تفسير سورة طه - 8 - من قوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا..} الآية 72 إلى الآية 82

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه  

( إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82}

مساء الإثنين 11 شعبان 1446هـ

 

نص الدرس:

الحمدلله مُكرِمنا بالقرآن وتنزيله، وبيانه على لسان عبده وحبيبه ورسوله، سيدنا محمد صلى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، وأهل ولائه ومحبته والاقتداء به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين، سادات أهل قرب الله وأحبابه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أمَّا بعد،،

فإنَّنا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا تعالى، وتفهُّمِنا لما أرشد وبيَّن وأوضح وهدى، وأمر ونهى جلّ جلاله وقصَّ علينا من الأخبار، انتهينا في سورة طه إلى ما ذكر الله -تبارك وتعالى- عن سيدنا موسى وهارون وما قابلهم به أهل قُوى الكفر من فرعون ومن معه، وما سرى من نور الإيمان واليقين إلى السّحَرة فآمنوا بالله -جلَّ جلاله- رب هارون وموسى ورب كل شيء لا إله إلا هو إليه المصير.

وخاطبوا فرعون أنَّه قد انتُزِع من قلوبهم هيبته، كما انتُزِع من قلوبهم محبّته، كما انتُزِع من قلوبهم الركون إليه أو الاعتبار له، وأنَّهم أدركوا عظَمَة إلههم الذي خلق، وبيَّنوا له أنَّ كل ما هو فيه من مُلكٍ محلُّ غرورٍ وأنَّه من ضرورته الزوَال والانقضاء والانتهاء، وأنَّ الحُكمَ في حياة الأبد للحي القيوم الذي لا يموت أبدًا، حتى انتهَوا إلى بيان هذه الحقيقة، بعدما قالوا: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (73)) الله خير منك وأعلى وأجلّ، إنْ جازى وأنعم فجزاؤه وإنعامه خير مما عندك، من كل ما في مُلكِك، وإنْ عذّب فعذابُه أشدُّ من عذابِك ومن كل ما تُهدِّدُ به، وهو أبقى؛ فإنَّ نعيمه يدوم وتعذيبه يدوم، وأنت ليس في تنعيمك دوام ولا في تعذيبك دوام كذلك  (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ).

والحقيقة التي إليها مرجِع الكُل؛ مَن آمَن ومن كفَر، ومن أقبَل ومن أنكَر، ومن أعرَض ومن توجَّه، الأمرُ يرجِع إلى هذه الحقيقة الوحيدة: (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ (74)) بموتِه، من جميع المُكلَّفين إنسًا وجِنًّا، (مَن يَأْتِ رَبَّهُ) أي تنقطع مُهلَتُه التي أُعطِيَها في الدنيا، فيأتي ربه أي: يلقى ربه -جلَّ جلاله- بالموت، (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ) الذي خَلَقه وكلٌ راجِعٌ إليه -جلَّ جلاله- وقال الله تعالى عن وهم الكاذبين الضالين: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115]، يقول جلَّ جلاله: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم) [الغاشية:25-26]، وقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم:40].

  • (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا) مُجْرِمًا أي: مُكذِّبًا به، كافِرًا به، مُشرِكًا به، مُخالِفًا لأمرهِ.

  • (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا) وأعلى الإجرام؛ الكُفر به والإشراك معه.

(مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ) هذا موطِن العذاب الذي يُعذِّب الله فيه الكفار والمنافقين، مِن كُل من بَلَغته دعوة الله ورُسُله فأبى واستكبر.

(إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ (74)) وهي لما فيها من شدة العذاب (لَا يَمُوتُ فِيهَا)؛ أنت لو اشتدَّ عذابُك على أحد فإنَّه يموت! لكن هذا عذاب أشدّ من عذابك وآلم ولا موت، (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا  يَمُوتُ فِيهَا) وأنت إذا اشتدّ العذاب على أحد يموت وﻻيحسّ ثم ماذا تفعل به؟! لكن هذا عذاب أشد وآلَم وأفظع ولا يموت أصحابه.

(لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ) أي لا يذوق حياة هانئةً ينتفع بها، يلتذّ بها، فلا يموت فيسلم من العذاب ويُكفى الألم، ولا يحيى حياة هانئة طيبة ينتفع بها، (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) -لا إله إلا الله-، (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ) [اﻷعلى:11-13]، لا يموت فيسلم من العذاب ويُكفى الألم، ولا يحيى الحياة الهانئة الهادئة النافعة -لا إله إلا الله-.

(فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (74)) فبماذا تُهدّدُنا؟ وماذا عندك من العذاب؟ وماذا تكون؟ والحقيقة هذه.

(وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا (75)) يأتي ربه، يلقاه بالموت والخروج منه وهو مؤمن، (وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا) قد يُتَوّهم أنَّه بِمُجرد الكفر، من لقِيَ ربه استحق العذاب، فهل بمجرد الإيمان تكون النجاة؟ قال: إنَّما تمام النجاة على البرهنة عن الإيمان بالعمل الصالح؛ (وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ) ومن يأته مؤمنًا تحقّق بحقيقة الإيمان في الدنيا بعمل الصالحات واجتناب السيّئات والمُخالفات، والإكثار من الطاعات.

(وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ (75))؛ الرفيعة التي ليست عندك، عندهم درجاتٌ في دار الكرامة لا ينالهم فيها نَصَب ولا هم ولا غم ولا مرض ولا موت، أنت ماذا عندك؟ مهما قرّبت أحد منك فإنَّه يمرض، مهما قربت واحد منك فأنَّه يناله الهم والغم، لكن هناك ﻻ هم وﻻ غم؛ هذا الجزاء الطيب عند الربّ، فما الجزاء عندك؟

(فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ) عَدْنٍ: خلود دوام إقامة استقرار استمرار، أنت الذي تُنعِّمه يموت، والذي تُعذِّبه يموت كلهم يموتون، لكن هناك مشكلة! الأمر كبير عند هذا الملك الذي آمنَّا به الآن -لا إله إلا الله- جنات عدن: إقامة وخلود واستمرار (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) كما شاؤوا، يجري النهر عند كلٌّ منهم، من تحت سريره من تحت قصره، أي مكان يريد أن يجري فيه فإنه يجري، (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) لا موت ولا خروج. 

(وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ (76)) من تطهّر عن الكفر والنفاق وسوء الظنّ بالخلّاق، وعن قبيح الأخلاق، (جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ) -الله أكبر-، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ) [الأعلى:14-15]، يقول جلَّ جلاله: (وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ) [فاطر:18]، وكل من تطهّر في أيام هذه الحياة الدنيا عن قاذورات الكُفر وشوائب الشرك والصفات المبغوضة للخلّاق فجزاؤه جزاءٌ عجيب عظيم وأبدي سرمدي ونعيم مُقيم.

(وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ) يقول -جلّ جلاله-، فمرّت الأيام ومرت الأشهر ومرت السنون وموسى يدعو فرعون وقومه للربّ، وهؤلاء مُنحازين مع موسى وهارون حتى أمرهم الله أن يتخذوا بيوتا مُستقلّة (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) [يونس:87] مكان يُقام ويُقصَد للإحسان وللعلم وللفضائل، (بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) يقصدكم المحُتاج، يقصدكم الضعيف، يقصدُكم الجاهل ليتعلّم، فهكذا يجب أن تكون بيوت المؤمنين؛ تكون بيوت المؤمنين قِبلة، ويُراعي بعض أهل العلم والفضل والذوق أن يجعل أيضًا اتجاه البيت إلى القبلة بحيث لا يحتاج المصلي فيه إلى أن يتيامن ولا أن يتياسر، ولكن المراد من (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)؛ أي: مَحلًّا يُؤمّ ويُقصَد لأجل المكارم، ولأجل التربية، ولأجل العلم والتفهيم، ولأجل الإنقاذ، ولأجل الإرشاد فيكون مأوى للعبادة، وهكذا بيوت المؤمنين محل التعليم، محل الإكرام، محل المعاونة، محل المساعدة، محل الخُلُق الحسن، بيوت المؤمنين قبلة، (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس:87].

ونزلت الآيات وكلمَّا نزل بلاء (قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الأعراف:134] نسمح لكم أن تمشوا؛ أنت وإياهم.

