(228)
(574)
(536)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل، من قوله تعالى:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)}
الحمد لله مكرمُنا بخير بيان، على لسان خير الأكوان، المنعم علينا بتنزيل القرآن، والمشرق الآيات بواضح الفرقان، نشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له الرحيم الرحمن، ونشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله القائم لله تبارك وتعالى بالصدق وهداية الخلق في السر والإعلان، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه في كل حين وفي كل شأن وفي كل آن، وعلى آله وأهل بيته المطهرين عن الأدران، وعلى صحابته الهداة المهتدين الغر الأعيان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد،،
فإننا في نعمة تدبُّرنا وتأمُّلنا لكلام ربنا جلَّ جلاله وتعالى في علاه، انتهينا في سورة النحل إلى قول ربنا: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)) وهذه إرشادات ربنا لنا أن نستقيم في الحياة على احترام العهود واحترام المواثيق واحترام الوعود، وأن نكون على استقامةٍ فيما نتحالفُ عليه وفيما نتفقُ عليه وفيما نتعاهدُ عليه وفيما نعِد به.
فهذا هو المسلك الذي يُنْجِي البشرية من كل مَهْلَكْ، وإذا مَرِجَتْ العهود لم تبقَ قيمٌ للناس لتقود، فلا تبقى طمأنينة بميثاقٍ ولا عهد، ولا ثقةٍ بإنجاز وعد، فتتحول حياة الناس إلى مغالطات ومغالبات وإلى تربصات ببعضهم البعض، وإلى اتخاذ أصنام الأغراض والأهواء والمقاصد الفانية آلهة من دون الله -تبارك وتعالى- يعبدونها، فَتُخَرِّبَ عليهم حياتهم؛ لأنهم لا أيمان لهم ولا عهود ولا مواثيق، فأرشدنا الله وقد بيّن لنا فيما مضى أنه (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل:90]، ووعظنا بذلك لننال التَذَكُّر، أكد علينا الأمر وفصَّل ما أجمل فقال: انتبهوا للعهود بينكم، وإذ كان الناسُ بحكم الفطرة يعيشون وفاءً بعهدهم إذا عاهدوا؛ فتنتظم الأمور وتستقر الأحوال في المجتمعات وفي واقع حياة الناس، ويُطْلَبُ من أحدهم أن يخون أو يغدر أو ينقلب عن رأيه فيقول قد خرجت كلمة مني، أبدًا ولا يكون هذا مادام قد صدر مني وقد وعدتُ، فكان هذا حتى عند عوامهم وعند البدوِ فيهم، فانظر لمَّا ادَّعى الإنسان التطور صارت لا قيمة له ولا قيمة لكلمته ولا لعهده -والعياذ بالله تعالى-، فأمرنا الله أن نحذر من هذه الدناءة، للذين لا يَزِنُونَ وزناً للعهد ولا للمثياق ولا للاتفاق ولا للوعد الذي يصدر منهم.
قال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ.. )، نَسَبَهُ إليه؛ لأنهم يَحلِفون فيه بالله ويذكرون اسم الله عليه، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ) إذا حلفتم يميناً على فعل شيء أو ترك شيء، أو إذا أصدرتم ميثاقًا بينكم البين واتفقتم على أمر. (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ) فإن الوفاء شأن المؤمن، وإن إخلاف الوعد ثُلثُ النفاق، ومن كان فيه هذه الخصلة ففيه خصلة من النفاق حتى يتركها أو يدعها، وإلَّا فَظُلمَةُ النِفَاقِ لازمةٌ لقلبه بإخلافه الوعد، "إذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا خاصَمَ فَجَرَ"، "مَن كانَتْ فيه كل هذه الخصال فهو منافق كامل"، "ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَها."؛ إذًا فيجب أن نتربى على ما ندبنا إليه خالقنا من الصدق في الحديث، والوفاء بالعهد، والأمانة وحُسن أدائها والبعد عن الخيانة.
