(536)
(239)
(576)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة مريم:
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
مساء الإثنين 2 جمادى الأولى 1446هـ
الحمد لله مُكرِمنا بالوحي والتّنزيل، وبيانه على لسان عبده الهادي الدّليل، سيّدنا محمد المُرشِدِ إلى أقوَم سبيل، صلّ اللهم وسلّم وبارك بالغُدُوِّ والأصيل، على عبدك الجليل الجامع لِكُلّ جميل، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن وَالَاهُمْ فيك واتّبعهم في النيّة والقصد والفعل والقِيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصّالحين وعلينا معهم وفيهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،،
فإنّنا في نِعمة تأمّلنا كلام ربِّنا وإلهنا وخالقنا وفاطرنا ومُنشئنا ومُنشئ الوجود ومُوجد كل شيء جلّ جلاله، العالم بكل شيء، مررنا على أكثر آيات سورة مريم، وانتهينا إلى قوله جلّ جلاله وتعالى في علاه:
(وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذَّكَّرُ الْإِنسَانُ)، وفي قراءة: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ)، (أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)).
يتحدث الحق -جلّ جلاله- عن المصير الكبير والمَرجع العظيم، والمُستقبل الخطير والذي إليه مآل جميع المُكلّفين من قديم وأخير وصغير وكبير، مُؤمن وجاحد؛ الكلٌّ يَرِدون إلى هذا المَوْرد ويَنتهون إلى هذه النِّهاية، ويتعجّب العقل ويُعجِّب الله سبحانه وتعالى أرباب العقول مِن مَن يتحدّث مِن هؤلاء النّاس وإن كانوا كثرة كاثرة عن استبعاد أمر البعث والمصير والحشر مع أنّ الدّلالات واضحة، على أنَّ القوّة التي أَوجدت تُعيد كما شاءت بلا تردّد ولا رَيب ولا شَكّ.
(وَيَقُولُ الْإِنسَانُ) المُكوَّن من الطّين ومن النُّطفة والعلقة والمُضغة من لا شيء، ومُقوَّم بهذه الصّورة والتَّقويم البديع فيما يكفيه دلالةً على قُدرة الحقّ البديع جلّ جلاله؛ يقول هذا الإنسان بِجحوده واستكباره ومُغالطته للحقائق والشّواهد والأدِلّة:
(أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66))؟ وقد جاء بعض الكُفّار -أُبيّ بن خلف- وحمل عظماً بيده وفتَّته ويقول: إنّ محمداً يزعم أنكم تَرجعون بعد هذا البلا، هذه العظام البالية، كيف ترجعون؟
(وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66))، أعود إلى الحياة قائماً، قال الله تعالى:
(أَوَلَا يَذَّكَّرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67))؛ قل لي: كيف جئت أنت أصلاً؟ مجيئك هو الأعجب! أمّا أن تعود؛ فهذا أمر ثانوي، لكن الأصعب في حساب الخلق أوّل مرة كيف جئت؟ من أين جئت؟ كيف تكوَّنت؟
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء:104]، يقول جلّ جلاله.
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس:78-79].
من الذي كوَّنها أصلاً؟ أنت أو أبوك أو أمك أو دولتك، الذي كوَّن العظام؟ من أين جاءت؟ الذي كوّنها يردّها كما شاء، متى ما شاء جل جلاله.
(أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ)، (أَوَلَا يَذَّكَّرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ (67))، من قبل أن يتكلّم بهذا الكلام ويعترض بهذا الاعتراض ويُردّد هذا الوهم.
(أَوَلَا يَذَّكَّرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ)؛ أنت كيف جئت أصلا؟ بدل ما تُناقش كيف أرجع نريد أن نعرف كيف جئت؟ هذا الأمر الذي أمام أعيننا الآن، قائم من أين؟ كيف تكوَّنت؟ جلَّ المُكوِّن.
