(536)
(239)
(576)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة مريم:
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) كَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
مساء الإثنين 9 جمادى الأولى 1446هـ
فوائد من: تفسير سورة مريم (10) ثمرات إيمانية وحِكَم ربانية:
الحمد لله مُكرمنا بالوحي والتنزيل، والبلاغ على لسان رسوله وعبده خير هادٍ ودليل، مَن دلَّ على سواء السبيل، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه خير جيل، وعلى مَن اتّبعهم بإحسان مع الرحمن في الفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين سادات أهل التشريف والتكريم والتبجيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد،،،
فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا وخطابه وتعليمه وتوجيهه وإرشاده؛ تفضُّلًا منه علينا وتنزُّلاً بجوده إلينا، انتهينا في سورة مريم إلى أواخرها في الآية السابعة والسبعين، يقول الله تبارك وتعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80))، بعد بيانات واضحات لِعظمة مُكَوِّن الكائنات، وأنه:
كما بدأ أول خلقٍ يعيده ويرجع الكل إليه،
ويحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون،
وسطوع البراهين، ووضوح الآيات، وظهور الدلالات،
لا يزال في هذا البشر وفي هؤلاء الناس مَن ينكر ويكابر، ويجحد ويكذِّب.
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا ..(77))، وأهل هذه المسالك لا يقوم منهم شأن على حقٍ ولا على حقيقة، ولا على صِحّة قط؛ ولكنها تلفيقات وتقليبات للحقائق، وزُخرُف مِن القول تقوم به جميع مبادئ الكفر والفسوق على ظهر الأرض؛ ليس لهم مِن أساسٍ قَويم يقومون عليه، ولا تَوافقٍ مع ما أُوتي هذا الإنسان مِن فضل خالقهِ؛ من سمعٍ وبصرٍ وعقلٍ وإدراك ومشاعر؛ بل يتناقضون مع كل ذلك، وينسون خالقهم الذي أوجدهم ومرجِعهم إليه، ويكذِّبون بالرجوع إلى الذي بدأ.
والبداية كافية بإثبات أحَقِّيةُ الرجوع، وبهذه البداية أو في أيام اغترارهم في العمر القصير في الدنيا يحصل منهم الإلحاد، والإفساد، وأنواع الكفر والعناد؛ كمثْل هذا، العاص ابن وائل السهمي، كان قد أخذ مالًا ودَينًا مِن بعض المؤمنين ومنهم -كما جاء في البخاري وغيره - سيدنا خبّاب بن الأرت، وكان قينًا حدادًا، وكان أصلح له سيفًا، وجاء يتقاضى حقه، يتقاضى دَيْنه -ويقال أن غيره كذلك- فقال: أعطني دَيني، قال: لا أعطيك دَينك حتى تكفر بمحمد!، قال: لا والله لا أكفر بمحمد، أعطني ديني الذي عليك، قال: لا أعطيك دينك حتى تكفر بمحمد!، قال: لا والله لا أكفر بمحمد، أعطني ديني الذي لي عليك، قال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد! قال: أمّا محمد فلن أكفر به حتى تموت وتُبعَث، قال: أوَ أُبعث بعد الموت؟ قال: نعم، قال: إذًا تعال لي بعد الموت أعطيك حقك؛ لأن لي هناك أموال، وعندي هناك مُلك كبير، فتعال سأعطيك، وعندي أولاد وعندي أموال سيكون في الآخرة؛ استهزاء واستخفاف وتكذيب وادِّعاء.
مَن قال لك: أنه سيكون لك ذلك؟! أنت ما تدري ما يحدث لك بعد دقائق، مِن أين جئت بالخبر؟ والطريقة لإثبات هذا الأمر: إما اطّلاع على الغيب، أو حصول موْثق وعهد مِن الذي بيده الأمر في ذاك اليوم قال سيعطيك، ما معك ذا، وما معك ذا، والدعوى هذه.. ما هذا؟! ما معناها؟ هذا عقل؟! هذا منطق؟ هذا برهان هذا؟ ما هو هذا؟ عناد ومكابرة؛ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا)؛ يقول الله:
(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) فسحْنا له عن غيوبنا التي غيّبناها عن عِلم عبادي، وعن مداركهم
(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)) هل أعطيناه عهد أننا نعطيه نعيم في الآخرة ونؤته أموال؟! من أين يجيء بالكلام هذا؟
(أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلاَّ ..(79))، لا ذا ولا ذاك، فما معنى هذه الدعوى؟ ولكن الواقع والحقيقة:
جميع المعاندين، والمضادين، والمخاصمين، والمستهزئين يزدادون بأعمالهم تلك ذلاً وهونًا وعذابًا يوم القيامة، وهم يضرون أنفسهم.
(سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ) نظهرهُ له في القيامة بعد إثباته عليه، وتسجيله عليه، سيأتي له نتيجة هذا القول، وجزاء هذا الكذب، وهذه السخرية والإدعاء.
(سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79))؛ هذا الذي سيحصل لك، ليس (لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا)! مِن أين جئت بها؟! (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا) نُضاعِف له العذاب ونِكثِّره ونوسعه عليه، كل عذابٍ فوق العذاب أشد وزيادة:
(زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) [النحل:88]، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة:20].
ويُهيّأ لزيادة العذاب بما يُملى عليه في الدنيا وما يتابعُ غروره:
(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون:55-56].
(إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [ال عمران:178].ً
قال: (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79))،
فهو يطغى ويشتد عليه العذاب في الآخرة،
وهو يتمادى ويصعب عليه العذاب في الآخرة،
وهو يُعاند ويَرُدَّ الحق الصريح،
وينقاد لأهوائه ولشهواته وما يُملي عليه الشياطين،
ولا يكسب مِن كل ذلك إلاَّ؛ زيادة ذُل، وزيادة ألم، وزيادة عذاب في الآخرة، وزيادة انقطاع عن حقيقة الطمأنينة في الدنيا، وامتلاء القلب بهمومها وغمومها وآفاتها -والعياذ بالله تبارك وتعالى- لا تُصدِّق غير هذا!
أكثر الناس همومًا في الدنيا وتعبًا باطنيًا هم الكفرة بالله والمعاندون لآيات الله، ولو تقلَّب في زخرف الأرض مِن طرفها إلى طرفها، لم يزدد إلاَّ غصصًا في باطنه، وضيقًا لا يجد به أُنسًا، ولا راحة، ولا طمأنينةً للقلب؛
ولكن (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]، يا رب املأ قلوبنا بالإيمان واليقين والطمأنينة.
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا) -وهي واضحة جلية بيّنة- (وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا(77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلاَّ) -لم يحصل على شيء من ذلك!- إذًا (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا(79)) نُضاعِف عليه العذاب ونُوسِّع له أنواعه.
(وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ..(80))، (نَرِثُهُ مَا يَقُولُ)؛
المال هذا الموجود عنده الذي هو مُغترّ به والولد الذي هو مفتخر به في هذه الدنيا، سنقطع بينه وبينه بالموت، سنأخُذه منه،
ونرِثه منه، سنرِث المال، كل الذي يقول هذا، نرثه ويُحال بينه وبينه، وبعد ذلك، كيف سيعيد المال؟ من أين سيرجع المال؟!
من أين سيأتي به ونحن ننزعه منه عند خروجه من هذه الدنيا؛
(وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80))،
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء:104].
لا إله إلا الله.. من أين له المال والولد؟ هل وحده سيأتي؟! (وَيَأْتِينَا فَرْدًا)، فهذا حال مثل هذا الكافر الفاجر المُغتر، أخذ حقوق الناس يقول: فيما بعد سأقضيكم، فيما بعد سأعطيكم.. بدعاوي باطلة واستهزاء بصريحِ البعث والحياة بعد الموت والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، كما تقدَّم معنا في الآيات: (وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)) -لا إله إلا الله-.
قال: وعموم الكافرين السالكين هذه المسالك: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً) اتخذوا مِن دون الله -مِن غير الله سبحانه وتعالى- (آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81))؛ مِن أجل أن يعتزّوا بهم، أو يفتخروا، أو يعتقدون أنهم يكفّون عنهم الآفات، أو يشفعون لهم.. إلى غير ذلك. فمنهم عبدةُ غير الله تعالى، مِن الذين يدَّعون التقرُّب إلى الله تبارك وتعالى بعبادتهم، كمثل بعض أصحاب الأصنام، ومن عبد سيدنا عيسى أو عُزَير، ومن عَبَد الملائكة وما إلى ذلك.
