(209)
(536)
(568)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة مريم:
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
مساء الإثنين 29 صفر الخير 1446 هـ
الحمد لله الذي مَنَّ علينا بتنزيل كتابه، وبيانه على لسان سيد أحبابه، سيدنا المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأهل متابعته والاقتداء به، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين، ساداتِ مَن وعى عن الله شريف خطابه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرحمين.
وبعد؛
فإننا في نعمة تأمل كلام ربنا -جلَّ جلاله- وما أوحاه إلى نبينا ﷺ، يُعلمُنا ويُرشِدُنا ويدُلُّنا ويوجّهنا وينبهّنا، تنزُّلاً منه -سبحانه وتعالى- وتفضلًا علينا؛ قد انتهينا في الأسبوع الماضي مِن تفسير سورة الكهف، وها نحنُ نشرعُ في سورة مريم، السورة التي تلي سورة الكهف، والتي افتتحها الحق -سبحانه وتعالى- بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم (كهيعص (1))
وكانت هذه الحروف المُقطّعة التي تُبتَدأ بها بعض السور محل نظرٍ لأهل العلم، فمنهم مَن جعلها مِن المتشابهات التي لا يدرك معناها إلاَّ الله تعالى، ومنهم مَن جعلها دلالات وعلامات وإشارات، إمَّا خطاباً للنبي محمد أو إشارات إلى أسماء مِن أسماء الحق -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- ؛
فهو الكافي ويذكرون بمثل اسمه هذا في حرف الكاف
وهو الهادي؛ ويذكرون اسمه هذا في مثل الهاء
وهو -سُبحانه وتعالى- العظيم، الحليم، الحكيم؛ ويذكرون مثل هذه الأسماء عندما ينطقون بالياء
وهو -سبحانه وتعالى- العليم، العظيم؛ ويذكرون أمثال هذه الأسماء عند النطق بالعين
وهو كذلك -جلَّ جلاله- أصدق القائلين وأهل الصادق؛ ويذكرون هذا الاسم عند حرف الصاد إلى غير ذلك من المعاني، وقد كان يذكر بعض العارفين أن "صاد" اسمٌ للفراغ الذي يجمعُ الله فيه الخلق يوم القيامة لأجل الجزاء والحساب "صاد".
يقول: (كهيعص (1))، وقرأ بعضهم بكسر الكافِ، وبعضهم بكسر الياء، وبعضهم بكسرهما معًا (كهيعص (1))،
يقول الحق: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2))، أي هذا ذكر معاني رحمة الله تعالى لعبده زكريا، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.
يذكر الله تعالى أنبياءه على سبيل التعظيم والتمجيد والإشادة بهم والتنويه بشأنهم في كتابه؛ فعُلمَ أنَّ ذلك مسلك المؤمنين يُرضونَ بهِ ربهُم ويقطعون به أشواط السير إليه ويتقربون به إليه، أن يذكروا أنبياءه -سبحانه وتعالى- ثم أولياءه بما هم أهلٌ له، فلقد قال: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) [يوسف:111].
وفي هذه السورة بعد ذكر رحمة ربنا عبده زكريا، يذكُرُ -سبحانه وتعالى- مريم ويذكُرُ عيسى بن مريم، يذكُرُ إبراهيم، وغيرهم، واذكر واذكر واذكر؛ فذكرُ هؤلاء مقربةٌ إلى الرّبِ -جلَّ جلاله-. وفي هذا بيان لنا وللأمة، أنَّهُ يجبُ أن يكون في حياتنا، وفي خلال ساعات ليالينا وأيامنا مجال لذكر أحباب الله بالتعظيم والإجلال، وأنه لا ينبغي أن نذكُرَ الفجار والكفار ومَن عادَى الله ومَن انقطع عن الله، إلاَّ بالتبري منهم والبعد؛
كما رتب لنا ذلك في الفاتحة:
فذكر لنا -سبحانه وتعالى- أوصافهُ العلا وأسماءه الحسنى في الفاتحة،
ثّمَ علمنا الدعاء للهداية للصراط المستقيم،
ثم ذكر لنا أهل هذا الصراط المستقيم (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة:7]،
ثم علَّمنا أن نذكر مَن خالفهم في التبري عنهم وعن كل مخالفاتهم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة:7].
