(535)
(339)
(608)
(381)
الدرس السادس والعشرون للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثالث: تزكية القلوب: تكملة شرح الأصل السادس: الرعونة وحب الجاه (2)
ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.
فجر الأحد 1 ربيع الأول 1447هـ
العلوّ الوهمي… والرفعة الحقيقية؛ لماذا يَميل القلبُ إلى مُلكِ القلوب ويستطيب الصِّيتَ والمدح؟ يشرح الدرس معنى الجاه، وسِرَّ انجذاب النفس لصفات العلوّ، ثم يميّز بين كمالٍ وهمي (مالٌ وجاهٌ يزولان) وكمالٍ حقيقي (علمٌ وحرّيّةٌ بالعبوديّة لا يَفنيان بالموت).
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:
فصل
في بيان حقيقة الجاه
"اعلم أن حقيقة الجاه هي مُلكُ القلوب؛ لتتسخرَ لذي الجاه على حسب مراده، وتُطلقَ اللسان بالثناء عليه، وتسعى في حاجته. وكما أن معنى المال مُلكُ الدراهم؛ ليتوصل بها إلى الأغراض، فكذلك معنى الجاه مُلك القلوب، لكن الجاه أحب؛ لأن التوصل به إلى المال أيسر من التوصل بالمال إلى الجاه، ولأنه محفوظ عن أن يُسرَق ويُغصَب أو تَعرِضَ له الآفة، ولأنه يسري وينمو من غير تكلف؛ فإن من مَلَكَ قلبه باعتقاد التعظيم، فلا يزال يثني عليه ويقتنص قلوب سائر الناس لصاحبه.
وفيه سر آخر، وهو أن الجاه معناه العلو والكبرياء والعز، وهي من الصفات الإلهية، والصفات الإلهية محبوبة للإنسان بالطبع، بل هو ألذ الأشياء عنده. وذلك سر خفي في مناسبة الروح للأمور الإلهية، وعنه العبارة بقوله تعالى: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي). فهو أمر رباني شغفه من حيث الطبع الاستبداد والانفراد بالوجود، وهو حقيقة الإلهية، إذ ليس مع الله موجود، بل الموجودات كلها كالظل من نور القدرة، فلها رتبة التَبعيّة لا رتبة المَعيّة.
فليس في الوجود مع الله غيره، وكأن الإنسان يشتهي ذلك، بل في كل شيء أن يقول: أنا ربكم الأعلى، لكن أظهره فرعون وأخفاه غيره.
لكن إن فاته الانفراد بالوجود، فيشتهي ألا يفوته الاستعلاء والاستيلاء على الموجودات كلها ليتصرف فيها على حسب مراده، وهو الإلهية. لكن تعذر على الإنسان ذلك في السماوات والكواكب والملائكة والبحار والجبال، فاشتهى الاستيلاء على جميعها بالعلم؛ لأن العلم نوع استيلاء أيضاً. كما أن من عجز عن وضع الأشياء العجيبة، فيشتهي أن يعرف كيفية الوضع، وكذلك يشتهي أن يعرف عجائب البحر وما تحت الجبال. ويَتصوّرُ أن يتسخر له الأعيان التي على وجه الأرض من الحيوان والنبات والمعادن، فيحبّ أن يتملكها ويتمولها، ويَتصوّرُ أن يتسخر له الإنسان، فيحب أن يستسخره بواسطة قلبه، ويملك قلبه بإلقاء التعظيم فيه، ويحصل التعظيم بأن يعتقد فيه كمال الخصال؛ فإن في الإجلال أن يتبع اعتقاد الكمال.
فلهذا يحب الإنسان أن يتسع جاهه، وينتشر صِيتُه، حتى إلى البلاد التي يعلم قطعاً أنه لا يطؤها، ولا يرى أهلها؛ لأن كل ذلك يناسب صفات الربوبية، وكلما صار أعقل، كانت هذه الصفات عليه أغلب، وشهواته البهيمية فيه أضعف."
الحمد لله مُكرمنا بأنوار الوجهة إليه، والدلالة عليه، بإدراك عبوديّتنا له وربوبيته -سبحانه وتعالى- علينا وعلى كل شيء. نشهد أنه الله الملك القيوم الحيّ، أرسل إلينا عبده المصطفى من بني لؤي، محمد بن عبد الله بالحق والهدى لينقذنا من كل ضلال وغيّ، فصلِّ اللهم وسلم وبارك على حبيبك المختار سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقرّبين وجميع عبادك الصالحين.
