصوَّرُ أن يُختَمَ لهُ بالسُّوءِ، ويُختَمَ للجاهلِ بالسَّعادة، فكيفَ يكونُ التكبُّرُ معَ معرفةِ ذلكَ وقد قالَ النَّبيُّ ﷺ: "يُؤْتَىٰ بِٱلْعَالِمِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ، فَيُلْقَىٰ فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِٱلرَّحَا، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ ٱلنَّارِ، فَيَقُولُونَ: مَا لَكَ؟! فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُ بِٱلْخَيْرِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَىٰ عَنِ الشَّرِّ وَآتِيهِ "؟!
فأيُّ عالِمٍ يَسلَمُ مِنْ ذلكَ ؟! فِلِمَ لا يشغلُهُ خوفُهُ عنِ التَّكبُّرِ وقد قالَ اللهُ تعالىٰ في بَلْعامَ بنِ باعوراءَ وكانَ مِنْ أكابرِ العلماءِ: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) [الأعراف: 176]؛ لأنَّهُ أخلدَ إلى الشَّهَواتِ، وقالَ الله تعالى لعلماءِ اليهود: (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ..)؟! [الجمعة:5]؛ فلينظرْ في الأخبارِ التي وردَتْ في علماءِ السُّوءِ؛ حتَّىٰ يغلبَ خوفُهُ كِبْرَهُ، وإنَّما يبقى الكِبْرُ معَ هٰذا لِمَنِ اشتغلَ بعلومٍ غيرِ نافعةٍ في الدِّينِ؛ كالجَدَلِ واللُّغةِ وغيرِهِما، أو لِمَنِ اشتغلَ بالعلم وهوَ خبيثُ الباطنِ فازدادَ خبثُهُ بسببِهِ.
السَّببُ الثَّاني: الورعُ والعبادةُ .
ولا يخلو المُتعبِّدُ في باطنِهِ عن كِبرٍ، وقد تنتهي الحماقةُ ببعضِهِم إلى أن يحملَ مصائبَ النَّاسِ ومَسرَّاتِهِم على كرامتِهِ؛ مَنْ آذاهُ وماتَ أو مرِضَ.. قالَ: قد رأيتُم ما فعلَ اللهُ سبحانَهُ بهِ، وربَّما يقولُ عندَ الإيذاءِ: سترَونَ ما يجري عليهِ، وليسَ يدري الأحمقُ أنَّ جماعةً مِنَ الكُفَّارِ ضربوا الأنبياءَ وآذوهُم، ثمَّ مُتِّعوا في الدُّنيا، فلم يُنتقَمْ منهُم، بل ربَّما أسلمَ بعضُهُم فسَعِدَ في الدُّنيا والآخرةِ، فكأنَّهُ يرىٰ نفسَهُ أفضلَ مِنَ الأنبياءِ، ومُؤذيَهُ أخسَّ مِنَ الكُفَّارِ!!
وحقَّ العابدِ إذا نظرَ إلى عالِم أن يتواضعَ لهُ لجهلِهِ، وإن نظرَ إلىٰ فاسقِ أن يقولَ: لعلَّ فيهِ خُلُقاً باطناً يسترُ معاصيَهُ الظَّاهرةَ، ولعلَّ في باطني حسداً أو رياءً أو خبثاً خفيّاً مَقَتَني اللهُ تعالى عليهِ ، فلا يَقبلُ أعمالي الظَّاهرةَ، وإنَّ اللهَ سبحانَهُ ينظرُ إلى القلوبِ لا إلى الصُّورِ، ومِنَ الخبثِ الباطنِ الكِبْرُ؛ إذْ رُوِيَ: أنَّ رجلاً مِنْ بني إسرائيلَ -يُقالُ لهُ: خليعُ بني إسرائيلَ؛ لكثرةٍ فسادِهِ- جلسَ إلى عابدِ بني إسرائيلَ، وقالَ: لعلَّ اللهَ تعالىٰ يرحمُني ببركتِهِ، فقالَ العابدُ في نفسِهِ: كيفَ يجلسُ معي مثلُ هذا الفاسقِ؟! وقالَ لهُ: قمْ عنِّي، فأوحى اللهُ تعالىٰ إلىٰ نبيّ زمانِهِ: مُرْهُما ليستأنفا العملَ؛ فقد غفرتُ للخليعِ، وأحبطتُ عملَ العابدِ.
ورُوِيَ : أنَّ رجلاً وطىء رقبةَ عابدٍ مِنْ بني إسرائيلَ وهوَ ساجدٌ، فقالَ لهُ: ارفعْ، فواللهِ؛ لا يَغفِرُ اللهُ لكَ، فأوحى اللهُ سبحانَهُ إليهِ: أيُّها المُتألِي عليَّ؛ بل أنتَ لا يَغفِرُ اللهُ لكَ.
فالأكياسُ يحذرونَ مِنْ ذلكَ، ويقولونَ ما كانَ يقولُهُ عطاءٌ السُّلَميُّ معَ شدَّةِ ورعِهِ، كانَ إذا هبَّتْ ريحٌ عاصفٌ أو صاعقةٌ يقولُ: ما يصيبُ النَّاسَ كلُّ ذلكَ إلَّا بسببي، ولو ماتَ عطاءٌ.. لتخلَّصوا.
وقالَ بعضُهُم في عرفاتٍ: أنا أرجو الرَّحمةَ لجميعِهِم لولا كوني فيهِم.
فانظرْ كمْ بينَ مَنْ يُخلِصُ العملَ والورعَ، ثمَّ يخافُ علىٰ نفسِهِ، وبينَ مَنْ يَتكلَّفُ أعمالاً ظاهرةً لعلَّها لا تخلو عنِ الرِّياءِ والآفاتِ، ثمَّ يَمُنُّ على اللهِ تعالىٰ بعملِهِ.
السَّببُ الثَّالثُ: الكِبْرُ بالنَّسَبِ .
وعلاجُهُ: أن ينظرَ في نسبِهِ؛ فإنَّ أباهُ نُطفةٌ مَذِرةٌ، وجدَّه التُّرابُ، ولا أقذرُ مِنَ النُّطفةِ ولا أذلُّ مِنَ التُّرابِ.
ثمَّ المُفتخِرُ بالنَّسَبِ يفتخرُ بخصالِ غيرِهِ، ولو نطقَ آباؤُهُ.. لقالوا: مَنْ أنتَ في نفسِكَ؟! ما أنتَ إلَّا دودةٌ مِنْ بولِ مَنْ لهُ خصلةٌ حسنةٌ، ولذلكَ قيلَ: من البسيط
لَئِنْ فَخَرْتَ بِآبَاءٍ ذَوِي نَسَبٍ *** لَقَدْ صَدَقْتَ وَلَٰكِنْ بِئْسَ مَا وَلَدُوا
وكيفَ يَتكبَّرُ بنسبِ ذوي الدُّنيا ولعلَّهُم صاروا حُمَمَةً في النَّارِ، يَودُّونَ لو كانوا خنازيرَ وكلاباً يَتخلَّصونَ ممَّا هم فيهِ؟! .
وكيفَ يَتكبَّرُ بنسبِ أهلِ الدِّينِ وهم في أنفسهِم ما كانوا يَتكبَّرونَ ؟! وكانَ شرفُهُم بالدِّينِ، ومِنَ الدِّينِ التَّواضعُ، وكانَ أحدُهُم يقولُ: ليتَني كنتُ تِبْنةً، و: ليتَني كنتُ طائراً، كلَّهُم قد شغلَهُم خوفُ العاقبةِ عنِ الكِبْرِ معَ عِظَمِ علمِهِم وعملِهِم، فكيفَ يَتكبَّرُ بنسبِهِم مَنْ هوَ عاطلٌ عن خصالِهِم؟!