فكان أساسا مؤصّلًا في المسلك القويم، ومقتضى الإيمان بالله العظيم -جلَّ جلاله-، موالاتنا لأنبياء الله وأولياء الله، ومعاداتنا لأعداء الله؛ أمرًا ضروريًا، لا يتترجم الإيمان إلّا به، وفي دعاء نبينا ﷺ يقول في كل يوم قبل صلاة الفجر: "نُحِبّ بِحُبّك الناس ونُعادي بِعداوتك مَن خالفك مِن خلقك" ﷺ؛ بذلك جاءنا في السنة " الحب في الله والبغض في الله مِن أوثق عُرى الإيمان".
فانظر ابتدأ الله السورة (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)):
أي هذا وقت ذكر رحمة الله -تبارك وتعالى-
أو ذكرُ ربك -سبحانه وتعالى- لعبده زكريا بالرحمة؛
فقد اختصَّهُ بخصوصيةٍ في الرحمة التي اختصّ بها الخواص:
رحمته العامة شاملة لجميع الوجود؛ اخرجه من العدم رحمةً منهُ، ورزقهم رحمةً منهُ، وأمدهم بأنواع الإمدادات، رحمةً منهُ -جلَّ جلاله- ولم يعجل بالعذاب عليهم رحمةً منهُ، وقبِلَ التوبة مِن التائبين رحمةً منهُ، ولم يعذب قبل إرسال المرسلين رحمةً منهُ، فرحمته العامة شاملة لكل موجود.
لكن رحمته الخاصة المؤدية إلى نعيم الأبد وسعادة الأبد؛ للمؤمنين، (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) [الأحزاب:43]، (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) [الأحزاب:44]،
ثمَّ إنَّ هؤلاء المؤمنين ليسوا على رتبتين في هذه الرحمة مِن قِبلِ -الرحمن الرحيم جلَّ جلاله- فهم على درجات فيها، (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ) [البقرة:105]، فرحمته لعموم المؤمنين ليست كمثل رحمته لخواصهم، رحمته للمقربين الصَّدِيقين مِن الخواص ليست كمثل رحمته لعموم الأولياء، رحمته للأنبياء ليست كرحمته للصَّديقين مِن غير الأنبياء.
ومِن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والرسل رحمَ كلُّ واحدٍ منهم برحمات في خصوصية الخصوصية، وفيها مزايا تليق به.
كما جعل الله صورة كل إنسان لا تشبه الآخر والشكل الواحد في أصل التقويم؛ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4]، لكن لا توجد صورتين متطابقتين متشابهتين، بل ولا تجدُ حتى خلايا العين متفقة مع الناس أبدا، بالملايين ما تتفق خلايا هذا مع واحد آخر أصلًا، وحتى ما في الأصابع عندهم أيضا مِن بصمات ما تتفق مع إثنين أبدا بالملايين ملايين وأولوف الملايين، ما في اثنين متطابقة تماما؛
هذا اشارة إلى عطائه الواسع، وأنه يختص كل واحد بشيء ليس في الآخر، مع مشاركتهم في عموم أصل الخِلقة والتكوين، مثلاً في عالم الصور، كذلك في العالم الباطن؛ عظّم الأنبياء ورحِمهم رحمة خاصة، ولكن مع كل ذلك في كل واحد منه نوع من الرحمة خاصة ليست مع الآخرين وهكذا -جلَّ جلاله- في عظمة جوده وعطائه.
فهنا يقول هذا -ياحبيبي محمد- مني على لسانك لأمتك، موضع ذكر ذكري لعبدي زكريا بالرحمة التي اختصصتهُ بها؛ لأُجْري مظاهرها أو مجالي منها في هذه الكلمات والآيات العظيمة:
(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2))، أي ذكر ربك لعبده زكريا بالرحمة، (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (زكريا) تأتي بالقصر بلا مدٍ وهمزة وتأتي مع الهمزة أيضاً (زكرياء)، وهي قراءتان من القراءات السبع.
