كشف الغمة -2- تكملة باب كيف بدء الوحي على رسول الله ﷺ

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: تكملة باب كيف كان بدء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم

يتضمن الدرس:

- أهمية الوحي وعظمة الإيمان به على مدى الأزمان

- من هم أعجب الناس إيماناً وأعظمهم أجراً؟

- صنفان هم اكثر الناس حرمان للوحي

- قصة هرقل مع كتاب النبي وسؤال أبو سفيان

- من لديه ركزة (أنا) ما يذوق الهناء

- بحث هرقل عن ظهور ملك هذه الأمة

- قصة عرضه دين الإسلام لعظماء الروم

- صور الأنبياء وموقف الصحابة معها

- قصة دحية الكلبي مع هرقل وإسلام كبير الأساقفة

- مجيء الوحي كصوت دوي النحل واصابته ﷺ الصداع

- بعث الأنبياء في الأربعين

- أشد ما يأتي من الوحي

 

نص الدرس مكتوب:

بسم الله الرحمن الرحيم

رضي الله عنكم وبسندكم المتصل إلى الإمام عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في كتابه كشف الغمّة عن جميع الأمّة إلى أن قال:

"وكان ابن عباسٍ يقول: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله ﷺ ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهم بإيليا فدعاهم إلى مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان فقلت : أنا أقربهم نسباً، فقال : أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه ، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا ، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا ، قال فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت بل يزيدون قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت: لا ، قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعلٌ فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال : فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت : يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.

فقال للترجمان : قل له : سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب؛ وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقُلت رجل يتأسى بقولٍ قيل قبله. وسألتك هل كان آبائه ملك فذكرت أن لا، قلت فلو كان آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاء هم اتبعوه وهم أتباع الرسل. وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون؛ وكذلك أمر الإيمان حين يتم، وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك أمر الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.  

ثم دعا بكتاب رسول الله ﷺ الذي بعثه به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم أسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا ، فقلت لأصحابي حين أخرجنا : لقد أمِرَ أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.

 وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أسقف على نصارى الشام، فحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس فقال بعض بطارقته : قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناطور- وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم- فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنّك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود. فبينما هم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبرهم عن خبر رسول الله ﷺ فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدّثوه أنه مختتن، وسألوه عن العرب فقال: هم يختتنون، فقال: هرقل هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.

ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم وسارهرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي ﷺ وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرةٍ له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معاشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم عليّ، وقال إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.

وكان رسول الله ﷺ يقول: "أتاني ملك برسالة من ربي عز وجل ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها" وكان ﷺ إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم فإذا أقلع عنه رفع رأسه. وكان أبو هريرة يقول: "كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي يصدع، فكان يغلف رأسه بالحناء". وكان ﷺ يقول: "ما بعث الله نبياً إلا شابًا" والله سبحانه وتعالى أعلم".

 