ويذكر الإمام الغزالي -عليه رحمة الله تعالى- في هذا الأصل السادس الذي عقده في الرعونة وحبّ الجاه، ويتحدّث عن سرّ رغبة الناس في الجاه وتحصيله، ومعناه كما ذكره أنه "مُلك القلوب" لتتسخر لمن قام له الجاه عندها، "كما أن معنى المال مُلك الدراهم يُتوصل به إلى الأغراض. فالجاه ملك القلوب، والجاه أحب، لأن التوصل به إلى المال" وإلى بقية الأشياء "أيسر من التوصل بالمال إلى الجاه"، ولكون الجاه أيضًا لا يتعرّض لما يتعرّض له المال من السرقة والغصب وما إلى ذلك و أنواع الآفات، وكونه ينتشر ويقوى "وينمو من غير تكلّف"، فينتشر من واحد لآخر حتى يعمّ بلدًا وبلدًا وهكذا.
وذلك أن الإنسان لما كوّنه الرحمن -جلّ جلاله- جعل فيه صفاتٍ ربانية، وصفاتٍ سبعية، وصفاتٍ بهيمية -حيوانية-، وصفاتٍ شيطانية. وبحسب السوابق ثم التزكية والتربية، تقوى الصفات الصالحة في الإنسان فيُهذّب شأن السبعُية والبهيمية والتي مظهرها الغضب والشهوة، ويأتي إلى الصفات الشيطانية فيقهرها ويسخرها لكسب القيم والمكارم وارتقاء المراتب العُلا، بدل أن تكون مُسخّرة للمكر والخداع والتغرير واستنباط الحيل لأجل البهيميات ولأجل السبعيات التي في هذا الإنسان.
وأما الصفات الربانية فالمقصود بها أن يعرف ربّه وعظمته ليحوز حقيقة العبودية. فإذا جنح مَجنحًا باطلاً وحاد عن سواء السبيل، أراد أن يدّعي الألوهية والربوبية لنفسه -والعياذ بالله، تبارك وتعالى-، كما صرّح بذلك فرعون. وكم من نفسٍ وسطها هذا الادعاء، لا تساعدها الأحوال والظروف أن تقول: أنا ربكم الأعلى، ولكن هذا قال (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24] والعياذ بالله تبارك وتعالى. فكان هذا الانحراف في الإنسان، لِما في خِلقته من الصفات الربوبية، يحيد به عن سواء السبيل، وإلا فكان المقصود أن يعرف به عظمة الربّ، ويعرف عبوديته لهذا الإله -سبحانه وتعالى-.
قال: هذا سرٌّ من أسرار تعلق قلوب بني آدم بالجاه والمنزلة عند الناس، لأنه فيه معنى علوّ وكبرياء وعِز، وهذه "الصفات الإلهية"، وهي بحكم الطبع يميل إليها الإنسان. فأمر الروح أمر عظيم، إذا لم يُحفظ ويُصان من الانحراف والانحطاط، فيرفع الإنسان إلى أعلى مراتب العبودية حتى تتولى الربوبية العبودية، وتندرج العَبدِية في العندية لله -تبارك وتعالى- وإلا ادّعى الإنسان لنفسه وأحب أن يكون المُستبِد والمسيطر والعالي وصاحب الكبرياء والعزة والجاه، ولذا قال الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) [القصص:83]؛ لأن العلو في الأرض ليس بحقيقة علو، فهو علو وهمي، مُنقضٍ زائل، وكان فيه الكفار والفجار، قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ) [القصص:4]، لكنه علوّ هابط ساقط، انتهى إلى الغرق والكفر بكل ما كان مغتراً به، (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90].