قال: (إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ ..(3))، فلمَّا أراد أن يذكُر مجلى من مجالي رحمته الخاصة بالعبد زكريا، ربطها بعنوان الرحمات التي يرحم بها عباده وهو تضرعهم وابتهالهم بها: (إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ)، (إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3))،
(إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ) -جلَّ جلاله- داعياً، متضرعاً، مبتهلاً، متذللاً
(إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ) قال: يا رب
(نَادَىٰ رَبَّهُ) الذي امتلأ قلبه بحبه وبتعظيمه وإجلاله، وبلغ الذِّروة التي هيأها الله له في حق اليقين، مجالات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم،
(نَادَىٰ رَبَّهُ) بعبوديته لله تعالى، وذلّته لله تعالى، وخضوعه لله تعالى، بشهود عظمة هذا الإله
(إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ) فعلينا أن نكسب السعادة بكثرة نداء ربنا، بكثرة دعاء ربنا، بكثرة التضرع الى ربنا -جلَّ جلاله-، فإن هذا العنصر الشريف إذا خرج من حياة الإنسان في عبوديته؛ خرج من حياته بهجة، وخرج من حياته نور، وخرج من حياته سعادة، خرج من حياته فضل وفيض يتفضل به على الدعاه: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) [الفرقان:77]
فتذكّر وتفكّر، أذِن لنا أن ندعوهُ وسمح، فتح الباب وهو من؟ ونحن من؟ أنت خلْق مثلك في الدنيا يصعب عليك تناديهم، يصعب عليك تكلمهم، يصعب عليك تصل إليهم، يصعب عليك تخاطبهم، وهذا ربُّ العالمين، فاطر السماوات والأرضين، ربُّ العرش العظيم، فسح لك المجال: ادعني متى شئت، وفي أي وقت شئت، يقول:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60]، لا إله إلا الله،
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60]،
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:186]،
فما هذا الشرف الذي شرفنا الله به! فهل اغتنمنا هذا التشريف من هذا الإله اللطيف وقمنا بعمارة ساعات من أعمارنا في الدعاء في الخلوات والجلوات، وهذا نوع من الأدعية:
(نِدَاءً خَفِيًّا ..(3))، بعد أن نام أكثر الخلق والْتهوا بما هم فيه، قام هو يناجي ربَّه في الليل والناس نيام.
(نِدَاءً خَفِيًّا ..(3)) بعيداً عن الرياء وارادة الخلق،
(نِدَاءً خَفِيًّا ..(3)) نداء من يوقن أنه يسمعنا ولو لم ننطق، يسمع خواطرنا وما يُجِيش في صدورنا؛
ولكن نتشرّف بالتعبير بألسِنتنا في خطابه وندائه ودعائه، -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-. ورتب على ذلك خيرات منه سبحانه وتعالى.
يقول: (إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3))، ونداءا خفياً في اخلاصه -لله تعالى- وصدقه مع الله -جلَّ جلاله-؛ فيخفى سره على القريب والبعيد، حتى على الملائكة الذين يطلعون على مبادئ الاخلاص وظواهره، ولا يستطيعون الغوص على سرِّ سرِّ الاخلاص، الذي يردفه الله في قلب المخلص، فهو نداء خفي بمعاني كثيرة.
(إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3))، قال: وهذا النداء الخفي، الحق اعلمُ به، ولا تخفى عليه خافية.
قال: ربِّ، أي يا رب، (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ..(4)) ضعُف ورقَّ العظم .. وهن؛ وهذا الغاية في الضعف، فإن ضعف الإنسان يبدأ في لحمه ودمه، لكن ما يصل الضعف للعظم الا اذا صار الضعف غاية، (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ..(4))، يعني وصل بي الضعف إلى حدٍّ كبير وصار العظم وهِن، صار العظم ذا وهَن، أي ذا رِقة وضعف.
(إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ..(4)) ظهرت علامة كبر السن التي هي في الغالب قد تحصل للإنسان في صِغر سنِّه، وقد ولد "شيبة الحمد" جد النبي ﷺ الذي اشتهر باسم عبد المطلب، وفي رأسه شعر شيب، ولدَ بشيبة؛ فلذا سمي "شيبة الحمد". قد تكون من الصغر ولكن في الغالب إنما يكون نذير بأن السن الأكثر قد مضى عليك يا أيها الآدمي، وهذه واحدة .. اثنين .. ثلاثة من علامات اقتراب الملاقاة فانتبه من شأنك وعمرك، (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) أي كبر سني، وظهر الشيب في رأسي، أي اشتعل شيب الرأسِ: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ..(4)).
(وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي ما كنتُ قطُّ شقياً بدعاءٍ دعوتك إياه، فما دعوتك إلا ورأيت أثر إجابتك، فأنا سعيدٌ بكل دعاءٍ أدعوك، كذلك يمتد إلى ما أدعوك به الآن كما أجبتني فيما مضى، ما شقيتُ بشيءٍ من الدعاء لك، بل رأيتُ أثرَ الفائدة والاجابة لي، وها أنا أدعوك منتظراً ذلك، وما يقول -سيدنا زكريا عليه السلام-: (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ..(4))، ومن معانيه أن بدعائك لي إلى الإيمان فآمنت، دعوتني فآمنت، ولم أكُن شقياً: لم أخرج عن الإيمان، ولم أرتد، ولم أخالف إلى لحظتي هذه، فأنا استجبتُ لدعائك لما دعوتني إلى الإيمان بك فآمنت، وانا الآن أدعوك راجيًا منك أن تستجيب دعائي.
(وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ..(4))، ما شقيتُ بدعائك، بل آمنتُ وصدَّقتُ وثبتُّ على هذا الايمان بك، والكل من فضلك وأسألك تمام فضلك بأن تجيبني في هذا الدعاء.
(رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ..(4))، فقدَّم هذه المُقدمة قبل أن يذكر الطلب؛ قّدم ضعفه وعجزه وعظمة ربَّه وإحسانه الماضي إليه -جلَّ جلاله-، وهكذا كما أمر ﷺ اذا دعونا الرَّب نُقدِّم: الحمد له، الصلاة على النبي ﷺ، وجاءنا في الحديث:
أنه كان ﷺ جالسا في المسجد فجاء رجل صلَّى ركعتين واخذ يدعو فقال ﷺ: "عجلتَ" أي استعجلتَ، إذا أردت الدعاء فاحمد الله وأثنِ عليه وصلِّ عليَّ ثمَّ ادعُ"، وبينما هم جلوسٌ اذ دخل رجلٌ آخر من الصحابة صلَّى ركعتين وحمد الله وأثنى عليه وصلَّى على النبي ثم أخذ يدعو والنبي يسمعه فقال: "أوجب إن ختم" من معانيه أوجب إجابة الدعاء وتعجيل الإجابة له، إن ختم.
قام واحد من الصحابة -مباشرة- إلى عند الداعي وقال له: اختم بآمين وابشر، ختم بآمين وقال: ما عندك؟ قال: هذا رسول الله سمعك حمدت الله وأثنيت عليه وصليت عليه ﷺ ثم دعوته، فقال: أوجبَ إن ختم ، فقلت: بمَ يختم؟ قال: بآمين فقد أوجبته، فرِح منه، وبحرص الصحابة على نفع بعضهم البعض وإيصال الفائدة إلى بعضهم وحرص هذا على الخير لأخيه، قام مباشرة إلى عنده قال: اختم بآمين وأبشر، -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- فمن الجميل مقدمة الدعاء بمثل هذا.
سيدنا عيسى بن مريم في موقف القيامة، إذ سأله الرب: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ) [المائدة:116]، عندما أراد أن يجيب لم ينفِ مباشرة؛ سبّح الحق وقدّسه، وذكرَ عظيم علمه وإطلاعه وذكر الواقع، بعد ذلك يقول: (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة:116-117]، فهكذا من الجميل تقديم المقدمة الحسنة عند نداء الرَّب -جلَّ جلاله- واستعطافه واسترحامه ثم يُذكر الطلب والدعاء (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4))
(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي ..(5)) أي أنه تولى هذا الأمر من أرحامي وقراباتي
(خِفْتُ الْمَوَالِيَ)، خفتُ أن لا ينهضوا بالأمر كما ينبغي، أن يسيئوا في حمل وأداء هذه الأمانة من بعدي، وأطلب منك تجعل لي من صلبي ولد، توفِّقه وتأخذ بيده وأطمئن وأموت وأنا على أغلب ظني وثقتي أن الأمر من بعدي سيستمر على ما تحب، فإني قد رأيت من خَلَفَ الأنبياء من قبلي، منهم من أحسن ومنهم من أساء، وأنا خفت الموالي (خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي) من بعدي ماذا يعملون في هذه الأمانة وفي هذه الرسالة وفي هذا الدين.
(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) -لم تحمِل- (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5))، اعطني وتكرّم علي مِن لدنك -مِن عندك- أي بعنايتك الخاصة، ورحمتك الخاصة، أكرمني بولي -ابن- ترزقني اياه،
(فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5))؛ لأن السُّنة في الحياة في وجود الولادة في الشباب والكهولة قد مضت، -ماعاد شىء- أنا الآن كبرت وامرأتي كذلك، ومع كونها كبيرة وأنا كبير هي أيضًا عاقر، ما تلد أصلًا؛ ولكن مِن لدنك، أنت إذا شئت لا شيء مستحيل عليك ولا شيء بعيد، هب لي مِن لدنك، (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5))، مَن يتولى هذا الأمر مِن بعدي ويقوم بحقه.
(يَرِثُنِي) في هذه الديانة، وفي هذه الأمانة، وفي هذا المسلك، وفي هذا السبيل.