السَّببُ الرَّابعُ: الكِبْرُ بالمالِ والجمالِ والأتباعِ .
والكِبْرُ بها جهلٌ ؛ فإنَّها أمورٌ خارجةٌ عنِ الذَّاتِ ؛ أعني: المالَ والأتباعَ، وكيفَ يَتكبَّرُ بخصلةٍ تمتدُّ إليها يدُ السَّارقِ والغاصبِ؟!
وكيفَ يفتخرُ بالجَمَالِ وحُمَّىٰ شهرٍ تفسدُهُ ، والجدريُّ يزيلُهُ ؟! بل لو تفكَّرَ الجميلُ في أقذارٍ باطنِهِ.. لأدهشَهُ ذلكَ عن تزويقِ ظاهرِهِ، ولو لم يتعهَّدِ الجميلُ بدنَهُ أسبوعاً بالغَسلِ والتَّنظيفِ.. لصارَ أقذرَ مِنَ الجِيفةِ؛ مِنْ تغيُّرِ النَّكهةِ والصُّنانِ ورائحةِ العَذِرةِ، وكثرةِ الوَسَخِ والمُخاطِ والرَّمَصِ، فمِنْ أينَ للمزبلةِ أن تفتخرَ بجمالِها والإنسانُ بالحقيقةِ مزبلةٌ؛ فإنَّهُ مَنبَعُ الأقذارِ والنَّجاساتِ ؟!".
يقول -عليه رحمة الله تعالى-: لا بد أن يعالِج الإنسان نفسه من الكبْر حتى لا يبقى فيه منه ذرة، فإنه يُحرم من دخول الجنة ما دام في قلبه منه ذرة.
إذا مات وفي قلبه ذرة من الكبر يُحرَم دخول الجنة -والعياذ بالله تعالى-؛ (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:60].
ويقول: عليه "أن يعرفَ الإنسانُ نفسَهُ" وتكوينَه وخلْقَه، وأنه وإن كان عدمًا محضًا ليس بشيء، ولا شيء أقل من العدم، ثم خلقه الله تعالى وجعل خلقه من طين، وخلقه من نطفة وعلقة ومضغة، وكلها مستقذرة في عرفه وفي شعوره وإدراكه.
وعلى هذه الطبيعة لا اختيار له في خلقه، ولا في إيجاده، ولا في لونه، ولا في وزنه، ولا في طوله ولا عرضه، كله من عنده سبحانه وتعالى.
وبعد ذلك "ويجوعُ كرهاً،"؛ حتى لو ما بغى يجوع، لا يريد أن يجوع، ما تريد تجوع! اترك الأكل، تركته! يقول: لا أريد أن أجوع، لابد تجوع!
"ويعطشُ كرهاً، ويريدُ أن يَعلَمَ الشَّيءَ فيجهلَهُ"؛ يريد أن يمشي شيء كذا، فيمشي كذا.
"ويريدُ أن ينسى الشَّيءَ" يحاول يذكره؛ فلا يأتي عليه، كلها مظاهر الضعف عنده، وبعده يتكبر مع ذلك كله! -لا إله إلا الله-. ويَكرهُ الأمرَ ويَستثقله؛ فيَنفعه ويَستفيد منه، ويَفرح بالأمر؛ وبعد ذلك يَقع له مصيبة ومشكلة -لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-.
و: "لا يأمنُ في لحظةٍ مِنْ أن يُختلَسَ روحُهُ أو عقلُهُ أو صحَّتُهُ أو عضوٌ مِنْ أعضائِهِ"؛ فمن هذا حاله كيف يليق به الكبر؟.
"ثمَّ آخرُهُ الموتُ، والتَّعرُضُ للعقابِ والحسابِ؛ فإن كانَ مِنْ أهلِ النَّارِ"؛ فالأنعام والخنازير أحسن منه، ما يليق به الكِبر!. وقال: "فكيفَ يليقُ الكِبْرُ بمَنْ يغسلُ العَذِرةَ بيدِهِ مرَّتينِ في كلِّ يومٍ؟!".
ويقول:
دع الكِبْر إن الكِــبْرَ لله وحــــده *** وقد لُــعــن الشيطــــان لمّا تكبرا
ومَن أنت يا مسكين حتى تُنازع *** المَلِيكَ رداء الكـــــبرياء وتفخرا
فمــــا أقبح استكبـــار عبدٍ بكفِهِ *** نهارًا ولـيلًا يغسل البول والخرا
قال: فالعلاج على الإجمال معرفة هذه الحقائق، وأن الكِبْر يُسقطك من عين الله ويُعرِّضك لغضبه.
وتأمَّل أحوال الأنبياء والمرسلين وورثتهم في تواضعهم وخضوعهم لله تعالى، والملائكة المقربين وتذلُّلهم للرب سبحانه وتعالى: (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:26-28]، صلوات الله عليهم، وهكذا.
قالوا بالتفصيل، أن تتكبر:
قال: كل هذه الأشياء لا يصح منك التكبر بها.
السبب الأول: العلم.
فالعلم: إن كان العلم صحيحًا؛ فأول ما يعلّمك خضوعك لجلال الله تعالى، وأدبك مع الله تعالى، وينتزع من قلبك الكِبْر، ولكن إن كان عندك صورة عِلم بلا حقيقة، فــ "آفَةُ العِلْمِ الخُيَلَاءُ"، و"لا تَكُونُوا مِن جَبَابِرَةِ العُلَمَاءِ، فَلَا يَفِي عِلْمُكُمْ بِجَهْلِكُمْ"؛ يعني: ما أخذتموه من معلومات لا تساوي جهلكم بعبوديتكم للحق -تبارك وتعالى-؛ فلا ينفعكم ذلك العلم المجرد.
وقال: "وقلَّما يخلو العالِمُ مِنْ آفةِ الكِبْرِ؛ فإنَّهُ يرىٰ نفسَهُ فوقَ النَّاسِ بالعلمِ الذي هوَ أشرفُ فضيلةٍ عندَ اللهِ تعالىٰ، فيتكبَّرُ تارةً بالدِّينِ؛ بأن يرىٰ نفسَهُ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ أفضلَ مِنْ غيرِهِ، وتارةً في الدُّنيا؛ بأن يرى حقَّهُ واجباً على النَّاسِ"؛ أن يعظموه، ويتعجَّب منهم إذا قصَّروا في حقه.
قال: "وهذا بأن يُسمَّىٰ جاهلاً أَولىٰ"؛ أحسن، ما هو عالم هذا! لأن العِلم يُوقِفه على عبوديته وعلى عَظمة الحق تعالى وربوبيته هذا العلم، وما الذي عنده من علم هذا؟ إذا ما وقف على عبوديته وذلّته ما هذا العلم؟! قال: أولى أن يسمى جاهل، ليس عالم.
قال: "لأنَّ العلمَ الحقيقيَّ: ما يُعرّفُهُ ربَّهُ ونفسَهُ، وخطرَ خاتمتِهِ، وحُجَّةَ اللهِ تعالىٰ عليهِ، ويلاحظُ الخاتمةَ؛ "؛ فلا يدري كيف خاتمته، ويقول عن العاصي الجاهل؛ "إنَّهُ عصى اللّهَ تعالىٰ بجهلٍ ، وأنا عصيتُهُ بعلمِ ، فحُجَّةُ اللهِ تعالى عليَّ آكدُ"، وقال: "مَنِ ازدادَ علماً.. ازدادَ وجعاً"؛ -يقول أبو الدرداء- يعني: خشيةً وتواضعًا وأدبًا، وهكذا؛ "من ازداد عِلمًا ولم يزدَدْ هدًى، لم يزدَدْ من اللهِ إلَّا بُعدًا".
وقال الله لأعلم الخلق به "(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 215]".
