الأربعين في أصول الدين - 14 | طلب الحلال (3)

للاستماع إلى الدرس

الدرس الرابع عشر للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في شرح كتاب: الأربعين في أصول الدين، للإمام الغزالي . القسم الثاني: مواصلة شرح الأصل السابع: طلب الحلال (3)

 ضمن دروس الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة بالأردن.

فجر الثلاثاء 25 صفر 1447هـ

يعرض قاعدة استصحاب الطهارة والحِلّ في المعاملات والعبادات، وينبّه إلى حدود الفتوى أمام حكم القلب "استفتِ قلبك"، مع استحضار التحذير النبوي من التنطّع والوسوسة "هلك المتنطعون"، ويوضح في شرح فصل: الأموال المُشتبهة بأن الناس في حقّك 6 أقسام..

 

نص الدرس المكتوب: 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبسندكم المتصل للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي -رضي الله عنه وعنكم وعن سائر عباد الله الصالحين- من كتاب (الأربعين في أصول الدين) إلى أن قال:

 

"الفن الثاني: أن تراجع قلبك وإن أَفْتَوْكَ، فإن الإثم حَواز القلوب، فالذي يضرك ما حاك في قلبك، ولذلك قال رسول الله ﷺ: "استفتِ قلبك وإن أَفْتَوْكَ وَأَفْتَوْكَ". وهذا السر يطول ذكره، ولكن اعلم على الجملة أن المحذور من الحرام إظلام القلب، والمطلوب من الحلال تنويره، وذلك يتشعب من اعتقادك لا من نفس المعتقد؛ فمن وطئ امرأة على ظن أنها أجنبية فإذا هي منكوحته.. حصل إظلام القلب، ولو وطئ أجنبية على ظن أنها زوجته.. لم يحصل. 

وكذلك في النجاسات والطهارات المؤثرة في تنوير القلب بهمِّك واعتقادك؛ فما أُمرتَ بأن تصلي وثوبك طاهر، بل أن تصلي وأنت تعتقد أنه طاهر، فاستشعار الطهارة مؤثر في إشراق القلب وإن لم يكن على وفق الحال، ولذلك نقول: إن من صلى ثم تذكر أنه كان معه نجاسة.. فليس عليه الإعادة على الأصح؛ لأنه ﷺ خلع نعليه في أثناء صلاته لما أخبره جبريل -عليه السلام- بأن عليهما قذراً واستمر فيها. ولذلك يُشدَّد الأمر على الموسوس؛ فإنه ما لم يطمئن قلبه باعتقاد الطهارة.. فيجب عليه الاستقصاء والمعاودة، وأولئك قوم شددوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فهلكوا باستقصائهم؛ كما قال ﷺ: "هلك المتنطعون"، فكذلك في الحلال، أنت مُتعبَّدٌ بما يطمئن إليه قلبك، لا بما يفتي به المفتي، فاستفتِ قلبك وإن أَفْتَوْكَ".

 

نعم، الحمد لله مكرمنا بالبيان لما نتناوله ولما نَدَع في كل شأن، على لسان سيد الأكوان عبده المختار محمد ﷺ وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على دربهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل العرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 

ذكر أنه يجب على أمثالنا القاصرين أن نجتهد في تحقيق الدرجة الأولى من الورع وهي درجة العدول، لكن مع ذلك نضيف شيئاً. فذكر أن لا نغتر بمواقع الغرور في مثل ما أشار إليه من مثل وهب الزوج زوجته والأخ أخيه والجار جاره ماله قبل حلول الحول لإخراج الزكاة، وذكر مقصود الزكاة وما إلى ذلك. 

