(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: باب الاعتصام بالكتاب والسنة
الثلاثاء: 24 ذو القعدة 1444هـ
"باب الاعتصام بالكتاب والسنة"
"كان رسول الله ﷺ يقول: "السُنّة سُنّتان؛ سُنّةٌ في فريضة وسُنّةٌ في غير فريضة فالسُنّة التي في الفريضة أصلها في كتاب الله أخذها هدى وتركها ضلالة، والسُنّة التي ليس أصلها في كتاب الله الأخذ بها فضيلة وتركها ليس بخطيئة"،
وكان ﷺ يقول: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ، وأحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما".
وكان ﷺ يعهد إلى أصحابه كثيراً ويوصيهم بتقوى الله، والسمع والطاعة لولاة الأمور وإن كان عبداً حبشياً ويقول: "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة".
وكان ﷺ يقول: إن الله فرض فرائض وفرضتُ فرائض، وكان ﷺ يقول: "ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عني فلا يعمل به ويقول بيننا وبينكم کتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإنما حرّم رسول الله ﷺ كما حرّم الله وإني أوتيت الكتاب ومثله معه". وكان ﷺ يقول: "ما أحلّ الله تعالى في كتابه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئًا"."
اللهم صلِّ أفضل صلواتك على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، عدد معلوماتك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون (3 مرات)
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة الغراء، وبيانها على لسان رسوله خير الورى سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وآهل بيته الذين حازوا به طهرا، وأصحابه الذين نالوا به قدرا، وعلى من تبعهم بإحسان سرًّا وجهرا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في الفضل أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، على الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر الإمام الشعراني -عليه رحمة الله تعالى- في هذا الباب الأحاديث المتعلقة بالاعتصام بالكتاب والسنة والعمل عليهما، والقيام بحقهما، واتباع أمرهما واجتناب ما نَهَيَا عنه، وتحكيمهِما في الفكر والسلوك والمعاملة، وفي ذلك النجاة والفوز بشريفِ الملاقاة لأصفيَاء الله بعد الوفاة، والدخول إلى جنة الله سبحانه وتعالى في علاه. وقد حمل لنا كتاب الله وسنة رسوله نظام الحق للخلق فيما يعتقدون ويقولون ويفعلون ويأتون ويدعون في جميع حركة حياتهم وشؤونهم فيها؛ فهو النظام الربّاني الإلهي الذي يجب على كل مؤمنٍ أن يُقيمه ويقدّمه على كل ما وضع الخلق لأنفسهم من أنظمة ومن قوانين ومن اتجاهات ومن نظرات ومن نظريات وما إلى ذلك، فنِظام الله تبارك وتعالى هو الحق الصريح والنور المبين الذي لا مَعدِل عنه، ولا يجوز تركه لفِكر مفكّرٍ، ولا تجربة مجرّب، ولا شيءٍ ممّا يطرأ على الخلائق في نقصهِم وضعفهم وعجزهم.
نظام الرحمن جل جلاله: ما حمَله إلينا كتابه، وسنة رسوله المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، والفهم فيهما منوطٌ بمسلك صحابته وأهل بيته الطاهرين، والاطّلاع على معانيهما ثمّ العمل بهما والقدوة فيهما من خلّفه فينا من آله وصحابته وخيار أمّته ﷺ. وبالكتاب والسنة قامت حجّيّة القياس والإجماع؛ فصارت أدلّة الأحكام في شريعة الله تبارك وتعالى: الكتاب والسنة والقياس والإجماع.