فيدعو اللهَ موسى فيكشِف عنهم البلاء فيرجعون إلى العِناد، وأرسل عليهم آيات كثيرة: الضفادع والقمّل والدم، وكل مرة يقولون سنتوب والآن ادع ربك، وذهب فرعون إلى أين! (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]، (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) [القصص:38] يرجعون إلى موسى، هكذا المُبتَلى المتناقض، وسيدنا موسى يدعو فيرتفع البلاء فيرجعون مرة ثانية، حتى جاءت النهاية (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) [الأعراف:135-136]، نادى ربنا موسى؛ أسرِ الليلة بعبادي الذين أرسلتُك إليهم لتُخلِّصهم من ظُلم فرعون وأذاه؛ لتهديهم إلي وإلى صراطي، ليتهيأوا للقائي على الإيمان، وأنا راضٍ عنهم وأُحِلُّهم جنتي ودار كرامتي.

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي) امشِ في الليل بعبادي وكانوا عدد كبير، يصِلون -كما جاء في بعض الروايات- إلى ستمائة ألف وسبعين ألف، قال: اِسْرِ بهم، فخرجوا في الليل، وبلغ الخبر فرعون وقالوا: لم يعد هناك واحد في المساكن، كلهم خرجوا يريدون الهروب، هؤلاء! قال ألحقهم الليلة.

وأرسل في الليل إلى جنوده في المناطق كلها وجمّع الجُموع وجاءوا؛ المقدمة فقط للجنود سبعمائة ألف، هذا المقدمة فقط، ما عدا المؤخرة والميمنة والميسرة وهو يتقدّمُهم، وجاءوا فقال: نلحقهم، ففي الليل، جمعوا الجنود من كل مكان وتجمّعوا وخرجوا مع الفجر وقت إشراق الشمس، قابلهم، لأن سيدنا موسى لما سرى بالعباد المؤمنين معه، وصلوا إذا بالبحر ولم يكن هناك سفن فجلسوا فوق بحر القلزم منتظرين، فلمَّا جاء الصبح، والشمس تطلع وإذ بهؤلاء يُقبلون من هنا وقالوا: يا موسى هذا البحر وهذا فرعون وقومه جاءوا إنا لمُدرَكون، سنُقْتل جميعا اليوم ولن يترك منا أحد، (قَالَ كَلَّا) سيدنا موسى، قال: لا شيء يحدث من ذلك، كيف؟! (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62] أنا خرجت  بأمره، لذلك يقول: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ (77)) لا تخاف دركًا: لا يدركك فرعون ولا أي ضر، لا يقدروا عليك، لا تخاف دركًا ولا تخشى ضرًا ولا آفة تنزل بكم، فأنتم بعيني أحميكم.

(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا) لايوجد فيه أثر البلل من البحر، هم في البحر ولا يوجد بلل؟! سبحانه! إذا أراد أن يحوِّل سيولة البحر إلى يبوسة رجعت يبوسة، وإذا أراد أن يحوِّل صلابة الجبل إلى سيولة رجعت سيولة -الله أكبر-.

  • هناك حجَر قال له ﷺ اضربه خرج منه ماء 

  • وهذا قال له اضربه رجع مثل الجبل 

الأمر أمر واحد من فوق، لا سيدنا موسى ولا عصاه ولكنها آيات، آيات وأسباب، والفعَّال؛ خالق موسى وخالق العصا -عز وجل-.

قال: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا)؛ أن يدركك فرعون وجنوده، ولا بأس يدركك، ولا تخشى همًا ولا غمًا ولا بؤسًا يلحقك -الله أكبر- (لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ).

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ (78)) جاء الجند -العدد الكبير- مغتاضين، (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى ٱلْمَدَآئِنِ حَٰشِرِينَ* إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِين) مع الإشراق وصلوا، (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) الآن وقعنا فيه؛ هذا بحر يغرقنا، وهذا فرعون يهلكنا (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء:53-63] الجبل العظيم

كانوا اثنا عشر فرقة، وهم اثنا عشر قبيلة، قال: كل قبيلة يدخلون من شقٍّ واحد -الله أكبر-، ومع ذلك لمّا قالوا إنَّنا مشتاقين لبعضنا البعض، ففتح الله وسط الماء فتحات ينظرُ هؤلاء الى هؤلاء، كلٌّ يمشي في فِرْق ويرى الثاني -لا إله إلا الله-، وهكذا إلى أن وصلوا إلى الجانب الثاني. 