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا.. )، بعد تغليظها وتشديدها تنقضوها:
( ..وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.. )، شاهدًا وحفيظًا ورقيبًا ووكيلًا عليكم.
( ..وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.. ) المعنى: أنَّ مَن يحلفُ بالله، ويرضى بضمانة الله وشهادة الله -جل جلاله- وكفالة الله، ثمَّ يَغْدِر ويخون؛ أنَّه يكون خصمه الْجَبَّارُ الأعلى يوم القيامة،
( ..وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.. ) جعلتني رقيب وحفيظ ووكيل ثم بعد ذلك تخون! ليس لي هيبة عندك؟ ولا مكانة لديك؟! لو خفت من أحد من عبادي المخلوقين أَعْطْيتُهُ سطوة بشيءٍ من الشؤون الحسيَّة الماديَّة لَخِفتَهُ ولو وفيت بالعهد خوفًا منه، وجعلتني كفيلا ثم تخون؟ كأنَّك تعتقد أنَّي لا أَقدِر؟ أو أَعْجَز عن أن أعذبك؟ أو أعاقبك؟ فيكونُ خَصمُهُ -والعياذ بالله تبارك وتعالى- الْجَبَّارُ الأعلى يوم القيامة، ومن كان خَصمُهُ الله خَصَمَه.
( ..وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.. ) وفي هذا بيَّن لنا ﷺ شأن أهل القلوب الصادقةِ الصافية، والمُوفِين بعهد الله وخبَّرنا: أنَّ رجلًا من بني إسرائيل احتاج إلى دين، وقصد إلى مدينة من قريته، بين قريته والمدينة بحر أو نهر كبير، ما يُمضَى عليه إلا بالسفن، فجاء إليه يطلب منه أن يُعطيه هذا الدين -هذا المبلغ- فقال له: من الشاهد؟ قال: كفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيد، قال: رضيت بشهادة الله، قال له: من الكفيل؟ قال: كَفى بِالله كَفيل، قال: رضيت وأعطاه إيَّاه، على أن يَرُدَّهُ في اليوم الفلاني بعد مدة معينة، فذهب وجاء اليوم الذي وعده أنَّ يرد فيه، فحمل الدنانير ووقف على الشاطئ يريد سفينةً تَأخُذُه إلى الجانب الثاني عند المدينة التي فيها صاحبه فلم يجده، وخاف وهذا يوم الوعد ويوم العهد، فأتى بخشبتين وحفرَ في إحداهما وكتب: اللهم إنِّي أخذت هذا الدين من عبدك فلان، فَسَأَلَني عن الشاهد فقلتُ كفى بالله شهيدًا فَرَضي بِك، وسألني عن الكفيل فقلتُ كفى بالله كفيلًا فَرَضي بِك، وهذهِ أمانتي الآن فَأدِّها إليه، ووضع الدنانير في تلك الحفرة في الخشبة وأَلصَقَ بها الخشبة الثانية وسمَّرَها ورماها في البحر.
النبيّ قَصَّ القِصة، وأخبر الخبر، فتقول هذا مجنون؟، اتَهِم نَفسَك أنت بالجنون، إنَّ أعقل الخلق ذَكَر تَصَرُّف هذا وأَثْنَى عليه، قال: فذهب الله بالخشبة إلى الشاطئ الثاني، وأخرج الرجل إلى الشاطئ في الجانب الثاني، ولفتَ نَظَرَهُ إلى الخشبة -جلَّ جلاله-، وأخذ يَتَعَجّب! ما بالُ هذه الخشبة على الماء! وأخذ يُفَكِرُ فيها حتّى دَنَتْ عِندَهُ، أخذها، وقال: هذه حطب يريد يحرقها، أخذها إلى البيت ورآها مُسَمَّرة، فَتَح، وإذا بالدنانير والورقة، لم ينحذف حرفٌ من كتابتها، الله! هذه لفلان ! الله الله الله! فَتَعَجَّب بالدنانير نَفسها في اليوم نَفسَه، وَبَقي لم يكتفِ بهذا من خوفه وخشيته وأمانته، جَمَّع دنانير مِثلَها أُخرى، وتَرَقَّب سفينة ومرَّ حتى وصل، سَلَّم على صاحبه: العَفُو مِنك، في اليوم الذي وعدتك فيه لم أجد سفينة، فما قَدِرتُ أنْ أَصِلك والآن جِئتُك بِمَالِك، قال: قد أدَّى الله عنك، اذهب، قال: كيف؟ قال: هذا دنانيرك وصلت والخشبة وصلت والكتابات فيها وصلت، وهذه ورقتك، قال: رَضِي بِك شهيد، رَضِي بِك كفيل، وهكذا من يعرف العظمة ويعرف شأن الوفاء بعهد الله -جل جلاله- ويعرف عظمة الرَّحمن سبحانه.