ويقول في: "باب الاعتصام بالكتاب والسنة"، وابتدأ بحديثٍ يُفرّق فيه ﷺ بين ما كان فرضًا وواجبًا وبين ما كان مندوبًا ومستحبًّا، وهذه هي الأحكام التي يدور عليها نظام الحق تعالى في مسلك خلقه: الواجب والمسنون والمباح والمحرم والمكروه؛ فهذه الخمسة الأحكام وينبثق عنها ما يتعلّق بالصحة والفساد في العبادات والمعاملات. يقول: "كان رسول الله ﷺ يقول: "السُنّة سُنّتان؛.." " معنى: الطريقة والمسلك أي: كل ما تعلّق بالقول أو العمل أو الاعتقاد "السُنّة سُنّتان؛ سُنّةٌ في فريضة" أي: مسلك فَرَضه الحق تبارك وتعالى ورسوله ﷺ وأوجَبَاه، قال: "وسُنّةٌ في غير فريضة"؛ ندبا إليه وأحبّاه ولم يفرضَاه ولم يُوجباه، "فالسُنّة التي في الفريضة أصلها في كتاب الله" تبارك وتعالى، بمعنى: أشار إلى جميع الفرائض التي بيّنها ﷺ.
فما من أمرٍ أوجبَه رسول الله إلا ولهُ أصلٌ في الكتاب المنزّل عليه ﷺ، قال عنها: "أخذُها هدى وتركها ضلالة" أي: لا يجوز تركها بحالٍ لأنه فرضٌ وواجب.
"والسنة التي ليس لها أصلٌ في كتاب الله -تعالى-.." أي: لم تُفرَض ولكن كانت مستحبة ومندوبة "الأخذُ بها فضيلة.." وقُربة إلى الربِّ الذي قال في الحديث القدسي: "وما يزالُ يتقرَّبُ عبدي إليَّ بالنَّوافلِ.." بعد أداء الفرائض "حتَّى أحبَّهُ".
قال: "الأخذ بها فضيلة وتركها ليس بخطيئة"، أي: لا يكتب بذلك ذنب فلا إثم على من ترك المستحبّ والمندوب، ولكن يفوته الثواب، ولكن من ترك الفريضة والواجب هو الذي يحلّ عليه الإثم ويُكتب عليه الخطيئة.
فهذا الحديث الذي جاء عند الطبراني وغيره، جاء لبيان الفرق بين الواجب والسُّنة، بين الفرض والمستحب والمسنون، وإطلاق السُّنة عليهما بمعنى: الطريقة والمسلك؛ فالسُّنة بهذا المعنى هي التي تكون ما بين فرضٍ ومسنون، ثم عموم معنى السُّنة فيما لم يَرِد عن الله وعن رسوله ﷺ أيضًا يأتي فيه المكروه، ويأتي فيه المحرّم، ويأتي فيه المباح، ولكن ما أتى الأمر به ما بين مفروضٍ ومسنون؛ فهذا الذي بيّنه في هذا الحديث عليه الصلاة والسلام.
قال: "السُنّة سُنّتان؛ سُنّةٌ في فريضة.." أي: دخلت في دائرة الواجب المحتّم المكتوب "وسُنّةٌ في غير فريضة" دخلت في الأمر المستحب المندوب المطلوب المتطوَّع به الحَسَن، فهكذا شأن السُّنة التي جاء فيها أمر من الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وأشار إلى أن جميع ما فَرَض أو حرّم فأصله في الكتاب موجودٌ، وكذلك ما أَمَر به ولم يفرضه فيكون فضيلةً يُتقرّب بها إلى الله جلّ جلاله وتعالى في علاه.
ثم ذكر لنا الحديث الآخر الذي تعدّدت رواياته بألفاظٍ متقاربة ومتعدّدة فيما ترك فينا ممّا إذا تمسّكنا به لن تصلنا الضلالة ولا الزيغ ولا الإنحراف ولا الاعوجاج عن الصراط المستقيم وذلك الأمر: كتاب الله وسنة رسوله وعترته، أي: أنه يُبقي في الأمة من أخيار وعلماء العترة الطاهرة من يكون سندًا في الدين وقدوةً في تطبيق الكتاب والسنة يُرى فيهما، كما أنّ الله تعالى بعث الأنبياء فجعل معهم الكتب والميزان وكانوا هم القدوة لأممهم؛ فاحتاج الناس إلى كتابٍ وهَدي وسُنّةٍ وإلى قدوةٍ؛ يقتدون بها ويهتدون في تطبيق ذلك الأمر الربّاني، فكان الأنبياء هم القدوة (..أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ..) [الأنعام:90]، ثم جعل أيضًا في أتباع الأنبياء من يُرجع إليهم في مثل هذه الأمور، وهم أرباب المعارف والعلوم من الأتقياء المقتدين، فجاء نبيّنا خاتم النبيين، فجعل الله تبارك وتعالى في أمّته بقاء هذا الكتاب وحفظه، وحفظ القائمين بحقّه ورأسهم وأوّلهم صلحاء وعلماء وخيار آل بيته المطهّر ﷺ، فتبقى في الأمّة الكتاب والقدوة والأسوة أيضًا موجودة ويقول: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله ، وأحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما". ارزقنا حُسنَ خلافته والقيام بما تُحبّ ويُحب، وما يرضيك ويرضيه عنا يا أكرم الأكرمين.
