(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: باب فضل سماع الحديث وتبليغه ونسخه، وفضل مجالسة العلماء وإكرامهم وإجلالهم وتوقيرهم
السبت 23 شوال 1444هـ
- أسس حياة الدين وحفظه
- أهمية فهم العلم بدقة
- ما فُقد من الحديث النبوي
- جمع الحديث وما تميز به البخاري
- تثبت الصحابة في نقل حديثه ﷺ
- علامة صحة الحديث: موافقته مع دلالة القرآن، وفهم أرباب العلم الأصفياء
- مراحل خلافة الحُكم بعد النبي ﷺ
- قيام خلافة الباطن والعلم والسلوك إلى آخر الزمان
- نقل الحديث بالمعنى
- فائدة كتابة الصلاة على النبي في كتاب
- مَن أشد الناس على الأنبياء والعلماء؟
- من هم خير الجلساء؟
- سبب للظلمة في الأمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبسندكم المتصل إلى الإمام أبي المواهب سيدي عبدالوهاب الشعراني في كتابه: (كشف الغمة عن جميع الأمة)، إلى أن قال رضي الله تعالى عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين..
باب ما جاء في فضل سماع الحديث وتبليغه ونسخه وفضل مجالسة العلماء وإكرامهم وإجلالهم وتوقيرهم
كان ابن مسعود يقول : سمعت رسول الله ﷺ يقول: "نضر الله امرأ سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فربَّ مبلغ أوعى من سامع" ومعنى نضر الله: جمله وزينه.
وفي رواية: "نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه".
وفي رواية: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها، وبلغها من لم يسمعها فربَّ حامل فقه لا فقه له".
وكان ﷺ يقول : "اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم" .
وفي رواية: "ألا إن رحى الإسلام دائرة، فقيل: كيف نصنع يا رسول الله؟ فقال: اعرضوا حديثي على القرآن فما وافقه فهو مني وأنا قلته".
وفي رواية أخرى: "إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه بعيد منكم فأنا أبعدكم منه".
وكان ﷺ يقول: "اللهم ارحم خلفائي، قال ابن عباس: من خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي ويعلمونها الناس".
وكان واثلة بن الأسقع يقول: " لا بأس بالحديث قدمت فيه أو أخرت إذا أصبت معناه".
وكان يقول: "ما من عالم يخرج في طلب العلم مخافة أن يموت ذلك العلم، أو ينتسخه مخافة أن يدرس إلا كان كالغازي في سبيل الله ".
وكان ﷺ يقول : "من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب".
وكان ﷺ يقول: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
وكان ﷺ يقول: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال: مجالس العلم".
وكانﷺ يقول : "أزهد الناس في الأنبياء وأشدهم عليهم الأقربون، وأزهد الناس في العلماء أهلهم وجيرانهم".
وكان ﷺ يقول: "قال لقمان لابنه: يا بني عليك بمجالسة العلماء، واسمع كلام الحكماء فإن الله تعالى ليحيي القلب الميت بنور الحكمة كما الأرض الميتة بوابل المطر".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "قيل: يا رسول الله أي جلساتنا خير؟ قال: من ذكركم الله رؤيته وزاد في علمكم منطقه، وذكركم بالآخرة عمله".
الحمد لله مكرمنا بشريعته وما أنزل على خير بريته صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وعلى أهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الله وصفوته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد: يذكر لنا في هذا الباب سيدنا الشيخ الشعراني عليه رحمة الله ما جاء في فضل سماع الحديث وتبليغه ونسخه، وفضل مجالسة العلماء وإكرامهم وإجلالهم وتوقيرهم، كل ذلك الذي أشار إليه أسسٌ من الأسس التي يتم بها حياة الدين وصيانته وتقويته ونشره، وحفظ حرمته وحفظ مكانته وحفظ بيضته، فهي أساسياتٌ يجب أن تكون بين المؤمنين قوية وقائمة؛ قائمة وقوية.