قال سبحانه وتعالى: (كَلَّا) -لا يحصل لهم عِزٌّ من عبادة غير الله- (سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82))،
و(يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَٰؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ) [سبأ:40-42] -اللهم أجِرنا من النار-.
وهكذا.. ويقولون: (هَٰؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [النحل:86-87].
في وقت المحشر إمّا يلتقي الأتباع بالمتبوعين:
(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) [البقرة:166].
يقول الله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) الذين كانوا يطيعونهم ويعبدونهم من دون الله (مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) [يونس:28]؛
فيتبرّأ هؤلاء من هؤلاء كما يتبرّأ هؤلاء من هؤلاء، (فَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ) -كيف؟!- (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [يونس:29-30].
ومنهم عَبَدة الأهواء وعَبَدة النفوس يغترون بها ويظنون أن تكون لهم ما تكون، وعبدة ما يفرحون به مِمّا عندهم مما يُسمّى علماً أو يلقبونه بالعلم: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) هؤلاء يكفرون بهؤلاء وهؤلاء يكفرون بهؤلاء.. وما عاد ينفع أحد منهم صاحب (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) [غافر:83-85].
يقول الله: (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82))، وانظُر بعين الاعتبار والادِّكار ترى العَجَب في الحياة الدنيا أمامك، ما هذا الحَمْل لبعضهم البعض على التكبُّر وعلى التجبُّر، وعلى رد صريح الآيات، وعلى الانفراط في المعاصي والزلات والذنوب والمخالفات لأمر الخالق ورسله -صلوات الله وسلامه عليهم-؛ حتى يَصِلون إلى حدود غريبة وبعيدة، وتُشاهدون في زمنكم إلى ما وصلوا إليه من تقنين لأنواع الفساد والشر- والعياذ بالله تبارك وتعالى- وانتهاكٍ للحرمات والأعراض:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83))، وبلغ الأزّ فيما تشاهدونه في وقتكم إلى أَمَد غريب وبعيد، إلى أن شرَّعوا للخبائث التي ما كانت البشرية تقربها ولا تُفكِّر فيها؛ حتى حصلت في مثل قوم النبي لوط وقال لهم: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ)، (مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ)؛ أي أمر يُناقض الفطرة، يُناقض الخِلقة السوية، يُناقض التكوين البشري، يُناقض المُراد من الخلق والإيجاد، (مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ) [الأعراف:80]؛ (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف:138].
ويقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)) تُحرِّضهم على المعاصي وتحملهم على الذنوب والمعاصي حَمْلاً بتزيين أنواع الباطل، وكما قال قائدهم في عرْض خطته -لما يعمل فينا- في بني آدم:
ثُمَّ (لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) [النساء:119].
(لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:17].
(لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:62].
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ) [سبأ:20-21]؛ فعلى قدر إيماننا بالآخرة ترتفع سلطة الوسوسة والشياطين عنا وعن عقولنا وعن قلوبنا، ولا ننساق إليها ولا نُصدِّقها.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83))؛ فيتعرضون بذلك للمَقت والغضب، وإنزال العذاب عليهم مُعجّلاً في الدنيا، (وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ) [طه:127] وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أشق -والعياذ بالله تبارك وتعالى- .
(فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) لا تطلب هلاكهم لترتاح منهم، ولا نزول شيء بهم؛ لأننا (نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84))،
وجعلنا لهم أنفاس معدودة يعصوننا فيها ويُخالفون رُسلنا.
يُعَدُّ على كل نفس جزاء يُجازون عليه في القيامة،
ومُعَد لهم من العقاب والعذاب ما لا يُحَد ولا يوصف، (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر:25-26].
قال: (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84))؛ فتحصل النتائج الكبرى لنا ولجميع المُكلَّفين من عند أبينا آدم، أول مكوَّن في العالم الإنساني، ومن أول من كُلِّف كذلك من الجان إلى آخرهم إلى أن تقوم الساعة، يحصل جمعنا أجمعين في ذاك اليوم وتنتهي النتائج والحُكم المؤبَّد؛ بالنعيم المخلد أو العذاب المخلد -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، اللهم اجعلنا من أهل جنتك.