وتعددت الأحاديث بذلك في صحيح مسلم وفي سنن الترمذي وعند الحاكم وغيره، فمنها ما جاء بلفظ: "إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكّتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ولن يتفرّقا حتى يَرِدا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"، وهذا لفظ الترمذي وقريبٌ منه جاء في صحيح مسلم.
ويقول ﷺ فيما روى الحاكم في المستدرك: "إنّي تركت فيكم شيئين لن تضلّوا بعدهما؛ كتاب الله وسنّتي ولن يتفرّقا حتى يَرِدا عليّ الحوض". وهكذا جاءنا في صحيح الإمام مسلم: "يقول يزيد بن حيان: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه، قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا؛ رأيت رسول الله ﷺ وسمعت حديثه وغزوت معه وصلّيت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ﷺ، قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سنّي، وقَدِمَ عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله ﷺ فما حدّثتكم فاقبلوا، وما لا فلا تكلّفونيه، ثمّ قال: قام رسول الله ﷺ يومًا فينا خطيبًا بماءٍ يُدعى خُمًّا بين مكة والمدينة.." قالوا هذا عند رجوعه من حجة الوداع ﷺ "..فحَمِدَ الله، وأثنى عليه، ووَعَظَ وذكّر، ثمّ قال: أمّا بعد، ألا يا أيها الناس فإنّما أنا بشرٌ، يُوشك أن يأتي رسولُ ربّي فأُجيب.." وكان ذلك بعد أن نزل عليه قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي..) [المائدة:3] فكان فيها الإيحاء بقُرب أجله، ثم تقدّم قبلها الإشارة -قبلها بسنتين- قوله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر:1-3] وقد فَهِم سيدنا ابن عباس وسيدنا عمر بن الخطاب منها أنه نعي الحقّ تعالى إلى رسوله ﷺ إلى نفسه، أي: أنّ أجَلكَ قد دَنَا للّحوق بنا والخروج من هذه الدنيا، وتأكّد ذلك في حجة الوداع، حتى بكى عند نزول الآية سيدنا أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- لمّا نزلت: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ..) وقال: إنما مهمّته ﷺ ووظيفته أن يُكمِل فينا الدين، فإذا كَمُلَ فكيف يبقى بعدُ فينا؟ فما كانت إلا أيام -ثمانين يوم- من يوم نزول الآية إلى يوم وفاته عليه الصلاة والسلام.
فعند رجوعه من حجة الوداع قال لهم: "..إنّما أنا بشرٌ، يُوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب.." يعني: الانتقال من الدنيا إلى الرفيق الأعلى، "وأنا تاركٌ فيكم ثقلين؛ أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه، ثمّ قال: وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، فقال سيدنا حُصين لسيّدنا زيد بن أرقم: من أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، لكن أهل بيته من حُرِِمَ الصدقة بعده، قال: من هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس، قال: كل هؤلاء حُرِمَ الصدقة؟ قال: نعم." أخرجه مسلم في صحيحه. فنِعمَ ما ترك فينا رسول الله ﷺ ورزقنا الله الاستمساك بذلك والثبات عليه والاعتصام به إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
إذًا فالكتاب وبيانها من السُّنة محفوظان قائمان بيننا إلى آخر الزمان، والقدوة والأسوة في فهم معانيهما وتطبيقه موجودةٌ بيننا، وجاءت الإشارة بقوله ﷺ: "يحمِلُ هذا العلم من كل خَلَفٍ عدُوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"، وبقوله: "لا تزالُ طائفة من أمّتي ظاهرة على الحق لا يضرّهم من ناوأهم حتى يأتيَ أمر الله وهم ظاهرون"، وبقوله: "إنّ الله يبعث على رأس كل مائة سنة -أو كل قرن- من هذه الأمة من يُجدّد لها دينها" ﷺ، فالحمد لله على خير الله الواصل إلينا.
قال: "وكان ﷺ يعهد إلى أصحابه كثيرًا ويوصيهم بتقوى الله، والسمع والطاعة لولاة الأمور وإن كان عبداً حبشياً ويقول: "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً،.." ﷺ وقد كان ما قال في أمّته وما ينطق عن الهوى، وظهرت شؤون هذا الاختلاف بمظاهر متعدّدة ومختلفة على مدى القرون، "..فعليكم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين،.." فأمّا خلفاؤه في الحكم والعلم معًا؛ فالثلاثون العام التي ذكرها، في خلافة الحكم، وأهلها أهل علم سيدنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن؛ هؤلاء هم الذين قاموا بالخلافة بعده مدة الثلاثين العام التي قال عنها: "الخلافة بعدي ثلاثون عامًا" خلافة حُكمٍ وعلم. أمّا خلافته في العلم والدلالة على الهدى وتزكية النفوس والوصول إلى الله؛ فثابتةٌ قائمةٌ في أمته، لا تختص بمن وليَ الحكم؛ فهذه الخلافة الدائمة القائمة في أمته أشار إليها القرآن والسنة؛ القرآن أشار إليها بقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ..) [النور:55]، وأشارت إليه السُّنة بقوله ﷺ: "اللهمّ ارحم خلفائي، قالوا من خلفائك يا رسول الله؟ فقال: قومٌ يأتون من بعدي يروون أحاديثي ويعلّمونها عباد الله"، إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.
يقول: "فعليكم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور.." أي: ما أُحدث ممّا خالفَ الكتاب والسُّنة وهدي الخلفاء، قال: "فإن كل محدثةٍ.." بهذا المعنى "..بدعة، وكل بدعة ضلالة." فلا شكّ من خلال النصوص الواضحة الصريحة أنّ المراد بذلك ما خالفَ وضادّ كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. وهو الذي بُيّن في رواية مسلم بقوله ﷺ: "من أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليسَ منه..". وبُيّن في سنن الترمذي بقوله: "ومَن ابتدع بدعةً ضلالةً لا ترضي الله ورسوله.."، فبيّن المراد بالبدعة وبالضّلالة، وما الذي هو بدعة وما التي هي ضلالة؟ كل محدَثٍ مخالفٍ لما جاء به، خارجٍ عن منهاجِه ومنهاج خلفائه ﷺ.
وكان ﷺ يقول:.. الحديث أيضًا هذا الذي ذكره عند أبي داود والترمذي، يقول من التابعين: عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: أتينا العرباض بن سارية وهو ممّن نزلت فيهم: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ) [التوبة:92]، فسلّمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، أي: من العلم الذي اقتبسته من رسول الله ﷺ وتزوّدته، ممّا سمعته وشاهدته منه، فقال العرباض: "صلّى بنا رسول الله ﷺ ذات يوم، ثمّ أقبلَ علينا فوَعظنا موعظةً بليغة، ذرَفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قال قائل: يا رسول الله كأنّ هذه موعظة مودّع! فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإنّ كل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة". هكذا في رواية أبي داود وعند الترمذي أيضًا، وفيه عناية النبي ﷺ بأمّته وحُسن بلاغه عن الله تبارك وتعالى.