يقول: فابتدأ بذكر حديث ابن مسعود،وقد جاء هذا الحديث في عدد من الروايات كثيرة عن عدد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، منهم سيدنا ابن مسعود وسيدنا علي وسيدنا عبد الله بن عباس، وعدد كثير من الصحابة آخرين رووا هذا الحديث الذي يدعو فيه ﷺ لمستمعِ المقالة منه والحديث منه وشيء منه، ثم يعتنون بحفظه ووعيه ثم تبليغه ونشره، ويقول: "نضَّرَ الله…" -يعني جعل النضرة أي: البهاء والجمال والبهجة في وجه من سمع منه ﷺ شيئًا- في رواية شيئًا في رواية حديثًا في رواية كلامًا- "نضّر الله امرأً…" أي: شخصا "...سمع منّا شيئًا فبلّغه كما سمعه فرُبَّ مبلغٍ أوعى من سامع"، ربّ مبلغ يبلغه الكلام مني فيكون أوعى له، يعني: أكثر وعيًا ودقة فهم في دلالاته ومعانيه وإرشاداته أكثر من الذي حمله وبلغه إياه، "فرب مبلغ أوعى من سامع"، وجاء أيضًا في رواية أنه قال هذا الحديث في خطبته في الخيف من منى، ومعنى ذلك أنه يكون في حجة الوداع، وحفظوا عنه ﷺ ذلك، وربما تكرر قوله لذلك، فقد سمعت كثرة من رواه من الصحابة، وتنوّع الروايات في الدعاء "بنضّر الله" كما جاء في أكثر الروايات وفي بعض الروايات رحم الله، وفي أكثر الروايات نضّر الله.
قال معنى نضّر: جمّله وزيّنه، وفي بعض الأحاديث وجه، وأكثرها امرأً سمع وقال: "...فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه"، قال: عبّر بالفقه دون العلم لأن العلم يشترك فيه الحامل والمبلّغ، ولكن دقة الفهم والغوص على المعاني هو الفقه، والذي قد يكون عنده وحده، أما الحامل نفسه ما يخلو عن علمه يبلغه من بعده، يقول: "...فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"، ويحمل الفقه لا ينتهي فهمه إلى دقائق معانيه ولكن من بعده ومن يأخذه منه يفهمون فيه الدقائق.
"نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه لا فقه له"، وهكذا شأن الاعتناء ببلاغ حديث رسول الله ﷺ وما بلّغ وما علّم وما هدى وما أرشد وما بيّن وما نبّه وما حذّر وما أنذر وما بشّر ﷺ، فإنا بوعي ذلك وبفهمهِ وبنشره قوام الدين؛ يقوم الدين بذلك فهو المصدر للإسلام والإيمان والإحسان، وما ينتج عن ذلك، وما يوصَل به بسبب ذلك، والدين كله منبعه ومصدره في عالم الخلق رسول الله محمد ﷺ رزقنا الله تعظيم حديثه وحسن اتباعه.
وقد كتب سيدنا عمر بن عبد العزيز عليه رضوان الله تبارك وتعالى يأمر بجمع الحديث، فلما خاف دروس العلم وانقطاعه كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وقال: انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ أو سنته، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله، فكان من أسباب حفظ الحديث، وابتدأت الكتابة وما كان بين ساداتنا الصحابة والتابعين إلا الحفظ والتلقي المباشر وقليل ما كتبوا، ثم هيَّأَ الله سبحانه وتعالى من يكتب في خدمة السنة لتحفظ؛ ومع ذلك فالذي كُتب في القرون الأولى كثير منه تعرّض للفقد والضياع، ومنه ما ألقاه التتار في نهر دجلة والفرات، حتى صار ماء دجلة والفرات أسود، من مداد الكتب التي ألقوها فيه، ومنها أيضا ما هو موجود مخطوط ما يوجد إلا في بعض الخزائن عند أفراد من الناس، وبعضها قد صارت بأيدي بعض الهيئات تبع دول الكفر معهم بعض ما أخذوه من كتب المسلمين، ويجعلونه في أماكن مخصوصة، ومنه ما لا يسمحون بالاطلاع عليها أوبقرائته إلى غير ذلك، ومع ذلك كله فما أبقى الله تعالى لنا محفوظًا ومنتشرًا، كاف في حسن الفهم لوحي الله وبيان شؤون القرآن وما خاطبنا الله تعالى به من أمر ونهي، فالحمد لله الذي تكفل بحفظ القرآن وبيانه، والله يوفر حظنا من بلاغ رسول الله ﷺ وحديثه وما شرح وبيَّنه وجعلنا ممن يحفظ ذلك ويعيه ويقوم بحقه ويعمل به ويبلغه وينشره.
