(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ قصيدة ( يا قلب وحِّد واترك الخلائق) للإمام عمر بن سقاف السقاف رضي الله عنه، ضمن فعاليات الدورة التعليمية الثلاثين بدار المصطفى بتريم
الدرس الرابع: شرح قوله: وعن سوى الله فاقطع العلائق
عصر يوم الثلاثاء 3 محرم 1446هـ
لتحميل القصيدة pdf:
يَا قَلْبُ وَحّدْ وَاتْرُكِ الخَلَائِقُ *** وَكُنْ بِمَوْلَاكَ الكَرِيمِ وَاثق
وَعَنْ سِوَى الله فَاقْطَعِ الْعَلَائِق *** وَالْزَمْ لِحُسْنِ الظَّنِّ لَا تُفَارِقْ
تأملنا بعض معاني قوله:
"يَا قَلْبُ وَحّدْ وَاتْرُكِ الخَلَائِقُ *** وَكُنْ بِمَوْلَاكَ الكَرِيمِ وَاثق".
قال: "وَعَنْ سِوَى الله فَاقْطَعِ الْعَلَائِق"، والمراد بهذه الْعَلَائِق: كل مَعاني من معاني الصلة غير المشروعة، غير المحبوبة للرب، في اعتقاد استقلال أحد منهم، فضلًا عن اعتقاد ألوهية أحد غير الله -تبارك وتعالى-، في الركون إلى شيء من الكائنات؛ من قوة، من جماعة، من جيش، من قبيلة، من مال… إلى غير ذلك، هذه العلائق علائق مذمومة، وعلائق تتحول حُجب، وعلائق غير مشروعة.
اقطع العلائق غير المشروعة..
فإذا أنت مع الكائنات غير مستعبدٍ لشيءٍ منها، ولا مُستهوى بشيءٍ منها، ولا مقطوع بشيءٍ منها، ولا محجوب بشيءٍ منها؛ لأنك كنت معها به وله ومن أجله، وعلى حسب ما أحبّ وشرع فكأنّك لم تكن إلا معه وحده دونها.
بهذه الصورة تُفلح وتنجح، إذا عكست وخبطت وقَلَّبْتَ العلاقة؛ ما أمرك تحتقره قمت تُعظّمه، ما أمرك تُعظمه قمت تَحْتَقِره، بدّلت.. غيرت.. علاقة غير قويمة، إذًا، علاقتك بهذا الكائن مقطوعةٌ عن العلاقة بالله، مخالفةٌ للعلاقة بالله، فهو لك حاجب وقاطع، فأمّا إذا لم يكن كذلك ورأيتها مجرّد أسبابٍ ومجرّد مفُعولَاتٍ مصنوعاتٍ مكوناتٍ تتعامل معها بما أحبّ مُكوِّنها وخالقها وشرع لك.
فيكون كما هو في عالم الحسّ، النّاس يتعاملون -مثلًا- مع أنواع الأطعمة التي أوجدها الله تعالى لهم وخلقها لهم، تعامل أنَّها مُسخَّراتٌ وكائناتٌ فيتناولونها، فتُذهب عنهم الجُوع، وتُغذّي أجسادهم بشيءٍ من التّغذية. وحتّى في هذا منهم من يتوهّم ويغلط ويظنّ أنّها فَعّالة بنفسها، وعلى قدر هذا الحجاب هو بإطعامها ينقطع ويكثف حجابُه وتكثر ظلمته، وكذلك أضرارها التي لا تخلو منها أنواع الأطعمة تُصيبه، ولكنّ الذي تَرفّع عن هذا، وعلم ما قال سيّدنا الخليل إبراهيم -عليه السلام-: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء: 79]. فهذا يكون أبعد عن أنْ تضرّه بأفاتها، ولا ينقطع بها، ويأكُلها باسمه تعالى وللتَّقويّ على طاعته، فيزداد بها قُربًا وتنويرًا.
إلا أن نتيجتها الحسّيّة من حيث تغذية الجسد على العموم ما يقطعها الله عن أحدٍ؛ لكَرَمِه ولتكفُّله برزق عباده وإن كفروا. أكفر كافر وألحد مُلحد في الأرض جعل الله له رزق من حين كان في بطن أمه، وحين خرج من بطن أمه، وحين يأتي إلى سنّ التّمييز، و يأتي إلى سنّ التّكليف، وإلى أن يموت.. فلا ينقص شيء من هذا الرّزق وإن كفر، وإن ألحد، وإن عمل ما عمل، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُهَا) [هود: 6] جلّ جلاله وتعالى في عُلاه.
فما قدّره هو يكون، وهو المتكفّل بأرزاق عباده لأنّهم عَبِيْده، ولكنّ النّتائج الأخرى العليّة.. لهذا علّمنا أنْ نقول: بسم الله الذي لا يضُرّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السّماء.
ولمّا قوي اليقين عند سيّدنا خالد بن الوليد، وتحدّوه الكفار في موقف وقالوا: تدّعون أن إلهكم هذا خالق كل شئ، وبيده كل شيء، وقادر على كل شيء، ويقول لكم نبيّكم كذا، خذ هذا سمّ، هيا اسأل ربك! نريد أن نرى هل ربُّك يدفع عنك ضُرّ السُّم هذا؟ هذا أمر مُخالف للسُّنَّة الإلهيّة في الوجود، ولكن لمّا تشبّث أولئك الكفرة في هذا الموقف، وامتلأ قلب سيّدنا خالد بن الوليد، قال: هاتوا سمّكم، تناول سمّهم، كان سمًّا قاطعً يقتل في ساعة، وقال: "بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السّماء"، واحتسى السم أمامهم، تعجبوا! انتظروا ساعة.. ساعتين .. ثلاث ساعات؛ ما به شيء، قويّ ويتحرّك، ولا مات ولا ضعف فضلًا عن أن يموت، كان حُجّةً عليهم -لا إِلَهَ إِلَّا اللَّه- "لا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"، فسبحانه.
"وعَنْ سِوَى الله فَاقْطَعِ الْعَلَائِق"، يعني لا تقم لك أدنى معنى من الصلة حتى بنفسك، حتى بأعضائك، حتى بنظرك وسمعك إلا بما شرع لك الله، آلاتٌ مسخّرةٌ تتقي الله فيها وتَصْرِفها فيما أحب، تُحب منها وفيها ما أحب، وتكره منها وفيها ولها ما كَرِه سبحانه وتعالى.
أما تنشئ علاقة على غير هذا الوجه، فاقطع جميع تلك العلائق على غير هذا الوجه بجميع الكائنات وجميع المخلوقات، فلا تحب إلا له ومن أجله، ما تحب سواه إلا له ومن أجله؛ ما أحبه، ومن أحبه، فَتُحِبَّهُ له ومن أجله فكأنك لم تحب إلا هو، ولا تبغض إلا ما أبغضه -سبحانه وتعالى- فكأنك لم تحب إلا هو؛ لأنك أبغضت ما يبغض، وأحببت ما يحب من الكائنات، فكانت علاقتك مع الكائنات علاقةٌ حَقِّية، فإذا خرجت عن منهج الحق صارت:
فلابد نقطع هذه العلائق، وهي التي يبني عليها شيطان تلبيساته وتَدليساته، ويصلّح بين الخلائق علائق على الباطل، في اعتماد بعضهم على بعض، وركون بعضهم إلى بعض، وفي اعتقاد استقلال بعضهم، وفي مُراءاة بعضهم، وفي تكبر على بعضهم البعض؛ علائق خبيثة كلها، تقطعهم عن الله.
"وَعَنْ سِوَى الله فَاقْطَعِ الْعَلَائِق"، فلا تكون علاقتك وصِلَتُك إلا به، كيف تعمل في الكائنات؟ حسب ما شرع لك، إيش قال لك؟ نفّذ قوله.. قال لك: إلبَس إلبَس، قال لك: كُل كُل، قال لك: إلبس حلال، إلبس حلال، قال لك: كُل حلال كُل حلال، قال لك: لا تُسرِف لا تُسرِف، وإذا أَسرَفت في الأكل انعقدت علاقة بينك وبين الطعام غير مشروعة، وخذ الآن نتائجها، نتائجها في البُعد والإظلام، ونتائجها في صحتك، خَرَّبتَ صحتكَ حتى في الحياة، فاجعل علائقك بالله ولله ومع الله في كل شيء.
"وَعَنْ سِوَى الله فَاقْطَعِ الْعَلَائِق "، وكن على قَدم الأدبِ معه في رَجائه، وحُسنِ الظنِّ به، وبِعِبَادِه.
"وَالْزَمْ لِحُسْنِ الظَّنِّ لَا تُفَارِقْ"، قال سيدُنا الإمامُ الحداد:
ولحُسنِ الظن ألازِم *** فهو خِلِّي وحَلِيفِي
وأَنِيسِي وجَلِيسِي *** طولَ لَيلِي ونَهارِي
والمواهِبُ جميعًا والمِنَن تحتَ حُسنِ الرَّجاءِ، فاحْطُطْ هُنا.
ولذا قال العارفون: إنما يكونُ الوُصولُ إلى اللهِ -تبارك وتعالى- بحالِ الرَّجاءِ، مقامُ الرَّجاءِ يُثمِرُ حالَ الوُصولِ إلى الحقِّ -جلَّ وعلا- بصدقِ الرَّجاءِ.
قال الحبيب عليّ:
تحتَ بابِ الرَّجاءِ وقفتُ بِذُلِّي *** فأغِثْنِي بالقَصْد قبلَ المَنِيَّة
"وَالْزَمْ لِحُسْنِ الظَّنِّ":
"وَالْزَمْ لِحُسْنِ الظَّنِّ لَا تُفَارِقْ"، فإن من حَسُنَتْ ظُنُونُهُ هَطَلَتْ مَزُونُه. فَلازِمْ حُسنَ الظنِّ، ليَهْطُل عليكَ المِزَنُ بالمَنِّ من حضرةِ عَالمِ السِّرِّ والعَلَن -جلَّ جلاله-.
وكل سوء ظن يمنع عنك خير، إن لم يوقعك في شر؛ يعني:
إيش عليك من هذا؟ قال: ولو أحسنت الظن بعباد الله كلهم ما خاطبك الله ويقول لك لماذا أحسنت الظن بأي واحد؟ لكن إذا أسأت الظن يخاطبك ويقول لك: لماذا قلت في فلان كذا؟ لماذا ظننت في فلان كذا؟
ما يقول لك: لماذا أحسنت الظن في واحد وهو كان عاصي وكان ما يحبنا وكان يترك فرائضي؟ وأنت لماذا أحسنت الظن؟ ولا يخاطبك أبدًا. لكن تُسيء الظن في واحد من عِبَادُه يحاسبك، ويقول لك: لماذا أسأت الظن في هذا؟ .. ولذا كانوا يقولون:
فالله يرزقنا حسن الظن به وبخلقه، في أدعية سيدنا الشيخ أبو بكر بن سالم: اللهم ارزقنا حسن الظن بك وبِخَلْقِك.
04 مُحرَّم 1446