 

ثم قال: "الفن الثاني" أنه مع ذلك ينبغي أن لا تغفل عن مراجعة قلبك، فإن ما فيه الحرام وما فيه الإثم يكون للقلب به ظلمة وكدر، فلبتعد عما ترى قلبك به يتكدر وينفر منه ويتغير، فإن الإثم "حواز القلوب" أو "حَزَّاز القلوب"، في رواية أي: يصير عليها كالران يؤثر فيها فيحوزها إلى ظلمته، فحينئذ ينفر طبع المؤمن من مثل ذلك ويرى للذي قاله أو فعله أثراً سيئاً في قلبه، فهذا علامة أنه إثم، لأن لكل معصية ولكل ذنب نكتة سوداء في القلب كما أخبر عليه الصلاة والسلام، إن تاب صاحبها صُفيت، وإلا انضافت نكتة إلى نكتة حتى يسود القلب كله -والعياذ بالله تعالى- ويطلع عليه الران. 

 

قال لسيدنا وابصة بن معبد: "استفتِ قلبك وإن أفتوك وأفتوك". فهذا فيه تنبيه منه ﷺ على أن لا يهمل المؤمن ضميره. ومن كان من مثل وابصة أو قريب منه فأن له نفس تنفر من الذنوب وهو يشعر بما ينال قلبه من ظلمة إذا قال أو فعل أو نظر ما فيه الاثم.

 

وقال: "واعلم على الجملة: أن المحذور من الحرام إظلام القلب، والمطلوب من -تناولنا- الحلال تنويره -القلب- وهذا أيضاً يتشعب من اعتقادك لا من نفس المعتقد".

 

وهذا لم يكلفنا الله تعالى ما وراء علمنا وإدراكنا من حقائق الأمور. وهكذا ذَكَر المثال: أُمر الإنسان في الطهارة عن النجاسات، بأن يكون في اعتقاده أنه طاهر فذلك يكفي؛ فإذا اعتقد أنه نجس -مثلًا ثوبه- ومع ذلك لم يبالِ وصلى فصلاته باطلة، وإن كان الثوب طاهراً ما فيه شي لأنه اقتحم الدخول وهو يعتقد النجاسة؛ وأما القول الذي ذكره في عدم الإعادة على من لم يعرف بالنجاسة ثم عرفها بعد الصلاة فهذا القول القديم للإمام الشافعي، والذي رجع إليه وعليه الفتوى أنه إذا تيقن أن النجاسة كانت موجودة وجب عليه أن يعيد الصلاة إذا كان الوقت باقياً أو يقضيها إن كان الوقت قد خرج.

 

قال: وبذلك يكون المتنطعون في تشديد على أنفسهم، وكذلك الذي يستسلم للوسوسة ويبقى اعتقاده مختلاً فلا يعتقد الطهارة إلا بعد شدة شديدة، فقد شدد على نفسه؛ "فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم"، ويقول ﷺ: "هلك المتنطعون"، "هلك المتنطعون"، كما جاء في صحيح مسلم، ٩: الذين يبالغون في الأمور ويخرجون عن مضمار المراد والمقصود. 

 

قال: "فكذلك في الحلال، أنت مُتعبَّدٌ بما يطمئن إليه قلبك، لا بما يَفتي به المفتي، فاستفتِ قلبك وإن أفتوك".

فبينك وبين الله تعالى علامة مايضيع الله للمؤمن الذي يقصد قربه من ربه ويقصد نيل رضا ربه، لا يضيع عليه علامة الشعور والإحساس بما ينبغي وما لا ينبغي، وما يحبه منهم هؤلاء وما لا يحبه وهكذا، وتتسع لمن صفا أكثر، حتى قال قائلهم: إنه إذا قُدم الطعام وفيه شبهة فأردتُّ مَدَّ يدي ضرب فيَّ عِرق، أعلم به أن في الطعام شبهة، فلمَّا ذكروه لآخر قال: يضرب فيَّ سبعين عِرق، ما هو عرق واحد؛ عند إرادة تناول ما فيه شبهة. 