يقول، فظهر جماعة من هؤلاء الذين يكتبون مثل: الربيع بن سعيد والربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة مثل: سيدنا الإمام مالك في المدينة المنورة وكتَبَ الموطأ وغيره، مثل عبد الملك بن جريج في مكة المكرمة، وعبد الرحمن الأوزاعي في الشام، وسفيان الثوري في الكوفة، وحماد بن سلمة في البصرة، وتلاهم كثير من الأئمة، وأوّل من اعتنى بإفراد الغاية في الصحة في السند الإمام البخاري عليه رحمة الله تبارك وتعالى، وانتخب صحيحه هذا من ستمائة ألف حديث، أحكم حفظها برواياتها بأسانيدها ومعرفة أخبار كل فرد وشخص في السند عليه رضوان الله تبارك وتعالى وهيأه الله وخصه بخير كثير، وكان من أقوى أسباب ما جعله الله تعالى باباً لحفظ السنة؛ وأن ينتشر علمه وصحيحه في الأمة قوة إخلاصه وقوة محبته لله ولرسوله ولأهل بيته ولصحابته وللصالحين عليه رضوان الله تبارك وتعالى، فرب كان في الأمة من يقاربه ويماثله في حفظ وجمع، ولكن بهذه الميزات اختاره الله تعالى ليكون على يده تبليغ هذا الكم من الحديث الشريف ومن صحيح الحديث الشريف.
يقول: وكان ﷺ يقول: "اتقوا الحديث عني إلّا ما علمتم" أي: لا تستهينوا بنسبة المقال إليّ، وإذا أردتم أن تحدّثوا عني فانظروا ما تيقّنتم، ما علمتم وعلمتم أني قلته، ولذا كان عدد من أصحابه نفسهم الذين جالسوه وسمعوه على مدار سنوات كثيرًا من الأحاديث التي سمعها يبلغ معناها من دون ما ينسب ولا يقول قال رسول الله ﷺ، وإذا أراد أن يروي عنه استجمع ولم يروي إلا ما أيقن خروج كلماته من فِيهِ وتذكره لها ويبلغ بعد ذلك، ويقولوا لهم: إذا قلت لكم قال رسول الله فلأن تقع علي الجبال أحبّ إليّ من أن أزيد حرفًا أو أنقص حرفًا، فبذلك حُفظت لنا السنة المطهرة، رزقنا الله تعظيمها والعمل بها.
"اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم.." لأن النبي ﷺ يقول: "إنّ كذبا عليّ ليس ككذبٍ على أحد ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار
وهكذا يقول: "لا تكذبوا علي فإنه من يكذب عليّ يلج النار" ، "من تعمّد عليّ كذب فليتبوأ مقعده من النار" ، "إن كذبًا عليّ ليس ككذب على أحد فمن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، يعني: يستعد لدخول النار والعياذ بالله تبارك وتعالى، وكل من كذب عمدًا فسق والعياذ بالله، وردّت رواياته كلها وبطل الاحتجاج به وبجميعها حتى يتوب وتحسن توبته، ومع ذلك بالغ بعضهم قال: ولو ظهرت عليه آثار التوبة بعد ذلك وعلمنا رجوعه وصدقه لم نقبل منه، وقال الأكثرون: إذا صحت توبته وإنابته فإنه يقبل منه ما ذكر بعد ذلك. لا إله إلا الله
يقول: "ألا إن رحا الإسلام دائرة …" أي: يقوم وينتشر ويتسع في الآفاق- "...فقيل: كيف نصنع يا رسول الله؟ فقال: اعرضوا حديثي على القرآن فما وافقه فهو مني وأنا قلته" يعني: تتسع دائرة الإسلام وتعظم ويروى عني كلام كثير ويتجرأ بعضهم عليّ؛ فينسب إليّ ما لم أقله. قالوا كيف نصنع؟ فذكر لهم علامة من أقوى العلامات، قال: اعرضوا ما بلغكم عني على القرآن الكريم فإنّه مبيّنُهُ ﷺ، وهو المأمون على تبليغه وعلى بيانه للأمة، فلا بد أن يكون حديثه مطابقًا للقرآن موافقًا للقرآن متفقًا مع ما دلّ عليه القرآن الكريم.
ولهذا قلنا لهم فيما يخوضون فيه على سبيل الهوى، وداخلتهم فيه أنواع الإيرادات الدنيوية والسياسية وما إلى ذلك، قلنا: عامة هذه الروايات ما وافق منها كتاب الله جل جلاله وما كان متطابقًا مع دلالة القرآن فعلى العين والرأس ونقبله ما عدا ذلك لا تشغلونا ولا تشغلوا الأمة من شأن أغراضكم الفاسدة بها ولا تجعلوها فتنة لخلق الله سبحانه وتعالى، وهكذا
حدّثنا القرآن عن رسوله، وحدّثنا عن أصحاب رسوله، فما وافق دلالة القرآن أحقُّ بالقبول، وفيه هذا النص "اعرضوا حديثي عن القرآن فما وافقه فهو منّي وأنا قلته" فهذه إحدى العلامات ثم بعد ذلك، وذكر علامة أخرى وهي قبول قلوب أرباب الفقه والنور والصلاح والصفاء، فإن قلوبهم ما تقبل إلا ما كان حقًا خالصًا، ولهذا يقول: "إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم تلين له أشعاركم وأبشاركم…" كما هو في القرآن (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ) [سورة الزمر:23] "وترون أنه منكم…" أي: من وعيكم وفهمكم وما وقر في قلوبكم من حقائق الإسلام والإيمان قريب فأنا أولاكم به، "وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم…" شوف فيه كلام ما يتطابق مع عظمة هذا الوحي وشريف هدي هذا المصطفى ﷺ، "وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه بعيد منكم…"، أي: بعيد من ما فهمتم من حقائق الإسلام والإيمان وكلام الله تبارك وتعالى، "...فأنا أبعدكم عنه" ﷺ "أبعدكم منه"، ما أقول شيء مثل هذا، فذكر هؤلاء علامة أخرى، ولكن هذا خاصة بأرباب العلم والمعرفة من الأصفياء الصادقين.
وهكذا وقد كان أحمد بن المبارك تلميذ الشيخ عبد العزيز الدباغ يعرض عليه الأحاديث يسأله عنها، وكان يجيبه وكان بعض الكلام يقشعر منه يشمئز! ويقول له: ما خرج هذا من فم رسول الله ﷺ. ولما سألوه كيف تفرق؟ قال: ما يخفى اللفظ الذي خرج من بين شفته بنورانيته وزيادة نوره على غيره ما يخفى من اللفظ الآخر. وهكذا فالعجيب أن أكثر ما عرضوا عليه من الأحاديث طابق ما يقوله وهو أمي عارف، ولكنه طابق ما يقول ما انتهى إليه علماء الجرح والتعديل، يكون مطابق سبحان الله! وفي أكثر ما سئل عنه وهكذا.