( ..وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)) علم إحاطي من كل جانب، نواياك وإرادتك ومقاصدك وتصرفاتك وحركاتك، قليلها وكبيرها، كثيرها، صغيرها، كبيرها، بالإصبع، بالكف، باليد، بالرِجل يَرقُبَك، وكفى بهذا وعيد وتهديد لِمَنْ لا يَتَّقِي، (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) فإذا حَلفتَ به فَقُمْ بِحَقِّه، وإذا عاهدت بِاسمه فَقُمْ بالوفاء.
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا.. (92)) نقضاً، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي.. ) امرأة كانت تَغزِل طول اليوم غَزِل، تجمع العُقد وتتقنه، وإذا كان آخر النهار تنقضه وتنقضه وتنفشه وتنفشه، ماعندها شي ثاني، يوم تغزل وتنقض، ثالث يوم تغزل وتنقض، ومرَّت أيامها ولا شيء تم لها من لباس؛ لأنها كلَّما غزلت نقضت، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ.. ) من بعد قوة لأنَّ الإصلاح والعمارة تحتاج إلى وقت وتحتاج إلى جهد، أما النقض سهل، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا.. ) أي: نقضًا، ونكثَ بمعنى نقضَ، قال الله: لا تكونوا هكذا في حال ( ..تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ.. (92))، كيف؟ الدَّخَلُ في شيء؛ ما خرج عنه وما خالفه، ما ليس منه، دَخَل: يعني الغِل والخديعة والمكر، وكلُّ أمرٍ غير مستقيم غير صالح يسمى دَخَل.
يقول: ( ..تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ.. ) تصرفونها في غير مصرفها؛ يعني: أنا جعلتُ العهود والمواثيق والأيمان والحَلفَ بي، أدواتٍ للاستقامة وإنفاذ العهد وتطمين المُخَاطَب بذلك، هذا وضعها، اتخذتموها دَخَل، كيفَ دَخَل؟ لا تريدون الوفاء ولا العهد ولكن تخادعون بها، وتقضون بها الأغراض، تتوصلون إلى مطامعكم بواسطة الأيمان، حتَّى سُمِّيَت اليمين التي يقتطع بها المسلم أيَّ مالٍ على أخيهِ المُسلِم اليَمِين الغَمُوس؛ لأنها تَغمِس صاحبها في النار، اليَمِين الغَمُوس -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. يقول: ( ..تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ.. ) تصرفونها عن وضعها وعن مكانها الصحيح إلى اتخاذها وسيلة للمغالطة والكذب، لتُوهِمُوا مَنْ تُكَلِّمُونَه وتحلفونَ أمامهُ أنَّكم صادقون ومُوفون، وثمَّ تأخذون مَصلَحَتكُم مِنهُ وتلوون.