 

فكذلك يجعل الله الفوارق، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا) [سورة ألأنفال:29]؛ نور تفرقون به بين الأمور، فالصادق مع الله تبارك وتعالى تتولاه عناية الله ويعينه على السير إليه -جل جلاله وتعالى في علاه-.

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

فصل

في الأموال المشتبهة، وحكمها

 

"وإياك أن تشدد على نفسك فتقول: أموال الدنيا كلها حرام!! وقد أخبثتها الأيدي العادية والمعاملات الفاسدة، فأقنع بالحشيش مُترهِّباً، أو أتناول من الجميع متوسعاً، لا أفصل فيه بين حلالٍ وحرام!! 

بلِ اعلم قطعاً: أن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور متشابهات، كذلك كان في عصر سيدنا رسول الله ﷺ، وكذلك يكون أبد الدهر. 

فاستمد من السر الذي ذكرناه، فإنك غير مُتعبَّد بما هو في نفسه حلال، بل بما هو في اعتقادك حلال لا تعرف سبباً ظاهراً في تحريمه؛ فقد توضأ سيدنا رسول الله ﷺ من مزادة مشركة، وتوضأ سيدنا عمر -رضي الله عنه- من جرة نصرانية، ولو عطشوا.. لشربوا منه، وشربُ الماء النجس حرام، ولكن استصحبوا يقين الطهارة، ولم يتركوها لتوهُّم النجاسة.

 

وكذلك كل مال صادفتَهُ في يد رجل مجهول عندك حاله.. فلك أن تشتري منه، وتأكل من ضيافته؛ تحسيناً للظن بالمسلم، فإن الأصل أن ما في يده فهو حلال، وما تصادفه في يد رجل عرفته بالصلاح.. فهو أولى بأن تعتقده حلالاً". 

 

نعم؛ يجب الحذر مما تصادفه في يد سلطان ظالم، أو في يد رجل عرفته بالربا أو بيع الخمر؛ فيجب الحذر منه حتى تسأل وتستقصي، وتعرف أنه من أين حصل له ذلك؛ فإن ظهر لك جهة حصوله وأنه حلال.. فلك أخذه، وإلا.. فالاعتماد على العلامة الظاهرة وهي قرينة حاله.

 

وهذا إذا كان أكثر أمواله حراماً، فإن كان أكثرها حلالاً.. فلك أن تأكل منه، وإن تركته.. فذلك ورع؛ فقد كتب بعض وكلاء ابن المبارك -رحمه الله- من البصرة إليه يسأله عن معاملة رجل يعامل السلطان، فقال: (إن كان لا يعامل غير السلطان.. فلا تعامله، وإن كان يعامل غيره أيضاً.. فعامله).

 

وبالجملة، الناس في حقك ستة أقسام:

  • أحدها: أن يكون مجهولاً؛ فكل من ماله، والحذر ليس بواجب، بل هو محض الورع.
  • الثاني: أن تعرفه بالصلاح والخير؛ فكُل منه ولا تتورَّع؛ فالورع فيه وسوسة، فإن أدى إلى الإيذاء والإيحاش.. فهو معصية وحرام؛ لما فيه من الإيذاء، ولما فيه من سوء الظن بالرجل الصالح.
  • الثالث: أن تعرفه بالظلم والربا، حتى علمتَ أن كل ماله أو أكثره حرام؛ كالسلاطين الظلمة وغيرهم، فمالهم حرام.
  • الرابع: أن تعرف أن أكثر أمواله حلال ولكن لا يخلو عن حرام، كرجل له تجارة ومواريث، وهو مع ذلك في عمل السلطان، فلك الأخذ بالأغلب، لكن الترك من الورع المهم".

 

هكذا يتحدث عن الأموال المشتبهة وحكمها، قال لا طريقة إلى التشديد عن النفس وتقول إن الدنيا كلها أموالها اختلطت واخْتبطت فهي حرام، والربا من كذا والمعاملات من كذا والغش من كذا والنهب من كذا، فالمال كله في الدنيا حرام؛ أوه بعدين؟! قال: نكتفي بالحشيش مثل البرسيم والقضب، هذا الذي تأكله الحيوانات، تكتفي بها، قال هذا خلاص بنتغدى عليها هذه.