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا (85)) والوفد إنما يُطلق على المُكْرمين المُستقبلين بالحفاوة، المُنزَلين المنازل الطيبة، وفد.
بخلاف الآخرين قال: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا)، يرِدون عليها بأرجلهم، ليس لهم إكرام ولا إجلال.
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا (85)):
حتى سيدنا علي يسأل النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ما أرى الوفد إلا محمولين يا رسول الله يصِلون، قال:٠ نعم، وفي الآخرة يُرسِل الله إليهم نجائب من الجنة، وعليها الرحْلُ من الذهب، ويركبون عليها وتطير بهم إلى أماكنهم ويقدمون عليها (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا).
بل جاء في الأحاديث أنه من عند الحشر في القبر، من عند الخروج من القُبور تقابل الملائكة أرواح المقربين والصالحين وأهل الدنو من الله بالنجائب، يركبونهم عليها وتطير بهم إلى ظل العرش وأماكنهم التي أعدّها الله لهم (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا) اجعلنا منهم وأدخِلنا فيهم يا رب العالمين.
(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) سَوق بما يضربهم الملائكة من ورائهم، و يسوقونهم، والسوط من أمامهم، يقول: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) [طه:108]، (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)) يَرِدُون عليها مُساقين مِنْ ورائهم، أو مَسْحوبين على وجوههم- والعياذ بالله تعالى-، غير الوفد الذين يوفَدون إلى الرحمن، أي إلى مَكرُمة الرحمن والقُرب من الرحمن، ودار رضوان الرحمن.
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا (87))
عهدُ الشهادتين،
ثم عهد الصلاة.
فمن لم يكن من أهل الشهادتين ولا من أهل الصلاة؛ لا تَلْحْقه الشفاعة، ولا تُقبَل فيه شفاعة يوم القيامة، كما قال الله عن هذا الصِّنف:
(فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء:100-101]
وقال أيضاً عنهم: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:48].
لكن مَن له عهد عند الله مِن شهادة: "أن لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وإقام الصلاة؛ فهؤلاء الذين فيهم الشفعاء، وفيهم من تُقبَل فيه الشفاعة، -فيهم الشفعاء والمَشفَوع لهم-.
أمّا من خرج عن هذا العهد: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، لا إله إلا الله، قالوا: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ) [المدثر:42-46]، (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:48]، لا يُشفَع فيهم نبي ولا ولّي ولا شَهيد ولا مُقرَّب ولا صِدِّيق؛ لا تُقبل فيهم الشفاعة -والعياذ بالله تعالى-.
(لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا (87))، ويقولون في أقوالهم الباطلة وما يَنشرونه من الفساد: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا (88)) إله، بارِئ، مُكَوِّن، عظيم، قوي، قادر، ليس كمثله شيء. واتِّخاذ الولد نتيجة تكوينية جسمانية مخلوقية! أين هذا من هذا؟! (لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)) شَنيع، عظيم، فَظيع، خارج عن المنطق وعن العقل، كيف يكون إله وعنده ولد؟! (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص:1-4] مُماثل ومُشابه، (أَحَدٌ) لا يماثله شيء.
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا (88) لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)) -هذا القول- (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)) مِن شناعته، يعني أنها تتضايق منه السماوات والأرض، ولو أُذِن لها لتفطّرت وتشقّقت من هذا القول الخبيث.
(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92))، (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ) [المؤمنون:91] -جلّ جلاله-.
(إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) -ملائكة وإنس وجن- (إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا (93))؛ كلهم خلقه وعبيده وتحت حُكمه.
(إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ) -راجع إلى الرحمن، واقف بين يديه- (عَبْدًا (93) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94))، (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف:47] لا إله إلا الله، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عن نفسها) [النحل:111].
قال: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا (93) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95))؛ فيا فوز الذين عَرفوا الله وخضعوا لجلاله في أيام التكليف في العمر القصير، وما يَحصل لهم وما نتائجهم، وقد تقدَّم مِن حَشرهم للرحمن وفداً، قال وبُسُطِ إفضالنا عليهم، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا (96)):
يَكسو قلوبهم بودّه،
ويَنشر وُدَّهم في قلوب ملائكته وصَالحي عِباده،
ويجعل لهم مِنْ سِرِّ الوداد في القلوب -حتى عند الحيوانات- نصيب.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا (96)) حتى جاءنا في الحديث الصحيح يقول: "إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحِبّه"، فيَتعبّد الله جبريل بمحبة فلان، قال: ويأمره أن يُنادي في أهل السماء: "إن الله قد أحب فلان بن فلان فأحِبوه"، قال: فيُحبه أهل السماء ويُوضَع له القبول في الأرض.