(أَوَلَا يَذَّكَّرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ (68))، حلف بِربُوبِيَّتِهِ لمحمّد الدّال والهادي والمُنذر والمُبشِّر والمُبلِّغ والمأمون والمُرسل إلى الكلّ، (فَوَرَبِّكَ) بِرُبُوبِيَّتِي لك يا صَفْوَتِي مُنَ الخلائق (لَنَحْشُرَنَّهُمْ (68))، نَجْمَعَنَّهُمْ:
(وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف:47].
(إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا (93)).
(لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ (68)) أي مَقْرون كُلٌّ منهم بشيطانه الذي كان يُغويه ويُلبِّس عليه، ويستغلُّ منه شهواته وسِقَمَ نَظَرَاتِه؛ وتتابعاً لهذه الشّهوات والأهواء فيُلبِّس الأمر عليه ؛ ذاك يأتي معه (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق:21]
(لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ) كل واحد يأتي مع شيطانه الذي كان يُوسوس له وكان مخْفياً؛ فَيراه أمامه مرئياً منظوراً.
(ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)) جُثَاةً على الرُّكَب من شدّة الهَول، من شدّة العَظمة؛ جَاثِين على رُكَبٍهم حول النّار، ذلك الذي كان المَسؤول الفلاني، الذي كان الرّئيس الفلاني، الذي كان القائد الفلاني، جاثٍ على ركبته حول النّار، هات حِزبك! هات جماعتك! هات مُعسكرك! هات سِلاحك النّووي! هات القُنبلة! جاثٍ على رُكْبَتِه أمَام النّار.
(فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68))، (وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا) [الجاثية:28].
(ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ (69))، نأخذنّ بهم ونُقدِّمُ للعذاب، مَن كان أكبر عُتُوًّا وأكبر عِنَادًا وأكبر إلحادًا وأشدّ ضلالًا؛ نُقدِّمه؛ فإنّ لأهل الهدى مُقدَّمين ولأهل الضّلال مُقدَّمين، وإنّ إلى الجنة سَابقين وإنّ إلى النار سَابقين، وإنّ لأهل الجنّة أئمة وإنّ لأهل النّار أئمة؛
قال الله تعالى في أئمة أهل الجنة:
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:73].
وقال فيهم أيضاً: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].
وقال في أئمة أهل النار:
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ) [القصص:41]
وقال -جل جلاله وتعالى في علاه- في ذِكر هؤلاء في سورة القصص: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص:41-42]؛ نعوذ بالله من غضب الله.
فهذا حال جميع الكفّار في أيّ صورة ظهروا، وبأيّ قول تقوَّلوا وأيّ ادِّعاء ادَّعوا (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ) والعياذ بالله تبارك وتعالى؛ فلا والله! لا حقيقة سعادة ولا حقيقة طُمأنينة إلّا مع من آمن بالله، وخضع لجلال الله، واستسلم لأمر الله وأطاع الله جل جلاله.
(فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65))، جلّ جلاله، (رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) اللهم أعِنّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عِبادتك.
(ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ)؛ مِن كلّ فرقة، مِن كلّ طائفة، مِن كلّ أهل اتّجاه، مِن أهل كلِّ مُسمًّى منهم، آل كذا.. وكم مُسمّيات في عصرنا وفي الذي قبلنا والذي بعدنا.
(لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ) منهم، من كل من تشيَّعوا لأي باطل، لأي ضلال،
(أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَٰنِ عِتِيًّا (69))، نُقدِّم العُتاة الأكثر جُحوداً والأكبر عِناداً؛ نُخرجهم من بينهم مُقدِّمِين لهم، (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود:98]، والعياذ بالله تعالى.
يقول: (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَٰنِ عِتِيًّا (69)). كما نُحضِر الجميع ونُعَذِّب الجميع، لكن عذابنا لِمن كان أَعتى وأَطغى وأَكثر جُرأة أشدّ وأقوى من عَذابنا للثاني، وإن كان كلّه شديد لكن هذا أشدّ، وإن كان كلّه مهين لكن هذا أشدّ مهانة، وإن كان كلّه غليظ هذا أغلظ؛ نعوذ بالله من غضب الله ومن عذاب الله، اللهم أجِرنا من عذابك يوم تبعث عبادك.