الحمد لله مُكرمنا برسوله وما جاء به عن الله، وما أكمل به الدين وجعل عبده محمدًا ختمًا لأنبيائه، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه الهداة، ومن والاه في الله واهتدى بهداه، وعلى آبائه وإخوانه من رُسُل الله وأنبيائه، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وأدرج الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله- في الحديث عن الوحي ما كان من قصة هرقل ووصول كتاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إليه. وقد علمنا حكمة الابتداء بالوحي، وأنّ الوحي هو سبب وَصل جميع الموصولين من المكلّفين بربهم جلّ جلاله، وسبب قربهم من حضرته، وسبب معرفتهم به؛ فلا يتمّ الإيمان إلا بواسطة الوحي، ولا تُعرف الشريعة والعمل بها إلا بواسطة الوحي، فلنا الفخر والشرف بالإيمان بهذا الوحي العظيم الذي يَعظُم قدر من آمن به ومَن قام بحقه على مدى الأزمان، بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الذين يؤمنون بهذا الوحي ويعملون به من بعده أعجب الناس إيمانًا، وجعلهم أعظم الناس أجورًا! كما جاءنا في رواياتٍ عنه ﷺ قال: "أعجبُ الناس -أو قال أعجب الخلق- إيمانًا قومٌ يجيئون من بعدكم" يقول للصحابة "يجدون كتابًا من الوحي" يعني: القرآن "فيؤمنون به ويتّبعونه". وجاء في روايةٍ: أنه سأل الصحابة عن أعجب الناس إيمانًا؟ قالوا: يا رسول الله الأنبياء قال: ما لهم لا يؤمنون والوحي يوحى إليهم؟! قال الصحابة: الملائكة، قال: ما لهم لا يؤمنون وهم يُشاهدون ما يشاهدون؟! قالوا: فنحن، قال: ما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم، والوحي ينزل عليكم وترون آيات الله؟! قالوا: فمن أعجب الناس إيمانًا؟ قال: قوم يأتون من بعدي آمنوا بي ولم يروني ﷺ. وهكذا، هذا الذي ذكرنا في الحديث في رواية البزار، وفي رواية الطبراني: يقول ﷺ: "أعظم الناس أجرًا قومٌ يأتون من بعدي، يأتيهم كتاب الله يُبيّن الوحي فيؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم الناس أجرا، أولئك أعظم الناس أجرا، أولئك أعظم الناس أجرا". اللهمّ ارزقنا كمال الإيمان بالوحي الذي أوحيتَه إلى عبدك سيدنا محمّد وحُسن العمل به يا أرحم الراحمين.

  وهكذا يُحرم هذا الخير وبركة هذا الوحي: من أعرَض ومن تأبّى ومن خالف، وأظْهَرُ المحرومين لهذا الوحي صنفان من الناس: أهل الكِبر والعياذ بالله تبارك وتعالى، ومَن أهْمَلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه جاء في رواية عند الحكيم الترمذي أنه ﷺ قال: "إذا عظّمت أمّتي الدنيا؛ نُزعت منها هَيبة الإسلام" وكل ما يُنزع من هيبة الإسلام سبّبه قلوب بين المسلمين تعظّمت هذه الدنيا، وإلا كانوا أهْيَب في صدور أهل الشرق والغرب من كل من سِواهم، وما نُزعت الهيبة إلّا بتعظِيمهم لهذه الدنيا. يقول: "وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حُرمت بركة الوحي" فصاروا محرومين من العِزّة والشرف والكرامة والدرجة عند الله والمعارف؛ بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا صاروا يُداهنون في دين الله، ويُمالئ بعضهم بعضًا على الخروج عن أمر الله جلّ جلاله؛ فَيُحرمون بركة الوحي. "وإذا تسابّت سقطت من عين الله" إذا كان دأبهم السب والشتائم، الذي هو بضاعة الكثير من الأمّة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- في مختلف الوسائل، وأحزاب وهيئات وطوائف وسياسيين واقتصاديين وغيرهم؛ يسبّ بعضهم بعضًا! أولئك الذين سقطوا من عين الرحمن جلّ جلاله، لا مكانة لهم عند الله. وفي رواية ابن عساكر يقول: "ولا تكبّروا" يعني: الأمة "إلّا حُرموا بركة الوحي" فبِسبب الكِبر والإهمال للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يأتي الحرمان من عظمة الوحي وعِزّة أهله وشرفهم به ورفعة قدرهم عند الله تعالى في الدنيا والآخرة.

وذكر لنا في شأن عموم هذا الوحي ما سأل هرقل عن أخبار الموحى إليه ﷺ، وما جاءه من الكتاب منه متضمّنًا آية من آيات القرآن الكريم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ..} [آل عمران:64] يقول ابن عباس: "أخبرني أبو سفيان بن حرب"؛ لأن ابن عباس كان صغير السن أيام تلك الحوادث، وأبو سفيان كان من الذين كذّبوا النبي ﷺ في أول الأمر وعاندوه، وقادَ الحروب ضدّه، وخَرج في تجارة هو ومجموعة من كفّار قريش إلى الشام في الوقت الذي كان الصلح بينهم وبين النبي ﷺ -صلح الحديبية- والوقت الذي وصل فيه الكتاب منه ﷺ إلى هرقل صاحب الروم، فلمّا أرسل ﷺ سيدنا دحية الكلبي ومعه بعض الصحابة ليدفعه إلى بصرى ويدفعه بصرى إلى هرقل، وصل بالكتاب ووصل ودُفع، ووَصله الكتاب وقرأ:

"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ رسول الله إلى هرقل صاحب الروم.."  قال له بعض جلسائه: لا تقرأ كتابه هذا؛ بدأ بنفسه قبلك! وما قال إنك ملك الروم قال: صاحب الروم! قال لهم: أما ابتداؤه بنفسه فهو الذي أرسل إليّ، هو الذي كتب الكتاب، وأمّا قوله صاحب الروم، فأنا صاحب الروم ولا صاحب لهم غيري! كمّل الكتاب ثم قال: ابحثوا لنا أحد من أصحابه، من العرب هؤلاء، من جماعته في أحد منهم هنا؟ فصادَفوا أبا سفيان وجماعة كانوا تجّار في الشام معهم ركب من الكفار -من قريش- لكنهم من قبيلته ﷺ من قريش. فقال: "أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله ﷺ مادّ فيها أبا سفيان" مادَّ أي: جعل فيها مدة الصلح أن يضع الحرب عشر سنين "وكفار قريش فأتوه وهم بإيلياء"  يعني ببيت المقدس تسمّى: إيلياء "فدعاهم إلى مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه"  ليترجم لهم ويقول لهم: "أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟  فقال أبو سفيان: " فقلت: أنا.." ، وكان في الحاضرين من قريش من هو أقرب من جهة أنه يرجع إلى عبد مناف وقال: "أنا أقربهم نسبًا، فقال: ادنوه مني"  اجعلوه يقرب مني هنا، وصفَّ الجماعة الآخرين وراءه -جلّسهم وراءه- وقال لهم: أنا سائله فإن كَذَب كذّبوه، وأبو سفيان يقول: إنّي أعلم أنهم لن يكذبوني لكن..، جعلهم وراءه حتى يتفرّس فيهم إذا كذب أو شيء؛ يظهر على وجوههم أثر فيعرف أنه كَذَب، بخلاف لو  كانوا معه في نفس الصف؛ يحفظون أنفسهم، لكن وهم وراءه؛ حتى يحرّك رأسه أو يدّه أو هذا.. يعرف أنه عنده ملاحظة على كلام الرجل غير مضبوط! فجعلهم وراءه، وهذا من دهائه! 

وأدناه منه قال: "إني سائلٌ هذا الرجل فإن كذبني فكذّبوه"؛ لكن أبو سفيان قال: أنا أعلم أنهم ما بيكذّبوني لكن؛ "لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت" قال: أنا زعيم في قومي ولي مكانة والكذب عيب، أن يؤثَر عليّ الكذب، فبقيَ على تحرّزه من الكذب من أجل ألّا يُعابَ به. تطوّروا الناس من بعد ذلك، كان أوّل المؤمن ما يكذب، هذا أقوى داعي يدعو لأن يقول الصدق ويتجرّد من الكذب: الإيمان بالله جلّ جلاله وخشية الوقوف بين يديه ومحاسبته على كل كلمة تصدر من بين شَفَتيه {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ *مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17-18]. أضعَف منه بعد ذلك يحزم الناس ويحافظون على الصدق ويبتعدون على الكذب: المروءة والفطرة والحياء من أن يُشاع عنهم الكذب؛ لأن الكذّاب ساقط من الأعين، ومَن كان له حتى وجاهة بين الناس ومكانة يُحافظ عليها؛ وحتى الدوافع هذه في عصر التقدّم ذهبت! ولا يُبالي يؤثرون عليه الكذب أو ما يؤثرون عليه الكذب؛ المهم أنه أتقن الشغلة، وصل إلى شيء من أغراضه -والعياذ بالله تبارك وتعالى- أين وصلوا؟! ومختلف أهل الاتجاهات والأحزاب في العالم، كل واحد يكذّب الثاني، كل واحد يكذِب على الثاني، لا أدري على ماذا يقودون الناس إلى التقدّم؟! وفي ماذا؟! يجيبون لهم طائرة بلا طيّار، تقّدموا الناس؟! وينحطّون في قِيَمهم، يَنحطّون في أخلاقهم، ينحطون في أساسيات صلاح شأنهم الدنيوي قبل الأخروي، ينحطّون فيه ويقولون تقدّمنا وتطوّرنا! ويقول لهذا ما كذب، وما قدرت بيؤثر عنّي كذب! قال وحدة كلمة هذه التي قدرت أتكلم فيها، يقول له: هل يغدر؟ قال له: ما يغدر، نحن الآن في صلح بيننا وبينه يمكن يغدر في هذه المرة، وهو يعلم أن  النبي ﷺ  ما بيغدر! لكنه ما عرف إلا يدخّل هذه فقط، أيام كفره، كافر كان قبل الإسلام. حتى بعد الحادثة قال: علمت أنه بيظهر، حتى أدخل الله في قلبي الإسلام وأنا كاره.

يقول: فسأله هذه الأسئلة، وكان عالم، هرقل ملك الروم كان عالم وعنده من علم الإنجيل والتوراة، وله اتصال ببعض العلماء والأساقفة في وقته؛ فلهذا سأله هذه الأسئلة "قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب" نسبه شريف رفيع بيننا "قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟" حد ادّعى النبوّة قبله "قال: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال أشراف الناس اتبعوه -في البداية- أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم" نحن الزعماء والأشراف غلَبنا -ما تبعناه-! "قال: أيزيدون أم ينقصون؟" أتباعه "قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ "  لمّا عاش بينكم قبل ما يدّعى النبوّة كان معروف يكذب بينكم؟ "قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعلٌ فيها" يمكن هذه المرة يكذب.وهم الذين غَدَروا لا هُو !  "قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منّا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟" ما أوامره؟ "قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة".

 انظر كيف عرف الدعوة الصافية النقية! كيف وإلى ماذا يدعو! وهم ينقلون هذا الكلام وهم كفّار! ما أصفاه ﷺ! وما أوضح شريف منهجه وما يدعو إليه. "فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب؛ وكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها" أي: في أشرف الناس أنساب "وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقُلت رجل يتأسّى بقولٍ قيل قبله" بيصلّح كما الذي قبله. "وسألتك هل كان آبائه ملك فذكرت: أن لا، قلت: فلو كان آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه" يريد مُلْك، فادّعى النبوة لأجل يتملَّك. "وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت: أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله" يجلس سنين بينكم ما يكذب عليكم وأنتم خَلق مثله ويوم يكبر بيكذب على الرب؟ّ! هذا بعيد من الكذب أصلًا! ﷺ. "وسألتك أشراف الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت: أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم أتباع الرسل" في البداية يتبعونهم ألّا هم الضعفاء. لا إله إلا الله! ثم يخضع الكل لهم.

"وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون؛ وكذلك أمر الإيمان حين يتم، وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك أمر الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب" آذوهم وعذبوهم ولا حد منهم أرتد! ".. وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين.." هذه البقع كلها والجاه والدول ترجع تحت أمره. "..وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.." وهم كانوا يعظمون الروم ويفزعون منهم، وهو رأى أمر النبي وصل إلى أين؟! 

".. ثم دعا بكتاب رسول الله ﷺ الذي بعثه به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم" وفي لفظ صاحب الروم، "..سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم أسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين.." وكان لما قرأه في أول مرة كان يعرق من عظمة الكلام ومعرفته بأحقية ما فيه ".. فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين.." يعني الأتباع، أما الأريسيين الكارين، المستأجرين في الزراعة والفلاحة؛ لكن المقصود أتباعك الذين أنت سبب صدهم عن الإسلام عليك إثمهم، ".. ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون" وكان مختوم عليه محمد رسول الله. "..قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأُخْرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِرَ أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر.." يعني عظم وجل هذا ما هو عادي، هذا ما هو إنسان سهل، هذا نحاربه هناك والآن الدول الكبرى في العالم تخاف منه وتهابه ! ".. لقد أمِرَ أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام .." وأنا كاره.. لا إله إلا الله.