وقالَ ﷺ: "يَكُونُ قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ ٱلْقُرْآنَ، فَلَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقُولُونَ: قَدْ قَرَأْنَا ٱلْقُرْآنَ، فَمَنْ أَقْرَأُ مِنَّا؟ وَمَنْ أَعْلَمُ مِنَّا؟"، ثمَّ التفتَ وقالَ: "أُولَٰئِكَ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ، أُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ"؛ هم قُرّاء للقرآن وعندهم مظاهر علم ولكنهم وقود النار -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ فهم المتكبرون.
"ومِنْ هٰذا اشتدَّ حذرُ السَّلفِ"، -لا إله إلا الله- سيدنا حذيفة بن اليمان خُصّ من رسول الله ﷺ بسر عِلم المنافقين، يَعرفهم ويُميزهم، وحتى كان الصحابة -عليهم رضوان الله- يومئون إليه بخصوصيته التي فيه. صلّى بقومٍ مرة فقال لهم: انتبهوا، شخص ثانٍ منكم يصلّي وإلا صلّوا فرادى، أنا وقعت في مصيبة؛ حدّثتني نفسي أنّي خير مَن في القوم -لا إله إلا الله-؛ محاسبةً لنفسه، وإلّا هو مجرد مرور خاطر لا يحاسَب عليه، ولكنه حاسب نفسه وانتبه -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
كما قال سيدنا أبو هريرة لسيدنا عمر: قال له: احذر أن تولّيني بعدها، ولّاه على بعض القرى ورجع، قال: أنت أحذر أن تولّيني بعدها، قال: لماذا؟ قال: إني دخلتها مكرهًا، والآن أنا راغبٌ فيها، امتحانات صعبة، فإن أردت أن تهلكني فولّني! وإلا خلاص، لا توليني بعد هذه المرة.
رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، ما أحسن محاسبتهم لأنفسهم، وعادة الله من حاسب نفسه في الدنيا رَفع عنه الحساب يوم القيامة، وهذه الأمة فيهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب في الأصل، ثم قال ﷺ: "استزدت ربي، فأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفٍ سبعين ألفًا، وثلاث حثيات من حثيات ربي"، فجزاه الله عنا خير الجزاء، هؤلاء يدخلون الجنة بغير حساب، ومن كان لا يحاسب نفسه على أعماله بينه وبين الله في الدنيا، اشتد عليه الحساب، ومن نوقش الحساب عُذب.
قال: "وما مِنْ عالِمِ إلَّا ويَتصوَّرُ أن يُختَمَ لهُ بالسُّوءِ"؛ بخاتمة سوء -والعياذ بالله تعالى-، ويمكن أن: "ويُختَمَ للجاهلِ بالسَّعادة"؛ فسبحان محول الأحوال! ربما ينظر أحد إلى سيدنا عمر قبل الإسلام ويقول: ما هذا المتكبِّر؟ هذا الجبار! هذا المؤذي فعله وتركه! وبعدها أصبح من أعظم الصحابة قدرًا عند الله وعند رسوله، "إيهٍ يا ابن الخَطَّاب، ما رآك الشيطانُ سالكًا فَجًّا إلَّا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ"، فـ يا الله بحسن الخاتمة وحسن الأدب مع الله.
"قالَ النَّبيُّ ﷺ: "يُؤْتَى بِالْعَالِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ"؛ -يعني: أمعاؤه- "فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَا، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: مَا لَكَ؟! فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُ بِالْخَيْرِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الشَّرِّ وَآتِيهِ".
قال: "فلِمَ لا يشغله خوفُهُ عنِ التَّكبرِ؟، وقد قالَ اللهُ تعالىٰ في بَلْعامَ بنِ باعوراءَ وكانَ مِنْ أكابرِ العلماءِ": (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ..) [الأعراف:175-176].
وقال عن الذين علموا التوراة فلم يقوموا بحقها ولم يُنفِّذوا ما فيها: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا..) [الجمعة:5]؛ فـمثّلهم بالكلب وبالحمار، فما أنقص من هذا؟! وما أشذ منه! ومن لم يعمل بعلمه يتعرض ليكون مثل هذا -والعياذ بالله تعالى-.
وقال: "فلينظرْ في الأخبارِ التي وردَتْ في علماءِ السُّوءِ"؛ حتَّىٰ يعظم- يغلبَ خوفُهُ، فلا يبقى في قلبه شيء من الكبر.
قال: "يبقى الكِبْرُ معَ هٰذا لِمَنِ اشتغلَ بعلومٍ غيرِ نافعةٍ في الدِّينِ؛ كالجَدَلِ واللُّغةِ وغيرِهِما" -أما من- "اشتغلَ بالعلم وهوَ خبيثُ الباطنِ، فازدادَ خبثُهُ بسببِهِ"، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فهذا أشد وأخبث -لا إله إلا الله-، أما مَن عَلِم العلم الصحيح؛ فقد العلم ينفي عنه الكبر، وينفي عنه العجب، وينفي عنه الغرور، لما يعلمه من حقيقة عظمة الألوهية وافتقار جميع الكائنات إليه والحكم، وخطر المرجع إليه والمصير إليه سبحانه وتعالى، ولا ينجو من ينجو إلا برحمته.
السَّببُ الثَّاني: الورعُ والعبادةُ .
ثم بعضهم يتكبر؛ قال: بالعبادة والورع والأعمال الصالحة؛ قال: "تنتهي الحماقةُ ببعضِهِم.."؛ خلاص يرى نفسه أنه فوق الناس بسبب عبادته، حتى إذا واحد آذاه أو تكلّم عنده وأصابه شيء قال: رأيتم هذا بسببي أنا، لا حول ولا قوة إلا بالله! وإن أحد أحسن إليه وحصل له شيء من الخير يقول: هذا بسببي ببركتي؛ فكأنه هو الرب! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يقدّم ويؤخر ويرفع ويخفض! إلا الرب ما في غيره! -لا إله إلا الله-. وهكذا؛ يحمله الشيطان، "وربَّما يقولُ عندَ الإيذاءِ: سترَونَ ما يجري عليهِ" ماذا سيحصل له هذا!.
قال: "وليس يدري الأحمق أنَّ جماعةً مِنَ الكُفَّارِ ضربوا الأنبياء"؛ آذوا أنبياء من أنبياء الله، ثم بعدها متّعهم الله متعة طويلة، وبعضهم تاب عليهم وأسلموا ورجعوا من الأخيار، وقال: هذا يريد نفسه فوق الأنبياء ويريد الذي يؤذيه تحت الكفار؟ وأنت تحت! -لا إله إلا الله-.
وقال سيدنا إبراهيم بن أدهم وقد وَكَّلَهُ بعضهم على مزرعة له، فكان يحرس في المزرعة- حتى خرج يوم يقول له: هات لنا من العنب الحالي، قام جلب عنب وطلع حامض، قال: لا، أقول لك من العنب الحالي، راح جلب ثانية من محل ثانٍ وظهر أنه حامض، قال: ما لك؟ كم لك في المزرعة؟ ألا تعرف تفرِّق بينها؟ قال: أنت لم تقل لي كُل، أنت قلت لي: أحرس، فأنا أحرس ولا أدري أين الحالي وأين الحامض، ما طعمت شيء منها أصلًا.