يقول: (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَٰنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيًّا (70))، في كلّ دَرَكة من دركاتها ومسكن من مساكنها؛ مَن هو أولى بهذا المقام، ومَن هو أحقّ بهذا المكان؟ بحسب كُفرهم وعنادهم وسيّئاتهم، فيُنزَل كلّ واحد في منزلته.
(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيًّا (70))؛ اللهم أجرنا من النار.
ثم إنّ الحقّ سبحانه وتعالى جعل هذه النّار تُحيط بالخَلق في القِيامة، تُقبِل عليهم كما أخبرﷺ، بعد الحَشر وجَمْع الأوّلين والآخرين، لها سبعون ألف زِمام، يقود كل زِمام سبعون ألف ملك؛ فإذا أقبلت عليهم اشتدّ شوقها للمجرمين، الفاجرين، المُكذّبين لله ورسله؛ فتفلّتت من أيدي الزّبانية الذين يُمسكونها، يضُجّ النّاس ضجّة واحدة، ويأمرها الله بكلام محمد ﷺ وشفاعته أن تعود إلى أيدي الزّبانية فيَقودونها؛ فتُحيط بأهل المَوقف من كل جانب؛ ولهذا يَقول على الواقف الذي بين يدي الله: "فينظرُ أيْمنَ منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظرُ أشأَمَ منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظرُ تِلقاءَ وجهِه، فلا يرى إلا النَّارَ تِلقاءَ وجهِه، فاتَّقوا النَّارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ"؛
فإذًا كيف يذهب أهل الجنة إلى الجنة؟ بمجاوزة هذه النار، لابد أن يمرُّوا على النار، وهناك يُنصب بعد أن يَجري في الموقف:
الموقف الأول والشّمس فوق رؤوسهم ويَسيل العرق حتّى يَغوص في الأرض سَبعين ذِراعاً، ويُلجِمُ هذا إلى كعبيه وهذا إلى رُكبتيه وهذا إلى سُرّته، وهذا إلى حَلقه وهذا إلى فَمه وهكذا.
ثم بشفاعة النبي ﷺ ينتقلون إلى هذا الموقف الثاني، ويجري فيه إعطاء الكتب بالأيمان أو بالشمائل، ويَجري فيه العَرض على الله تعالى والوَزن.
ثم الأخير هذا الصّراط، يُنصب الصّراط على متن جهنّم ويُؤمر الخلائق بالمرور عليه.
وهنا قال: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا (71))، والورود مستعمل في القرآن بمعنى الدّخول، وبمعنى الاقتراب من دون الدّخول؛
فبمعنى الدخول جاء: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) [هود:98]، وقال: (حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)) [الأنبياء:98]، داخلون فيها.
ومن غير الدخول يقول تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص:23]، ما دخل وسط الماء سيدنا موسى، وَرَدَ الماء أي جاء فَوقه.
فبهذا يكون ورود الكلّ على النّار، إمّا بالمرور على الصراط مع تَأنيسٍ وتَطمينٍ ونِعمةٍ من الله تعالى، لا يُحسّون بالنّار، لا يسمعون حَسِيسها مع أنَّ وَهَجَها، بل صَوتها -وهي تُزفر- زَفيرها يُسمع من مسافة مائة عام، لو بينك وبينها مائة سنة تَسمع الزّفير، يقول جل جلاله وتعالى في علاه: (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَّا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) [الفرقان:12-14].
يقول: (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا)، أمرا فَرَضه وأراده ولا رادّ لِمَا قضاه جلّ جلاله، (مَقْضِياً (71)) كائناً على كل حال.
(كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِياً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا)، اللهم اجعلنا منهم ونجّنا معهم، يا أرحم الرّاحمين.
(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)) فيسقطون فيها والعياذ بالله تبارك وتعالى؛ فيُعطى المُؤمن على قدر نور إيمانه من النّور ما يَمرّ به على الصّراط وما يُكفَى به نار جهنّم، حتى يَمرّ الأوائل أسرع من لمح البصر وكالبرق الخاطف وكالرّيح المُرسلة ثمّ كالجواد السّريع.
إذا وصلوا إلى الجنّة يقول بعضهم لبعض: "ألم يَعِدنا ربنا أنّنا نَمرّ على النار؟ أين النّار؟"، تقول لهم الملائكة: مَررتم عليها ولم تُحِسّوا بها، إنّ الله رَعاكم بِِعنايته و بنوره مررتم، برداً وسلاماً كانت عليكم لِمَكاَنَتِكم عند ربّها جل جلاله وتعالى في علاه؛ فهكذا ومِن مَخدوش ومن مصاب بشيء من النّار ومن ساقط فيها -والعياذ بالله تعالى- على درجات إيمانهم.
وفي الحديث أن سيدنا أنس سأل النبي ﷺ الشّفاعة، قال: "أسألك الشفاعة يوم القيامة" فقال ﷺ: "إنّي فاعل إن شاء الله" قال: "أين أجدك؟" - أين أجدك في القيامة والأوّلين والآخرين وأَنت أين أجدك؟ قال رسول الله ﷺ:
"اطلُبني على الميزان"
قال: "فإن لم أجدك؟" قال:"فَاطْلُبني على الصّراط"
قال: "فَإن لم أَجدك؟" قال: "فَاطلُبني على الحوض
فَإنّي لا أُخطِئُ هذه المواضع الثلاثة"، ستجدني عند واحد من هذه المواضع، قال: لماذا على الميزان؟ من أجل الشفاعة، ولماذا على الصراط؟ يقف يقول: "ربّ سلّم سلّم" ويلاحظ أمّته ويشفع لمن يمرّ منهم، ﷺ، وهناك على الحوض يَسقي ﷺ، اللهم أَوردنا حوضه المَورود.
يقول في معنى هذا الحديث، ورد حديث آخر عن آخر من الصّحابة ذكر يوم القيامة وفيه قال: "يا رسول الله، أنا في الدّنيا وأذكرك ولا أقدر أن أصبر حتى آتي عندك؛ فأين أجدك بين هؤلاء القوم في القيامة؟" تَذكرني، فأين أجدك؟ فقال ﷺ: "اطلبني على الميزان". قال: "تَعالى إلى الصراط، إني واقف هناك مع جبريل". قال: "فإن لم أجدك؟" قال: "فعند الحوض"، ﷺ.
يقول: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا (71)) تذكَّر الآية يوم وهو مريض سيدنا عبد الله بن رواحة عليه -رحمة الله ورضوانه- (أحد الأمراء الثلاثة الشهداء في موته) وهو عند زوجته بكى، بكت زوجته لبكاه، لمَّا وقف، قال: "ما يبكيك؟" قالت: "بكيت لبكائك رأيتك"، قال: "إنما ذكرت الورود على النار" (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)، فلا أدري أأصدر عنها بعد ورودها أم لا؟ فهذا الذي أبكاني".
ثم جاء في الحديث أنه سأل النبي ﷺ بعد ذلك وسوس وقال: "يارسول الله، إن الله ذكر الورود ولم يذكر الصدور". قال له: "اقرأ ما بعدها: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾". ولمَّا ذكر رسول الله ﷺ قال: "لا يلج النار أحد، لا يدخل النار أحد ممن حضر بدراً ولا بيعة العقبة". فقالت: "أليس يقول الله: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾؟" قال: "فمهْ، ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا﴾، لا يدخلون النار لكن يمرون عليها، ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ الله!
يقول الله تعالى: مع هذه الآيات الواضحة والدلالات البَيّنَة، لا يزالون يُصرون على أهوائهم، وهذا واقع الكفار في كل زمان من معاندي الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- وإلّا آيات بيّنات وواضحات، حتى في عالم الحس، حتى فيما يكتشفون من شؤون هذا الكون يدلهم على صِدق رسول المُكوّن، صِدق رسول مُكوّن الكون ﷺ.
وكلما رأوا شيئاً فيه الدلالة سكتوا وأخفوا وجاءوا بعِناد! وإلّا كُل شيء يدل على العظيم القادر، على عظمة القادر، على عظيم القدرة المُكوّنة لهذا الوجود..
وفي كل شيء له آيةٌ ** تدلُّ على أنه الواحدُ -جل جلاله-
(وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ..) واضحات، دلالات وعلامات صريحات، (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا): ما معكم أنتم؟ نحن عندنا أموال أكثر منكم، عندنا صور، عندنا ثياب، عندنا مجتمعات نجلس فيها.
(قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)) خير مقاماً: مسكناً وشأناً ومالاً ﴿وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ أكثر وأجمل في مجتمعاتنا والأندية التي نجلس فيها، أنتم مع محمد هذا، ماذا معكم؟! ماذا عندكم؟!
كأنهم لِعَمى قلوبهم يرون أن الشأن في وجود المظاهر والصور ووجود الأموال، وكأنّ هذه هي الغاية! وأن من كان هكذا هو أقرب إلى ربه! كما قال: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر:15-16]، ﴿كَلَّا).. لا شيء من هذا إكرام ولا شيء من هذا إهانة، ﴿كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، -وفي قراءة ثانية- ﴿كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:17-20]
حقيقة الكرامة؛ بالتوفيق للطاعة، إيمان وطاعة؛ نعمة كبيرة، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام، وكما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه.
هذا منطق الكفار: ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾، نفس الشيء الذي كان يقول فرعون: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ) [الزخرف:51-53]، والشأن عندك في الذهب؟ كُله كُل شيء، ما يعرف إلَّا الذهب الذي يذهب! وما عرف الشرف الذي لا يذهب!
وهكذا.. (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء:205-207]، (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون:55-56]، (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ [آل عمران:178] -العياذ بالله تعالى- (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ) [التوبة:55].
فهكذا يجب على المؤمنين أن يتذوَّقوا هذه الحقائق، هذه الأذواق، والشأن؛ شأن إيمان ويقين ليس شأن مظاهر! وهذه المظاهر تُعطى للبر والفاجر؛ لأن الله يُعطي الدنيا من يُحب ومَن لا يُحب، ولا يُعطي الدّين إلّا من يُحب.
قال: ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا(73)) أمتعة أحسن منهم، وأدوات وأثاث أكثر منهم، (وَرِئْيًا) منظرهم، (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ) [المنافقون:4]، و(أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) فهلكوا! فما الذي يَغُرُّكُم في هذه الأموال؟! أكثر منكم مالاً هلكوا.. أكثر منكم مظهر ومنظر هلكوا.. لا طائفة ولا طائفتين ولا ثلاث ولا أربع، ولا قرن ولا قرنين ولا خمسة ولا عشرة.. اعقل اعقل! يا مغتر بهذه المظاهر! (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا).
(قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا.. (75))، من كان ضالاً فليزدد فيما هو فيه؛ فيزداد طغياناً:
كلما طال عمره
وكلما تَواتَتْهُ الأسباب
وكلما ساعدته المظاهر، فيزداد بذلك طغياناً ويمتد في السوء -والعياذ بالله تعالى-.
(قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا) يعني لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء!
يقول: (حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ.. (75))؛ كما يحصل لهم من القتل في بدر ونحوها، أو العذاب الذي نزل على الأمم.
(إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ):
مجيء الموت لأي أحد منهم،
ثم عذاب البرزخ
ثم قيام الساعة في القيامة،
إذا رأوا هذا اتّضحت الحقيقة، نعْرف من هم خيار الخليقة، من هم الأشرف، من هم الأعف، من هم الأنظف، من هم الأكرم، من هم الأعظم، من هم الأجل، من هم الأجمل، من هم الأكمل.. ما هم إلّا الأنبياء والرسل وأتباعهم، أولياء الله الصالحون من عباده، هم وحدهم!! هم الأعظم، هم الأجل، هم الأكمل، هم الأشرف، هم الأنظف، هم الأعرف، هم الألطف.