وجاء في لفظٍ: "وإن تأمّر عليكم عبدٌ حبشي.." من باب ضرب المثل بغير واقع على سبيل الفرض، وفيه أيضًا معنى من إخباره بالمغيّبات وما أعلمه الله تعالى ممّا سيكون في أمته، وهو القائل: "وعُرضت عليّ أعمال أمتي حتى القذى يُخرجها الرجل من المسجد" صلوات ربي وسلامه عليه. وكان من معجزاته خبره "من يعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيرًا" ﷺ، فأمر بهذا الاستمساك بسنّته الكريمة وسنّة وطريقة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده. وعَلِمنا الخلفاء، وأنه في الجمع بين الخلافة في الحكم والعلم فهم أهل الثلاثون العام هذه التي ذكرها، ساداتنا: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحَسَن. وفي ربيع الأول اليوم الذي توفيَ فيه سلّم الخلافة الظاهرة سيدنا الحسن، فانقطعت خلافة الهدى في الحكم، وبقيَ العلم وبقيَ السّنة، وبقيَ الهدى وبقيَ الرشاد وبقيَ الصلاح وبقيَ التقوى وبقيَ الوعي وبقيَ النور وبقيت الولاية وبقيت أسرار الاتصال بالحق ورسوله ﷺ،، وهذه في عموم الخلفاء عنه عليه الصلاة والسلام في البيان والتبليغ والإرشاد والتربية والتزكية والإيصال إلى الله جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وأظهر الله تبارك وتعالى في كل ما تحتاجه الأمّة من بيانٍ للكتاب والسُنّة وعمل بهما وتطبيقٍ لهما؛ أظهر سبحانه وتعالى أصفياء وأوفياء في كل قرنٍ وفي كل عهدٍ من الأمة من التابعين وتابعي التابعين، وتابعي تابعي التابعين، ومنه ما حُرّر من هذه المذاهب الفقهية في فروع الشريعة المطهرة، وكانت من هديه وسنّته الذي تركه في أمته ﷺ، وإن كان ليس محصورًا معاني دلالته فيما انتهى إليه هدي الأئمة الأربعة ومن سواهم من أئمة الاجتهاد في الدين؛ ولكن هؤلاء الذين شاء الرحمن جلّ جلاله أن يحفظ عنهم في الأمّة مؤدّى ومقتضى اجتهاداتهم حفظًا تامًّا كاملًا من جميع الجانب، فبقيَ ما فيه الكفاية للأمّة من معاني خطابه وبلاغ رسوله ﷺ.
ثمّ حذّرنا ممّن يظنّ أن الكتاب وحده يكفي من دون بيان السُّنة، ومن يتشكك في سنته عليه الصلاة والسلام أو في الانتهاء عمّا حرّم أو أوجَب ممّا لم يعلم مأخذه من الكتاب، حذّر من ذلك وأخبر أنه المبيِّن لكتاب الله، وأن ما حرّمه هو كما حرّمه الله، وما أحلّ فقد أحلّه الله، وكان يقول: "إن الله فَرَض فرائض، وفرضتُ فرائض" أي: بأمر الله لي وإيحائه إليّ وشرعِه لي، "..فرضتُ فرائض"، "وكان رسول الله ﷺ يقول: "ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عنّي فلا يعمل به؟ يقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرّمناه، وإنما حرّم رسول الله ﷺ كما حرّم الله، وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه" " من البيان الذي أوكل إليه في قوله سبحانه وتعالى: (..لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ..) [النحل:44]، فلا بيان للكتاب إلا بسنّة من أُنزل عليه الكتاب سيّد الأحباب ﷺ، وفيه إشارة إلى أنّ هذا البيان يُحفظ كما حُفظ الكتاب إلى آخر الزمان فضلًا من الله تعالى؛ فسخّر الله في الأمّة الأئمة المثابرين المجتهدين الباذلين غاية الوسع والجهد وحفظوا لنا الحديث الشريف والسنّة الغراء بأسانيدها إليه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه.