فكان مقتضى وجود هذه المسحات من الصفات الربوبية في الإنسان أن يعلم عظمة الرب، وأن يطلب العلوّ الحقيقي بعبوديته لهذا الإله وخضوعه لجلاله، وهو الذي يرفع من تواضع له، ويعز من تذلل لعزته سبحانه وتعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون:8]، ولكن بفعل النفس وما يحبكه العدو من التسويلات، ينحرف الإنسان عن حقيقة ما خُلق لأجله، ويذهب إلى التعالي وإلى الشموخ بنفسه في طلب علو وهمي، سريعًا ما يسقط ويضمحل وينتهي. لا إله إلا الله…
وفي حقيقة الأمر الرباني، أن الإله الحق -سبحانه وتعالى- هو الذي له الاستبداد والانفراد بالوجود، فلا موجود معه. قال: والموجودات التي خلقها بقدرته، لها مرتبة التبعية وليس لها مرتبة المعية، فإنه موجود بذاته وليس فيها موجودٌ بذاته، فكيف تكون لها معية؟ فإنما هي في تبعية، مُوجَدة بإيجاده، ومخلوقة بخلقه ومصنوعة بصنعته سبحانه وتعالى، فلها حق التبعية. فإذا انحرفت، طلبت المعية على غير وجهها فهلكت -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فليس في الوجود مع الله غيره، وإنما في الوجود أفعال الله وصنعته التي هي تبع له وعبيد له: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا) [مريم:93]. وكأن الإنسان يشتهي أن يكون له مظهر ألوهية وربوبية، وأنّى له بذلك! ولكنه يدّعيه ادعاءً فيضِلّ عن سواء السبيل.
فتجد الإنسان من هذه الدواعي لمّا تعذر عليه "الاستعلاء و الاستيلاء على كل الموجودات"، أخذ الذي ما يقدر عليها، مثل: "السماوات والكواكب" وكيف يقدر يتصرف فيها! "والملائكة"، مهما كان مغرور ومهما كان... إيش بيصلّح؟! ما يقدر..! يرى نفسه عاجز! فيشتهي "الاستيلاء" عليها "بالعلم"، ويطّلع عليها: كيف؟ كيف هذا؟.. فإن العلم بها والإدراك لشؤونها "نوع من الاستيلاء، كما أن من عجز عن وضع الأشياء العجيبة" يشتهي "يعرف كيفية" وضعها وكيف قامت وكيف تمت، "وكذلك يشتهي يعرف عجائب البحر وما تحت الجبال، ويتصور أن يتسخر له الأعيان التي على وجه الأرض من الحيوان والنبات والمعادن"، يحب "يتملّكها ويتموّلها، ويتصور أن يتسخر له الإنسان، يحب أن يستسخره بواسطة قلبه، ويملك قلبه بإلقاء التعظيم فيه".
فـ "يحب الإنسان أن يتسع جاهه وينتشر صيته" من هذه الدوافع التي عنده، التي إذا لم تنتظم في سلك الوعي الصحيح جَنحت بالإنسان كل الجُنوح.
يقول: فيحتاج إذًا إلى أن يعرف حقيقة الرِّفعة والضّعَة، وما هو الذم وما هو المدح، ويتكلم عنه.
فصل
في بيان حقيقة الرفعة من حيث الذم والمدح
"لعلك تقولُ: فإذا كان كذلك.. فلِمَ كانَ طلب الرفعة مذموماً وهو من نتائج العقل، وخواص الرُّوحِ؛ لمناسبته الأمور الرَّبَّانِيَّةَ؟
فاعلم: أن الرفعة الحقيقية طلبها محمود غير مذموم؛ إذ مطلوب الكل هو القرب من الله تعالى، وذلك هو الرفعة والكمال؛ إذ هو عز لا ذل فيه، وغنى لا فقر معه، وبقاء لا فناء بعده، ولذة لا كُدُورةَ لها، وطلب ذلك محمود، وإنما المذموم طلب الكمال الوهمي دون الحقيقي.
والكمال الحقيقي يرجع إلى العلم والقدرة والحرية، وهو ألا يكون مقيّدا بغيره، ولا يُتصوَّرُ للعبد حقيقة القدرة؛ فإن قدرته إنما تكون بالمال والجاه، وذلك كمال وهمي؛ فإنه أمر عارض لا بقاء له، ولا خير فيما لا بقاء له، بل قيل:
أشدّ الغم عندي في سرورٍ *** تَيَقَّنَ عنه صاحبه انتقالا
كيف وهذه القدرة العارضة مع سرعة انقضائها بالموت وبآفاتها قبله.. لا تصفو عن المكدرات، فمن توهمها كمالاً فقد زل.
