(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: باب ما جاء الرياء والسمعة
الثلاثاء 26 شوال 1444هـ
- كيف نعامل الله العالم بكل شيء؟
- كثير ممن يقتلون في المعارك ليسوا من الشهداء
- ماذا يحصل لمن يقصد الجاه والمكسب من الجهاد؟
- عاقبة من قام مقام رياء وسمعة
- معنى حديث: أخوف ما أخاف على أمتي الربا والشهوة الخفية
- ماذا يسبب انتشار الربا ومعاداة الأولياء في الأمة؟
- دعاء ينفي الشرك
- وصف رجال آخر الزمان من يخلطون الدنيا بالدين
- تنبيه عن ترك الأعمال الصالحة خوفا من الرياء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، اللهمّ صلّ وسلم على سيدنا ومولانا محمّدٍ النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المصنّف رحمه الله تعالى ونفعنا به وعلومه وعلومكم في الدارين آمين، ورضي الله عنكم، إلى أن قال:
"باب ما جاء في الرياء والسمعة"
"كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: "قلت: يا رسول الله أخبرني عن الجهاد والغزو فقال يا عبد الله بن عمرو إن قاتلت صابرًا محتسبًا بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإن قاتلت مرائياً مكاثراً بعثك الله مراثياً مكاثرًا".
وكان ﷺ يقول: "بشّر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض، من عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إني أقف الموقف أريد وجه الله وأريد أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله ولا حتى نزلت (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَلِها وَلَا يشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحدا) [الكهف:110]. وكان ﷺ يقول: "من قام مقام رياء وسمعة راءى الله به يوم القيامة وسمع"
وفي رواية: "من راءَى بالله لغير الله فقد برئ من الله"، وكان يقول: "من سمع الناس بعلمه . الله به سامع خلقه وصغره وحقره"، وفي رواية: "من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به "
في رواية: "من قام مقام رياءٍ راءَى الله به، ومن قام مقام سمعة سمع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة"
وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول : "من راءَى بشيء في الدنيا وكله الله تعالى إليه يوم القيامة وقال: انظر هل يغني عنك شيئاً"
وكان ﷺ يقول: "إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين ثم أتى باب السلطان طمعاً لما في يديه خاض في نار جهنم بقدر خطاه"
وكان ﷺ يقول: "أخوف ما أخاف على أمتي الربا والشهوة الخفية يعني الرياء"
وكان ﷺ يقول: "يخرج في آخر الزمان رجال يختلسون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله عز وجل أبي يغترون أم علي يجترئون، فبي حلفت لأبعثن على أولئك فتنة تدع الحليم منهم حيران"
وكان ﷺ يقول:"لا يقبل الله سبحانه وتعالى عملاً فيه مثقال حبة من خردل من رياء"، والله سبحانه وتعالى أعلم."
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة وحقائقها، والذي بيّن على يد عبده المصطفى محمّد ﷺ معالم طرائقها، اللهمّ أدِم صلواتك على الهادي إليك عبدك الدالِّ عليك، سيّدنا محمّدٍ وعلى آله وأصحابه ومن سار في دربه مُزكّيًا لنفسه مُجانبًا لموبقاتها وبوائقها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المأمونين من قِبل الرحمن سبحانه وتعالى على تبيين ما يُوجب الرفعة والعِزَة لديه ويُنجّي من الآفات والغصص في الدنيا والمعاد، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وذكر لنا الإمام الشيخ عبد الوهّاب الشعراني -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في هذا الباب بعض ما وَرَد من جناب النبوة وحضرة صاحب الدلالة على الله، خاتم المرسلين سيدنا محمد ﷺ، في التحذير عن الرياء والسمعة ومعاملة الرب السميع البصير الذي هو أعلم بنا من أنفسنا، وأعلم بنيّاتنا منّا، وأعلم بمقاصدنا، وأعلم بمُراداتنا، لا إله إلا هو، ولا ينظر إلّا إلى قلوبنا، ولا يُثيب ولا يُعاقب إلا على ما فيها (..وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ..) [البقرة:284] فوَجبَ على كل من آمن بهذا الإله أن لا يغترّ بمظاهر الأعمال، وأن يبحث عن محمود الخِلال، وأن يُصفّيَ باطنه عن الالتفات إلى جميع ما هو موصوفٌ بالفناء والزوال؛ فلا يقصد ولا يُريد غير الإله الواحد الوال الكبير المتعال جلّ جلاله وتعالى في علاه، (..وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ..) أي: على الإخلاص له (..وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة:5] الدين القويم المستقيم ودين الطريقة المثلى القويمة، قال تعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ..) [الزمر:3] وقال: (..فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا) [الكهف:110] فوَجبَ على كل مؤمن أن يحرص على تنقية باطنه من إرادة غير الله، وأن يُخلص القصد لوجه الله في جميع ما يقوله ويفعله؛ فإنّ العبرة بما في الضمير والفؤاد.