(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا) سيجدون أنفسهم هم، ويجد أصناف الكفار! (وَأَضْعَفُ جُندًا (75))، ما لهم شافع (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء:100-101]، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ) [الصافات:27-30] وهكذا يرجعون على بعضهم البعض بهذه المسبّات وهذه المُلاعنات وما إليها.
(بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) ما عاد أحد منهم ينصر بعضهم بعض! (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ) [الصافات:25]، (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) [الصافات:24]، ما لكم لا تناصرون؟ أين تلك العُهود؟ لا توجد مواثيق؟ تحالفات؟ وأشياء تقومون بها؟ ذهبت! (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)، هكذا..
يقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)) الكفار والفجار والأشرار.
(وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) كما يزيد أهل الضلال غَيّ في ضلالهم وفي طغيانهم.
(وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)؛ فمن أُعْطي شيئاً من متاع الدنيا وفوقه ضلال وكفر، ويزداد طغيان وبُعد وعذاب.. فماذا ينفعه ويفيده؟! وهذا إن مَسَّهُ ضُرّ أو كان عنده شيء من النقص في شيء من المظاهر الدنيوية، وهو يزداد هدىً ومعرفة ويزداد نوراً ويقيناً وموجباً للسعادات ونيل الدرجات الرفيعات، فما الذي ضرّه؟!
(وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) اللهم اهدنا وزِدنا هدىً.
بصيرة ومعرفة بالحقائق وتوفيقاً لما يحبه منهم ويرضى به عنهم، (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17] كما يقول في الآية الأخرى -جل جلاله- وكان ﷺ يدعو بزيادة الهدى في كل ليلة من قيامه ﷺ، اللهم زِدنا هدىً.
(وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى):
معرفةً فوق ما عرفوا
وانكشافًا لما لم ينكشف لهم من قبل
ووضوحًا، وغوصًا على الحقائق والمعاني
وذَوقًا لِلذّة القرب منه -جل جلاله- والفهم عنه والمعرفة به
والرضا منه، والمحبة منه، والمحبة له -جل جلاله-
يزدادون من كل ذلك.. فهم في كل يوم أعلى وأرفع، فلهم في كل يوم عيد من واهب المزيد، بالفضل الذي ماله حَصرٌ ولا تعديد، ولا قصر ولا تحديد، يليق بجود الحميد المجيد -جل جلاله (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى).
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ..(76))، الباقيات الصالحات مِن جميع الأعمال الصالحة والنيات الصالحة والمعارف والأذواق الكريمة،
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) والتي من أعظم مظاهرها:
ذِكْرُ الله تعالى بالمحبة والتعظيم والإجلال. ومن أجلِّ الذكر -أحب الكلمات إلى الله-: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، كل هذه باقيات صالحات.
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا) الفائدة فيها أكبر، النتيجة منها أجمل وأعظم، الرّبح منها أَوْفَر.
(خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا) هي في المُنقلب والمرجع؛ أحسن وأجمل مآلاً ومردًّا ومرجعًا إلى الحق -تبارك وتعالى- فالمستقبل مستقبل أهل الباقيات الصالحات، أهل الباقيات الصالحات لهم المستقبل الشريف.
(خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا) إليه -جل جلاله- فيهنَئون بالرجوع إلى الله، ويُكرَمون عند لقائه "بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".
(خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا)، فبِعِزّة ربكم -جل جلاله- أكبر ما يوجد في زمانكم مِمّا يُعدّ من متعةٍ وراحة، موجودة لكل الموجودين في ظهر الأرض من الذين يموتون على الكفر؛ والله يتمنون من عند الموت فما بعده إلى الأبد أن يجدوا خير لحظة من لحظات مجلسنا! فيتمنَّونه.
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا) لن يفرحوا بما شربوا ولا ما طَعِموا من المحرَّمات، وما باشروا من المنكرات والفواحش والمؤمن منَّا إذا مات على الإيمان؛ سيفرح بالمجلس، وسيفرح بلحظاته وساعاته فرحًا مستمرًا أبديًا.
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا) صدق الله، صدق الله وكذب إبليس، وكذب من صدق إبليس ومن قال بقول إبليس، إنما عند الله خير، فما أعظم نعمة الله علينا بالإسلام وبالإيمان.
وحال أي واحد من أهل القلوب الصادقة المخلصة اليوم على ظهر الأرض؛ يتمناها جميع أهل المتع الباطلة من عند الموت إلى الأبد فما يجدونها.
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا)، (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) [النساء:42]، الله لا إله إلا الله -جل جلاله وتعالى في علاه-.
وبعد مرور المارّينَ على الصراط؛ يتذكرون بعض قومٍ كانوا معهم في الدنيا، ويقولون: فلان وفلان وفلان كان يصلي بصلاتنا ويصوم معنا ويزكون، فيكشف لهم عنهم؛ أنهم تأخروا عند المرور على الصراط بذنوب لهم، فيُكشف لهم وينظرون إليهم ويجدون: هذا إلى كعبهِ في النار، وهذا إلى ركبته، وهذا إلى نصفه؛ إلّا رؤوسهم محل السجود ما تُصيبها النار! فينادونهم فيتشفعون فيهم فيخرجون واحداً بعد الثاني، يخرجُ من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، من مات وفي قلبه ذرة من إيمان؛ يخرج منها.
فالله يجعلنا من (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا) [الأنبياء:101-102] حتى عند المرور عليها، تَخمَد لهم ولا عاد إلّا برداً وسلاماً، ولا يحسون لها شيء! ثم حتى الذين يأذن الله - كما جاء في روايات كثيرة صحيحة - أن يَأمُرَهُم أن يدخلوا ويخرجوا أصحابهم من النار، يدخل من قَبِل شفاعتهم، من النار، يدخلون النار كما تدخل الملائكة! ما تقدر عليهم ولا تحرقهم ولا تؤذيهم، ولا صوتها ولا ريحها؛ كله محجوب عنهم لأنهم أحباب الرب -جل جلاله-
فما تقدر تؤذيهم النار! بل هم مظهر رحمته والنار مظهر غضبه، ورحمتي سبقت غضبي وعلَت على غضبي، جاء في بعض الروايات- عند مرور طوائف المؤمنين على النار تجد النار برد أنوارهم!
وجاء في بعض الروايات تقول: "يا مؤمن جُزْ، فلقد أحرقني نورك" امشِ، ابعد مني.. النار ما تقدر على نور الإيمان! وعلى نور القرب من الرحمن!
اللهم زدنا إيماناً وأدخلنا جناناً مع السابقين يا رحمن يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين وفرج كروب المسلمين وادفع البلاء عن المؤمنين وأصلح شؤوننا كما أصلحت شؤون الصالحين، واعلِ درجات المنتقلين لرحمة الله من صلى علينا عليهم يومنا هذا في بلدتنا هذه المنتقل إلى رحمة الله: عيدروس بن حسن بن محمد بن عبد الله الهدار بن شيخ بن أحمد بن الشيخ أبي بكر بن سالم.
واعْلِ درجات المنتقلين لرحمتك محمد بن محمد بن علي بن طالب بن الشيخ أبي بكر بن سالم صاحب المقد، أعلى الله درجاته، أعلى الله درجاته، جمعنا به في الجنة وأنزل على أهله السكينة والطمأنينة والرضا، وجمعنا وإياهم وإياه في مقعد الصدق وفي الدرجات العالية في الفردوس الأعلى، من غير سابق عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب.
يا ربّ واجمعنا وأحبابا لنا ** في دارك الفردوس أطيب موضعِ
واغفر لموتانا وموتى الحاضرين والسامعين وموتى المسلمين بمغفرتك الواسعة، واجعل قبورهم رياض من رياض الجنة، واجعلنا من بعدهم نَرِد إلى قبورٍ هي رياض من رياض الجنة وأنت راضٍ عنا.
اللهم ونسألك الاجتماع بهم في الدرجات العلى مع خيار الملا، والعفو والعافية لنا ولهم أجمعين ولجميع قراباتهم، وأن تُثبِّتهم على ما تُحِب وتجعلنا وإياهم فيمن تحب.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
05 جمادى الأول 1446