يقولُ: ( ..تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ.. (92)) كيف؟ يعني أنَّ ما تفعلون ذلك لا لغرضٍ صحيح ولا لمقصدٍ شريف، ولكن ليكون الطائفة منكم والجماعة أقوى من الجماعة الأخرى، ولأجل السيط أو الشهرة، أو إذا رأى أقوى ممن تواثق معه وتحالف، والمصلحة عنده أكثر، ترك ذاك وأخذ هذا، ( ..أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ.. ) أقوى وأكثر، ( ..أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ.. ) فيكون شأنهم يُحالف ويُعاهد، فإذا وجد من هو أقوى من هذا وأنفع له في غرضه ومصلحته، تركه وذهب إلى الآخر، وهذا أيضا شأن الإنسان في قرننا وزماننا الذي يدِّعي فيه الإنسان التقدُم والتطور على مستوى كبير وكثير، أفراد وجماعات وهيئات وشعوب ودول، هذا شأنهم؛ أيْمان دَخَل، ( ..أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ.. ) أقوى والمصلحة عنده، سآعمل عهود ومواثيق واتفاق، فإذا تغيرت المصلحة ذهب فإذا وجد واحد أقوى منه، ذهب، هذا انحطاط، هذا انحطاط، هذا اختباط، هذا الذي وصلوا إليه اليوم في حضاراتهم، وحضارة تقوم على مثل هذا الخديعة والغش؛ حقارة ليست حضارة، قذارة ليست حضارة، لكن خِيار بني آدم على ظهر الأرض لهم وفاء بالعهود واحترام لما صدر منهم.
جاء إلى الإمام البخاري وقد جاءته بضاعة يريد أن يبيعها، فجاءه بعض المشترين من التجار وعرضوا عليه فيها بربح خمسمائة، وقال: إئتوا لي في اليوم الثاني، عَلِمُوا بهم تجَّار آخرين فضاعفوها وجاءوا، وضاعفوها له إلى ألف و خمسمائة، قال الإمام البخاري: لا أنا قد وعدتُ أولئك، كيف!! تضاعفت ثلاث أضعاف الذي سيعطوك وهذه ألف وخمسمائة بدل خمسمائة، قال: لا، صدرت مني كلمة أنا وعدت، ومارضي يبيع على هؤلاء الرجال الأوليين بالناقص، وباع لأنه قد صدرت منه كلمة، قد جاءه ربح كثير فتركه، يعرف التُجَّار هذا السلوك؟ التُجَّار الأخيار نعم يعرفون هذا السلوك، تجار الدنيا والأخرة يعرفون هذا المسألة، لكن الذين توسَّخت عُقُولُهم بِرَكزِ أصنام الفانيات كأنها الآلهة وما عرفوا إلا هي، هؤلاء لا يعرفون هذا، يعرفون الغش كيف يأتي ويعرفون الخديعة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- .
قبل سنوات في هذه الشوارع عندنا، كان يأتي دكتور أطفال من اليابان ويحصِّل بعض الأولاد أيضًا الصغار عنده بسطة يبيع فيها، اشترى منه شيء وصعد، لما أنزل الفلوس من جيبه سقطت عليه دولارات وراح يمشي، قام الولد يقول: يا فلان تعال انظر مالك!، تعجَّب! قال له: يا ولد، لماذا ناديت علي؟ قال له: لأنه هذا حقك، قال: ليه ما أخذتها؟ وأنا ما أعرفك، قال: حرام، قال ماذا؟! جاء يترجمون له؛ جاء عندنا فأسلم، أسلم الرجل، قال هذا ليس عندنا كذا، لما تكلم معنا قال: إنه الذي يبيع بسطة صغيرة، هذا ما تكون إلا أسر فقراء ما عندهم مكان ولا عندهم دكان، ويعمل بسطته مسكين لجلب حاجة لأهل بيته، وهذا فقير ومحتاج وما رضي يأخذ شيء من هذه الفلوس التي سقطت مني و لن أعلم أين هي، ولا أحد يعرف ولا أحد شاهد ولا أحد رأى، وهذا طفل خاف من ربه -جل جلاله-، ما هذا الدين الذي عندكم؟؛ فكان سبب دخوله الإسلام. ولا يزال أفراد من هذا النوع، وأثر من هذه التربية قوَّاها الله وكثَّرها ونشرها فينا، لكن في معاناة كبيرة على مستوى العالم وحتى في ديار المسلمين، من انهدام في القيام وفي الوفاء، فتعب الناس كثيرا، وكلما خرجوا عن منهج الخالق لابدَّ أن يتعبوا، لابدَّ أن يتعبوا (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) [طه:124]، يقول سبحانه وتعالى سيأتي معنا الآن بعد آيات (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ..(97))، يقول سبحانه وتعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) [طه:123].