ولذا نجد أن نبيّنا ﷺ بيّن فيما يتعلق بشهداء الأمة؛ أنّ أكثر الذين ينالوا مراتب الشهادة يوم القيامة: قومٌ ماتوا على فرشهم وفي ديارهم ومساكنهم، وقال: "أكثر شهداء أمّتي أصحاب الفرش، ورُبّ قتيلٍ بين الصفّين الله أعلم بنيّته"، وأنّ كثيرًا ممّن يُقتلون في المعارك لا يُحشرون مع الشهداء، ولا تكون لهم منازل الشهداء، ولا يحصّلون من ثواب الشهادة شيء؛ لفسَاد نيّاتهم ولمراءاتهم ولقصدِهم غير وجه الله. وقد ورَدَ في ذلك أحاديث متعدّدة حتى قال ﷺ مع عظيم فضل الغزو، وحتى لا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم، وكبير الدرجات لمن يغزو في سبيل الله، قال: "..من غزا وهو ينوي عقالًا فله ما نوى.." فما يخرج من الغزو كله وثوابه إلا بالعقال الذي قَصَدَه عند خروجه والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ومنه ما ذكر لنا: "عن عبد الله بن عمرو أنه قال: قلتُ يا رسول الله أخبرني عن الجهاد والغزو، قال: يا عبد الله بن عمرو إن قاتلت صابرًا.." من أجل ربّك سبحانه وتعالى "محتسبًا.." لا تقصد غير وجه الله، لتكون كلمة الله العليا، لتظفر برضوان ربّك، "صابرًا": غير محدّث نفسك بفرارٍ ولا بانهزامٍ ولا برجعة، محتسبًا: لا تقصد إلا وجه الله "..بعثك الله صابرًا محتسبًا" جئت يوم القيامة وعليك كسوة الصبر والاحتساب، فلك جزيل الثواب من ربّ الأرباب وشرف الاقتراب وعطاءٌ بغير حساب، "..وإن قاتلت مرائيا مكاثرا.." مرائيًا: تطلب المنزلة عند الناس ليقولوا جواد وليقولوا جريءٌ وليقولوا شجاع وليقولوا مجاهد إلى غير ذلك، "..مرائيًا مكاثرًا.." ترنو إلى تحصيل الغنيمة من هذا الجهاد وتحصيل مكسب الأموال "..مكاثرًا، بعثك الله.." يعني: يوم القيامة "..مرائيًا.." عليك خلعة الرياء والمكاثرة، ما يفيدك الجهاد ولا الغزو شيء، وتُحشر مفضوحًا بقصدِكَ ونيَتك التي خرجت بها في ذلك الجهاد، "..وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا، بعثَكَ الله مرائيًا مكاثرا" مرائيَا: قاصدًا غير الله، مكاثرًا: تميل إلى أن تصيب الغنائم ويكثر مالك.
"وكان ﷺ يقول: "بشّر هذه الأمة بالسناء" " أي الرفعة والسمو "..والدين.." أي: ظهور هذا الدين وانتشاره وقيامه "..والرفعة.." للمؤمنين الصادقين المخلصين والعلماء العاملين (..يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ..) [المجادلة:11]، وفي رواية: "..والنصر والتمكين في الأرض.." كما قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا..) [النور:55] (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105]، "..من عمل منهم عملَ الآخرة" من صلاة أو صيام أو صدقة أو جهاد في سبيل الله أو بناء معاهد أو مساجد أو صلة الرحم أو تعليم أو دعوة إلى الله إلى غير ذلك، عَمِلَ "عمل الآخرة للدنيا.." يقصد من وراء ذلك: سمعة وجاه وظهور ومال وأيّ شيءٍ غير وجه الله تعالى "..فليس له في الآخرة من نصيب." ليس له من أجرٍ ولا من ثوابٍ على ما قصد به الدنيا، "من عَمِلَ منهم عَمَل الآخرة للدنيا.." لأجل الدنيا، يرقب ما يناله من مالٍ أو جاهٍ أو منزلةٍ أو أيّ غرضٍ من الأغراض الفاسدة "..فليس له في الآخرة من نصيب."
(مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) [الشورى:20] فانظر استبدل ماذا بماذا؟ ما أغبَنه باستبدال الباقي بالفاني، والدائم بالمنقطع، والعظيم بالحقِير، فما أخسره!! "..فليس له في الآخرة من نصيب." (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء:18-20]، (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود:15-16]، "مَن عَمِلَ منهم عَمَل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب." كما يبيّن في الأحاديث أيضًا المقبلة: أنّ الأعمال الصالحة إذا قُصِدَ بها غير الله؛ وَكَل الله أصحابها إليها فلم تغنِ عنهم شيئا.
"وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ قال: يا رسول أني أقف الموقف" أي: في الجهاد والقتال في سبيل الله "..أريد وجه الله وأريد أن يُرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله ﷺ حتى أنزل الله قوله تعالى: (..فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ..)" يعني: يؤمن بلقاء الله "(..فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا) [الكهف:110]" وجاء في رواية في هذا الحديث: "يا رسول الله، الرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، والرجل يقاتل شجاعةً، والرجل يقاتل حميّة، أيّهم في سبيل الله؟" فنفَاهم كلّهم وأثبت واحدًا قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، هذا وحده، الباقيين كلهم لا أحد منهم في سبيل الله، لا إله إلا الله!.
"وكان ﷺ يقول: "مَن قام مقام رياءٍ وسُمعة راءى الله به يوم القيامة وسمّع." " قام في الجهاد أو غيره من الأعمال الصالحة "..مقام رياءٍ.." أي: إرادةٍ للخلق والمنزلة عندهم "..وسمعةٍ.." ثناءٌ حسنٌ ومدحٌ له بينهم "..راءى الله به يوم القيامة.." أي: كشف حقيقته وأنه كان مرائيًا، "..وسمّع." به الأولين والآخرين على رؤوس الأشهاد أن هذا فلان بن فلان كان يتظاهر بمواقف الطاعة والعبادة وهو يقصد الخَلق لا الخالق، فيسمع الكل عنه؛ لأنّه طلب السمعة في الدنيا فسمّع الله به -والعياذ بالله تعالى- وكشفَ حقيقته للناس.
"وفي رواية: "من راءَى بالله لغير الله فقد برئ من الله" " وهكذا، جاء الحديث عند الإمام أحمد بن حنبل كما هو عند الدارمي وقال الهيثمي إسناده حسن: "من راءَى بالله.." أي: بعبادة الله وطاعة الله "..لغير الله.." تظاهر بالعبادة يقصد بها غير وجه الله "..فقد برئ من الله" والعياذ بالله ولا حظّ له عند الله. "مَن سمّع الناس بعلمه سمّع الله به سامع خلقه وصغّره وحقّره" تظاهر بالعلم، وتفاخر بأنه أعلم، وقَصَدَ بإظهار العلم أن يسمع الناس عنه وعن علمه، ومن هؤلاء الناس؟ ومتى جاء الناس؟ وإلى أين يصير الناس؟ وفي ماذا يفيدونك؟! وأين ربّ الناس؟! "مَن سمّع الناس بعلمه سمّع الله به سامع خلقه.." كل من يسمع من الخلق؛ يسمّعه به، يعني: يكشف فضيحته أمامهم يوم القيامة أنه كان مرائيا. "..سمّع الله به سامع خلقه وصغّره وحقّره" نعوذ بالله من غضب الله، (..وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ..) [الحج:18].
قال: "من سمّع سمّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به" (جَزَاءً وِفَاقًا) [النبأ:26]، والجزاء من جنس العمل، وقال: "من قام مقامَ رياءٍ راءى الله به، ومن قام مقامَ سمعةٍ سمّع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة"، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: "من راءَى بشيءٍ في الدنيا وَكَله الله تعالى إليه يوم القيامة وقال: انظر هل يغني عنك شيئًا" " اذهب أنت والعمل الذي قصدت به الخَلق وانظر إن كان العمل هذا سيعطيك شيء أو الخَلق الذين عملته لأجلهم سيعطونك شيء؟! اذهب إلى عندهم... دعهم يعطونك، دعهم يثِيبونك، دعهم يؤجرونَك، دعهم… ماذا سيعمَلون لك؟! ولا يغفر إلا هو، ولا يرفع الدرجات إلا هو، ولا يعطي الثواب إلا هو، أنت ما قصدتنا! اذهب، خذ عملك هذا.. خُذه واذهب الى عند الذين عملت من أجلهم هيا اذهب!.. دعهم يعطونك ثواب، دعهم يعطونك أجر، دعهم يعطونك درجة، من أين سيأتون بها؟ ماذا يقدرون يعملون له؟ لا إله إلا الله! اللهمّ ارزقنا الإخلاص لوجهك الكريم "..وَكَله الله تعالى إليه يوم القيامة وقال: انظر هل يغني عنك شيئاً".
"وكان ﷺ يقول: "إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين ثم أتى باب السلطان طمعاً لما في يديه.." "، قرأ القرآن: حَفِظَه، وتفقّه في الدين: تعلّم أحكام الشريعة، هيا قُم بالعمل وعلّم خَلْق الله مخلصًا لوجه الله؛ راح إلى عند السلطان! ماذا تريد؟ قال: يعطونا مكافأة ومرتّب و...!! وصار العلم لأجلهم والقرآن لأجلهم، "..ثم أتى باب السلطان طمعاً لما في يديه.." ما ذهب إليه ناصح له، ولا مُذكّر له بالله، ولا مرشد له، ولا شافعًا لأحد من المحتاجين والمظلومين إلّا "طمعاً لما في يديه، خاض في نار جهنم بقدر خطاه" كم خطوات مشيت إلى عند السلطان؟ مثلها ادخل النار! مسافة كم؟ ربع كيلو؛ ادخل ربع كيلو في النار، كيلو؟ ادخل كيلو في النار، مشيت كم؟ كيلوين؟ غُص كيلوين في النار، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! قال: "خاض في نار جهنم بقدر خطاه" الخطوات التي خطاها للسلطان لأجل الطمع فيما في يديه. لا إله إلا الله! وكان بعض الصالحين يدخل على بعض السلاطين ليذكّرهم، ومع ذلك قال: إني أنكر قلبي كلّما دخلت عليهم! رغم إنه ما يدخل يريد شيء منهم ولا يطلبهم.
"وكان ﷺ يقول: "أخوف ما أخاف على أمتي الربَا والشهوة الخفية" " الربا وقد انتشر وقُنّن له، ورفعوا أعلامه في كل مكان حتى بجانب المساجد؛ هذا المسجد وهذا البنك الفلاني المتعامل بالربا بجانبه، على بابه، حتى بجوانب المساجد الثلاثة، وكتبوا باللافتات: البنك السعودي الفرنسي، البنك الكويتي الأمريكي، البنك … وهكذا، عبر الربا الخالص بجانب المساجد أقاموه، وانتشر بين الناس، "ويأتي على الناس زمانٌ لا يبقى فيه أهل بيتٍ إلا أكلوا من الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره". "..الربا والشهوة الخفية يعني الرياء" فهذا الذي يُصيب الناس، وإنما يتعرّض الناس لحرب الجبّار الأعلى بأمرين اثنين منصوص عليهما في الكتاب وفي السُّنّة، الأول: الربا، قال تعالى في النهي عنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ..) [البقرة: 278-279] والثاني: معاداة الأولياء، فقال سبحانه في الحديث القدسي: "من عادَى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب..". فإذا انتشر الربا ومعاداة الأولياء ماذا ينتظر الناس من أوضاع ومن أحوال؟! وهم تعرّضوا لحرب رب العرش جلّ جلاله، يحاربهم الجبّار جلّ جلاله فماذا سيصلح من أحوالهم وأوضاعهم؟! إذا وقعوا في مصيبة الربا ومعاداة الأولياء. والشهوة الخفيّة: الرياء، والرياء في أمّتي أخفى من دبيب النمل، و"أدنى الرياء شركٌ" أي: شرك خفي، وينفي صغار الشرك وكباره قولك: "..اللهم إنّي أعوذ بك أن أُشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم..". اللهم إنّا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا ونحن نعلم ونستغفرك لما لا نعلم.
وكان ﷺ يقول: "يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين،.." يطلبونها ويأكلونها ويخلطونهَا بالدين "يلبسون للناس جلود الضأن من اللين.." يتظاهر لك أنه طيب مسكين "..ألسنتهم أحلى من العسل،.." يجيب لك كلام حلو زين طيّب "..وقلوبهم قلوب الذئاب يقول الله عز وجل أبي يغترون أم علي يجترئون، فبي حلفت لأبعثنّ على أولئك فتنة تدع الحليم منهم حيران." ما يدري أين طرفهَا وكيف حلّها! والعياذ بالله، وكم قد وقع هذا في الأمة؟ فالله يخلّصنا والمسلمين، ويحوّل الأحوال إلى أحسن الأحوال، ويُعلّم قلوبنا وقلوب أهالينا وأهل ديارنا وقَراباتنا وطلّابنا وأحبابنا وجيراننا، يُعلّمهم قصد وجهه الكريم والإخلاص له.
" "لا يقبل الله سبحانه وتعالى عملاً فيه مثقال حبةٍ من خردلٍ من رياء" والله سبحانه وتعالى أعلم." يقول الله: "مَن عمل عملًا لي أشرك فيه معي غيري فكلًه للّذي أشركه معي، وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك". لا إله إلا الله.. لا يقبل الله أعمالًا يريد بها صاحبها غير وجه الله فاجتنبوا!
لا بارك الله في الدنيا سوى عَرَضٍ *** منها يُعدَ إذا ما عُدَت القربُ
يريد صاحبـــــــه وجــــه الإله بهِ *** دون الرياء إنّه التلبيس والكذبُ
فنسأل الله يرزقنا في قراءتنا وفي صلاتنا وفي حضورنا مجالس العلم وفي تربيتنا لأولادنا وفي كل ما نقوم به من الخير؛ الإخلاص لوجهه الكريم.
ثمّ بعد هذا التنبيه العظيم ووجوب التنبّه على المؤمن؛ لا يجوز للمؤمن أن يترك الأعمال الصالحة خوف الرياء فيكون من جملة حِيَل عدوّه إبليس عليه ليقطعه عن الصالحات؛ ولكن ما يُمكن أن يعمله من الصالحات في خلوة وخُفية فليعمل، وما لا يمكن عمله إلا في الجهر فلا يتركه من أجل خوف الرياء؛ ولكن يحذر من الرياء ويستغفر الله منه ويتوب إليه، ويقرأ الدعاء النبوي: "اللهمّ إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم"، ولا ينقطع عن العمل؛ لأنّ مقصود الشيطان عدوّك بوقوعك في الرياء أن يحبط عليك العمل، فإذا قصدت ترك العمل من أصله؛ وفّرت المشوار عليه بذلك أحسنت!! ما عاد لك شيء أصلاً!! ما يوجد عمل فما لك ثواب أصلاً! لو كان شيء عمل بيحاول ينقّص عليك الثواب أو يحبط عليك الثواب، لكن إذا ما يوجد عمل؛ أحسن خلاص أصبحت صاحبه أحسن ما تعمل الصالحات.. اتركها!! فله حِيَل يستعملها ليقطع الناس عن الخيرات، ولكن عليه أن يٌقدِم على الخير ويقوم به، ويُعاتب نفسه ويحاسبها ويراقبها ويرجع إلى ربّه سبحانه وتعالى، فإذا علم الله منه الصدق في ذلك خلّصه وأكرمه، وهكذا يرحم الله عباده.
وكم من عامل ابتدأ العمل مشوب ثمّ خلّصه الله تعالى؛ لمّا رأى فيه وجهة إليه وصدق منه؛ خلّصه. لا إله إلا الله! وأمّا من دامَ به شوب رياءِه حتى لَقِيَ الله فهذا على خطر كبير. قالوا: والعُجُب أخفى من الرياء، ويخلّص الله تعالى منه مَن سَبقت لهم منه سابقة السعادة، جعلنا الله وإياكم منهم.
اللهم ارزقنا كمال الإخلاص لوجهك الكريم، وكمال الصدق معك يا عليّ يا عظيم، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، وارزقنا المتابعة لحبيبك العظيم، ثبّتنا على دربه، واسقنا من شربه، وادخلنا في حزبه، وأسعِدنا بحبّه وقُربه، وأثبِتنا في ديوان أهل حسن متابعته ظاهرًا وباطنًا، وأصلح شؤون أمّته وارزقهم الإخلاص لوجهك الكريم، والصدق معك في كل ما يقولون ويفعلون، وخلّصهم من قصدِ غيرك وإرادةِ سِواك برحمتك، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
26 شوّال 1444