وكان هو واقف في المزرعة، جاء جندي مرّ عليه قال: أعطنا من الثمر، قال له: لا، أنا الحارس هنا وهذا ليس بملكي، ولم يأذن لي المالك أعطيه لأحد، قال: أعطنا، قال: أبدًا، فلطمه؛ قال: أمّا هذا فالطم رأسًا طالما عصى الله؛ هذا رأس عاصٍ يستحق اللطم، تعال تلطم؟ الطم، لكن حق الناس لا أعطيه، ثم لطمه ثانية؛ قال: الطم رأسًا طالما عصى الله، أمّا حق الناس فأنا مأمون، لا يمكن أعطيك شيء، ثالث لطمة؛ ونفس الشيء، رآه قد أعياه فذهب وتركه، شخص من بعيد يشاهده جاء فقال له: ما الحاصل بينك أنت والرجل يقصد؟ قال: هذا بغى نفسه، لا أدري ماذا، لِمَرَّة قلنا له: أعطنا ثمرة، فقال: لا، هذا حق الناس، وأنا لا أعطي حق الناس، قال له: أتعرف من هذا؟ وقد كان مشهور -عليه رحمة الله- باسمه لا يعرفونه الناس، كلما عُرف في مكان هرب إلى محل لا يُعرف فيه، قال: هذا إبراهيم بن أدهم، قال: ها؟ لِمَ لَمْ يقل لي هذا؟! -لا حول ولا قوة إلا بالله- لا يدعي علي الآن! رجع إلى عنده قال: سامحني أنا لم أعرفك، قال: لا، أنت ما رفعت يدك من فوق رأسي مرة إلا وقد سامحتك، في كل مرة ترفع يدك، قال: لماذا؟ قال: لأني حصلت على الأجر بسببك، فكرهت أن تحصل أنت على ذنوب بسببي أنا؛ يقول: أنا حقي سامحتك فيه على الفور، لأني حصلت على الأجر بسببك، لكن لا تعتذر لي؛ بل تُبْ إلى ربك، لا تعلّق نفسك بحق الناس، ولا تأخذ حق الناس، ولا تأكل إلا من الحلال، وأمّا أنا قد سامحتك، من أول ما ترفع يدك من فوق رأسي من اللطمة إلا وقد سامحتك فيها.
كان عندنا جد الحبيب عبد القادر بن أحمد السقاف: الحبيب سقاف بن محمد السقاف، تولى القضاء في سيئون نحو ثلاثين سنة، ما حكم إلا في مسألتين، البقية: كلها يصلح، يصلح بين المتخاصمين، إذا جاء يصلح بينهم تحرّز و ورع وخوف، وحكم في مسألتين، ومنها: مسألة مع السلطان؛ السلطان أراد أن يضيف إلى قصره، أرض جنبه لأيتام، فأراد أن يشتريها، فقال له القاضي الحبيب سقاف بن محمد: الغبطة للأيتام ما هو في بيعها الآن، فمصلحتهم أنها تبقى لهم، ليس في مصلحتهم بيعها، قال: أحسن أنا، أنا ولّيتها، قال: لا، قل له: نعم، قال: لا آمنك عليهم، هؤلاء أيتام لهم قيّم والأمر له ووصية عندنا، ولا يمكن، هدّده السلطان، قال: أحسن لك، قال: ولا شيء، قال: بيني وبينك اتصرف فيه معك، قال له: أفعل ما تريد لن أفرّط في حق الأيتام من أجل السلطان، وفي يوم وكّل أحد جنوده، قال: اذهب للسيد، اعطوا له ضربة، وجاء خارجًا من خارج البلد إلى مكان مزارعهم، خارج من النخل على دابته، وذاك كمن له من الوراء وضربه برصاصة، فدقت في بطنه وسقط من على دابته، جاؤوا، احسّوا بالضربة، فجاؤوا وذاك هرب، وهو في بداية وقوعه على الأرض يقول: مسامح، مسامح، ثم جاؤوا ووجدوها لم تؤثر بشيء، سبحان الله! الرصاصة لم تؤثِّر بشيء! إلا بأثر قليل مثل كأنها قرصته بس، كأنه قرصته نملة، ولم تؤثر بشيء فيه، قالوا له: ما بك تصرخ مسامح؟ قال: خشيت أن أموت وتكون مرتهنة ذمته بشيء، وما أحب أن ألقى الله وأحد من المسلمين مرتهن بشيء في ذمته في حقي، وهو عرف أنه أرسله السلطان من أجله، ومع ذلك لم يرضا بترك حق الأيتام.
بهذا الحال -نعم-، بعض المتأخرين أيضًا من شيوخنا وُلّي القضاء في سيئون مدة، دخلها وعنده بعض الأموال والثروة، وخرج من القضاء فقير، وأكمل القضاء؛ لأنه كان يبذل المال ويصلح بين المتخاصمين ويعطي، فدخله وعنده المال، وبعد سنوات خرج وقد أنفق ماله -لا إله إلا الله- وهكذا؛ الشأن في معاملة الرحمن -جل جلاله- وهذا بالعلم الواسع ولا يزدادون إلا تواضعًا للرب سبحانه وتعالى، وكذلك بعبادتهم وكثرة طاعتهم للحق تبارك وتعالى.
قال: "وحقَّ العابدِ إذا نظرَ إلى عالِم أن يتواضعَ لهُ لجهلِهِ، وإن نظرَ إلىٰ فاسقِ أن يقولَ: لعلَّ فيهِ خُلُقاً باطناً يسترُ معاصيَهُ الظَّاهرةَ، ولعلَّ في باطني حسداً أو رياءً أو خبثاً خفيّاً مَقَتَني -أي: بغضني- اللهُ تعالى عليهِ ، فلا يَقبلُ أعمالي الظَّاهرةَ"؛ فهذا المسلك الصحيح.
وذكر قصة الخليع من بني إسرائيل؛ لكثرة معاصيه سمي بالخليع، يقال له: "خليعُ بني إسرائيلَ"؛ يوم لقي عابد كثير العبادة؛ حتى لُقِّب بعابد بني إسرائيل، فقرب منه وجلس معه، فدخل الكبر إلى قلب العابد وقال: أنت خليع بني إسرائيل وأنا عابد بني إسرائيل، ما الذي أتى بك إليَّ؟ ابتعد عني! لا حول ولا قوة إلا بالله، فأوحى الله لنبيهم في ذلك الزمان: قل لفلان العابد وفلان الخليع استأنِفا العمل من جديد، أما العابد: فقد أحبطت عبادته كلها بتكبره، وأما الخليع: فقد غفرت له كل ما عنده، فهم الآن سواء هذا وهذا -لا إله إلا الله-، هذا بتواضعه وهذا بتكبره.
وبالعكس: وذاك مرَّ وهو من فساق بني إسرائيل ومن عصاتهم، مر في البرّيّة وإذا بأثر سواد إنسان من بعيد، حين أقبل عرفه، وإذا به واحدًا من العُبّاد يعرفه، عابد من عُبّاد بني إسرائيل، كأنه عطش ومن شدة العطش في الصحراء أُغمي عليه، وهذا المذنب الفاسق معه قليل من الماء، وأخذ يراجع نفسه ويقول: إن سقيت هذا وأنقذته الآن؛ أُقَطِّر في فمه قليلًا قليلًا حتى يفيق وبعدها أسقيه، ربما أنا أتعرض بعدها في الصحراء للضمأ ولا أحصل على شيء من الماء، ولكن إن جاوزته وتركته في هذا الحال وهو رجل صالح عابد؛ لا أظن يرحمني الله بعد هذا، لا تقع علي رحمة من الله ولا مخرج، فسبقت له سابقة الخير فآثر أن يعطي لهذا، فخرج من دابته وقطّر في فمه قطرة قطرة حتى تراجع له حِسَّه فقام وسقاه، قال: الحمد لله، أنقذه ومشى. قال ﷺ: "فإذا كان يوم القيامة أُمر بذلك الفاسق إلى النار"، قال: "فتتبادره الزبانية، فيُرفع له صاحبه الذي سقاه، فيصيح عليه يقول: يا فلان! إني آثرتك في ذاك اليوم على نفسي بالماء، إن كان لك عند الله شفاعة، اشفع لي"، فقال: فيذكره، فيقول للملائكة: قفوه، فيقف، يقول: "يا رب، هذا آثرني على نفسه في يوم كذا، وقد عطشت حتى كدت أهلك، وآثرني بالماء الذي عنده، فإن كان لي عندك قبول شفاعة، فشفّعني فيه"، قال: فينادي الله تعالى: "خذ بيده فأدخله الجنة"، قال: فتتولّى عنه الزبانية ويأخذ بيده ويدخل مع العابد إلى الجنة؛ بسقيه له تلك الشربة في ذلك اليوم.