والحديث عند الترمذي: "إنّما حرم رسول الله كما حرّم الله"، وجاء أيضًا عند أبي داود يقول: المقدام بن معدي كرب يقول: أنه سمع النبي ﷺ يقول: "ألا إنّي أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك.." يعني: يقرب يحصل فيكم "رجلٌ شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم من حرام فحرّموه، ألا لا يحلّ لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي نابٍ من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقومٍ فعليهم أن يُقروه، فإن لم يُقروه فله أن يعقبهم بمثل قِراه" هكذا جاءت رواية أبي داود، وفيه إشارة أنه يأتي بعض المتكبرين وأرباب الثراء يردّون السنة الغراء، ويدّعون أنهم أهل الكتاب وما هم إلا بعيدون من الكتاب؛ فالكتاب يقول لهم: (..وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ..) [الحشر:7] ، ويقول لهم:(..لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ..) [النحل:44]ويقول لهم: (..مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ..) [النساء:80] ويقول: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ..) [النساء:65] فكيف العمل بهذا؟ إذا ردّوا السُّنّة فكيف يعملون؟ ردّوا الكتاب! فقد ردّوا الكتاب العزيز وردّوا الوحي الشريف!!
وظهر في زماننا نوع آخر من الذين أيضًا يدّعون الكتاب، وهو أن يسخّروا الكتاب لأهوائهم وأعمالهم؛ لا يتقيّدون فيه بسنّة ولا بهدي الصحابة ولا أهل البيت ولا الصالحين، ويقولون: الكتاب عندنا ونحن نعمل به.. نحن قرآنيون! بل أنتم مجترئون! بل أنتم كذّابون! بل أنتم من أبعد الأمة عن معرفة الكتاب، وما جاء به إلينا من ربّ الأرباب الذي بيّنه عالي الجناب من أُنزل عليها الكتاب ﷺ. فكل هؤلاء من أبعد الناس عن القرآن، ويسمون أنفسهم قرآنيين! ولو كان كل من سمّى نفسه باسم وقَع؛ كان تخربطت السماء والأرض ولم يبقَ شيء فيها! ولكن … والدعاوي إن لم يُقيموا عليها بيّنات أبناؤها أدعياءُ… وأين البيّنة؟ وأين الدليل وأين العلامة؟! فحذّر من مخالفة السنن ﷺ، وبيّن أن ما في سنّته وإن لم يكن واضحًا في كتاب الله فهو من البيان عن الله. وكان يقول: "ما أحلّ الله تعالى في كتابه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئًا" جلّ جلاله (..وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم:64]، (..فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) [طه:52] جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وهو ما بيّنه في حديثه بقوله: "إنّ الله فَرَض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" في إشارة إلى أن الأصل في الأشياء الحِل وإنما يحرم ما نُهينا عنه، وما زجرنا الحق ورسوله عنه، وأنّ ما لم يرِد فيه شيءٌ من الكتاب والسنة وهدي الصالحين؛ فهو على أصل حِلَه وإباحته، فأصّل أصلًا من الأصول -عليه الصلاة والسلام- لمن يستنبط الأحكام من أمّته -عليه الصلاة والسلام-. قال: "..وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته فإنه لو شاء لذكره بعينه وهو الذي أحاط بكل شيءٍ علما جلّ جلاله وتعالى في علاه (..وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا). هكذا جاء في رواية البزّار والطبراني الكبير بإسناد حَسَن. وجاء أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام فيما روى الترمذي والحاكم في المستدرك يقول: "الحلال ما أحلّ الله في كتابه، والحرام ما حرّم الله في كتابه، وما سَكَت عنه فهو ممّا عفى عنه" فهو ممّا عفى عنه سبحانه وتعالى.
رزقنا الله وإياكم حسن الاتّباع والاقتداء والاهتداء، والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله وهدي صحابته وأهل بيته وصالحي أمّته، ووَقَانا الأسواء والأدواء وكل بلوى في السِرّ والنجوى، وغمَرَنا بفائِضات جوده وإحسانه وواسِع امتنانه في لطفٍ وعافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
25 ذو القِعدة 1444