المُقبلون على الله بقلوبهم، تجد الفِطَرْ السليمة والقلوب غير التي تكاثرت عليها الظلمة، تجد لهم مَودَّة، ما تدري من أين أو ما سببها! بمجرد ما تقع الأعين عليهم تَحسُّ الأرواح والفِطَر ميلاً إليهم، وحتى غالطت أنفسهم من السكينة؛ يُحسّون بميل، كان في وصف نبيه:
من رآه بديهة هابه ومن خالطه أحبه،
"لمّا نظرتُ وجهه عَلِمت أنّه ليس بوجه كذّاب" ﷺ.
وهكذا (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا (96))، وبذلك تَحْمِلُ الملائكة ودّهم عبودية لله وعبادة له -سبحانه وتعالى-، فتودّ هؤلاء المؤمنين العاملين بالصالحات.
اللهم وفِّر حظّنا منْ الإيمان والعمل الصالح، وارزق كلاً منّا وأهلِنا وأولادنا قوّة إيمان، وزيادة في العمل الصالح المَقبول المبرور، يا بَرُّ يا عزيز يا غفور.
(سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا (96)) وفي وِدّهم للرحمن ومن الرحمن مَعاني ما يُعبّر عنها اللسان، تَطرَب لها الأرواح؛ فتصير في نشوان، كل منهم نشوان بعجائب هذا التفضّل الربّاني الرحمّاني.
لذا لمّا مرّ على الآية ليلة، الإمام محمد بن حسن جمل الليل عليه رحمة الله، وقال في صلاته في القيام في الليل: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) ذاقت روحه معنى الوِدّ، فأخذ يُكررها: "وُدًّا... وُدًّا... وُدًّا" وتجاوز الساعة والساعتين حتى طَلع الفجر، (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) فما أعجب وِداد الربّ لِمَن أحبّ وقرّب! والله يجعل لنا منه نصيباً وافراً وحظّاً أَرْحَب.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ) هذا التذكير وهذا الذكر وهذا الوحي وهذا القرآن المُهيمن على جميع كُتُبَنا؛ إنّما يسّرناه، سهلّناه وقرّبّنا فهمه ووعيه للمُقبلين عليه؛ (بِلِسَانِكَ) يا محمد، بلسانك التي تَتلو هذه الآيات فيستطيع مَنْ بعده أنْ يتلوها، (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97))؛ فيا فوز المُتّقين والذين تعمَّقوا في تقوى الرحمن -جل جلاله- في سرّهم ونجواهم:
(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا) [مريم:64]
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا (85))؛ (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ..(97)) ببشائر عظيمة:
(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)،
(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)،
(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق:2-5].
بشائر للمتقين، (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) عنّا، ونحن القادرون الذي خلقنا كل شيء بِقُدرتنا وإلينا مآب كل شيء؛ بَشِّرهم عنّا أننا مهما وفقّناهم للتقوى؛ فقد أعددنا لهم عجائب من الجود والفضل والإحسان في السرِّ والنجوى، إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
(لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97))؛
شديدي المنازعة والمخاصمة والرّد للحق البيّن، "وأبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخصِم".
شديد المُنازعة والمُخاصمة، والذي لا يقبل الحُجّة، ويجتهد بكل ما عنده أنْ يُبطِل الحق، وأن يُظهِر الباطل في وجه الحق، ويَستعمل في ذلك كل طاقته، ومهما توضَّحت له الدلائل لا يَرجع؛
قال: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ) [الحجر:14-15].
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ) [القمر:1-2] لا يؤمنون.
(وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) [الأنعام:111] -أعوذ بالله من غضبه-.
حتى لو رُدّوا من الآخرة إلى الدنيا ورجعوا مرة ثانية، سيعودون للكُفْر والعناد -والعياذ بالله تعالى- (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام:28].