بل الكمال في الباقيات الصالحات التي يُنال بها القربُ من الله سبحانه، ولا تزول بالموت، بل تتضاعف تضاعفاً غير محدود؛ وذلك هو المعرفة الحقيقية بذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، وهو العلم بكل الموجودات؛ إذ ليس في الوجود إلا الله تعالى وأفعاله، لكن قد يَنظرُ فيها الناظر لا من حيث إنها أفعال الله تعالى؛ كالذي ينظر في التشريح لغرض الطب، أو ينظر في هيئة العالَمِ لمعرفة الاستدلال بأحكام النجوم، فهذا لا قدر له.
ومن الكمال الحقيقي: الحريّة؛ وهي انقطاع علاقتك عن جميع علائق الدنيا، بل عن كل ما يفارقك بالموت، والاقتصار في الالتفات إلى لازمك الذي لا بد لك منه، وهو الله تعالى. كما أوحى الله إلى داود عليه السلام: "يا داود، أنا بُدُّكَ اللازم، فالزم بُدَّك".
فالعلم والحرية كالباقيات الصالحات، وهما كمالان حقيقيان. والمال والبنون زينة الحياة الدنيا، وهما كمالان وهميان.
والمنكوسون: هم الذين عكسوا الحقيقة، فأعرضوا عن طلب الكمال الحقيقي واشتغلوا بطلب الكمال الوهمي، وهم الذين يحترقون عند الموت بنيران الحسرة، إذ يشاهدون أنهم خسروا الدنيا والآخرة. أما الآخرة فلأنهم لم يطلبوها ولم يحصّلوا أسبابها من المعرفة والحرية، وأما الدنيا فلأنها ودعتهم وانقلبت إلى أعدائهم وهم ورثتهم.
ولا تظننّ أن العلم والإيمان يفارقانك بالموت، فالموت لا يهدم محل العلم أصلاً، وليس الموت عدماً حتى تظن أنك إذا عُدمتَ عُدِمت صفاتُك، بل معنى الموت: قطع علاقة الروح من البدن إلى أن تُعاد إليه، وإذا تجرد عن البدن فهو على ما كان عليه قبل الموت من العلم والجهل. وفهم هذا يطول وتحته أسرار لا يحتمل هذا الكتاب كشفها."
يقول: إذا قلت أن هذه الدوافع بسبب الصفات الربوبية التي في روح الإنسان، فلِما جعلت طلبها "مذمومًا وهي من نتائج العقل"، فترى في حس العقل أنه يتولّع الإنسان في صباه وصغره وكل شيء من الألعاب والمظاهر والمال، وإذا كبر رأى أن السلطة واتساع المال أهم من هذا كله، وصار لا يبالي بأمور المال وما إلى ذلك. فلماذا جعلتها مذمومة وهي "من نتائج العقل، وخواص الرُّوحِ"؟
قال: إنما جعلنا المذموم منها المنحرف منها، والمسوّل له والمغرر به. أما حقيقة الرفعة والشرف والكرامة والعلو فإنها مطلوبة، يطلبها كل عاقل وكل مكلف من الإنس والجن. ولكن ما خالطه من الوهم حتى جعله يطلب الكمال الوهمي، هذا الذي صاحبه إذا أفنى عمره في طلبه فارقه عند الموت وحلّت عليه الحسرات الأبدية -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فلا عزَّ فيه على الحقيقة.
وإنما عزُّ هذا المخلوق معرفته بخالقه وقربه منه؛ هذه رفعة وكمال حقيقي، "عِز لا ذل فيه، وغنى لا فقر معه، وبقاء لا فناء بعده، لذة ليس فيها كدورة" ولا مُنغصِات فطلب هذا أمر "محمود".
"وإنما المذموم طلب الكمال الوهمي" الذي وقع فيه أكثر الناس. قال تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الانعام:116]. فبالخرص والوهم والظن ضاعت حياتهم وأفكارهم، ومع ذلك يرون أنفسهم العقلاء في ظنونهم وأوهامهم هذه وخيالاتهم! فهم بالنسبة لمن عرف حقيقة العقل أو استنار بنور العقل على الحقيقة، كالأطفال الذين يفضّلون اللعب والشكولاتة على المُلك والرئاسة والزواج وكل شيء، ما الذي يريده من هذاّ يريد لعبة يلعب بها، هات له كرة أحسن له من رئاسة الدولة، هذا عقله.