وهكذا؛ كان بعض الصالحين ومعه تلامذة يجلسون معه ويُدرّسهم، في يوم مرّ واحدًا أيضًا من الغافلين وأهل المعاصي، فلما وصل تحت البيت، قال: أنا ذات عَصَتْ ربها من رأسها إلى قدمها، ووسط هذا البيت: ذات أطاعت ربها من رأسها إلى قدمها، فأريد الآن أدخل وأنظر إلى هذه الذات الطائعة لعل الله يدخل ذاتي العاصية في بركة ذاته الطائعة، وطلع؛ نظر إليهم هكذا هو وتلامذته وخرج، صادف واحد من التلامذة جاء متأخر، وَجَده على الدرج، قال له: يا فلان أنت هنا! ما الذي أتى بك الآن؟ قال: لما مررت من تحت البيت قلت: كذا وكذا، وأنا نظرت إلى الشيخ خلاص وأنا راجع، فلما انتهوا من الدرس، قال لهم: هل طلع عليكم أحد وأنتم في الدرس؟ قالوا: رجل وقف عند الباب قليل وخرج، قال: أتعرفونه؟ قالوا: لا، قال: فلان بن فلان؛ اسمه كان معروف أنه رجل من السيئين في البلد، قال: ما الذي أتى به؟ قال: أنا لقيته عند الدرج وسألته وقال: كذا وكذا، قال الشيخ: أأنت سمعته يقول كذا؟ قال: نعم، قال: اذهب وادعُه، ولا أظن يصلح لإرثي من بعدي إلا هو، ثم ذهب وجاء به، وجده يبكي وقد تاب وأناب، وبقي مع الشيخ وورث حاله من بعده وصار هو الذي في مكان الشيخ بعدما توفي -لا إله إلا الله-؛ بسبب تواضعه لله تبارك وتعالى -الله، لا إله إلا الله-.
ويقول جماعة من مثل سيدنا عطاء: "ما يصيبُ النَّاسَ"؛ من بلاء إلا بسبب وجودي فيهم، لذنوبي ومعاصيَّ، "ولو ماتَ عطاءٌ.. لتخلَّصوا"؛ لتخلّص الناس واستراحوا.
وهكذا؛ قصدوا بعض العارفين في نازلة نزلت، قال لهم: أتأتون إلي! أخشى أن أكون أنا السبب في نزول هذا البلاء، اذهبوا وادعوا ربكم واطلبوا أحد سواي يدعو لكم، فرفع عنهم البلاء، فرأى بعضهم النبي ﷺ يقول: إن الله رفع عنكم البلاء بدعاء فلان؛ وهو هذا الذي قال لهم: أنا أخاف أن يكون نزول هذا العذاب بسببي -لا إله إلا الله-.
بعضهم من العارفين وصل به أنه يقف بعرفة فيقول: "أنا أرجو الرَّحمةَ لجميعِهِم لولا كوني فيهِم"؛ أنا المشكلة بينهم، إن كان بسبب وجودي، فجميعهم داخلين في دائرة الرحمة والمغفرة.
قال: "فانظرْ"؛ الفرق، "بينَ مَنْ يُخلِصُ العملَ والورعَ، ثمَّ يخافُ علىٰ نفسِهِ، وبينَ مَنْ يَتكلَّفُ أعمالاً ظاهرةً"؛ لا روح فيها، "لا تخلو عنِ الرِّياءِ والآفاتِ"؛ فيها، ويَمُنْ بها على الله، ويريد نفسه فوق الخلق كلهم! كم الفرق بين هذا وهذا -لا إله إلا الله-.
السَّببُ الثَّالثُ: الكِبْرُ بالنَّسَبِ .
ينتسب إلى صلحاء، إلى أنبياء، إلى أولياء، إلى عارفين، إلى صالحين. قالوا: إن كنت مقتديًا بهم ومهتديًا بهديهم فنعم ذلك، فإذا كنت مخالفًا لهم وخارجًا عن طريقهم، فإذا أردت أن تكتفي بأعمالهم؛ مثل من يريد أن يكتفي بأكل أبيه وهو ما عاد يأكل! ممكن؟ يقول: أبي قد أكل! لا، ثم بعدها؟ أبوك قد أكل وأنت؟ أنت تحتاج إلى أكل كما أكل والدك، وهكذا.
فكذلك هذا؛ فإذا اغتر بذلك النسب وترك العمل: "فمن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
وإذا كان منكسرًا وخاضعًا؛ فهذا أقرب إلى أن يرحمه الله، فإن الحق تعالى يرحم ذرية الصالحين ويتحنن عليهم بصلاح آبائهم؛ قال: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) [الكهف:82]، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ) [الطور:21].
وأما الاعتماد على النسب مع مخالفة من انتسب إليهم في أخلاقهم وفي سلوكهم؛ فهذا خطأ وخطر، وإن كانوا من ذوي الدنيا؛ فكيف يفتخر بناس "ولعلَّهُم صاروا حُمَمَةً في النَّارِ" في جهنم وهو يفتخر بهم! ربما من العصاة والفساق -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
قال: و"أهلِ الدِّينِ" الذين كان يفتخر بالانتساب إليهم "ما كانوا يَتكبَّرونَ؟!"؛ وكانوا هم أهل الخضوع وأهل التواضع وأهل الذلة لله -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، "وكانَ شرفُهُم بالدِّينِ، ومِنَ الدِّينِ التَّواضعُ"، وذكر كلمات لكبارهم مثل: سيدنا أبي بكر الصديق وغيره، يقول: "ليتني كنتُ طائراً"؛ يأكلونه، "ليتني كنتُ تِبْنةً"؛ ولا أتعرض للحساب ولا إلى العذاب وما إلى ذلك..
ثم السَّببُ الرَّابعُ: الكِبْرُ بالمالِ والجمالِ والأتباعِ .
قال: هذه: "أمورٌ خارجةٌ عنِ الذَّاتِ"؛ وليس بها الشرف ولا الكرامة، وهي شؤون: "تمتدُّ إليها يدُ السَّارقِ والغاصبِ؟! ".
وقال: "ولو لم يتعهَّدِ الجميلُ بدنَهُ أسبوعاً بالغَسلِ والتَّنظيفِ.. لصارَ أقذرَ مِنَ الجِيفةِ؛ مِنْ تغيُّرِ النَّكهةِ والصُّنانِ"؛ إذًا؛ ليس هناك شيء ذاتي فيه -لا إله إلا الله-، قال: وهل "فمِنْ أينَ للمزبلةِ أن تفتخرَ بجمالِها والإنسانُ بالحقيقةِ مزبلةٌ؛ فإنَّهُ مَنبَعُ الأقذارِ والنَّجاساتِ ؟!"؛ من أشرف شيء فيه وهو الوجه والرأس: يخرج الريق، ويخرج النخامة، ويخرج المخاط، ويخرج الدمع ورَمَصِ العينين، وأشياء كثيرة مستقذرة فقط من أشرف أعضائه وحدها تخرج، من أجل أن يعرف قدره ولا يتكبر، الله يرزقنا الإنابة والخشية والتواضع، آمين يا رب العالمين يا أكرم الأكرمين، -باقي واحدة-.
وقال المؤلف رحمه الله -ورضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:
الأصل التاسع
في العجب
قال الله تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) [التوبة:25] الآية.