(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (6))، مِن ذرية يعقوب مِن صلحائهم وأنبيائهم وأخيارهم؛ يرث منهم الصفات الحميدة، والأخلاق الفاضلة.
(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6))، ذا سَعةٍ وانبساطٍ وخُلقٍ حسن، أنت ترضى عنه وهو رضي يَبشُّ في وجوه الناس، ويستجلب رضاهم ويقربهم إليك لينالوا رضاك: (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)،
اختصر الحق تعالى الكلام قال في المعنى: استجبنا له فناديناه: (يَا زَكَرِيَّا)، يقول: أجبنا دعوته، ولبينا نداءهُ، وحقّقنا مراده وناديناه: (يَا زَكَرِيَّا)، (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) -ابن ذكر- (اسْمُهُ يَحْيَى ..(7))، فكان شرف أنّ اسمه لم يكلهُ الله إلى أبيه، ولا إلى أمه ولا إلى أحد من خلقه، قال: أنا سأسمِّيه لك، فكان شرف، واسم لم يسمِّ به أحدا مِن بني آدم مِن قبل: (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7))، (اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7))،
ما أحد سُمي مِن بني آدم
ومع ذلك ما له سَمي؛ ليس له من يساميه فيما خصصناه به مِن خصائص مِن عندنا
ما له سمي، ما يساميه أحد في هذا ولا يكون مثله أحد في الخصوصيات التي نخصه بها، مِن فيض جودنا عليه
(لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7))، ما قد أعطينا هذه الخصوصيات لأحدٍ قبله.
(لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7))، أي جاء النداء بعد هذا الطلب بِحُسن الأدب، وصدق الرغب، بنيل المراد والأرب، بخير وجهٍ اصطنعه الرَّب، لهذا العبد المُقرب، ففي الآيات حثٌّ لنا أن نُحسن الطلب، والرغب وندعو الرَّب -جلَّ جلاله- ولا نيأس ولا ننقطع عن دعائه، ونحن على فوائد كلما دعوناه بإخلاص وصدق إما:
بتعجيل المطلب نفسه.
أو دفع بلايا مقابل ذلك وآفات ورزايا ما نعلم بها.
أو ادخار كل ذلك حسنات ودرجات.
فائدة مضمونة بدعائنا لهذا الرب، إذا دعوناه بصدق، وأنعِمْ بالإله الكريم: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:186].
ولما بُشِّر بهذه البشارة عجب -ما شاء الله- وفي هذا السِّن ولد سيأتي كيف؟! هل سيأمرني ربي أن أتزوج بأخرى غير هذه العاقر، أو سيجعل الطريقة والسبب في إبراز الولد بأي كيفية؟ كيف؟
(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8))، وهنَ العظم مِن شدة الكبر، والعتي: بلوغ الغاية في أي شيء، عتى: بلغ الغاية في الأمر الذي يقولون فيه، وقد قال بعضهم (عتيا): يعني بلغت الغاية القصوى في الكبر والوهن والضعف، وأنت تقول ستعطينا ولد، يا رب كيف؟! بأي كيفية؟! أو كيف الأمر؟! وأنت القادر على كل شيء، قال الله له: لِم هذا السؤال؟ وأنت قد علمت قدرتي وعظمتي، وأنه لا يعجزني شيء؟ وهل تحكمني العادات التي جعلتها بينكم والترتيبات التي جعلتها عامة لكم؟ هل تحكمني أو أنا أحكمها؟
قال: لماذا تسأل هكذا؟ (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ ..(9))، الأمر مِن فوق، (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ..(9))، خلقُه وتكوينه هيِّن علي، ما فيه صعوبة، أبرزه لك مباشرة، أبرزه لك منها هذه العاقر، أبرزه لك بأي وسيلة، بأي سبب ما الذي يصعب عليَّ؟ أي خلقُ هذا الولد لك وتكوينه وإبرازه علي هيّن سهل ويسير، فكل ما أردتُ، فهو يسير وسهل علي -الله أكبر- (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ)، يعني الخلق له والإيجاد له وإعطاؤك إياه (عَلَيَّ هَيِّنٌ ..)
وقد خلقتك من قبل، أنت نسيت نفسك؟! (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9))، فكَوني خلقتك مِن قبل وإن كان في ضمن الترتيب العام الذي وضعته مِن خلال أبويك وانفحال شبابهم، لكن هذا ما يحكمني، أنا الذي حكمتك فنفس القدرة في خلقك بهذا السبب، خلقي مِن العجوز، ومِن الشيبة ومِن العاقر ومِن العاقل نفس الشيء، نفسه قدرة واحدة؛ هذه ما فيها هذه أصعب، وهذه أسهل، كله عليَّ هين -الله أكبر- (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس:82].
(قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9))، صدقت يا رب ما في المسألة أي شك، اجعل لي علامة متى تحمل زوجتي، هذه وإذا حملت أريد منك علامة: (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً (10))، مرحبا
(قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً (10))، قال له: نعطيك علامة، بدأ تدليل الحق لأنبيائه وأحبابه والمقربين إليه، قال تريد علامة؟ نعمل لك علامة، قال: لما تحمل زوجتك ينقطع كلامك للناس ولا تستطيع أن تكلم أحد من الخلق ثلاثة أيام، وتُخاطب الخلق بالإشارة فقط، أما ذكري وتلاوة كتابي ودعائي فمفْسوح لك، فاللسان صالح للنطق، لكن للخلق ما يقدر يتكلم.
(قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ (10))، إذا حملت زوجتك، فثلاثة ليالي ما تقدر تكلم الناس، (قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)، أنت سوي ما عندك خرس، ما عندك مرض يمنعك، ما عندك ثقل في لسانك، لا شيء يمنعك، سوي، لكن لا تقدر أن تكلم الناس لأني ما آذن لك.
فلما كانت الليلة التي حملت فيها زوجته أراد أن يتكلم ما قدر معها، يُسبّح تمام، يحمد تمام، يُكبِّر تمام، يقرأ قراءة تمام، يكلم أي مخلوق ما يقدر، تقف لسانه وتصمت، لا إله إلاَّ الله، قال: (آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10))، وقيل أيضًا مِن معنى "سويِّا" تباعًا متوالية ثلاثة ليالٍ متواليات ما تقدر على كلام الناس فيها، فقط تكلم رب الناس.
(آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) -بالإشارة- (أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11))، وحي، كيف وحي؟ إما كتب لهم، أو كلمهم بالإشارة: (سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ثلاثة أيام لن أتكلم مع أحد منكم، ما بيني وبينكم كلام -سبحان الله-؛ فصار ما يقدر يكلم أي مخلوق؛ لا زوجته ولا أصحابه ولا أي أحد، يقرأ نعم، يذكر نعم، يسبح يحمد يذكر نعم.
(أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10))، ما يكلم الناس إلا بالرمز والإشارة: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) -كتب- (سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)) اشتغلوا بتسبيح ربكم -جلَّ جلاله- وذكره في الصباح والمساء، وجِد بالإشارة، أشار إليهم كما قال عن هذه الآية نفسها -سبحانه وتعالى- في أول سورة آل عمران، يذكر نفس الواقعة -جلَّ جلاله- -وتعالى في علاه- ويقول: (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) [ال عمران:41]، ذكر وتسبيح تمام على طول، فاللسان تنطق: سبحان الله والحمدلله ولا إله إلاَّ الله والله أكبر، اللهم اغفر لي؛ دعاء لله وقراءة للتوراة، يقرأ التوراة تمام ولا أي إشكال فيها؛ لكن يتكلم مع مخلوق ولا كلمة تمتسك اللسان؛ هذه آية: (آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)).
يقول الله تبارك وتعالى: ورحمتنا لهذا العبد وقد أجلينا منها مجالي قبولنا لدعائه وعنايتنا به وإرشادنا له هذه تستمر، أعطيناه مطلوبهُ، ورعينا الولد الذي سميناه له بنفسنا، فليست المزية الكاملة في أنه لم يُسمّى قبله مثله، هذا يحصل كثير يين الناس، يخترع اسم ويسميه؛ لكن الذي سماه الله، ولم يسمِ قبله بمثل هذا الاسم وهو اسم شريف كريم "يحيى" المشير للحياة، ما جعل أحدا يسمي قبله بهذا الاسم واختاره هو له -جلَّّ جلاله-؛ ليشير إلى أن يعطيه خصوصية ما أعطيتها أحد مِن الذي قبله: (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7))
قال: ويقول الحق: أعطينا كل هذا، وراعينا الولد الذي وعدناه به، وأخصصناه أيضًا بخصوصية منها هذه، يقول: (يَا يَحْيَى ..(12))، خطاب يعني:- أعطيناه يحيى، ويحيى الآن يعي خطابنا ويتلقّى نداءنا: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ)، التوراة التي أنزلت على سيدنا موسى (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ (12))، قوة يقين وقوة إيمان، وحسن تطبيق وتنفيذ، ولا يصلح مقابلة أوامر الله -تبارك وتعالى- ونداءاته وكتبه إلاَّ بهذا، قال الله لسيدنا موسى: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا) [الأعراف:145]
(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ (12))، قوة إيمان وقوة يقين وقوة صدق، وحسن تطبيق وتنفيذ، ولا تصلح لأوامر الله إلاَّ هذا.