يقول: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ.. (92))، قال ربي: أنا خلقتُ الحياة على هذه الصور اختبارًا لكم، لأعلم الصادق المخلص الموفي من الكذوب المخادع الخائن، فلا تغتروا بهذه المظاهر أنا خلقتها لأختبركم، ( ..إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ.. (92)) بكثرة وبظهور وبمصالح هنا وهناك، أنا سأبتليكم وأختبركم، مَنْ يَصْدُق، مَنْ يَفي بالعهد، مَنْ يُؤَدِّ الأمرَ ولا يخون، ومَنْ يَخون ومَنْ يَكذب ومَنْ يخرج عن القيم. ( ..إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)) بعقولكم وأفكاركم التي يلعب بها بعضكم على بعض، وَيرأَسُكم في الكثير منها عدوُّكم إبليس يَصُوغُهَا لَكُم، وتستلمونها عنه، وتنشرونها فيما بينكم البين، تَسْتَهْزِئُونَ بآيات الله وتمشون وراء الرذائل، وتستهزئون بالفضيلة، إلى غير ذلك مِمَّا يَدُور بَينَكُم، قال: هذا الذي تختلفون فيه سَأُبَيِّنَهُ لكم، وسيعلمَ الكل أنَّ ما خَالفَ منهجي وتنزيلي باطلٌ وضلال كائنًا ما كان، لا ينفعُ فيه قرار دولة ولا قرار حزب ولا وزارة، ما خالف شرعَ الله باطل، ضلال، سوء، فساد، شر؛ يوجب العقاب أمر قطعي، قال: أنا أبين لكم، ( ..وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)، ولماذا يؤخر هذا إلى يوم القيامة؟ لحكمة لا لعجز، لو أراد هذا لَبَيَّنَهُ في الدنيا.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً .. (93))، (إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) [الشعراء:4]، لكنَّ الله بحكمته ما أراد أعناق الناس، أراد قلوبهم، أراد قلوبهم لا أعناقهم، أراد قلوبهم، إذا عُنُق بيخضع بقلب، نعم، أمّا يخضع لخوف سطوة تقام من دون قلب يخضع ما يقبل الله، إنَّ اللهَ يَنظُرْ إلى القلوب، فلهذا قال: وفي الدنيا أيضاً لا تَظُنُّوا أنَّ قدرتي محصورة في الآخرة، أنا في الدنيا لو أردت لفعلته، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً.. )، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [يونس:99-100]. اللَّهم كما هديتنا إلى الإيمان فاكتب لنا التَحَقُق بِحقَائِقه، والوفاء بِمُقتَضَاه، وصفات المؤمنين من الوفاء بالعهد والصدق في الحديث، والأمانة فيمن اؤتمن عليه، حَقِّقنَا بها يا رب العالمين.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ .. (93)) حكمة، اللَّهم اهدنا فيمن هديت، ولذا علَّمَنَا نَبِيُنا لنحوزَ من رَبِّنَا الهداية التي نتيجتها فوزُ الأبد وسعادة الأبد، أن نسأل مِنْ رَبِّنا في كل ركعة ونقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة:6-7]، تعرفون ما معنى (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة:7]؟ معنى (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ): أنْ يَتَثَبَّت في عقل وقلب المؤمن أنَّ الخِيرة في خلق الله الذين يحقّ أن يُهتدى بهم، هم هؤلاء نبيون وصدِّيقون وشهداء وصالحون فقط، ولا يجوز أنْ يُغتَرُّ بِمَنْ عداهم تحتَ أيّ مسمى، وفي أيّ زمان وفي أيّ مكان، (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة:6] صراط هؤلاء، فلا يَصلُح أنْ نَقتَدي ولا أنْ نَخضَع لنظام ولا قانون، يأتي من عندهم، كل ما خالف هذا الصنف، وما دخل في هذه الدائرة، لا خير فيه، إِنَّمَا نُريد صِّرَاطَ هؤلاء؛ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ بس، فقط، لأن الصراط صراطهم، ليس صراط اللعين، ولا صراط المجرم، ولا صراط الفاسد، ولا صراط أحد من شرار الأرض. (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة:6]، صراط أنبياء، والصديِّقين والشهداء، فَهُم القُدوة وَحدَهُم دون سواهم، ولا يجوز أنْ يُخدَع عقل مسلم لِيٌقِيمَ أمَامَهُم قُدوةً أخرى مِمَّن انقطع عنهم وخرج عن دائرتهم، لا والله، بل (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ.. ) [الأنعام:116]، بلْ حَقيقَتَهُم ( ..إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.. ) [الأنعام:116]، أوهام، أوهام يعيشون فيها، لا يَغٌرُّك أن يسَمُّوا أنفسهم علمانيين، وهْمانيين، أوهامِّيين، أهل ظنون، ما عندهم علم، والله لو عندهم علم لعرفوا من خلقهم ولخضعوا له، ولاستعدوا للقائه، ماعندهم عِلم، ما عَلِموا بأنفسهم، وماعلموا بخالقهم، ولا علموا بالحكمة التي وفي عيونهم، وفي آذانهم، وفي أيديهم، وفي حركتهم، وفي الهوا الذي يستنشقونه هذا، لو عَلِمُوا الحِكمةَ فيه لآمنوا بالله، وَلَٰكِنَّ الله ( ..يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي .. (93))، اللهم اهدنا فيمن هديت.
( ..وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93))، لا تظنون أنَّ الأمر عابِر ومَنْ قَدَر على شيء يعمله، ومَنْ تَمَكَّن من أحد يَسحَقُه، أو يظلمه، وتنتهي المسائل، قال: كما بَدأتكم أُرجعكم، وأمامكم سؤال عن القليل والكثير، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]، اللَّهم ارزقنا كمالَ الإيمانَ واليقين، واجعلنا من الفائزين في يوم الحُكم، والحُكم: هؤلاء إلى الجنة، وهؤلاء إلى النار، هو تمام الحكم: "يا أهلَ الجنَّة خلود فلا مَوتَ، ويا أهلَ النَّارِ خُلود فلا مَوتَ"، انتهى الحُكُم، اجعلنا من أهل الجنة يا رب. وأَكَّدَ سبحانه هذا المسلك مرة بعد الأخرى؛ لننتبه ولا تُغرِينا أَنفُسنا، نخادع أحد، ولا نكذب على أحد، ولا نغُش. (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ .. (94))، (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ.. )، نهي منه بعدما تقدم النهي في ذلك، والخبر عن حال أولئك، ( ..تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ.. )، (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا .. (94)) أي أنَّ استسهالكم بهذا الأمر تَزّل بها أقدامكم، حتى تخرجوا من الطاعة إلى المعصية، ومن النور إلى الظلمة، ومن الخير إلى الشر، ومن الصلاح إلى الفساد، ثم من الإسلام إلى الكفر؛ من هنا قالوا: المعاصي بريد الكفر، رسوله الذي ينبئ عنه "من تساهل بالمعاصي والذنوب وصَّلَتهٌ إلى الكفر"-والعياذ بالله تعالى-، ولهذا قال عن عباده المؤمنين: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا)، ( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا ) [آل عمران:135].
يقولُ: ( ..وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ.. )، غِشًا وخداعًا، يَحْلِف يمين لا ليفي ولا ليؤكد ولا لِيصدُق في تطمين الآخر، ولكن ليكسب الجولة فقط، ليصل للغرض، ما هذا وضع اليمين! ما هذا وضع العهد! ما جاء اليمين والعهد إلّا توثيقًا وتأكيدًا للصدق في الأمر والوفاء به. ( ..فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.. ) مَن كانَ يتخذُ الأيمانَ دَخَل، غِش وخداع، تَزِل قَدمُه بَعد ثبوتها، بعد نور، بعد إسلام، بعد إيمان، تَزِل قدمُه -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، ( ..وَتَذُوقُوا السُّوءَ .. (94)) تعب في الدنيا وعذاب في الآخرة، ( ..وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّه .. (94)) مِلتمْ عن السبيل وخرجتم وكنتم بهذا الميل أيضًا؛ إما بغير مباشرة سببًا لِصَدِ غِيركُم لأن هذا الميل منكم يُحَفِّز آخرين، أو يحملهم على الميل معكم كما ملتم، فأنتم صددتم عن سبيل الله، أو تَحمَّلتُم فوق ذلك إِثم أنَّكم تأمرون غيركم أن يصد عن سبيل الله، تأمرون غيركم أن يخرج عن منهج الله كما يفعل كثير من الناس، (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام:26]، (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء:89].
وتنشأ فئاتٌ في هذه الأمة يَرَونَ الُمنكر معروف والمعروف منكر، بل فئات في هذه الأمة يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وهكذا تنحطُّ البشرية، يقولُ: (..وَتَذُوقُوا السُّوءَ)؛ العذاب والتعب والقلق في الدنيا، والخيبة والعقاب والشِّدة في الآخرة ( ..وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94))، لا تقوون ولا تقدرون عليه.
(وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّه .. (95)) وبالأيمان التي تحلفونها ( ..ثَمَنًا قَلِيلًا .. (95)) مصالح، أموال، غير ذلك من الأغراض ثمن قليل، كيف؟ قال: اعقلوا، المسألة أكبر من ذلك، لكم مرجع إلي، وما عندي هو الباقي، والأفضل لكم، ( ..إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95)) فصاحب العلم يقطع بهذه الحقائق ولا يشك فيها، ويعمل بمقتضاها، ولكنَّ الجهل -والعياذ بالله تبارك وتعالى-،
يقول تعالى: ( إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون ) وسأُبدي لكم الوجه في الخيرية. (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ .. (96))، وكيف يكون النافذ أحسن من الباقي؟ كيف؟ في عقل مَنْ؟ في منطق مَنْ؟ في ميزان مَنْ؟ إلَّا وكأنهم لا يؤمنون بيوم الحساب -والعياذ بالله تعالى-. يقول سيدنا الحسن البصري: ’أدركنا أقوامًا من الصحابة كنَّا نُعَدُّ في جَنبِهِم لصوصًا -نحن مثل لصوص أمامهم- يقول: لو رأيتموهم لقلتم مجانين، ولو رَأَوا خِيَارَكُم لقالوا مَا لَهؤلاء فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاق، ولو رَأَوا شِرَارَكُم لقالوا ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب’؛ هذا ما أنكره الحسن البصري، وهو في القرن الثاني، لا إله إلا الله، أصلح أحوال المسلمين يا رب.
قال: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا .. (96))، (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1-3]، (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128))، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]، (سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:24]، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153]، (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)) أفضل ما يعملون، وخير ما يعملونه، يضاعف حسناتهم كلها إلى أعلى حسنة لأحدهم، ويجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون، فضلًا منه -سبحانه وتعالى- وله المنِّة.
اللَّهم ارزقنا حسن المعاملة، وارزقنا شريف المقابلة، وارزقنا الاستعداد لِلِقَائِك، نلقاكَ وأنتَ راضٍ عنَّا، فتكفينا الأهوال الهائلة وتدخلنا خير المداخل، المدخل الكريم مع أهل التكريم، في مرافقة حبيبك العظيم يا منان ياوهاب يا كريم يا أرحم الرحمن والحمد لله رب العالمين.
الفاتحة وإلى حضرة النَّبي محمد ﷺ.
30 رَجب 1444