يقول سبحانه وتعالى: (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97)) وتنظر في عالم الحِسّ، هذا ظاهر اللُّدَد لهم؛ أنواع الظلم، أنواع سَفْك الدماّء، أنواع انتهاك الحُرمات. يقول لك: لا، فقط هذا، لا، فقط هذا، لكن شيء لا يريدونه؛ هذا إرهاب، هذا ظُلْم هذا لا يجوز، قوم لُدّ؛ لا قانون ولا نظام ولا دين، شهوات وأهواء وإرادة سلطة، فقط هذا الذي معهم: (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ) [النجم:30] مساكين، ويلٌ لهم.
وكُل مَنْ لمْ يَتَدارك بإنابة وتوبة إلى الله؛ فما أقبح ما هو مُقبِل عليه! وهم في حياتهم إلى الآن يتراشقون ويترادُّون، وفي هول وفي حيرة؛ إمّا من الداخل أو من الخارج، ولكن إصرار وعناد.
(وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97)) وهؤلاء القوم اللدّ في أي زمان هم أصلاً؟! أول ناس جاءوا وإلّا ماذا؟! مِنْ عهدك يا محمد إلى أن تقوم الساعة، وكم ألِدّاء قد أهلكنا قبلهم، كثير خلقناهم ورزقناهم، (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ)؟ [ق:36]، هل هو واحد أو اثنين أو عشرة أو مئة أو مئتين؟!
الذي (قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة:253]،
والذي قال: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت:15]،
الذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]،
الذي قال: ما عندكم إله غيري،
بعد ذلك، هل أنت أول واحد جئت أو ماذا؟! يا هذا أمثالك قد مضوا كثير! (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر:51].
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ) بِسمع، بِبصر، بِلمس، هل بقي لهم أثر؟
(هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)) صوت خفيف، فضلاً عن أنه جلي واضح، - قليل أثر-، هل بقي صوت لقوم عاد؟ أو ثمود؟ أو قوم نوح الذين جلسوا يضعون أصابعهم في آذانهم، يستغشون ثيابهم ويستهزؤون بـه 950 سنة، هل مِن خبر؟ هل بقي أحد منهم؟
(هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا) يا نمرود ويا فرعون! والذين قبلكم والذين بعدكم (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) [الفرقان:38-39].
وفي أراضينا كم مرة، وفي الروم وفي فارس وفي الشرق والغرب؛ فيا موجودين الآن اعقلوا، ماذا معكم؟ كم قد مضى قبلكم؟! من قال مثل قولكم؛ ومن كان أشد قوة وتمكين في الأرض؛ ذهب وصار عِبرة، ماذا تعملون بأنفسكم؟! وإلى أين تذهبون؟ (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)) انتبه في حياتك القصيرة، اجعل لك شأن مع الدائم القوي عند الرجوع إليه؛ تَفُز وتَسْعد، ويُخلّدك في نعيمهِ، وإلا إلى أين ستذهب؟! لا إله إلا الله (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)).
نعوذ بالله من غضب الله، نعوذ بمعافاتك من عقوبتك، ونعوذ برضاك من سخطك، ونعوذ بك منك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك؛ فأجرنا من النار، وأجرنا من الخزي والعار، وأجرنا من الفضيحة في يوم القيامة، وأجرنا من كل سوء أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، يا رب الدنيا والآخرة، يا أرحم الراحمين يا الله.
وزدنا إيماناً ووفقّنا للأعمال الصالحات القلبية وبأعضائنا كلها، اجعل اللهم ألسنتنا عاملات بالصالحات، وعيوننا عاملات بالصالحات، وآذاننا عاملات بالصالحات، وفروجنا عاملات بالصالحات، وبطوننا عاملات بالصالحات، وأيدينا عاملات بالصالحات، وأرجلنا عاملات بالصالحات، واجعل قلوبنا مُتمَكّنة في العمل بالصالحات يا مُجيب الدعوات.
وزِدنا إيماناً في جميع الأنفاس واللحظات والآناء والساعات، يا رب بقيّة أعمارنا اجعلها غنيمة في زيادة الإيمان والتوّفيق للعمل الصالح المقبول، وأنلِنا بذلك فوق كل سُؤل ومأمول كما يليق بجودك يا برُّ يا وصول، برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين، في خير ويسر وعافية ويقين وتمكين مكين.
بسرِّ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
10 جمادى الأول 1446