قال: فما الحل؟ 

"وقد أخبثتها الأيدي العادية والمعاملات الفاسدة، فأقنع بالحشيش مُترهِّباً، أو أتناول من الجميع متوسعاً، لا أفصل فيه بين حلالٍ وحرام!! -قال لا- بلِ اعلم قطعاً: أن الحلال بيّن، والحرام بيّن".

 

واضح كما ذكر ﷺ، أمور تكون أمام الناس ظاهرٌ شأنها ووضعها لا ينتابها الشك، "وبينهما أمور متشابهات ومشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام".

 

قال كذلك كان في عصر سيدنا رسول الله ﷺ ومن قبله ومن بعده وأبد الدهر، فهناك المرابون وهناك الناهبون وهناك السارقون في العصر النبوي وفيما قبله وفيما بعده موجودون، ولكن ما توضح لك حرمته يجب أن تبتعد عنه، وما توضح لك حله فتأخذ منه، وما أشكل عليك فتوقف فيه. 

 

قال: "فاستمد من السر الذي ذكرناه، فإنك غير مُتعبَّد بما هو في نفسه حلال، بل بما هو في اعتقادك حلال لا تعرف سبباً ظاهراً في تحريمه". وأشار إلى: "توضأ سيدنا رسول الله ﷺ من مزادة مشركة -ويحتمل أن يكون الماء متنجساً، ولكن هذا الاحتمال لم يبالِ به ﷺ-، وتوضأ سيدنا عمر رضي الله عنه من جرة -إناء من الخزف- نصرانية،-أو قربة- ولو عطشوا.. لشربوا منه، وشربُ الماء النجس حرام، ولكن استصحبوا يقين -الأصل- الطهارة -ولم يروا أن هناك علامة واضحة على حصول أو حدوث تنجيس لذلك الماء-  ولم يتركوها لتوهُّم النجاسة".

 

قال: "وكذلك كل مال صادفتَهُ -من المال- في يد رجل مجهول عندك حاله.. فلك أن تشتري منه، وتأكل من ضيافته؛ تحسيناً للظن بالمسلم، فإن الأصل أن ما في يده فهو حلال، وما تصادفه في يد رجل عرفته بالصلاح.. فهو أولى بأن تعتقده حلالاً". 

 

نعم؛ يجب الحذر مما تصادفه في يد -معروف بالظلم من السلاطين- سلطان ظالم، أو في يد رجل عرفته بالربا أو بيع الخمر؛ -فهو واضح عندك- فيجب الحذر منه حتى تسأل و تستقصي، وتعرف أنه من أين حصل له ذلك؛ فإن ظهر لك جهة حصوله وأنه حلال.. فلك أخذه، وإلا.. فالاعتماد على العلامة الظاهرة وهي قرينة حاله". 

تلبسه بالمعاملة الربوية أو بيع الخمور والمسكرات والمخدرات ذا التي يحرص على نشرها أعداء الله بين أوساط المسلمين لفساد مسالكهم وأفكارهم كذلك.

 

"وهذا إذا كان أكثر أمواله حراماً، فإن كان أكثرها حلالاً -وفيه بعض الحرام- .. فلك أن تأكل منه، وإن تركته.. فذلك ورع؛ -وقال عن سيدنا عبدالله بن المبارك أنه- قد كتب بعض وكلاء ابن المبارك -رحمه الله- من البصرة إليه يسأله عن معاملة رجل يعامل السلطان -ما يخلو مال السلطان من شبهة فهل نعامله؟-، فقال: (إن كان لا يعامل غير السلطان -معاملته كلها مع السلطان- .. فلا تعامله، وإن كان يعامل غيره أيضاً.. فعامله).