وقال عزَّ وجلَّ: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف:104].
وقال تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم:32].
وقال ﷺ: "ثَلَاتٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌ مُطَاعٌ، وَهَوَى مُتَّبَعُ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ".
وقالَ ابنُ مسعودٍ -رضيَ اللّه عنهُ-: الهلاكُ في اثنينِ: القنوطُ والعجبُ، وإنَّما جمعَ بينَهُما؛ لأنَّ القانطَ لا يطلبُ السَّعادةَ لقنوطِهِ، والمُعجَبَ لا يطلبُها لظنِّهِ أنَّهُ قد ظفرَ بها.
وقالَ ﷺ: "لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا.. لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؛ الْعُجْبَ ٱلْعُجْبَ".
وقيلَ لعائشةَ -رضيَ الله عنها-: متىٰ يكونُ الرَّجلُ مسيئاً؟ فقالَتْ: إذا ظنَّ أنَّهُ محسنٌ.
ونظرَ رجلٌ إلىٰ بشرِ بنِ منصورٍ وهوَ يطيلُ الصَّلاةَ ويُحسِنُ العبادةَ ، فلمَّا فرغَ.. قالَ: لا يَغُرَّنَّكَ ما رأيتَ منّي؛ فإنَّ إبليسَ عبَدَ اللهَ تعالىٰ، وصلَّىٰ آلافَ سنينَ، ثمَّ صارَ إلىٰ ما صارَ إليهِ.
فَصِلٌ
في بيانِ حقيقةِ العُجْبِ
حقيقةُ العُجْبِ: استعظامُ النَّفْسِ وخصالِها التي هيَ مِنَ النِّعمِ، والرُّكونُ إليها معَ نسيانِ إضافتِها إلى المُنعِمِ، والأمنِ مِنْ زوالِها، فإنِ انضافَ إليهِ أن رأى لنفسِهِ عندَ اللهِ حقّاً ومكاناً.. سُمِّيَ ذلكَ إدلالاً، وفي الخبرِ: إنَّ صلاةَ المُدِلِّ لا ترتفعُ فوقَ رأسِهِ.
وعلامةٌ إدلالِهِ: أن يَتعجَّبَ مِنْ ردِّ دعائِهِ، ويَتعجَّبَ مِن استقامةِ حالِ مَنْ يؤذيهِ.
والعُجْبُ هوَ سببُ الكِبْرِ، ولكنِ الكِبْرُ يستدعي مُتكبَّراً عليهِ، والعُجْبُ يُتصوَّرُ على الانفرادِ.
أمَّا مَنْ رأى نعمةَ اللهِ علىٰ نفسِهِ بعملٍ أو علمٍ أو غيرِهِ، وهوَ خائفٌ على زوالِهِ، وفرحَ بنعمةِ اللهِ تعالى عليهِ مِنْ حيثُ إنَّها مِنَ اللهِ تعالىٰ.. فليسَ بمُعجَبٍ، بلِ المُعجَبُ مَنْ يأمنُ وينسى الإضافةَ إلى المُنعِمِ".
فصلٌ
في بيانِ علاجِ العُجْبِ
"العُجْبُ جهلٌ محضٌ، فعلاجُهُ العلمُ المحضُ؛ فإنَّهُ إن أُعجِبَ بقُوَّةٍ وبمالٍ وجمالٍ، أو أمرٍ ممَّا ليسَ يَتعلَّقُ باختيارِهِ.. فهوَ جهلٌ أيضاً؛ إذ ليسَ ذلكَ إليهِ، فينبغي أن يَعجَبَ بمَنْ أعطاهُ ذلكَ مِنْ غيرِ استحقاقٍ، وينبغي أن يَتفكَّرَ في أنَّ زوالَ ذَلكَ مَخُوفٌ على القربِ بأدنى مرضٍ وضَعفٍ.
وإن أُعجِبَ بعلمِهِ وعملِهِ، وما يدخلُ تحتَ اختيارِه.. فينبغي أن يَتفكَّرَ في تلكَ الأعمالِ بماذا تَيسَّرَتْ لهُ، وأنَّها لا تَتيسَّرُ إلَّا بعضوٍ وقدرةٍ، وإرادةٍ ومعرفةٍ، وأنَّ جميعَ ذلكَ مِنْ خَلْقِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وإذا خلقَ اللهُ تعالى العضوَ والقدرةَ، وسلَّطَ الدَّواعيَ، وصرفَ الصَّوارفَ.. كانَ حصولُ الفعلِ ضروريّاً، فليسَ للمُضطَرِ أن يَعجَبَ بما يحصلُ منهُ اضطراراً؛ إذ هوَ مُضطَرٌ إلى اختيارِه؛ فإنَّهُ يفعلُ إن شاءَ أو لم يشأْ مهما خُلِقَتْ فيهِ المشيئةُ، قالَ الله تعالى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29].
فمفتاحُ العملِ: انجزامُ المشيئةِ، وانصرافُ الدَّواعي الصَّارفةِ، مَعَ كمالِ القدرةِ والأعضاءِ، وكلُّ ذلكَ بيدِ اللهِ تعالىٰ.
أرأيتَ لو كانَ بيدِ مَلِكِ مِفتاحُ خزانةٍ، فأعطاكَ إيَّاهُ، فأخذتَ منها أموالاً؛ أتعجبُ بجودِهِ إذا أعطاكَ المِفتاحَ بغيرِ استحقاقٍ، أو بكمالِكَ في أخذِهِ؟ وأيُّ كمالٍ في الأخذِ بعدَ التَّمكينِ؟!".
فصلٌ
فيمَنْ يجعلُ عطيَّةَ اللهِ تعالى سبباً لاستحقاقِ عطيَّةٍ أخرىٰ
"مِنَ العجائبِ أن يُعجَبَ العاقلُ بعلمِهِ وعقلِهِ، حتَّىٰ يَتعجَّبُ إن أفقرَهُ اللهُ تعالىٰ وأغنى بعضَ الجُهَّالِ، ويقولُ: كيفَ وَسَّعَ اللهُ النِّعمةَ على الجاهلِ وحرمَني؟!
فيُقالُ لهُ: كيفَ رزقَكَ العلمَ والعقلَ وحرمَهُما الجاهلَ؟ فهذهِ عطيَّةٌ منهُ، أفتجعلُها سبباً لاستحقاقِ عطيَّةٍ أخرىٰ؟!
بل لو جمعَ لكَ بينَ العقلِ والغنىٰ، وحرمَ الجاهلَ منهُما جميعاً.. كانَ ذلكَ أَولىٰ بالتَّعجُّبِ، وما تعجُّبُ العاقلِ منهُ إلَّا كتعجُبٍ مَنْ أعطاهُ المَلِكُ فرساً، وأعطى غيرَهُ غلاماً، فيقولُ: كيفَ يعطي الغلامَ لفلانٍ ولا فرسَ لهُ، ويحرمُني وأنا صاحبُ الفرسِ؟! وإنَّما صارَ صاحبَ الفرسِ بعطائِهِ، فيجعلُ عطاءَهُ سبباً لاستحقاقِ عطاءِ آخرَ!! وهوَ عينُ الجهلِ.
بلِ العاقلُ يكونُ أبداً تعجُّبُهُ مِنْ فضلِ اللهِ تعالىٰ وجودِهِ؛ حيثُ أعطاهُ العلمَ والعقلَ، ووَفَّقَهُ للعبادةِ مِنْ غيرِ تقدُّمِ استحقاقٍ منهُ، وحرمَ غيرَهُ ذلكَ، وسلَّطَ عليهِ دواعيَ الفسادِ، واضطرَّهُ إليهِ بصرفِ دواعي الخيرِ عنهُ، وذلكَ بغيرِ جريمةٍ سابقةٍ منهُ.
وإذا شاهدَ ذلكَ تحقيقاً.. غلبَ عليهِ الخوفُ؛ إذ يقولُ: قد أنعمَ اللهُ عليَّ في الدُّنيا مِنْ غيرِ وسيلةٍ، وخصَّني بهِ دونَ غيري، ومَنْ يفعلُ مثلَ هٰذا بغيرِ سببِ فيوشكُ أن يُعذِّبَ، ويسلبَ النِّعمَ أيضاً بغيرِ جنايةٍ وسببِ، فماذا أصنعُ إن كانَ ما أفاضَهُ عليَّ مِنَ النِّعم مَكْراً واستدراجاً؛ كما قالَ تعالى: ( فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام:44]، وكما قالَ تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعراف:182]".
(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ..) [النحل:53]؛ والعُجْبُ: أن يرى الإنسان الحق لنفسه وينسى منّة الله عليه بشيء مما أنعم الله تعالى به عليه.
والهلاك: في القنوط والعجب، قال: "لأنَّ القانطَ لا يطلبُ السَّعادةَ لقنوطِهِ، والمُعجَبَ لا يطلبُها لظنِّهِ أنَّهُ قد ظفرَ بها"؛ فلا يطلب حقيقة السعادة، فنعوذ بالله من العُجُب؛ وهو الإدلال على الله بشيء من الفضائل وبشيء مما أعطانا من النعم ووفقنا إليه من الطاعات والعبادات.
ولمّا كان بشر بن منصور في صلاته يطيل رأى أحدهم يرقبه وينظر إليه، "قالَ: لا يَغُرَّنَّكَ ما رأيتَ منّي"، لا، انظر لإبليس قد عبد أكثر من عبادتي هذه آلاف السنين في السماء، وبعدها طُرِدْ ولُعِنْ -لا إله إلا الله-.
فإذًا؛ "حقيقةُ العُجْبِ" قال: "استعظامُ النَّفْسِ -واستعظام- وخصالِها" وهي من نعم الله عليه، "والرُّكونُ إليها معَ نسيانِ إضافتِها إلى المُنعِمِ"؛ فكأنه يأمن من زوالها، وكأنها ملك له، وكأنها حَقّهُ، "إنَّ صلاةَ المُدِلِّ"؛ يعني: الذي يَدلّ بها على الله ويرى المنة له، "لا ترتفعُ فوقَ رأسِهِ"، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
قال: علامة المُدِل أنه؛ " يَتعجَّبَ مِنْ ردِّ دعائِهِ، ويَتعجَّبَ مِن استقامةِ -أمور من يعاديه و- يؤذيهِ".
"والعُجْبُ هوَ سببُ الكِبْرِ، ولكنِ الكِبْرُ"؛ يقتضي: "مُتكبَّراً عليهِ، والعُجْبُ"؛ يكون ولو منفردًا؛ ولو كان وحده؛ حتى لا أحد عنده يمكن يُعجب من نفسه، يرى نفسه شيئًا.
قال: "أمَّا مَنْ رأى نعمةَ اللهِ "؛ عليه في علم أو عمل أو خير، أو بشيء، أو في أي فضيلة وهوَ خائفٌ على زوالِهِ، وفرحَ بنعمةِ اللهِ تعالى عليهِ.. فليسَ بمُعجَبٍ" هذا ليس بـ عُجب، هذا مع شهود المِنّة لله ليس بعجب، العجب: أن يرى كأنها مُلك له وكأنها منه، وينسى نسبتها إلى المُنعم، ويدل بها على الله تعالى.
ثم ذكر لنا: "بيانِ علاجِ العُجْبِ "؛ قال: "العُجْبُ جهلٌ محضٌ، فعلاجُهُ العلمُ المحضُ"؛ المحض أي: الخالص، "فإنَّهُ إن أُعجِبَ بقُوَّةٍ وبمالٍ وجمالٍ، أو أمرٍ ممَّا ليسَ يَتعلَّقُ باختيارِهِ.. فهوَ جهلٌ أيضاً؛ إذ ليسَ ذلكَ إليهِ"؛ ويمكن أن يرتفع عنه في لحظة، في لحظة يتجنن، وكم باقي من العلم عنده؟ لم يعد هناك شيء خلاص ذهب! ومن دون أن يتجنن ينسى، لم يعد يدري ماذا قال، كل هذا ممكن -لا إله إلا الله-.
"إذ ليسَ ذلكَ إليهِ، فينبغي أن يَعجَبَ بمَنْ أعطاهُ ذلكَ"؛ تَعجب بفضل ربك وليس بك، "مِنْ غيرِ استحقاقٍ"؛ (.. فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ..)؛ يعني: سيدنا سليمان رأى عرش بلقيس مستقرًا عنده بدعوة هذا الصالح من أمته؛ وهو آصف بن برخيا، قال: (.. هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ..) [النمل:40]؛ ما قال: مني ولا بسببي، ولا بسبب الولي الذي عندي هذا.
قال: "فينبغي أن يَعجَبَ بمَنْ أعطاهُ ذلكَ مِنْ غيرِ استحقاقٍ؛ وينبغي أن يَتفكَّرَ في أنَّ زوالَ ذَلكَ مَخُوفٌ على القربِ بأدنى مرضٍ وضَعفٍ"؛ سيدنا يوسف -عليه السلام- لمّا قال لِمَن عنده في السجن: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)؛ ليس مني أنا؛ هذا الفضل من الله، (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ..) [يوسف:37-38]، صلوات الله عليهم.
قال: "وإن أُعجِبَ بعلمِهِ وعملِهِ، وما يدخلُ تحتَ اختيارِه.. فينبغي أن يَتفكَّرَ في تلكَ الأعمالِ بماذا تَيسَّرَتْ لهُ، وأنَّها لا تَتيسَّرُ إلَّا بعضوٍ وقدرةٍ، وإرادةٍ ومعرفةٍ، -من أين؟- وأنَّ جميعَ ذلكَ مِنْ خَلْقِ اللهِ عزَّ وجلَّ"؛ قالوا أن سيدنا داود مرة، قال: لك الحمد يا رب، ما من ساعة بالليل أو النهار إلا وأحد من آل داود لك فيها ساجد وعابد، قالوا: فأوحى الله إليه: من أين لهم ذلك؟ قال: منك يا رب وسجد شكرًا لله تعالى وتواضعًا، فالفضل منه سبحانه وتعالى فهو الذي وفَّق.
قال: "وإذا خلقَ اللهُ تعالى العضوَ والقدرةَ، وسلَّطَ الدَّواعيَ، وصرفَ الصَّوارفَ.. كانَ حصولُ"؛ هذه العبادة و: "الفعلِ"؛ صار: "ضروريّاً،"؛ فالفضل لمن؟ "فليسَ للمُضطَرِ أن يَعجَبَ بما يحصلُ منهُ اضطراراً؛ إذ هوَ مُضطَرٌ إلى اختيارِه؛ فإنَّهُ يفعلُ إن شاءَ أو لم يشأْ مهما خُلِقَتْ فيهِ المشيئةُ، قالَ الله تعالى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29]"؛ فالفضل لله.
قال: "فمفتاحُ العملِ: انجزامُ المشيئةِ، وانصرافُ الدَّواعي الصَّارفةِ، مَعَ كمالِ القدرةِ والأعضاءِ، وكلُّ ذلكَ بيدِ اللهِ تعالىٰ"؛ أي عمل عملته لا يجيء إلا عندما تنجزم مشيئتك، ومن أين لك المشيئة؟ ومن أين انجزامها؟ وتنصرف: "الدَّواعي الصَّارفةِ"، لا شيء يصرفك عنه! ومن أين؟ من الذي يصرفها عنك؟ وكونك قادرًا في أعضائك: وعندك قدرة، وعندك أعضاء تستطيع أن تتصرف بها، ومن أين الأعضاء؟ ومن أين القدرة؟ فالفضل لله يا هذا، (.. قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].