ثم يبين لنا ﷺ المكانة والرفعة والدرجة لمن اعتنى بسنته وأحاديثه، وقام بحسن وعيها والعمل بها ونشرها وتعليمها وسماهم خلفائه ﷺ، قال: "اللهم ارحم خلفائي…" وهكذا، وجاء في الحديث أنه كرره ثلاثا "اللهم ارحم خلفائي، اللهم ارحم خلفائي، اللهم ارحم خلفائي" من خلفائك يا رسول الله؟ "الذين يأتون من بعدي يروون حديثي ويعلمونها الناس" في الرواية الثانية "يأتون من بعدي ويعلمون أحاديثي وسنتي ويعلمونها عباد الله".
سمعت هؤلاء خلفاءؤه عليه الصلاة والسلام، وفيه بقاء خلافته في الأمة، كما قال: "يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"، بخلاف خلافة الحكم فإنها تنقطع، وقال عنه: "الخلافة بعدي ثلاثون عامًا" هذه خلافة الحكم، والسلطان المربوط بالحقائق القرآن والسنة الذي يتفق فيها الظاهر مع الباطن والحس مع المعنى، هذه الخلافة المتصلة بأيامه ما هي إلا ثلاثون عام، اختتمت في ربيع الأول من عام الحادي والأربعين، يوم سلَّمَ الحسن الخلافة لمعاوية كملت الثلاثون العام، ودخلت الأمة في مرحلة الملك العضود، فكان الملك العضود من ذاك اليوم، ثم انتقلت إلى مرحلة الجبرية ولنا فيها مدة طويلة، فصارت الجبرية القائمة عليها الآن شأن الدول، وإن تسمو باسم شورى في بعض الأحيان وإن تسمو باسم الديمقراطية وغيرها، فالأمر الدائر الواقع جبرية كما وصف خير البرية ﷺ يقوم فيها الأمر ولا تزالون كذلك حتى تأتي ما ذكره بعدها من المرحلة بعدها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، هذا فيما يتعلق بخلافة الحكم. أما خلافة العلم والخلق والعمل والسر والإستقامة والوعي عن الله ورسوله فهذه الخلافة قائمة مستمرة في الأمة ما تنتزع ولا تبعد "اللهم ارحم خلفائي" وبهم يقوم قوام الدين في فئات الأمة وفي أصقاع الأرض، وفيهم من قال عنهم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من ناواهم لا يضرهم من خالفهم، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون" فهذه خلافة مستمرة قائمة دائمة إلى آخر الزمان، وإليها أشار القرآن بقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور: ٥] فذكر أنهم في هذه الأمة يبنون شؤونهم على ركيزة الإيمان والعمل الصالح، يتعرضون لبعض التخويف وبعض الفتن ويكشفها الحق عنهم، ويجلوها (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) [النور: ٥٥]، وهذا وصفهم: (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: ٥٥] والعياذ بالله تبارك وتعالى،
فإذًا لا يزال في الأمة أمر هذه الخلافة الباطنة العلمية السلوكية العبادية قائم، وفي شأن ما يتعلق بالإمارات قال ﷺ: "سيكون منكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون، أفلا نناجزهم يا رسول الله؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة".
يقول: واثلة بن الأسقع يذكر ما عليه عامة العلماء من جواز رواية حديثه ﷺ بمعناه، وقد كانوا يحتاطون حتى الذين يروونه بلفظه فيخشى أن يكون كلمة تقدمت أو تأخرت، أو جاءت بمعنى فيقول: أو كما قال، أو هذا معناه يقولون، ولكن هذا ليس على إطلاق يجوز رواية الحديث بالمعنى، بخلاف القرآن ما يجوز قراءته بالمعنى، والحديث يجوز قراءة روايته بالمعنى لمن كان واعيًا فاهمًا من أهل العلم واللسان، عنده فقه و عنده معرفة في اللغة، يعرف تصاريف اللغة حتى لا يأتي بكلام ينقض يخالف المعنى وينقض، فمن كان كذلك ووعى الحديث فأداه بمعناه وهو من أهل اللسان والعُرف والمعرفة، فيجوز له ذلك. وهو ما قال واثلة بن الأسقع: "لا بأس بالحديث قدمت فيه أو أخرت إذا أصبت معناه" أي: أديت المقصود منه ولم تزد. وفي بعض الروايات "سمع منا مقالةً ولم يزد فيها بلغ ولم يزد فيها" لا زيد شيء ولا نقص.
وكان ﷺ يقول: "ما من عالمٍ يخرج في طلب العلم مخافة أن يموت ذلك العلم، أو ينتسخه يكتبه مخافة أن يدرس إلا كان كالغازي في سبيل الله"، فذاك يذب عن دين الله تبارك وتعالى ويرد كيد الكفار، وهذا يذب عن دين الله تعالى ويحفظ على الناس علمَ دينهم وشريعتهم. الله لا إله إلا الله
وكان يقول ﷺ: "من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب" ﷺ وجاء عند الطبراني وروي من كلام سيدنا جعفر بن محمد وهو مما لا يقال بالرأي، ففيه فضل كتابة الصلاة على النبي ﷺ، وأنه إذا ذكر النبي ﷺ فكتب الصلاة عليه في كتاب فالملائكة تستغفر لهذا الكاتب ما دام اسم النبي محمد موجود في ذلك الكتاب.
وكان ﷺ يقول لهذا يقول: "لا تكتب بخطك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه"، فالقلم أحد اللسانين، فاحذر أن تكتب ما يضرك وتكتب ما يكون حسرة وندامة عليك يوم القيامة واكتب ما يسرك.
وكان يقول ﷺ: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" ويقول ﷺ: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا يا رسول الله: وما رياض الجنة؟ قال: مجالس العلم" وفي رواية "حلق الذكر" وكذلك فسماها رياض الجنة، اللهم اجعلنا من أهل جنتك.
"أزهد الناس في الأنبياء وأشدُّهُم عليهم الأقربون…" كما كان من مثل أبي لهب بالنسبة له ﷺ، وكما كان من عم سيدنا إبراهيم سيدنا إبراهيم (أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم: ٤٦]، فيكونون أقاربهم في الغالب أزهد الناس فيهم، وأشدهم عليهم والعياذ بالله تبارك وتعالى، إلا من سبقت له السعادة، فهؤلاء أعمامه وصل عددهم إلى إثني عشر ولكن لم يسلم منهم إلا سيدنا حمزة والعباس، واختلفوا في أبي طالب والبقية باقي تسعة ما أحد منهم أسلم لأن بعضهم ماتوا قبل الإسلام وهكذا. كما أسلم من عماته صفية وعاتكة وأروى ﷺ. "أزهد الناس في الأنبياء وأشدهم عليهم الأقربون، وأزهد الناس في العلماء أهلهم وجيرانهم"، لأنهم ينظرون بشرياتهم وما يرقبون خصوصياتهم، ويرونهم مثلهم عاديين، فما يعظمونهم ولا يلتفتون إليهم وهذا على الغالب، ويكون غير ذلك سواء في أقارب الأنبياء أو أقارب العلماء والأولياء والصالحين، قد يكون غير ذلك وإن كان يندر والأكثر والغالب أن القريب والجار ما يلتفت إليه ولا يقدر ولا يحترم ولا يعظم، فيفوز باقتباس أنوارهم والارتقاء بسلالم معارفهم وعلومهم إلى العلى ناس بعيدين من أماكن بعيدة. لا إله إلا الله
وكم كان في مكة من محروم وهو يعرفه ﷺ من قبل النبوة وبعدها ويجيء هذا اسمه من الحبشة كسيدنا بلال وغيره ويرتقي به المراقي العلية وينتفع به، وهذاك محروم -لا إله إلا الله-. اللهم وفر حظنا من أنبيائك و أوليائك ولا تحرمنا بركة نبي ولا بركة ولي ولا بركة عالم ولا بركة عارف ولا بركة صالح برحمتك يا أرحم الراحمين.