نحن وصلنا، فرعون يمكن أن يدخل ويَصل! همَّ سيدنا موسى يضرِب بالعصا، ليس عملك! أتركه، من أجل أن يدخل فرعون ويقع الكلام ثاني بعد ذلك.

ولمَّا وصل فرعون ادَّعى بدعاويه، رأى آية أمامه والآن سيفيق ويخرج من بطره وغيّه، ويقول "عن موسى" الرجل المرسل من عند الله، والبحر تحول هكذا! ولم يحصل في يوم من الأيام أنَّ البحر سيحصل له هكذا، هذا من عند الله، جاء هذا -فرعون- الكذاب وهو ماشي، انظروا أنا شققت لهم البحر، أنت؟! هيا ادُخل وسترى الخبر الحقيقي، أنا بقدرتي، لِأُريهم أنَّي وراءهم، هيا ادخل، دَخل هو وقومه.

قال تعالى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ) -من البحر- (مَا غَشِيَهُمْ (78)) أمر شنيع شديد؛ هذا يطلع وهذا ينزل، أُهْلِكوا جميعا وحتى حيواناتهم!، شدة شديدة، أبْهمها لعظمتها، قال: (فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) شيء فضيع شديد، تركهم الحق -جلَّ جلاله- حتى توسطوا وسط البحر، لمَّا أصبحوا بالوسط، وآخرهم دخل، ردَّ الماء إلى سُيولته، ويصعدون وينزلون في الماء هم وحيواناتهم، (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ)، آمنت!

 قبل قليل كنتَ تقول: أنا! (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) [يونس:90]، أين ذهب الكلام السابق كله؟ كله ينتهي، هذا وحده انتهى، هو والذي قبله والذي بعده، والذي في زمانكم اليوم من كلام الكفر والتكذيب كله سينتهي يصبح لا شيء، ولا حقيقة له، الحقيقة؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه الحقيقة، كلٌّ يرجع إليها.

قال: (فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ (79))، وأضل فرعون قومه، وهو كان يقول لهم ماذا؟ (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [سورة غافر:29] لكن هذا كلام فارغ، كلهم يقولون هكذا، كل المضلين والفاسقين والمفسدين يقولون: ندلكم على طريق صح صواب، لكنَّ الواقع بعد ذلك والنهاية: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ) لا يوجد عنده هداية، الهداية من الله، عند الأنبياء ومن تبعهم، لا يوجد عند الكفار هداية (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) والنهاية تَقدَّمَهُم في البحر وغرقوا، وفي القيامة سيتقدمهم إلى النار (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ *وَأُتۡبِعُواْ فِي هَٰذِهِ لَعنَةٗ وَيَوۡمَ ٱلقِيَٰمَةِ بِئسَ ٱلرِّفدُ ٱلۡمَرفُودُ * ذَٰلِكَ مِن أَنۢبَآءِ ٱلقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيكَ مِنهَا قَآئِمٞ وَحَصِيدٞ) [هود:96-100].

يقول جلَّ جلاله: (يا بَنِي إِسْرَائِيلَ) هذه الآيات نريكم إياها، والمعجزات على يد عبدنا ونبينا موسى، (يا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ) بقدرتنا وترتيبنا وتدبيرنا -لا إله إلا هو-، (وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) وفي قراءة (وَوَعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) أعطاهم وعد لمن اختارهم موسى ليسمعوا معه كلام الله (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا) [الأعراف:155]، جانب الطور الأيمن؛ أي الجانب الأيمن من الطور، ليكون على يمينكم في توجُّهكم إلى جهة بيت المقدس، (جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) وقديما أيام كنتم في التِيَه، نزّلنا بعد ذلك، لمَّا وقعوا في التِيَه (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ) [البقرة:57] فيُذَّكِر الله بني إسرائيل بما جرى لآبائهم من قبل وأجدادهم، وكان واجب عليهم أن يطيعوا ويستقيموا على منهج موسى ويصدقوا عيسى بن مريم وما بُعث به ويمشوا على طريقه، لكن الجماعة صلحوا لهم أخبار ثانية وأفكار ثانية وتولوا (يا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ (80)).

وقلنا لكم في تلك الأيام، أيام  نزول المّن عليكم، على الأشجار بالطعام الطيب، والسلوى؛ تذبحونها، ومن الطيور ما تكفيكم، قلنا لكم: (كلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ (81)):

  • (لَا تَطْغَوْا فِيهِ)؛ لا تستعينوا بشيء من رزقي وعطاياي على معصيتي،

  • (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ)؛ لا تتجاوزوا حدكم،

  • (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ)؛ لا تدَّخِروا خوفًا من الفقر، أنا سأرزقكم في كل يوم،

  • (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ)؛ لا تجحدوا بنعمتي، تنسون إفضالي عليكم، فمن كان يأكل الطعام ويجحد النعمة، ومن كان يأكل الطعام ويتقوَّى به على المعصية فقد طغى،

(وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي (81))؛ أي ينزل بكم و يحل عليكم غضبي، ولا شيء أشد من غضب الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ليس هناك شيء أشد من غضب الخلَّاق الجبار -اللهم إنَّا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار-.

(وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي) ينزل به ويحيط به (فَقَدْ هَوَىٰ (81)) فقد هلك هلاك الأبد، قال سيد الوجود: "إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي" -لا إله إلا الله-.

(وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ (81))؛ سقط وهلك هلاك الأبد.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ (82))، كثير المغفرة، وسيع المغفرة، جليل المغفرة، عظيم المغفرة،

  • (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ) تاب من الذنب، من الشرك، من الكفر، من أي معصية،

  • (وَآمَنَ) ثبت على الإيمان، وازداد إيمانًا،

  • (وَعَمِلَ صَالِحًا) بمقتضى هذا الإيمان وتحقيق هذه التوبة،

  • (ثُمَّ اهْتَدَىٰ) تمسَّك بسنة نبيي، وعلم أنَّ كل ما أعطيته من فضلي ومن جودي، فلم يغتر ولم يتكبر،

(آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ)؛ تمسّك بالسُّنة ولم يتبع الهوى، وشهد أنَّه فضل من الله، لم يغتر ولم يعجب ولم يتكبر، هذا قال أنا غفار لهم، مغفرة تستوعب جميع ما سبق من ذنوبهم.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82)) ما أعظمه من غفار، وما أعظمه من تواب -جلَّ جلاله- نسأله أن يتوب علينا توبة نصوحة.

(لِّمَن  تَابَ وَآمَنَ):

  • أي أيقن بصدق ما أوحيت إلى أنبيائي ورسلي، وصدقهم فيما بلغوا عني،

  • (وَعَمِلَ صَالِحًا) نفَّذ وطبَّق ما آمن به، وحقق التوبة في عمل الصالحات،

  • (ثُمَّ اهْتَدَىٰ)؛ لم يزغ بهواه عن سنة نبيي ولم يتكبر ويغتر بطاعته، شاهدًا أنَّها مني ومن فضلي عليه (ثُمَّ اهْتَدَىٰ).

اللهم اجعلنا مِمَّن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى، واغفر لنا يا خير الغافرين، وارحمنا يا خير الراحمين، واجعلنا في خواص الهداة المهتدين. 

اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعلنا عندك من خواص أهل القرآن، يا مُنزل القرآن، وبحق من أنزلت عليه القرآن، حبيبك محمد سيد الأكوان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، وجعلنا الله وإياكم ممن ترعاهم عين عنايته في كل شأن. 

دفع كيد النفس والهوى والشيطان، عنا وعن أهلينا وأولادنا وذرياتنا وذوينا ومن يوالينا إنَّه أكرم الأكرمين، وبارك لنا في شعبان وبقية لياليه و ليلة النصف فيه، وبلغنا رمضان بكماله على خير الوجوه وخير حالة وأحسن أحواله إنه أكرم الأكرمين، وجعلنا ممن ينادى كل ليلة يا باغي الخير أقبل، ووفَّر حظنا من ذاك الشهر وليلة القدر فيه، وجعلنا من خواصِ المغتنمين لها والفائزين بفضلها، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

بسرِ الفاتحة

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

27 شَعبان 1446

تاريخ النشر الميلادي

26 فبراير 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام