(575)
(536)
(235)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: 199- كتاب الصلاة (90) فصل: سجود الشكر
صباح الثلاثاء 14 ربيع الأول 1446 هـ
فصل
"وكان رسول الله ﷺ إذا بشره أحد ببشارة فيها خير له أو لأمته خر لله ساجدًا شكرًا لله -عز وجل-، ولما جاءه جبريل عليه السلام وقال: "يا محمد إن الله -عز وجل- يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه، خر ﷺ ساجدًا شكرًا لله عز وجل"، وسجد ﷺ أيضًا لما سأل الله -عز وجل- في الشفاعة لأمته فأعطاها له في جميع أمته.
وسجد أبو بكر -رضي الله عنه- حين جاء قتل مسيلمة الكذاب، وسجد علي -رضي الله عنه- حين وجد ذا الثدية في الخوارج مقتولًا وقصته مشهورة، ولما قدم معاذ بن جبل -رضي الله عنه- سجد للنبي ﷺ فقال: ما هذا يا معاذ؟ فقال: أتيت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن أفعل ذلك بك ففعلت، فقال رسول الله ﷺ: "لا تفعلوا ذلك لأحد".
وكان ﷺ إذا رأى رجلًا به زمانة أو شين يخر ساجدًا ويقول: "أسأل الله العافية، والله سبحانه وتعالى أعلم".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكَ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بالشريعة الغراء، وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى، سيدنا محمد صلى الله وسلم، وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحبه ومن والاهم وسار في سبيلهم سرًا وجهرا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،،
فيتحدث الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- عن سجدة الشكر:
وهي: عند حدوث نعمة غير معتادة، ومن غير النعم الكثيرة المبثوثة التي لا تعد ولا تحصى؛ ولكن إذا كان نعمة يندر وقوعها، أو أَيِس الشخص من حصولها له فحصلت له فجأة بغير طريق الأسباب؛ من غير المتوقع، كذلك اندفاع نقمة من شدة نزلت به ويبعد عنده حل إشكالها فانحلّت وارتفعت على غير العادة؛ وأمَّا ما كان معتادًا فالإنسان غارق في نِعَم ربه في كل الأحوال؛ ليلاً ونهاراً، سراً وجهراً، في العافية وفي السقم، وهكذا.
فإذا كان مثلاً مرض شُفي منه الإنسان؛ إن كان ذلك من الأمراض المعتادة والتي يغلب الشفاء منها فما هناك سجود شكر؛ ولكن إذا كان مرض نادر منه العلاج، ونادر منه الشفاء، وحصل فيه الشفاء فهنا تكون سجدة الشكر؛ أو كان قد أشرف على الموت، وغلب على الظن أنه لا يعيش فشُفي فجأة؛ هنا تأتي سجدة الشكر.
فإذًا سجدة الشكر ليست عند المعهود المتجدد من نعم الله، فالناس غارقون في نعم ربهم ليلاً ونهاراً، سراً وإجهاراً (وَأَسۡبَغَ عَلَیۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَـٰهِرَةࣰ وَبَاطِنَةࣰۗ ) [لقمان: 20].
ولكن إذا كان الأمر كبير وغير معتاد، أو كان ميؤوساً منه فحصل، أو كان أمر متيقن وقوعه من الشر فصُرِف، ففي مثل هذه الأحوال تُندَب سجدة الشكر عند الشافعية وعند الحنابلة، وفي قولٍ كذلك عند المالكية وعند بعض الحنفية، والمعتمد عند الحنفية والمالكية الكراهة.
والمعنى أنه: لا يُحدِث سجدة من دون سبب؛ وإنما يكون السجود عند تلاوة آية السجدة أو في أثناء الصلاة -في سجدات الصلاة فرضها ونفلها-؛ وأما إحداث سجدة من دون أن يكون تلى آية سجدة ومن دون أن يكون في صلاة فلا يجوز؛ ولكن هؤلاء الشافعية والحنابلة قالوا: كذلك تكون السجدة عند اندفاع نقمة لا يُتَوَقَّع اندفاعها، أو عند حدوث نعمة من غير المعتاد، وكانت كبيرة على غير احتساب الإنسان، أو يعُمّ نفعها الجميع.
قال: "وكان رسول الله ﷺ إذا بشَّرَه أحد ببشارة فيها خير له أو لأمته خر لله ساجدًا شكرًا لله -عز وجل-"، -وذَكر أمثلة من ذلك- ولما جاءه جبريل عليه السلام وقال: "يا محمد إن الله -عز وجل- يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه، خر ﷺ ساجدًا شكرًا لله عز وجل". كما جاء في رواية الإمام أحمد في مسنده، قالوا ورجاله ثقات: "وإنما فعل ذلك فرحاً لأمته" فيه أيضاً التنويه بقدره ومكانته عند الله، وفيه نيل أمته هذا الخير الكبير العظيم وهي: عشر صلوات من الله على الصلاة الواحدة عليه ﷺ، بل وأصبح يُرى في وجهه البِشِر، فقيل له فقال: "أِنَّه أتاني جبريل فأخبرني إن الله يقولُ: إنَّهُ لا يصلِّي عليكَ أحدٌ مِنَ أمتِكَ؛ إلّا صَلَّيْتُ عليهِ عشرًا، ولا يُسَلِّمَ عليكَ أحدٌ من أمتِكَ؛ إِلّا سَلَّمْتُ عليهِ عشرًا"؛ ففرح بهذا الفضل العظيم لأمته وخرَّ ساجداً شكراً لله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-؛ إذًا فيكون السجود عند حدوث النعمة، وعند اندفاع النقمة.
وقال: "وسجد ﷺ أيضًا لما سأل الله -عز وجل- في الشفاعة لأمته فأعطاها له في جميع أمته"، جل جلاله وتعالى علاه.
إذًا هذا حكم إحداث السجدة:
ما يمكن أن يسجد سجدة مستقلة، وإنما يصلي ركعتين يصلي أكثر من ذلك، فذلك خير له؛ قال ﷺ: "الصلاة خيرُ موضوعٍ، فمن شاء اسْتكْثَرَ، ومن شاء اسْتَقَلَّ"، وجاء أيضًا أنه ﷺ لمَّا بلغه إسلام أهل اليمن أي: عدد كبير من قبائلهم من همدان وغيرهم، على يد سيدنا علي بن أبي طالب، وفي يوم واحد أسلمت القبيلة كاملة بأسرها فسجد شكراً لله -تبارك وتعالى-؛ إلى غير ذلك مما ورد في سجوده ﷺ شكراً لله.
ثم قال: "وسجد أبو بكر -رضي الله عنه- حين جاء قتل مسيلمة الكذاب". لأنه مركز فتنة ومعلم من معالم الإغواء والإذلال؛ فلما خلص الله الأمة منه، وجاء الخبر لسيدنا أبو بكر بالنصر للمسلمين وقتل مسيلمة، سَجد لله شكراً.
وكذلك سيدنا علي ذَكر سجدته عندما تيقن خبر النبي ﷺ له بأنه يقاتِل على تأويل القرآن كما قاتل النبي على تنزيله، وأنه يقاتل أقوامًا ولمن قتلهم أجر كبير عظيم عند الله سبحانه وتعالى؛ فذكر له علامتهم: أنهم يقاتل معهم رجل كأن عضده ثدي امرأة يقال له ذو الثدية أو ذو الثنية؛ فلما كان في وقعة صفين قال لهم سيدنا علي: "ابحثوا عن الرجل الذي ذكر لي رسول الله" فبحثوا ما وجدوه؛ فقال: "بلى أخبرني هذا يومه -هذا يوم قتله-" فقام إلى القتلى فأمر بإخراج بعضهم كانوا وقعوا في حفرة، فخرج فظهر الرجل، فلما برزت العلامة سجد شكرًا لله تعالى أنه على ما عهد إليه رسول الله ﷺ وبشَّره به من أنه صاحب حق وهدى يقوم به في الأمة ويقاتل على تأويل القرآن كما قاتل النبي على تنزيله، وقد قال ﷺ يومًا معه جماعة من الصحابة، وسيدنا علي بجانبه يخصف النعل؛ فقال: "أيكم يقاتلهم على تأويله كما قاتلتهم أنا على تنزيله؟" فقاتل الكفار والمشركين على تنزيل القرآن وتكذيبهم به، فمن يقاتل على المعنى الصحيح للقرآن -تأويل القرآن- لمن خالفه وغيَّره، فاشْرَأَبَّ لها الصحابة؛ قال: "صاحب النعل ذاك الذي يخصف النعل" يقصد سيدنا علي بن أبي طالب فكان هو؛ هذا في حديثه العام وله مع سيدنا علي ﷺ حديث خاص ومجالسات يكلمه فيها، وكان له ساعة من الليل يأتيه فيها، يجالسه فيها لا يجلس معه غيره -مع النبي ﷺ- في تلك الساعة من الليل، "وقد يأتيه وهو يصلي ويتنحنح له -انتظر-، وإن كان في غير الصلاة أذن له فدخل، فكان يحدثه ويسامره". فمن جملة ما عهد له ذلك وكثير من أمور الأمة وما يجري فيها؛ كان حدثه به صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال: "ولما قدم معاذ بن جبل -رضي الله عنه- سجد للنبي ﷺ فقال: ما هذا يا معاذ؟ فقال: أتيت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن أفعل ذلك بك ففعلت، فقال رسول الله ﷺ: "لا تفعلوا ذلك لأحد"، ونهى عن ذلك؛ فكان في الشرائع السابقة يجوز التحية والتعظيم بالانحناء وهيئة السجود؛ ثم حُرِّم ذلك في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال تعالى في تحية سيدنا يعقوب وزوجته وأولاده لسيدنا يوسف: (وَرَفَعَ أَبَوَیۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّوا۟ لَهُۥ سُجَّدࣰاۖ ) [يوسف: 100]، فكان يجوز أن يسجدوا للشخص؛ لا على وجه العبادة فذلك لا ريب فيه ولا شك لا يُعبد إلا الله ولا معبود إلا لله؛ ولكن كان على وجه التعظيم والإكرام جائز في الشرائع السابقة، فنُسخ بشريعة سيدنا محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
"فقال رسول الله ﷺ: "لا تفعلوا". -وفي رواية- "لو كنْتُ آمِرًا أحدًا أنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ، لَأَمَرْتُ المرأةَ أنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِها"، قال: "لا تفعلوا ذلك لأحد".
"وكان ﷺ إذا رأى رجلًا به زمانة -وهو الضعف الشديد في الجسد- أو شين يخر ساجدًا ويقول: "أسأل الله العافية، والله سبحانه وتعالى أعلم"، فهذا ما جاء في سجود الشكر.
إذا جاء وقت سجود الشكر في الأوقات التي تكره فيها الصلاة، فهل يسجد؟
وينتقل -عليه رحمة الله- من بعد سجود التلاوة، وسجود الشكر، إلى سجود السهو وهو داخل الصلاة كما سيأتي.
وسجدة الشكر كمثل سجدة التلاوة:
وعند الشافعية: تكون النية والتكبيرة الأولى للإحرام بالسجدة إذا كانت في غير الصلاة فرض، ثم التكبيرة الثانية للهُوِيّ للسجود سنة، ثم قراءة الدعاء في السجود أيضًا سنة.
ودعاء سجود التلاوة وسجود الشكر مثل سجدة الصلاة يأتي فيها بالتسبيح ويقول: "اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت؛ سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين."
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بأنواع الكرامة، وربطنا بحبيبه المظلل بالغمامة، وحشرنا في زمرته، وجعلنا من أهل مودته في عافية مع صلاح الشؤون الظاهرة، ولَطَف بنا والمسلمين في المشارق والمغارب.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله
الفاتحة
14 ربيع الأول 1446