وهكذا هؤلاء في طلبهم للرئاسات المنقضية والجاهات المنحلَّة التي تفنى، ينظر إليهم أهل العقل مثل ما ينظرون هم للأطفال، لهذا يرون طلبهم منحط.. فهذا ليس بكمال؛ لأنه لا بقاء له ولا استمرار له، وإنما الحقائق والكمال ترجع إلى القدرة وإلى العلم والحرية.
وهذا الإنسان الكامل الذي يتدرّج، يرفع نفسه:
وهذا الكمال الحقيقي: معرفة الإنسان حقيقة اسم عُبوديّته وعظمة الرّبوبية وقربه من الرّبّ ومعرفته بأسمائه وصفاته؛ هذا العلم النّافع الذي لا يفنى بالموت ولا ينقطع فوائده بالموت، بل تظهر فوائده وتبرز بالموت أكثر، وتبقى نتائجه نعيمٌ مؤبّد لا غاية له. هذا هو كمال، هذا كمال الإنسان؛ فما أنكرنا عليه طلب الكمال الحقيقي، لكن أنكرنا عليه انحطاطه وتوهّمه للكمال الذي ليس بكمال، ثم أفنى عقله وعُمره وراء ذلك الوهم والخيال، هذا الذي أنكرنا عليه، وفيه أمام عينه الزوال والانتهاء منه، قال: "لا بقاء له"، ويقول قائلهم:
أَشَدُّ الغَمِّ عِندي في سُرورٍ *** تَيَقَّنَ عَنهُ صاحِبُهُ اِنتِقالا
هذا ليس سرور هذا!.. سرور ينتقل عنه هذا غمّ هذا، هل معك سرور يدوم ويستمر؟! هذا السّرور بمعرفة الله والسّرور بطاعة الله، هذا يدوم ويستمر شأنه؛ وأمّا السرور بشيء يزول وينتهي يتحوّل، فهو غمّ؛
…………………. سُرورٍ *** تَيَقَّنَ عَنهُ صاحِبُهُ اِنتِقالا.
وهكذا، بل وتَوهُّم القدرة في هذه السّلطات الظّاهرية، والعلم في الأشياء الماديّة، توهُّم أنّ هذا هو العلم والقدرة.. هي حتّى قبل انقضائها وانقضاء وقت الاستفادة منها، مشُوبة بغُصَص وبأَكدار وبمَشاكل؛ فلأجل ذلك أقاموا لهم الحرّاس وأقاموا لهم الجنود وتعِبوا وسهِروا لأنها غُصص ونكد، ليست صافية، ما هو المُلك الذي قال: (إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20].
والذي يُعجّل منه في الدّنيا ما يقول بعض العارفين: ملكتُ أعضائي السبعة، ما صرفتها إلا في طاعة! هذا مُلك هذا، هذا مُلك عظيم مؤبّد شأنه وسلطانه وفائدته، هذا مُلك، وأمّا بقية الأشياء وَهْم وخيال، مع ذلك قبل انقضائها وزوالها هي مشوبة بغُصص وأتعاب وأنكاد.. ما تصفو، لا إله إلا الله! فكيف يكون طلبها هو العزّ أو الرّفعة؟
فـ "الكمال في الباقيات الصالحات التي يُنال بها القرب من الله، يقول: ولا تزول بالموت بل تتضاعف تضاعفاً غير محدود."، هذه المعرفة بذات الله وصفاته وأفعاله، والعلم بما علّم الله تبارك وتعالى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة:255]. هذا العلم النافع الذي لا يُفارقك عند الموت، ولا تُفارقك خيراته وبركاته وآثاره.
قال: "والحرية من الكمال الحقيقي"، لكن ما هي الحرية؟ أن تكون غير مُقيّد بشيء من عوارض الفناء والزوال، من كل ما يفنى ويزول، لا جاه ولا سلطان ولا تبعيّة لمال ولا لنفس ولا لشيطان ولا لشيء من هذه الأشياء. ما تكون مُلك لها، ما تكون مُقيّد بها، بل تكون حر في عبوديّتك لله وحده سبحانه وتعالى وتعلم لا أحد يَملكك غيره. هذه الحرية الحقيقية، عزّ وشرف وكرامة.
هم يُفسرون الحرية بتعدّي الحدود في القيم والمكارم وفي اتّباع الشهوات والأهواء، وهذا يسمّونه حريّة!! هذا قيد فوق القيد، وقيد لأخسّ الأشياء التي لا تملك لك حقيقة شرف ولا كرامة وتَضْمَحِلّ وتتلاشى عمّا قريب، فليست بالحرية.
لكن الحرية الصحيحة نعم، "فالعلم" الصحيح "والحرية" الصحيحة "من الباقيات الصالحات"، أمّا القدرة بمعناها الواسع ما تتأتّى لمخلوق، إنّما هي للخالق. ولكن ما آتى الخلّاق عبده من القدرات، إذا تمكّن بالعلم والحرية، بصرف هذه المقدورات له فيما يحبّه إلهه ويرضى عنه إلهه، فكان عُدَّة من عُدَد الكمال الحقيقي.
قال: "والمنكوسون عكسوا الحقيقة، أعرضوا عن طلب الكمال الحقيقي" الذي قال عنه سيدنا موسى في دعوة فرعون:
ولكن موسى ومَن معه هم الذين نَجُوا واعْتَلَوْا في الدنيا وفي الآخرة، ولهم الشرف والكرامة الأبديّة الحقيقية؛ فجاءنا الأنبياء والمرسلون لنطلب حقائق الشّرف والكرامة والعزّ الصحيح.
قال: "لكن المنكوسون عكسوا الأمر واشتغلوا بطلب الكمال الوهميّ، وهؤلاء يحترقون عند الموت بنيران الحسرة"، فإنهم "يشاهدون" في تلك الساعة "أنهم خسروا الدنيا والآخرة"، (ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر:15]، والعياذ بالله تعالى.
"أما الآخرة لم يطلبوها ولم يحصّلوا أسبابها من المعرفة والحرية، وأما الدنيا ودعتهم" وتركتهم وانفصلت عنهم وأسلَمَتهم، ولا عاد يقدروا أن يحصلوها ولا تحصّلهم.. انتهت. فخسروا الجميع، والعياذ بالله تعالى.
قال: "وأما" مثل "العلم" النافع "والإيمان" الصحيح "ما يُفارقانك بالموت. والموت ما يهدم" الروح والقلب "محل العلم أصلاً"، إنّما يُفارق بين الروح والجسد، والذي ينهدم به هذا الجسد. وعاد الجسد إذا أُكرم كرامة خاصة بالحريّة العظمى هذه والكرامة الحقيقية، حتى هو ما عاد تأكله الأرض، هو نفس الجسد يبقى إلى أن تقوم الساعة وترجع الروح إليه ويقوم.
فانتقل شرف المُلك الحقيقي حتى إلى أجساد الأنبياء، أجساد الشهداء، أجساد العلماء، العاملين بعلوم الدين، الأجساد كلها تروح إلى الأرض، لكن كلّها ترجع إلى التراب ويأكلها الدّود إلا هذه الأجساد. ولو ماتت في وقت واحد ودُفنت في مكان واحد، هذا يُؤكل وهذا لا يُؤكل، هذا يفنى وهذا لا يفنى، لأنّ هذا صُبِغ بصبغة الكرامة الحقيقية ففاضت عليه، فصار مُكرّم ومُشرّف إلى أن يأتي وقت النفخة الثانية وترجع الروح إليه ويقوم.
قال: لا يُفارقك العلم والإيمان بالموت، "ليس الموت عدماً حتى تظن أنك إذا عدمتَ عُدمت صفاتك، بل معنى الموت قطع علاقة الروح من البدن إلى أن تُعاد إليه"، هذا هو الموت، "وإذا تجرد عن البدن فهو على ما كان عليه قبل الموت من العلم أو الجهل، وفَهْم هذا يطول" وفيه أسرار كبيرة، ولكن مبادئه واضحة لكلّ ذي قلب سليم وعقل مُستنير. فالله ينوّر قلوبنا.
فصلٌ
في بيان علاج داء الجاه.
إذا عرفت حقيقة الجاه وماهيَّته، وأنّه كمال وهميّ، فقد عرفت طريق العلاج في قمع حبه من القلب. إذا علمت أنّ أهل الأرض لو سجدوا لك مثلا، لما بقي إلى مدة قريبة لا السّاجد و لا المسجود له. كيف ويشَحّ الدّهر عليك بأن يَسلَم لك الملك في محلّتك فضلا عن قريتك أو بلدتك؟
فكيف ترضى أن تترُك مُلك الأبد و الجاه الطويل العريض عند اللّه تعالى وعند ملائكته، بجاهك الحقير المنغّص عند جماعة من الحمقى لا ينفعونك ولا يضرونك ولا يملكون لك موتاً ولا حياةً ولا نشورًا ولا رزقًا ولا أجلا؟
نعم مُلك القلوب كملك الأعيان، و أنت محتاج منه إلى قدر يسير لتحرس نفسك عن الظلم والعدوان، و عمّا يشوش عليك سلامتك و فراغك الذين تستعين بهما على دينك. فطلبك لهذا القدر مباح، بشرط القناعة بقدر الضرورة كما في المال، وبشرط أن لا تكتسبه بالمُراءاة بالعبادة فذلك حرام كما سيأتي؛ و ألا تكتسبه بالتّلبيس بأن تظهر من نفسك ما أنت خالٍ منه، فلا فرق بين مُلك القلوب بالتلبيس، و مُلك الأموال.
فإذا حصّلت الجاه بطريقه، واقتصرت على قدر التحرّز من الآفات.. فتُرجى لك السلامة، إلا أنك في خطر عظيم أكثر من خطر المال، لأن قليل الجاه يدعو إلى كثيره، فإنّه ألذّ من المال، ولذلك لا يسلم الدين غالباً إلا لِخَامل مجهول لا يُعرف، كما فهمت ذلك من الأخبار.
فصلٌ
في حبّ المدح وأنه من البواعث على طلب الجاه.
من البواعث على طلب الجاه حبّ المدح، فإن الإنسان يتلذذ به من ثلاثة أوجه:
- أحدها أنه يُشعر صاحبه بكمال نفسه، والشعور بالكمال لذيذ لأن الكمال من الصفات الإلهية.
- والثاني أنّه يُشعِر بملك قلب المادح وقيام الجاه عنده وكونه مسخراً له.
- والثالث أنه يُشعِر صاحبه بأنّ المادح يُصغى إلى مدحه فينتشر بسببه جاهه؛ فلذلك إذا صدر المدح من بصير بصفات الكمال، واسع الجاه والقدرة في نفسه، وكان على ملأ من الناس، تضاعفت لذة المدح.
وتزول اللذة الأولى بأن يصدر عن غير أهل البصيرة، فإنّه لا يُشعر بالكمال.
وتزول الثانية بأن يصدر عن خسيس لا قدر له، لأنّ مُلك قلبه لا يُعتد به.
وتزول الثالثة بأن يُمدح في الخلوة لا في الملأ، إلا من حيث يتوقع أنّه أيضاً ربما يُمدح في الملأ.
وأما الذّمّ فإنه مكروه لنقيض هذه الأسباب. وأكثر الخلق أهلكهم حبّ المدح وكراهية الذّم، ويحملهم ذلك على المراءاة وفنون المعصية، وعلاج ذلك:
- أن يتفّكر في اللذة الأولى:
- فإن مُدح بكثرة المال والجاه، فليعلم أنه كمال وهمي، وهو سبب فوات الكمال الحقيقي، فهو جدير بأن يحزن لأجله لا أن يفرح به.
- وإن مُدح بكمال العلم والورع، فينبغي أن يكون فرحه بوجود تلك الصفات وعلم الله تعالى بها، لا بذكر غيره، ويشكر الله تعالى عليها لا يشكر غيره، هذا إن كان مُتّصفًا به.
- وأمّا إن كان غير ُمتّصف به، ففرحه به حماقة، كفرح مَن يُثني عليه غيره ويقول: ما أطيب العطر الذي في أحشائك وأمعائك! ويعلم ما فيها من الأقذار والأنتان، وهذا حال من يفرح بالمدح بالورع والزّهد والعلم وهو يعلم من باطن نفسه أنه خالٍ عنه.
- وأمّا اللذة الثانية والثالثة، وهو لذة الجاه عند المادح وغيره، فعلاجُه ما ذكرناه في حب الجاه.
يقول: يُعالَج هذا الانحراف عند الإنسان في طلب الكمال الوهميّ ويُحوَّل إلى طلب الكمال الحقيقي، فيُعالج داء الجاه، والذي من أسبابه: محبّة المدح وكراهة الذم. قال:
قالوا: ولذلك إذا صدر المدح "عن غير أهل البصيرة ما يُشعِر بالكمال، فقد تسقط هذه اللذة". وأحيانًا حتى مع ذلك، فهو يتعلّق بالوهم، وهم على وهم.
والذّمّ؛ لنقيض هذه الأسباب تكرهه النفس. قال: "وأكثر الخلق أهلكهم حب المدح وكراهيّة الذم". ولِذا جاءت وصايا الصالحين: ولا بالمدح تفرح، ولا تتعب من الذّمّ. وعلاج ذلك يتفكر:
قال لك: هكذا من مُدح بعلم وهو ليس بعالم، ومُدح بورع وهو ليس بورع، كما هذا يضحك عليه؛ ففرحه به مثل هذا.
أمّا إن كان عنده حقيقة العلم والورع، فهذا يحمله على أن يفرح بإعطاء المعطي له وهو الله، ويخاف من زواله ويتضرّع إليه أن يُثبّته عليه. هذا هو الكلام الصحيح.
وكذلك قال: "لذة الجاه عند المادح وغيره يُعالجها بما ذكر". يقول: أنت لو فرضنا آل البلاد كلهم، وهذا ما يكون، والذين حوالين بلادك كلهم وأهل الأرض كلهم، فرضا، هذا ما يكون، لكن لو فرضنا كلّهم عظّموك وأحبّوك إلى حد سجدوا لك، كم سيقعدون؟ عشر سنين، خمسة عشر، عشرين، ثلاثين؟!… لا الساجد ولا المسجود له، لا أنت ولا هم، تفرح بماذا؟ وما يبقى بعدها إلا الجزاء على ما كان منك من نيات ومن أعمال، وإذا العالم ثاني، وذاك كله وهم ما فيه حقيقة رفعة، وهذا ما يحصل أصلًا.
وإن سخّرت نفسك لمحبّة الجاه والمال ما سيحصل لك إلا عند أفراد مخصوصين وناس مخصوصين، وذامّيك كثير ومبغضوك كثير، ومع ذلك كله منقضٍ ومنتهٍ، وبتفوّت بهذا ملك الأبد ومرافقة المقربين والنبيّين في درجات القرب من رب العالمين، وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، مقابل أيش تُفوّت هذا كله؟!!
"كيف ترضى تترك مُلك الأبد والجاه الطويل العريض عند الله وعند ملائكته بجاه حقير مُنَغص عند جماعة من الحمقى لا ينفعونك ولا يضرونك؟" لا إله إلا الله.
قال: نعم، أنت مُحتاج إلى شيء من الجاه بحيث لا يتنغّص عليك عيشك ولا يؤذونك الناس، مثل ما تحتاج شيء من المال لتمشّي به حياتك، فبهذا المقدار ما يؤثر عليك. وهكذا والذي يضرك إنما هو التفاتك، أمّا إقبال الناس مثل إدبارهم، ومدحهم مثل ذمهم، وذمهم مثل مدحهم، ما ينفعك شيء في حدّ ذاته. ولكن أنت تنتفع إذا صفا باطنك وتعتبر الاعتبارات في طلب المُلك الحقيقي، سواءً مُدحت أو ذُممت، أقبلوا عليك أو أعرضوا عنك، تستفيد فوائدك بينك وبين المَلِك الحق في طلبك للعزّ الحقيقي والرّفعة الحقيقية وكرامة الأبد، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشرّ ما عندنا.
ويقول في الدعاء: و اجعلني وَجِيهًا فِي الدنيا والآخرة ومن المقرّبين. والوجيه في الدنيا والآخرة صاحب المُلك الحقيقي هذا، صاحب الشرف الحقيقي والعزة الحقيقية؛ هذا الوجيه؛ واجعلني وجيهًا في الدّنيا والآخرة ومن المقربين، فإنها مترابطة بعضها البعض. أما ما يشاركه فيه فُسّاق الأرض وشرارها، منقطع عن المُلك الحقيقي، فليس به الوجاهة المطلوبة في الدنيا.
وفي الآخرة ما تكون الوجاهة إلا لأهل ذاك الشرف بالعبودية، على قدر ذلّتهم لله يُعزّهم، وعلى قدر افتقارهم إليه يُغنيهم، وعلى قدر خُضوعهم لجلاله وتواضعهم يرفع أقدارهم سبحانه وتعالى.
حقِّقنا اللهم بحقائق الرفعة الحقيقية بالصدق معك، والإخلاص لوجهك والعبودية المحضة الخالصة لك، في خير ولطف وعافية.
بسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي مُحمّد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
01 ربيع الأول 1447