(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ (12))، ومِن الخصائص التي جعلها الله للإنسان أنه عندما يتوجه للأمر بقوة حتى ما يستطيع الشيطان أن يُعرقله ويوسوس عليه فيه حتى يضعف، وإذا ضعف وتردد يبلبل عليه بسهولة، فإذا جزم بالأمر يبقى مُكبل ما يقدر يقول، فإذا جزم وأخذ الأمر بقوة ما يستطيع يتعرض له الشيطان، ينتظر لما يضعف، يتردد، يبلبل عليه، ويجيء له بخبر مِن هنا وهنا؛ أما عندما يجزم ويقوم بالصدق خلاص، لهذا قالوا عن "الهمة" أنها اسم الله الأعظم يعني:- تنفعل لها الأشياء كانفعالها بدعاء الله باسمه الأعظم، قال: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)
(وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12))
الحكمة والمعرفة
وقيل النبوة نفسها
والأنبياء إنما تظهر عليهم النبوة بعد الأربعين؛ لكن أمثال هذا سيدنا زكريا، وكذلك سيدنا عيسى ظهرت عليه وهو صغير: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ) في أيام صِباه حتى كان يخرج مع الصبيان يقولون: تعال نلعب على عادة الصبيان، قال: ما لهذا خُلقت، ما لهذا خُلقت! أنا ما خلقت له، أنا خلقت لمهمة كبيرة أعظم مِن اللعب، عليه رضوان الله تعالى وصلواته وتسليماته.
(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ)، المعرفة وهو (صَبِيًّا (12))
(وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا ..(13)) رأيت كيف الخصوصية ؟ لم نجعل له سميا؟ كيف؟
(وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا..(13))، غاية في عظمة الرحمة، عبَّر عنها بالحنان، وقال: (مِّن لَّدُنَّا)، يعني رحمة ما يقدر غيرنا أن يقيمها، ولا أن تجري على يده أبدًا، حنان ما نجريه على يد أحد مِن الخلق، ولا يُستطاع اجراءه إلّا مباشرة مِن أمرنا وإرادتنا.
(وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً (13))، طُهراً ونقاءً وصفاءً؛ فلا يلحقه أدنى أدنى قدر مِن إرادة الغير ولا التفاتا للغير، ولا نظر سوء ولا خاطر سوء، ولا إرادة حرام؛ زكاةً طهرًا كاملًا تامًا في هذا العبد المقرب، (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً)
(وَكَانَ تَقِيًّا (13))، مُتَبَوِّئًا رتبةً عليةً في تقوى الإله -جلَّ جلاله- (وَكَانَ تَقِيًّا)
(وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ ..) ولهذا الثناء عليه ببرِّ الوالدين وهو شأن كبير أوجبه الله -تبارك وتعالى- على كل مؤمن لأبويه ولو كان أبواه كافرين، يجب عليه أن يبرهما وأن يحسن إليهما، وأن يتقرب إلى الله بخدمتهما.
قدمت أم سيدتنا أسماء بنت أبي بكر الصديق -عليها رضوان الله- جاءت أمها، وأمها كافرة والإسلام انتشر، وما طاعت هذه العجوز أن تُسلم وما أقبلت على الله، وأرسلت أسماء إلى رسول الله وقالت: إنَّ أمي قدِمت إلى المدينة وهي راغبة في صِلتي، أو بمعنى راغبة عن الإسلام ما تريد أن تُسلم- أفأصلُها؟ قال: نعم صِلي أمك، أحسني لها، بريها، قومي ببرها وخدمتها، وقامت تخدمها: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ (14))،
فمن الشرف الذي يُمدح به الإنسان بر الوالدين وهو الشأن الذي رفع قدر سيدنا أويس القرني وجعله سيد التابعين لبرّه بأمه، قيامه بخدمتها (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ (14)).
يقول الله في سيدنا يحيى عليه السلام: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ (14))، وشأن هذا البر؛ كان بعض أكابر المحدثين جلس مع أصحابه يدرسهم وإذا به يقوم، ما دروا ما السبب؟ وإذا به جلس، ثم سألوه: كيف قمت أثناء الدرس؟ قال: رأيت أمي خرجت مِن الطابق مِن السَّطح تنزل مِن الأعلى فقمت إجلالًا لها، وقام إجلالًا؛ لأن أمه نازلة مِن الدرج، فقام إجلالًا لها حتى نزلت، وهكذا شأن المؤمنين الصادقين مع الحق -تبارك وتعالى- في بر الوالدين؛ لأنه:
ربط شكره بشكرهما (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) [لقمان:14]،
وقطع بِحُكم فاصل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء:23]، جعلهم مع التوحيد، لا تعبد إلا الله وبالوالدين إحسانا،
وفصَّل عن إذا بلغ الكبر أحدهما أو كلاهما (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) [الإسراء:23].
قال واحد: يا رسول الله، جئتك أجاهد معك -والنبي خارج في غزوة- وقد تركت أبويَّ يبكيان -مايريدونه أن يخرج، والجهاد في ذاك الحال ليس بفرض عين هو فرض كفاية- قال ﷺ: "ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما" إذهب، وردَّهُ مِن الغزوة معه ﷺ "ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله" وهو قال له: اذهب ماعاد أحد أكرم مِن رسول الله وأعظم منه، مع ذلك قال له: "ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما" إذهب واجعلهم يضحكون، ارجع أخدمهم لا تخرج معي، وأفضل مِن خروجك معي بِرَّك بالوالدين، "ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما" -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-. قال: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ)
(وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14)) مُنَزَّه عن أوصاف الجبابرة والمتكبرين والعُصاة
(وَسَلامٌ عَلَيْهِ ..(15)) مِن الذي سلَّم عليه؟ هذا يحيى، ومِن الذي سلَّم عليه؟ الله، يقول له: (وَسَلامٌ عَلَيْهِ)، حتى مرة لمَّا التقى -بعد ذلك- بسيدنا عيسى وستأتي قصته، وذكر الله في قصة عيسى أنه هو عيسى قال: (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ) [مريم:33]، لقي مرة سيدنا يحيى، يقول ياعيسى: ادعو الله لي، فإنك خير مني، قال سيدنا عيسى: "إن الله تعالى وهبك السلام مِن عنده، وأنا سلمت على نفسي، فأنت خير مني، أنت ادعُ لي"، قال الله يقول: والسلام عليه مِن عند الله لسيدنا يحيى، وهناك سيدنا عيسى هو خطب الخطبة قال: (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33))؛
لكن هذا الله قال: (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ (15))، في سلام خاص، عليَّ يوم الولادة؛ فدل على أن يوم الولادة يوم له خصوصية لهذا الإنسان، ثم يوم الوفاة، يوم يموت، وبعد ذلك في البعث، فهذه المحطات الكبيرة في حياة الانسان؛ ساعة ولادته وساعة وفاته، وساعة البعث والحشر، قال: سلام مني عليه؛ ففي هذا تُعلّمنا مِن هذا أننا فيمن نحبهم ونواليهم:
نتذكر أيام ولادتهم ونقرأ السلام عليهم،
ونتذكر أيام وفياتهم ونقيم الذكريات لهم، والحوليات لهم،
ونتذكر يوم حشرهم سائلين أن نرافقهم ونحشر في زمرة نبي الله صلى الله عليه وآله.
(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15))، فهنيئاً ليحيى بسلام الله، السلام عليه صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، وعباد الله الصالحين.
وهكذا نتابع هذا الكلام العظيم مِن ربنا العظيم في السورة التي سماها الله باسم امرأة اصطفاها وانتخبها وسماها سورة مريم، عليها رضوان الله تبارك وتعالى وأزكى سلامه، وعلى جميع مَن ذُكر في هذه السورة خاصة، ومَن ذُكر في القرآن مِن أنبيائه ورسله وصالحي عباده، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
اللهم انفعنا والجمع ومَن يسمع ويتابع، وارفعنا إلى المقام الرافع، وارزقنا صدق الإقبال عليك وحسن الدعاء والتضرع والابتهال إليك، والتذلل بين يديك بأوصافه الكريمة التي وصفتَ بها محبوبك، لا تحرمنا مِن حُسن الاتصاف بها والتخلق بها والتحلي بها، وخلنا عن كل وصفٍ ذميم، ولا تجعل فينا جبارًا ولا عصيا، ولا محرومًا ولا شقيا، وتولنا بما توليت عبادك الصالحين وحزبك المفلحين.
بسر الفاتحة
الى حضرة النبي محمد
اللَّهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
07 ربيع الأول 1446