لهذا قالوا: أول ما يحرم بركة الولي أهل بيته وقرابته وجيرانه، يعني: أن يكثر فيهم من لا يكترث به ولا يشاهد ويشهد خصوصيته فيحرم بركته.
وقد كان يقول من يقول من المشركين ابن أبي كبشة يتيم أبي طالب عن النبي ﷺ ويحتقرونه، وكانت أمه قبيح زوجة أبي لهب تقول: مذمم مذمم وتسب، قال ﷺ: "صرفها الله عن اسمي جابت اسم ثاني ما هو اسمي أنا إلا اسمي محمد وهي تسب مذمم ما أنا مذمم" ﷺ
ويقول: قال لقمان لابنه: "يا بني عليك بمجالسة العلماء، واسمع كلام الحكماء، فإن الله تعالى ليحيي القلب الميت بنور الحكمة، كما يحيي الأرض الميته بوابل المطر" في لفظ "جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك".
وذكر ابن عباس سؤال النبي ﷺ "أي جلسائنا خير؟ قال: من ذكركم الله رؤيته…" إذا رأيتموه ذكرتم الله. كما سئل مرة عن أولياء الله من هم؟ قال: "الذين إذا رؤوا ذكر الله" لما تشوفوا تحس ذكر ربك في قلبك من رؤية هذا الإنسان -لا إله إلا الله- "...من ذكركم الله رؤيته وزاد في علمكم منطقه…"، إذا تكلم ازددتم علما نافعا أي: نورًا وخشية في قلوبكم، "...وذكركم بالآخرة عمله" إذا رأيتم عمله ذكرتم المصير والاستعداد للعاقبة والآخرة -لا إله إلا الله- هؤلاء خير الجلساء.
قال سيدنا الحبيب علي:
هم العلماء العارفون الذين في *** مجالسهم للمرء أعظم إسعاد
وإياكم من صحبة الضد *** إنني رأيت فساد المرء صحبة أضداد
ففي صحبة الأضداد كل رذيلة *** تؤدي إلى ضر وبغي وإفساد
وفي صحبة الأخيار كل غنيمة *** وفوز وربح ليس يحصيهِ تعداد
هم العلماء العارفون الذين في *** مجالسهم للمرء أعظم إسعاد
في مجالسهم للمرء أعظم ما قال: في مجالسهم للمرء إسعاد قال: في مجالسهم للمرء أعظم إسعاد، أعظم الإسعاد في مجالستهم من جالس أهل النور بالحرمة وتصحيح الأدب يرقى مراقيهم ويعطى من إلهه ما أحب.
ح ويقول في أبيات له:
أفيدك أنني جالست قومًا *** حدوني بالمقالِ وبالفعال
رجالاً ما رأيت لهم مثيلاً *** يزعزع حدوُهُم صم الجبال
فحرك حدوهم قلبي فأبدى *** غراماً منه في حب الجمال
لا إله إلا الله!
وقد كان يقولون: من لم يجالس مفلحاً كيف يفلح؟ ومن جالس مفلحاً أي: بالمودة والمحبة والتعظيم كيف لا يفلح؟ والمرء من جليسه "المرء على دين خليله"، وبذلك ترى أن الضر والغش الذي وقع في الأمة انقطاعهم عن مجالسة المقربين والأخيار من في زمنهم ومن مضى من خلال كتبهم ومناقبهم، وابتلاؤهم بصحبة أراذل فساق بعيدين عن الحق، ظلمة ملأت قلوبهم وبدت حتى على وجوههم، وهم يقرؤون كلامهم وينظرون صورهم ويأخذون برامجهم غشوا أنفسهم والعياذ بالله تعالى فوقعوا في انقطاع كبير عن الله تعالى وسارت الظلمة إلى بواطنهم.
الله يحيي فينا مجالسة الأخيار ويلحقنا بالأخيار، ويجعلنا من الهداة المهتدين الصادقين الموفقين، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد
23 شوّال 1444