وهكذا كان أمر هرقل، حتى لمَّا قرأ الكتاب أول مرة وجاءوا إليه، وكتب إلى بعض الأساقفة.. وكذلك قد جرَّب القوم، وعلم أنه رسول الله؛ ولكن خاف العصبية حقهم. وهكذا كل من اغتر بشيء من الملك والظهور في هذه الأرض.. بغى يستعرض عضلاته ويرى نفسه أنه فوق غيره، ولكن ذلك حرمهم الحق وحرمهم الجنة إلى الأبد، وأوقعهم في النار إلى الأبد، فويلٌ لهم وويح لهم! لماذا مُلْك أو مظهر أو جاه يمنعك عن حقِّ واضح جاءك من خالقك الذي بيده أمرك؟ وإليه مرجعك -جل جلاله وتعالى في علاه-!

وهكذا.. لا تزال هذه العلل النفسيَّة في الناس تدعوهم؛ حتى تحجبهم عن كثير من الحق، وإن أُكرِمَ الإنسان وخرج من الكفر إلى الإسلام؛ يبقى وهو في الإسلام: أنا فلان…ناظر إمَّا إلى كبره أو سِنّه أو جنسيته أو قبيلته أو ماله أو عقله؛ يَرُدُ بحق كثير ممن حواليه؛ لأنه يشوف نفسه - يتكبر عليهم-.. من هذا الذي يتكلم؟ من؟! فما دام عنده ركزة أنا ما يذوق لذَّة الهناء؛ بإدراك حقيقة الأمر؛ فيُحجَب عن كثير من الحق بهذا الذي في نفسه؛ ولكن أهل العبودية التامة لله هم أعرف الخلائق بشؤون حقائق العبودية للرَّب {لَا يَسْتَكْبِرُونَ}، ولهذا أثنى على طائفة من هؤلاء النصارى: {..ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82].

  يقول: "وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أسْقُفْ على نصارى الشام، فحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك،.." يعني أصبحت مهموم اليوم، ماذا عندك من غم؟ "وكان هرقل حَزَّاءً يَنْظُرُ في النُّجُومِ.." يعني: يعرف بعض علامات النجوم والدلالات على بعض الأشياء "فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة.." يعني الليلة الماضية "حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟.." لأن النصارى ما يختنون، وقد حصل بينه وبين الفرس حرب فغلبْ عليهم، وكان قبلهم بينه وبين اليهود فغلبهم ودحرهم، واليهود يختنون "قالوا: ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنّك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من بقي فيهم من اليهود.."، فبينما هم كذلك إذا رجل أرسله ملك غسَّان يخبرهم عن خبر رسول الله "فلما استخبره هرقل.." قال: هذا منهم، من العرب، من جماعة هذا الذي جاء بالنبوة؟ "قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟" نظروا وجدوه مختتن "وسألوه عن العرب فقال: هم يختتنون،" قالوا: نعم "هم يختتنون،" قال خلاص "هذا ملك هذه الأمة قد ظهر" هذا هو، هذا الذي رأيت النجوم!

"ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه.." لمَّا وصل إلى هناك لقى كتاب "من صاحبه يوافق رأي هرقل" قال هذا هو الرسول وهو النبي، وهذه صفاته، "فأذن هرقل لعظماء الروم.." بيجرّبهم بيقبلون أو ما بيقبلون هذه الدعوة؟ وآثَرَ المُلْك مسكين! فـ " في دسكرةٍ له بحمص" وجعل حاجز في مكان خاص له، والدَّسْكَرَة: لها أبواب تُقَفَّل عليها، وأمرهم أن يدخلوا، وأن يدخلوا العظماء هؤلاء إلى الدسكرة، وأمرهم إذا دخلوا يقفّلوا الأبواب من ورائهم، ودخلوا في مكان أيضا مُحَصَّن؛ حتى لا يُبادروا إليه بشيء من الأذى لمَّا يعرض عليهم، "فقال: يا معاشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟"  قالوا: لا لا لا لا… حاصوا وزأروا.. ماذا تقول؟! حاصوا حتى نفروا وراحوا إلى الأبواب حصّلوها مقفلة ماشي الطريق، قال: ارجعوا، رجعوا،  "وقال إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم،.." أنظر كيف أنتم؟! "فقد رأيت،" ما يسرّني منكم.. تمااام "فسجدوا له ورضوا عنه،" وقالوا: تمام، وسجدوا له، - وهو ألا كان بيشوفهم؛ لكنه محافظ على مُلكه- فقال لهم: أنا ألا أختبرتكم، - بنظر- تمام الآن، أنتم ثابتين على النصرانية، خلاص تمام. وهو يعلم أنهم على عمل باطل! لا إله إلا الله!

وهكذا.. وكانت للصحابة معه قصص بعد ذلك، وهو ملك الروم إحدى وثلاثين سنة، وتوفي وهو لا يزال ملك -هرقل-، ووقعت عدد من الوفود الذين وُفِدُوا ورُسِلُوا لدعوتهم إلى الإسلام من بعد الكتاب الذي كتبه؛ حتى لمَّا خرج إلى تبوك أيضا أرسل إليهم من يدعوهم إلى الإسلام، وجاء بعض رسله ولقوا النبي منهم (أخا تنوخ) هذا، وفي تبوك، ومنهم جماعة وصلوا إلى الشام، ومن أصحاب النبي.

وبعد في بعض نواحيهم، بعض المسؤولين حقهم متوليّ المنطقة، كان غضب ودعاهم وكان عازم بيقتلهم، بعدين لمَّا سمع كلامهم وحديثهم فَزِع أرسلهم إلى الملك، ولمَّا جاءوا إلى هرقل، دخلوا عليه، سألهم أسئلة، بعدين خرَّج له صندوق كبير وإذا فيه خزائن أماكن مفتوحة وأبواب يفتحها، ففتح باب وأخرج لهم صورة، قال تعرفون هذا؟ قالوا: لا، قال هذا آدم، وردّه، وأخرج لهم صورة ثانية، رفعها لهم، قال: أتعرفون هذا؟ قالوا: لا؟ قال لهم: هذا نوح، وردّه، وخرَّج لهم صورة: أتعرفون هذا؟ قالوا: لا، قال لهم: إبراهيم، أتعرفون هذا؟ -صورة بعده- قالوا: لا، قال: هذا إسحاق، وخرَّج لهم صورة: أتعرفون هذا؟ قالوا: لا، قال: هذا إسماعيل جدّ صاحبكم، بعدين خرَّج لهم صورة ووجَّهها إليهم بكوا وضجّوا! قال: مالكم؟! قالوا: هذا صورة نبينا محمد، قال: هو هو؟! تشوفونه؟ قالوا: هو هو كأننا ننظر إليه، قال: أما إنه كان آخر الأبواب؛ ولكن قدَّمته لكم أعلم ما عندكم، هو هذا، وآراهم صور لبعض الأنبياء وردَّها، قالوا: من أين جئت بهذه الصور؟ فأخبرهم أنه عندهم في الكتب أن آدم -عليه السلام- سأل ربه أن يريه صور الأنبياء من بعده، وأنه مشتاق إليهم، فأرسل إليه -أنزل إليه- ألواح فيها صور هؤلاء، وأنه بقي ذلك حتى جاء به إسكندر ذو القرنين، وأنه بقي عندنا نحتفظ به.

وهكذا.. حصلت كثير من القصص بينهم وبين هرقل، حتى لمَّا جاءه أيضا دِحْيَة مرّ عليه، قال له: ويحك! أنا أعلم أنه رسول الله، هذا صاحبكم، هو هو الذي بشر به موسى وعيسى؛ ولكني أخاف على نفسي الروم، إذهب إلى فلان من الأساقفة انظره فهو أحب عندهم مني، وأنفذ كلامه من كلامي وأخبره. وذهب إليه، كلمه عنه، قال له: أعلم أن صاحبك هذا هو رسول الله، وجاء ودخل على الملك، قال له: ماذا ترى؟ قال له: أما أنا فسأؤمن به. وخرج إلى قومه يقول لهم: أنه قد بعث الله ورسوله وهو الذي بشَّر به موسى وعيسى، وأني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله؛ فقاموا عليه يضربونه حتى قتلوه، رجع إليه قال له: ألم أقول لك؟ هو يحبونه أكثر مني وكلامه نافذ إليهم، ولكن عند العصبية هذه قاموا وقتلوا الرجل، وما رضوا منه هذا الكلام؛ لكنه مات على الإسلام، هنيئا له، عملَ قليلًا وَأُجِرا كثيرًا، ومات شهيد مباشرة، إسلام وشهادة مباشرة! و: {..يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ..} [النور:35].

ثم ذكر في الأحاديث المتعلقة بالوحي: "وكان رسول الله ﷺ يقول: "..أتاني ملك برسالة من ربي عز وجل ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها"! ما هذا الْكِبرْ والعظمة في الجسم! لا إله إلا الله! وذكر أنه أخرجه الطبراني في المعجم، "وكان ﷺ إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم فإذا أقلع عنه رفع رأسه." الكريم.. وكانوا إذ يسمعونه إذا أتى الوحي كدويّ النحل، وكان قد يصيب الصداع رأسه الشريف ؛ من شدة الوحي، وكان يُغَلِّف رأسه بالحناء ليُخَفِّفَ الصداع ﷺ. ويقول: "ما بَعثَ اللهُ نبيًّا إلّا شابًّا". فيبعث الأنبياء في الغالب في الأربعين، عندما يكملون الأربعين، ونادر من يكون قبل ذلك في مثل سيدنا يحيى قال: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ..} أي النبوة {..صَبِيًّا} [مريم:12]. وسيدنا عيسى صرَّح بالنبوة في صباه، لكنه ما كان الإرسال والوحي إلا بعد ما كبر؛ ولكن في أيام مهده قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30]؛ ولكن الكتاب ما جاء إلا بعد -الإنجيل بعد  ما كبر- ولكنه لمَّا أنه أمر مقضي تكلَّم به وهو في مهده. الله.. لا إله إلا الله..وهكذا.. ليؤدوا أمر الله -تبارك وتعالى- ويقوموا به في أيام نشاطهم قبل أن يشيخوا ويكبروا؛ فيرسلهم -سبحانه وتعالى- حتى ختمهم بنبينا المصطفى محمد -صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله-. الله يرزقنا كمال الإيمان بهذا المصطفى، وكمال التصديق بالوحي الذي أوحاه الله إليه، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51]. وعَلِمنا أنَّ الوحي المُتَعَلِّق بشريعته -صلى الله عليه وسلم-: الذي يأتي مثل صلصلة الجرس أشدّه عليه، وأنه يتطلّب منه تفاعل مع عالم الملائكة، واستعداد لتلقّي في عالم الحسّ من عالم الغيب، فإذا خرج الملَك من عالم الغيب إلى عالم الحسّ والشهادة وقابله كان ذلك أهون عليه ﷺ.

رزقنا الله كمال اليقين بكل ما أوحى إلى عبده الأمين..

أرَانَا الهُدَى بعد العمى فقلوبنا *** به موقناتٌ أنَّ ما قال وَاقِعُ

ولم يجرِ من عهده إلى اليوم في الأرض إلا ما يُصَدِّقُ ما قال، ولم يَجرِ في الأنام من عند الموت وما بعد الموت ولا في البرزخ ولا في القيامة إلا ما يُصَدِّقُ ما قال، وكل ما قال واقع ﷺ {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم:3-4].

ارزقنا كمال الإيمان به يا رب، وكمال اليقين التام، علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين. وارزقنا يا ربِّ بهذا الوحي كمال الوعيّ والارتقاء مع خواصِّ مَن اخترتهم لمعرفتك الخاصة، ومحبتك الخالصة، وقربك الأعلى، ورضوانك الأكبر، في خير ولطف وعافية، وازدد عنَّا رضا، وزدنا قربا منك، وزدنا محبة منك، وزدنا محبة لك، وزدنا رضا عنك، وزدنا معرفة بك.. برحمتك يا أرحم الراحمين، بسرِّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

12 شوّال 1444

تاريخ النشر الميلادي

02 مايو 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام