(535)
(363)
(339)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله باراس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية الثلاثين بدار المصطفى بتريم، عصر يوم الخميس: 5 محرم 1446هـ، من قوله:
(عِبَارَاتُهُمْ إِمَّا لِفَيَضَانِ وَجْدٍ ، أَوْ لِقَصْدِ هِدَايَةِ مُرِيدٍ ، فَالأَوَّلُ حَالُ السَّالِكِينَ ، وَالثَّانِى حَالُ أَرْبَابِ الْمُكْنَةِ وَالْمُحَقِّقِينَ)
وعباراتهم ومصونات إشاراتهم لا يكونون فيها مختارين، بل لمعان لهم فيها، فلا يستعجلون وجودها ما لم تظهر الحكمة في ذلك؛ لذلك قال المصنف رضي الله عنه:
186: عِبَارَتُهُمْ: إِمَّا لِفَيَضَانِ وَجْدٍ، أَوْ لِقَصْدِ هِدَايَةِ مُرِيدٍ؛ فَالْأَوَّلُ: حَالُ السَّالِكِينَ، وَالثَّانِي: حَالُ أَرْبَابِ الْمَكِنَةِ وَالْمُتَحَقِّقِينَ.
عبارة الطائفة فيما يظهرون من مُغَيَّبَاتِ الأسرار ومَصُونَات الأنوار لأمرين لفريقين وهم إما سالكون ومريدون، وإما واصلون متمكنون في أحوالهم ومقاماتهم، يحكمون على ما يجدونه من المواجيد لما عندهم من الثبوت في التوحيد.
والعبارة عن الحقائق وظهور الآيات عند السالكين غلبة وتحكم من الوارد عليهم، فلا يجدون عن التعبير مندوحة، فيُترجمون عن الحال الحاكم عليهم، وهم غائبون عنهم فيما يبرز منهم، فهم معذورون ويصْحبهم التّأييد والحفظ.
وإن كان على غير ما ذكرنا فذلك من سوء أدب المريد، والتفات منه عن مَهْيَعِ المزيد، فيتخلّف عنه التأييد ولا يصحبه التسديد، كما يشير إلى ذلك حديث عبد الله بن عمر حيث قال له ﷺ: "يا عبد الله بن عمر لا تطلب الإمارة فإنك إن طُلِبْتَ لها أُعِنْتَ عليها وإن طَلَبْتَها وُكِلْتَ إليها"، أو كما قال.
وَأمّا أَهْلُ التَّمكينِ فَإِنَّهمْ فانونَ عنْ أنفُسِهِم بَاقُونَ بِرَبِّهِمْ، فَلَا تَغلِبهُمُ الْأَحْوَالُ وَلَا يَغْتَرُّونَ بِمَا يَغْتَرُّ بِهِ الْأَغْرَارُ وَالْجُهَّالُ، فَلَمْ يَتَكَلَّمُوا عِنْدَهُ لِإِظْهَارِ تعزز ودعوى، بل يكونون عاكفين بأسرارهم في حضرته، متأهبين لما يلقى من سر الخطاب ولذيذ المناجات وشهود الاقتراب، فلم يلووا عن ذلك إلا لإرشاد العباد، وإيضاح طرق الإرشاد، والدعاء إلى الله على البصيرة المنيرة والمحجَّة المستنيرة، (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف:108]، فافهم -هديت- قوله (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) تعثر على سرِّ قوله ﷺ: "واشوقاه إلى إخواني في آخر الزمان"، ولي في ذلك:
عبارة القوم عن تحقيق مشهدهم *** إما لغلبة حال سكر من شَربا
والواصلون لغاية نيل مَطلبهم *** يفوح منْهم عبير يهدي الطلبا
وغير ذلك عيب عند سادتهم *** أولي العزائم من ساداتنا النُّجَبا.
فالعبارة هي ما يعبر عليها من ظاهر لغيب، ومن لفظ لمعنى، ومن صورةٍ لسورةٍ، فلذلك افترقت العبارة بحسب افتراق القوابل، لذلك قال المؤلف رضي الله عنه..".
يقول: عِبَارَتُهُمْ يعبرون إِمَّا لِفَيَضَانِ وَجْدٍ، أَوْ لِقَصْدِ هِدَايَةِ مُرِيدٍ
فَالْأَوَّلُ: حَالُ السَّالِكِينَ يفيض الوجد عليهم فيتكلمون.
وَالثَّانِي: حَالُ أَرْبَابِ الْمَكِنَةِ وَالْمُتَحَقِّقِينَ، يخاطبون كل مريد بما تهيأ وتأهل له مما يعينه على ارتقائه من الحال الذي هو فيه والمقام الذي هو فيه إلى ما هو فوقه.
فقال: "عبارة الطائفة فيما يظهرون من مغيبات الأسرار ومَصونات الأنوار؛ -والمعاني الدقيقة- لأمرين لفريقين:
وهم إما سالكون ومريدون.
وإما واصلون متمكنون في أحوالهم ومقاماتهم". لا إله إلا الله.
يقول: "العبارة عن الحقائق وظهور الآيات عند السالكين غلبة وتحكم من الوارد عليهم، فما يجدون عن التعبير مندوحة -أي: سعة- فيترجمون عن الحال -الذي نازلهم- الحاكم عليهم، وهم غائبون عنهم فيما يبرز منهم؛ فهم معذورون، يصحبهم التأييد والحفظ"، على حسب، فهؤلاء لكونهم لم يبلغوا درجة التمكين كلما نازلهم من أنوار -انكشاف كثير من الحقائق- غلبهم وطغى عليهم؛ فلا يجدون سعة من أن يتكلموا؛ ولكن بحسب صدقهم في وجهتهم يحفظهم الحقُّ ويتولَّاهم، فيكون تلك الغلبات محاطة بعنايات ورعايات، وتكون فيها من حيث وقتها ومن حيث من يسمعها منهم وإلى غير ذلك مما يتصل بها.
قال: أما الآخرون فإنما يتكلمون لحاجة المريد في سيره إلى ربِّه -سبحانه وتعالى-، فيتكلمون بما تهيأ وتأهل له مما يساعده على الارتقاء من المقام والحال الذي هو فيه إلى ما هو فوق ذلك، فيتحدثون معه ويشوقونه ويرغبونه، وهم قد فنوا عن أنفسهم وبقوا بربهم جلَّ جلاله؛ "فالأحوال ما تغلبهم، ولا يغترون -بما ينازلهم- بل يكونون عاكفين بأسرارهم في حضرة الحقِّ تعالى، متأهبين لما يلقى من سر الخطاب ولذيذ المنجاة وشهود الاقتراب"، فما يكون منهم إلا ما كُلِّفُوا به من "إرشاد العباد وإيضاح طرق الرشاد"؛ فهؤلاء الداعون إلى الله "على البصيرة المنيرة والمحجة المستنيرة. (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف:108]".
قال: تأمل "قوله (وَمَنِ اتَّبَعَنِي)" تعثر على سر قولهﷺ "واشوقاه إلى إخواني في آخر الزمان"، وأصل الحديث في صحيح مسلم: "وَدَدْتُ أن لو رأَينا إخوانَنا" وذلك وهو يقبر بعض الصحابة وَهو عند قبره يَنكُت بعود في الأرض وقال: وددت أن لو رأَينا إخوانَنا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله، قال: "أنتم أصحابي، إخواني قوم يأتون من بعدي آمنوا به ولم يروني يود أحدهم لو رآني بماله ونفسه"، فهؤلاء أتباعه من الذين هُيِّؤوا للخلافة والنيابة عنه، من كمالُه تقدَّم شوقه إليهم قبل أن يعرفوا الشوق وأن يوجَدوا في الوجود، وتقدَّم نظره إليهم، فما كان منهم في هذا العالم من محبة أو شوق إلا وقد سبق منه الأصل ﷺ؛ فهم في معنى: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة:54]، فما جاء (يُحِبُّونَهُ) إلا بعد ما جاء (يُحِبُّهُم)، فالفضل له، ومهما أحبوه من أجل الله فعلى قدر معرفتهم بالله فأين هم من معرفته؟! وهو يحبهم فلن يستطيعوا أن يصلوا محبته لهم مهما أحبوه ﷺ.
(أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف:108] فمن تحقق بالاتباع سرت إليه البصيرة، نور البصيرة (عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتََبَعَنِي)، وتنور في مسيره، وفرَّق بين الأمور بهذا النور، فيكون على بصيرة في دعوته إلى الله والدلالة على الحق سبحانه وتعالى.
قال: "العبارة هي ما يُعْبَر بها وعليها من ظاهر لغَيب، ومن لفظٍ لمعنى، ومن صُورة لسُورة"، قال: "فلذا افترقت العبارة بحسب افتراق القوابل" والقابليات ومن يتلقى عنهم، ولهذا قال:
187: "العبارة: قوت العائلة المستمعين، وليس لك إلا ما أنت لهُ آكِلٌ".
كلٍّ يَلْقُطُ على ما شاف الثُّمُر دان، وكل واحد من حيث هو، ومن حيث استعداده يأخذ، وقد تكون العبارة واحدة؛ ولكن هذا يأخذ من هذا وهذا ذا، وكله فيها أشياء كثيرة وسطها، هذا يأخذ من هذا وهذا يأخذ هذا، وهذا يأخذ هذا، فهو قوت العائلة، وإذا جاء قوت العائلة ووضع بين أيديهم، لا يأكل كل واحد منهم جميع القوت، بل كل واحد يأخذ جانب من القوت ونصيب من القوت يأكله.
وقال رضي الله عنه وعنكم:
"187: العبارة: قوت العَائلة المستمعين، وليس لك إلا ما أنت له آكل.
العبارة تُبرز من خزانة الغيب مجملة فتقع على القوابل الفهمية بواسطة ألفاظ محسوسة، أو إفهام بمعنى غير اللفظ، إما مشهود، أو متخيل، أو متشكل بصورة المحسوس، فتوجد عند الواجد لشيء من هذه المعاني غير معنى لطيف، على حسب ما عنده من الفهم، فعبر من ظاهر اللفظ إلى باطن المعنى، وهو إما من عالم اليمين والفضل -وهو المراد للمصنف هنا-، وإما من عالم العدل، وهنا يتجه أن يرادَ به السماع عند الطائفة واختلافهم فيه على طرق شتى.
وأفضل ما سمع عنه وأنصت: القول المعجز البليغ، الذي احتوى على مَصونَات الحقائق، وتضمن نفائس الرقائق، واجتمعت فيه متفرقات الطرائق، وهو كلام الله المجيد، الذي من قال به صدق، ومن اقتدى به اهتدى.
و(القوت) في عبارته يشير به إلى ما يرِد على الأسرار والقلوب من خزائن الغيوب؛ لأن للأرواح أقواتًا، وللأشْباح أرزاقًا ممزوجة بأقوات وغير ممزوجة، فالقوت الصرف للأرواح العلوية، والرزق الصرف من غير امتزاج القوت للنفوس الأرضية البهيمية والظلم الشيطانية، والرزق الممزوج بالقوت للقوالب الآدمية والأسرار الإنسانية، وإليه -والله أعلم- يشير الحديث عن رسول الله ﷺ حيث قال: "اللَّهمَّ اجعل رِزقَ آلِ محمَّدٍ قوتًا"، أي صرف معرفة ومحبة وشهود أو نزول أسرار ولطائف وجود"".
هكذا يقول: "العبارة تبرز من خزانة الغيب مجملة فتقع على القوابل الفهمية بواسطة ألفاظٍ محسوسة"، فتأتي عدد من المعاني المختلفة يقف عليها صاحبها من حيث هو مستعد؛ وهو صافي؛ وهو واعي لما يقال.
قال: "وأفضل ما سُمِعَ وَأُنْصِتَ إليه القول المعجز البليغ كلام الحق جل جلاله" فالعلوم فيه كلها، والأسرار فيه كلها؛ وأعظم الأولياء فتحًا من يكون فتحه في القرآن، (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) [الكهف:109]، لهذا تحتوي كل سورة؛ بل كل آية؛ بل كل كلمة في القرآن على معاني لطيفة وأسرار شريفة وحقائق منيفة تبدد الحجب الكثيفة واللطيفة بسرايات ربانيات رحمانيات، ولذا أشار سيدنا علي إلى مقام علي فيما قال: "إلا فهما يؤتَاه أحدنا في كتاب الله"؛ لأنه يَفهم عن الله -تبارك وتعالى- وما من عبارة أحسن من القرآن، فهو معدن العلوم ومركزها وأصلها.
ثم قال: "و(القوت) في عبارته يشير به إلى ما يرد على الأسرار والقلوب من خزائن الغيوب لأن للأرواح أقوات، وللأشْباح أيضا أرزاق ممزوجة بأقوات وغير ممزوجة، فالقوت الصرف الخالص للأرواح العلوية، والرزق الصرف من غير امتزاج بقوت للنفوس الأرضية البهيمية والظلم الشيطانية، والرزق الممزوج بالقوت للقوالب الآدمية والأسرار الإنسانية".
فالمُعرضون والفاسقون والكفار لهم رزق ما فيه شيء من حقائق القُوت المعنوي.
والمؤمنون المتوجّهون والمقبلون والعاملون بطاعة الله من السالكين لهم مع هذا الرزق الذي يأخذونه مزج من القوت الروحي العظيم.
أما أرباب الوصول والكمال فلهم خالص القوت، فهذا القوت الصرف للأرواح العلوية.
والشيخ رأى أن مما يحمل معنى حديث: "اللَّهمَّ اجعل رِزقَ آلِ محمَّدٍ قوتًا" أنه يشير إلى هذا غير ما جاء في الرواية: "كفافاً"، قال: معنى قوتاً: "صرف معرفة ومحبة وشهود أو نزول أسرار ولطائف وجود" من حضرة البر الودود، فالله يوفر حظنا من هذا القوت ومن هذه الأرزاق الحسية والمعنوية.
وانقسامهم هذا في الدنيا هو الذي يقوم عليه انقسامهم في الآخرة فأهل النار في النار وأهل الجنة ما بين أبرار يشربون (مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ) [المطففين:25-27] ممزوج، وفوق المقربين: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين:28] فيمزج من شرابهم لبقية أهل الجنة وهم كذلك كانوا في الدنيا، لا إله إلا الله.
واشرب تسنيم مفجرها *** لا ممتزجا وبمُمتزج
اللهم اسقنا
اللهم صلِّ عليه وعلي آله وأصحابه، وسر بنا في دربه واسقنا من شرابه وتولنا به وخلقنا بأخلاقه وأدبنا بآدابه، وارفع كل حجاب بيننا وبينك ومزق كل حجاب بيننا وبينك به تمزيق، وانضمنا في سلك أهل الاستقامة على أقوم طريق، والشرب من أحلى رحيق، والاستمساك بالعروة الوثيقة، والارتقاء لمراتب القرب الأنيقة، وانظمنا في سلك أهل الصدق من خيار الخلق، وارزقنا في كل خير قصد السبق، تولنا ما توليت به محبوبيك والمقربين إليك، فرج كروب أمة حبيبك محمد وادفع البلاء عنا وعنهم أجمعين، واقبلنا على ما فينا وأقبل بوجهك الكريم علينا يا كريم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأعذنا من كل شيطان رجيم ومن كل لئيم، وانظمنا في سلك من ارتضيت وقربت واصطفيت ورفعت وأعليت، وأعذنا من كل سوء أحاط به بعلمك في الدين والدنيا والبرزخ والآخرة، واختم لنا بأكمل الحسنى وأنت راض عنا في خير ولطف وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
05 مُحرَّم 1446