قال: "أرأيتَ لو كانَ بيدِ مَلِكِ مِفتاحُ خزانةٍ، فأعطاكَ إيَّاهُ، فأخذتَ منها أموالاً"؛ ثم بعدها تعجب بنفسك! تقول: أنا معي أموال؟ وإلا بالذي أعطاك المفتاح؟ الذي أعطاك المفتاح وسمح لك أن تأخذ من هذا، من هو؟ الفضل له وليس لك أنت، "أتعجبُ بجودِهِ إذا أعطاكَ المِفتاحَ بغيرِ استحقاقٍ، أو بكمالِكَ في أخذِهِ؟ وأيُّ كمالٍ في الأخذِ بعدَ التَّمكينِ؟!"؛ هو الذي مكّنك إياه، وهو الذي أقدرك عليه سبحانه وتعالى.
قال: "مِنَ العجائبِ أن يُعجَبَ العاقلُ بعلمِهِ وعقلِهِ، حتَّىٰ يَتعجَّبُ إن أفقرَهُ اللهُ تعالىٰ وأغنى بعضَ الجُهَّالِ، ويقولُ: كيفَ وَسَّعَ اللهُ النِّعمةَ على الجاهلِ وحرمَني؟!"، "فيقال له: كيف رزقك العلم والعقل وحرمهما الجاهل؟ فهذه عطية منه، أفتجعلها سبباً لاستحقاق عطية أخرى؟!".
"بل لو جمعَ لكَ بينَ العقلِ والغنىٰ، وحرمَ الجاهلَ منهُما جميعاً.. كانَ ذلكَ أَولىٰ بالتَّعجُّبِ، وما تعجُّبُ العاقلِ منهُ إلَّا كتعجُبٍ مَنْ أعطاهُ المَلِكُ فرساً، وأعطى غيرَهُ غلاماً، فيقولُ: كيفَ يعطي الغلامَ لفلانٍ ولا فرسَ لهُ"؛ أنا معي الفرس فـالمفروض يعطيني الغلام، قد أعطاك الفرس، ثم تريد أخذ الثاني؟! "وإنَّما صارَ صاحبَ الفرسِ بعطائِهِ، فيجعلُ عطاءَهُ سبباً لاستحقاقِ عطاءِ آخرَ!! وهوَ عينُ الجهلِ"؛ فـ "العُجب جهل محض"؛ يعالج بـ "العلم المحض".
قال: "بلِ العاقلُ يكونُ أبداً تعجُّبُهُ مِنْ فضلِ اللهِ تعالىٰ وجودِهِ؛ حيثُ أعطاهُ العلمَ والعقلَ، ووَفَّقَهُ للعبادةِ مِنْ غيرِ تقدُّمِ استحقاقٍ منهُ، وحرمَ غيرَهُ ذلكَ"؛ قال لهم ﷺ لسادتنا الأنصار: "لو شئتم لقلتم فصَدَقْتُم وصُدِّقتم، وجدناك طريدًا فآويناك، ووجدناك مخذولاً فنصرناك"، قالوا: المَن لله ورسوله؛ ما لنا شيء من المَن، المَن لله ولرسوله، ونعم الأنصار.
قال: "وسلَّطَ عليهِ دواعيَ الفسادِ، واضطرَّهُ إليهِ بصرفِ دواعي الخيرِ عنهُ، وذلكَ بغيرِ جريمةٍ سابقةٍ منهُ. وإذا شاهدَ ذلكَ تحقيقاً.. غلبَ عليهِ الخوفُ؛ إذ يقولُ: قد أنعمَ اللهُ عليَّ في الدُّنيا مِنْ غيرِ وسيلةٍ، وخصَّني بهِ دونَ غيري، ومَنْ يفعلُ مثلَ هٰذا بغيرِ سببِ فيوشكُ أن يُعذِّبَ، ويسلبَ النِّعمَ أيضاً بغيرِ جنايةٍ وسببِ، فماذا أصنعُ إن كانَ ما أفاضَهُ عليَّ مِنَ النِّعم مَكْراً واستدراجاً؛ كما قال تعالى: (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام:44]"؛ أي: آيسون، "وكما قال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف:182-183].
وفّر الله حظنا وإياكم من الاقتداء بنبيه والاهتداء بهديه، وأعاد علينا عوائد خضوعه وخشوعه وتواضعه، وأدبه مع الرحمن سبحانه وتعالى، وآدابه التي أدبه الله بها، ووفر حظنا من شهر ذكرى ميلاده ومن عظيم إمداده، وأدخلنا في دوائر أهل محبته ووداده، وأسعدنا وإياكم بأعلى السعادة في الغيب والشهادة، وصفّى قلوبنا عن العجب والكبر والرياء والغرور والحسد والحقد ومن جميع الآفات، وطهّرنا أتم التطهير، ورقّانا إلى المقام الكبير، وثبتنا على أحسن المسير، وكان لنا بما هو أهله في الدنيا والبرزخ ويوم المصير، وربطنا بالبشير النذير والسراج المنير ربطًا يزداد في كل نفس أبدًا سرمدًا.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
سؤال:
يقول بعض الكفار يقومون بأعمال مناصرة لأهل غزة، مثلًا: يقدمون الكثير من أموالهم، فهل ينفعهم ذلك؟
الجواب:
قدموه لمن؟ ولأجل ماذا؟ لإنسانية؛ فينتفعون في إنسانيتهم، ينتفعون في إنسانيتهم؛ يُصرف عنهم بلاء؛ يعافون من أمراض؛ تطول أعمارهم في الدنيا؛ ممكن، أما في الآخرة؛ هم ما عملوا له، ما عملوا للآخرة، ولا عملوا لله رب الآخرة -جل جلاله- حتى يؤجرهم هناك، إلّا إنّ من فضل الله من آمن منهم قبل موته؛ فيعيد عليه عوائد ما عملوا حتى من الخير قبل الإسلام، فضل من الله، يغفر له ما كان من الذنوب ويعطيه. قال: يا رسول الله، إني كنت قبل الإسلام في الجاهلية، كنت أَصِلْ وأتصدّق وأحج عند البيت الحرام، هل لي شيء من ذلك؟ قال: "أسلمت على ما أسلفت من خير".
وأمّا إن مات على الكفر لا شيء ينفعه في الآخرة، لا يمكن ينتفع إلا من عمل لأجل رب الآخرة -جل جلاله-، من عمل له من أجله يعطيه، وأما إذا ما عملت له، اذهب إلى من عملت له واجعله يعطيك، فعملت من أجل الإنسانية؛ طيب تنتفع في إنسانيتك، تنتفع في آدميتك، تنتفع في دنياك، ينتفعون بما ينفقون ويقومون يناصرون المظلومين بأن يدفع عنهم الله شرًا، بأن يدفع الله عنهم ظلمًا كان سيقع عليهم، بأن يدفع عنهم أمراضًا وأسقامًا، بأن يطيل لهم الأعمار، هذا ممكن ينتفعون به في الدنيا؛ لكن النفع في الآخرة مرتب على: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأما من لا يؤمن بالآخرة ولا برب الآخرة كيف ينتفع؟ من أين ينتفع؟ -لا إله إلا الله- ولكن تكون هذه الأعمال أقرب لأن يرحمهم الحق ويتوفاهم على الإسلام، ويدخلهم إلى الإسلام، يقودهم إلى الإسلام، وهكذا.. كما كانوا يقولون في بعض القبائل: كانوا محط نصيحة رسول الله ﷺ مؤمنهم وكافرهم، كلهم ينصحون لرسول الله ﷺ، وبعدها أسلموا كلهم.
01 ربيع الأول 1447