ففيه أنهم في القرون الأولى كانوا يرون مثل هذا المسلك.

 

قال: "الناس في حقك ستة أقسام:

  • أحدها: أن يكون مجهولاً؛ فكل من ماله، والحذر ليس بواجب، بل هو محض الورع.
  • الثاني: أن تعرفه بالصلاح والخير؛ فكُل منه ولا تتورَّع؛ فالورع فيه وسوسة".

 

تقول الانسان هذا خيِّر نعم ولكن يمكن..أيه يمكن؟! يمكن كذا شي وصل له قال: فالورع عن مثل هذا وسوسة، إنسان معروف بتقواه وتورُّعه عن المحرمات، أيش عادك تبغى؟! قال يمكن حد من أولاده جابه ولَّا شي دون أن يلحظ، هذه وسوسة؛ فأما إن وصلت إلى حد الإيذاء كأن قال: من أين هذا؟ فيه ذا.. آذاه وأوحشه فصار معصية، صار حراماً، لأنه فيه كسر لخاطر المؤمن واتهامه، فيه ظن يظنه من بعيد  يصير مأثوماً بهذا.

 

"فإن أدى إلى الإيذاء والإيحاش.. فهو معصية وحرام؛ لما فيه من الإيذاء، ولما فيه من سوء الظن بالرجل الصالح.

  • الثالث: أن تعرفه بالظلم والربا، -يكون معروف- حتى علمتَ أن كل ماله أو أكثره حرام؛ كالسلاطين الظلمة وغيرهم".

قال فإذًا خلاص هذا أمر واضح بيِّن، من الحرام الواضح، ابتعد منه. 

  • "الرابع: أن تعرف أن أكثر أمواله حلال ولكن لا يخلو عن حرام، كرجل له تجارة -يغش فيها-  ومواريث -أخذه من والده، أو تجارة صحيحة بحلال، ولكن أيضًا-، وهو مع ذلك في عمل السلطان -الظلمة من السلاطين أو غيرهم-، فلك الأخذ بالأغلب، لكن -لايكون- الترك -إلا- من الورع المهم".

فهذه أقسام أربعة، بقي قسمان، نقرأ بسم الله:

 

وقال -رضي الله عنه وعنكم- ونفعنا بعلومه وعلومكم في الدارين آمين:

  • الخامس: أن يكون مجهولاً عندك لكن ترى عليه علامة الظلم كالقباء والقَلَنْسُوة وهيئة الأتراك والظلمة، فهذه علامة ظاهرة توجب الحذر فلا تأكل من ماله إلا بعد التفتيش.
  • السادس: أن ترى عليه علامة الفسق لا علامة الظلم، كطول الشعر وانقسام شعر الرأس قزعاً، أو رأيته يشتم غيره أو ينظر إلى امرأة ليست له بمحرم؛ فإن علمتَ له مالاً موروثاً أو تجارة.. لم يحرم ماله بذلك، وإن كان أمره مجهولاً عندك.. فهذا فيه نظر؛ لأن علامة الفسق أضعف دلالة من علامة الظلم، ولكن الأظهر عندي أنه لا يحرم ماله لأن ظاهر اليد والإسلام يدل على الملك دلالة أظهر من دلالة هذه العلامة على التحريم، وليست هذه الدلالة أقوى من دلالة النصرانية المجوسية على نجاسة الماء ولم يلتفت إليها رسول الله ﷺ ولا عمر رضي الله عنه. 

أما علامة الظلم.. فتضاهي ما إذا رأينا ظبية تبول في ماء، ثم وجدنا الماء متغيراً، وأمكن أن يكون من طول المكث، وأمكن أن يكون من البول، فإنه يجب اجتنابه؛ إحالةً على السبب الظاهر.

 

ثم وراء هذا كله يجب عليه أن يستفتي قلبه، فإذا وجد في قلبه حزازة.. فليجتنبه؛ فالإثم حَوَاز القلوب وحكاكات الصدور. 

ولكن هاهنا دقيقة يغفل عنها أهل الورع؛ وهي أنه حيث يكون الترك من الورع أو من حزازة في النفس.. فلا يجوز الترك أو السؤال بحيث يؤذي، فالمجهول إذا قدم إليك طعاماً فإن سألته: أنه من أين.. استوحش وتأذى، والإيذاء حرام، وسوء الظن حرام، وإن سألت عنه غيره بحيث يدري.. زاد الإيذاء، وإن سألت بحيث لا يدري.. فقد تجسست وأسأت الظن، وبعض الظن إثم، وتساهلت بالغيبة والتهمة، وكل ذلك حرام، وترك الورع ليس بحرام، فليس لك إلا التلطف بالترك.

فإن لم يكن إلا بالإيذاء.. فعليك أن تأكل؛ فإن طيبة قلب المسلم وصيانته عن الأذى أهم من الورع، فإياك أن تكون من القراء المغرورين الذين لا يدركون دقائق الورع.

واعلم أن رسول الله ﷺ أكل من صدقة بريرة ولم يسأل عن المُتصدِّقِ، وكان ﷺ تُحمَلُ إليه الهدايا فيقبل ولا يسأل.

نعم؛ يسألُ في أَوَّلِ قدومه إلى المدينة عمَّا حُمِلَ إِلَيهِ أَنَّهُ هديَّةٌ أو صدقة؛ لأنَّ ذلك ليس فيه إيذاء، ولأنَّ قرينة الحال كانَتْ تقتضي الإمكانَ في الصَّدقة والهدية على وتيرة واحدة.

وكان ﷺ  يُدعى إلى الضيافات فيجيب ولا يسأل، ولم يُنقَلِ السُّؤال إلا نادراً في محل الريبة.

فإن قلت: فإن وقع طعام حرام في سوق .. فهل أشتري مِنْ ذلك السُّوقِ؟

فأقول: إن تحققت أنَّ الحرام هو الأكثر.. فلا تشترِ منهُ إِلَّا بعد التفتيش، وإن علمتَ أنَّ الحرام كثير وليس بالأكثر.. فلك الشراء، والتفتيش مِنَ الورع، ولقد كان رسولُ اللهِ ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم يشترون في أسفارهم مِنَ الأسواق، مع علمهم بأنَّ فيهم أهل الربا والغصب وأهل الغلول في الغنيمة، وكانوا لا يتركون المعاملة معهم.

 

وهذا الباب يستدعي شرحاً طويلاً، فإن رغبتَ فيه.. فطالع (كتاب الحلال والحرام) من كتب (الإحياء)؛ لتشهد عند مطالعته بأنَّه لم يُصنَّف في فنّه مثله في التحقيق والتحصيل، والإحاطة بجميع التفاصيل".

 

يقول: 

  • "الخامس: أن يكون مجهولاً عندك لكن ترى عليه علامة الظلم".

ولكن تبدو عليه علامة من علامات الظلمة؛ بأن يكونوا في ذاك المكان وذاك الزمان لهم أزياء معروفة يُعرَفون بها، الذين يأخذون أموال الناس ويعتدون عليها ويسطون بغير حق، فترى فيه شيئاً من العلامات التي يُعرف بها في ذاك الوقت وذاك الزمان أن هذا من المتصرفين بالظلم، حينئذ هذه علامة ظاهرة توجب الحذر، فلا ينبغي أن تتناول شيئاً منه إلا بعد التفتيش، ولا تعامله بشيء إلا بعد التفتيش. 

  • "السادس: أن ترى عليه علامة الفسق لا علامة الظلم".

ما ترى عليه علامة الظلم لكن ترى عليه علامة فسق، يعني هناك علامة لا تتعلق بأخذ المال من غير حله، لكنها تتعلق بفسق آخر، بأن تراه يغتاب أو تراه يشتم ويسب غيره، أو ينظر إلى النساء الأجنبيات. فمثل هذا قال: "فإن علمتَ له مالاً موروثاً أو تجارة -صحيحة-.. لم يحرم ماله بذلك -ففسقه عليه لأنه لا يتعلق بنفس المال-، وإن كان أمره مجهولاً عندك.. فهذا فيه نظر؛ لأن علامة الفسق أضعف دلالة -على الحرام- من علامة الظلم".

علامة الظلم إذا ظهرت فهي أوضح وأجلى في الدلالة على أنه ممتلك للحرام، بخلاف علامة الفسق التي لا تتعلق بأخذ حق الغير.

 

قال: "ولكن الأظهر عندي أنه لا يحرم ماله لأن ظاهر اليد والإسلام يدل على الملك" -وإن كان عليه علامة فسق في شيء من المعاصي والذنوب التي لا علاقة لها بكسب المال- "ظاهر اليد والإسلام يدل على الملك دلالة أظهر من دلالة هذه العلامة -وهو وجود علامة الفسق عليه ودلالتها- على التحريم، وليست هذه الدلالة أقوى من دلالة النصرانية المجوسية على نجاسة الماء ولم يلتفت إليها رسول الله ﷺ ولا عمر رضي الله عنه. كما سمعنا.

 

أما علامة الظلم - لا؛ تختلف-.. فتضاهي ما إذا رأينا ظبية تبول في ماء، ثم وجدنا الماء متغيراً، وأمكن أن يكون -التغير- من طول المكث، وأمكن أن يكون من البول، فإنه يجب -عليك- اجتنابه -لأنك شاهدتَ الظبية تبول فيه، فترجيح أن يكون التغير بسبب البول أولى، فيجب اجتنابه-؛ إحالةً على السبب الظاهر".

وقال وراء ذلك كله استفتاء القلب كما أشار إليه فيما سبق.

 

قال: "ولكن هاهنا دقيقة يغفل عنها أهل الورع؛ وهي أنه حيث يكون الترك من الورع أو من حزازة في النفس.."

قال لا بُدّ تتربص لهذا، فبعضهم يريد التورع فيريد لنفسه التورُّع فيؤذي الذي بيده ذلك المال أو قدَم له ذلك الطعام، فتَنَجَّز معصية واضحة، لِما في ظنه أنه يتورع.

 

قال: "فلا يجوز الترك أو السؤال بحيث يؤذي، فالمجهول إذا قدم إليك طعاماً فإن سألته: أنه من أين.. -وكيف هذا- استوحش وتأذى، والإيذاء حرام، وسوء الظن حرام، وإن سألت عنه غيره بحيث يدري.. -ثم يطلع على ذلك- زاد الإيذاء -أكثر-، وإن سألت -عنه غيره- بحيث لا يدري.. -ففيه شيء من التجسس وإساءة الظن- فقد تجسست وأسأت الظن، وبعض الظن إثم، وتساهلت بالغيبة والتهمة، وكل ذلك حرام، وترك الورع ليس بحرام، فليس لك إلا التلطف بالترك" لا أن تسأل ولا أن يؤدي الترك إلى إيذاء.

 

قال: "فإن لم يكن إلا بالإيذاء.. فعليك أن تأكل؛ فإن طيبة قلب المسلم وصيانته عن الأذى أهم من الورع -فخُذ الميزان-، فإياك أن تكون من القراء المغرورين الذين لا يدركون دقائق الورع".

 

وانظر إلى سيرة المصطفى محمد ﷺ، أورع الخلق وأطهرهم، أكل من صدقة بريرة؛ بريرة: مملوكة كانت لهم، وقد يُتَصدَّق عليها، ثم تهديه للنبي ﷺ، وهو محرم عليه أكل الصدقة ومباح له أكل الهدية. 

 

قال: وأول قدومه للمدينة كان إذا قُدِّم إليه شيء يسأل: هل هو صدقة أو هدية؟ لكن قال: لأن هذا ما فيه أذى، ما فيه أذى على المسؤول أن تسأله هذا صدقة أو هدية، ما فيه تهمة له، ما فيه تهمة ولا نسبة له إلى الحرام؛ لكن أن تسأله من أين جئت بهذا؟ من حلال أم حرام؟ هذا فيه أذى وفيه تهمة، أما أن تسأله هل هو بنية الصدقة أم بنية الهدية؟ ما اتهمته بشيء ولا اتهمته بشبهة ولا بحرام؛ فكان يسأل لأنه محرم عليه أكل الصدقة، فإن قيل إنه صدقة أعطاه أصحابه ولم يمس منه شيء، وإن قيل إنه هدية تناول معهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

 

وهكذا جاءوا مرة إلى الغداء وقدموا له خبزًا فقال: إني رأيتكم تطبخون لحمًا، قالوا: إنما هو تُصدق على بريرة؛ قال: بريرة أهْدته لنا؟ قالوا نعم؛ قال: "هو لَها صَدَقَةٌ ولَنا هَدِيَّةٌ"، هو لها صدقة ولكن لمَّا قدمته ما جابته بنية التصدق علينا؛ جاءت به بنية الهدية؛ "هو لَها صَدَقَةٌ ولَنا هَدِيَّةٌ" -صلى الله عليه وعلى ىاله وصحبه وسلم-.

 

قال: "وكان ﷺ  يُدعى إلى الضيافات فيجيب ولا يسأل، ولم يُنقَلِ السُّؤال إلا نادراً في محل الريبة.

"فإن قلت: فإن وقع طعام حرام في سو -عرفتَ أن هذا السوق دخلوا له نهب من المكان الفلاني ويبيعونه فيه، وما تدري هو عند ذا أو عند ذا أو فين- .. "فهل أشتري مِنْ ذلك السُّوقِ؟"

"فأقول: إن تحققت أنَّ الحرام هو الأكثر.. فلا تشترِ منهُ إِلَّا بعد التفتيش، وإن علمتَ أنَّ الحرام كثير وليس بالأكثر.. فلك الشراء، والتفتيش -حينئذٍ- مِنَ الورع، ولقد كان رسولُ اللهِ ﷺ وأصحابه -رضي الله عنهم- يشترون في أسفارهم مِنَ الأسواق، مع علمهم بأنَّ فيهم أهل الربا والغصب وأهل الغلول في الغنيمة، وكانوا لا يتركون المعاملة معهم".

يعني: عامة أهل الأسواق مما لا يعلمون فيه بعينه شيئاً من الشبهة ولا الحرام.

قال: "وفي هذا شرح طويل وقد بيّنه في كتاب (الحلال والحرام) من (إحياء علوم الدين)"، وقد تعجب كثير من العلماء من كتابه الحلال والحرام من الإحياء، وعَدُّوه آية من الآيات، وأنه لم يُؤَلَّف في الإسلام مثله؛ نعم الإحياء على العموم وهذا الكتاب على الخصوص، (كتاب الحلال والحرام) من إحياء علوم الدين.

 

أحيا الله الدين لنا وفينا وبنا، وجعلنا من الهداة المهتدين الذين يحسنون المعاملة مع الإله، ومع خلقه من أجله وقصد وجهه الكريم، ثبتنا على الصراط المستقيم وأجارنا من الخزي والعذاب الأليم، ومن كل مكروه وسوء في الدنيا والآخرة، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

ويفرج كروبنا وكروب المسلمين، ورقّانا أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، في لطف وعافية وتمكين مكين. 

بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ

 إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ 

الْفَاتِحَة

تاريخ النشر الهجري

25 صفَر 1447

تاريخ النشر الميلادي

19 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام