(228)
(574)
(536)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل من قوله تعالى:
(أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5))
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية
الحمد لله مكرمنا بأنوار الوحي والتنزيل وبيانها على لسان خير داعٍ وهادٍ ودليل، سيدنا المصطفى محمد صلى الله وسلم مبارك وكرم عليه وعلى آله وصحبه وأهل ولائه ومتابعته في النية والفعل والقيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المراتب العُلى والمنزل الشريف الجليل لدى المولى سبحانه وتعالى العلي العظيم الوكيل، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد... فإننا في نعمة تأمُّلنا لكلام إلهنا وخالقنا وتذكرنا لتعليماته وإرشاداته وتوجيهاته على لسان خير برياته، في القرآن الكريم وصلنا إلى أول سورة النحل بعد أن ختمنا سورة الحجر، يقول الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ * خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، يقول جل جلاله وتعالى في عُلاه: (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ)، فأكثر أهل التفسير أن المراد بأمر الله تعالى؛ البعث وقيام القيامة وحشر الخلائق للوقوف بين يدي ربهم.
ولما كان مُتيقناً لا ريب فيه، واقعاً لا شك فيه، عبر عن مجيئه وإتيانه وقربه بفعل الماضي وقال: (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ) ، فيأتي أَتَىٰ لأجل ذلك التيقن، وأن ما هو آتٍ فهو قريب، وكل ما هو آتٍ فكأنه قد وقع. (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ) لا ريب فيه ولا شك، وياتي في معاني (أَمْرُ اللَّهِ) جل جلاله :
بعثةُ المصطفى محمد بالشريعة الغراء والأوامر والنواهي. وياتي هذا المعنى، وعامة أهل التفسير أن المعنى بأمر الله القيامة. (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُۚ)، ( فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُۚ)، أي إنه واقع في الوقت الذي قدَّره ودبَّره وعيَّنه الإله جل جلاله، فلا تستعجلوه فإنكم لن تقدروا أن تقدِّموا شيئًا ولا أن تؤخروه شيئًا. (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ) [هود:105]، (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ) [هود:104].
يقول جل جلاله: (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) وعلى المعنى الثاني، ياتي ( فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ) لا تتجاوزوا هذا الأمر والشريعة بالتغافل عنها والإهمال لها. ولا (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ )، وهو على المعنى الأول ما جاء في آياتٍ متعددة من استعجالهم على أخبار القيامة والمصير الأكبر وذلك ما استعجلتم به وما كنتم به تستعجلون (وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) [ص:16].
(أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ)، هو واقعٌ لا ريب ولا شك لا محالة آتٍ، فكأن قد أتى (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ). وقد نزل قوله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر:1]، وقال بعض الكفار إن محمد يقول اقترب هذا الأمر فاتركوا بعض ما أنتم علينا ننظر، جلسوا الأيام ثم قالوا ما رأينا شيء! أنزل الله (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ) [الأنبياء:1]، فانتظروا أيامنا ولم يظهر لهم شيء، وقالوا ما ظهر لنا شيء مما قلت يا محمد! أنزل الله (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) فإنه آتٍ لا محالة (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا) [الفرقان:22]، (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) فقال بعض المشركين إن جاء الأمر الذي تقول، فعندنا آلهتنا تشفع لنا عند الله.
قال تعالى ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ )، لا شريك له بل إشراكهم غيره في أُلُوهيته سبب شدة العذاب عليهم وانَّ (اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ) [النساء:48]، (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ سُبْحَانَهُ)، تقدَّس وتنزَّه وتعاظم وتعالى ارتفع وجلَّ عما يشركون من أنواع شركهم فإنه المنفرد الواحد الأحد لا شريك له في ملكه ولا في ملكوته، لا شريك له سبحانه وتعالى في ذاته ولا أوصافه ولا أفعاله، ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ).
(يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ)، في قراءة (يُنْزِل الْمَلَائِكَة)، وفي قراءة (تُنَزَّل الْمَلَائِكَة)، (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ(2))، (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ)، ويأمرهم بالنزول إلى من ارتضى من البشر؛ اما الأنبياء فعلى وجه الوحي المخصوص الذي يحملون به الشرائع ويبلِّغونها عباد الله تبارك وتعالى، وأما على أتباعهم فما يحصل من الملائكة من التثبيت ومن المخاطبة ومن الإلهام. قال الله (أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) [الأنفال:12]، ( فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) فياتيهم من أنواع الإلهام والإرشاد ما يُحسنون به الخلافة عن الأنبياء؛ في هذا الإنذار للخلائق أن يتَّخذوا إلهًا غير الله، وأن يقوموا بواجبهم ولا يُقصِّروا في واجبهم نحو هذا الإله؛ بإقامة تقواه (أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ). فهكذا نزل الملائكة على الأنبياء بتبليغ الرسالة أن لا إِلَهَ إِلا الله فليتَّقهِ عباده وليطيعوه وليجعلوا طاعتهم تبعًا لوحيهِ وتنزيله، فإنهم في ظلِّ هذه الحياة يركنون إلى الدنايا ويتَّبعون الأهواء من أنفسهم ومن غيرهم -من أمثالهم من الخلق- فيضلُّون عن سواء السبيل، فأمرهم أن يتَّقوهُ وأن يُطيعوهُ جل جلاله.
وبهذا نرى ما كرَّر سبحانه وتعالى على ألسن النبيين صلوات الله وسلام عليهم فيما أرسلهم به سبحانه وتعالى إلى عباده ويقولون لهم كلٌّ منهم يقول لمن أُرسِل إليهم من أُولئك من تلك الأُمم يقول لهم أنبياءهم صلوات الله وسلامه عليهم (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء:107-108]، هكذا يقول نوحٌ لقومه، ثم ياتي النبي هود عليه السلام فقل (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء:125-126]، وهكذا ياتي سيدنا صالح عليه السلام إلى قومه فيقول (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الشعراء:125-126]. وهكذا يتوالى الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامهم عليهم بهذا البلاغ وبهذا الشعار. وجاء سيدنا النبي لوط وقال لقومه (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الشعراء:162-164]. وجاء سيدنا النبي شعيب على نبينا وعليهما أفضل الصلاة والسلام وقال لقومه (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الشعراء:178-180]. ثم كل نبيٍ ينهى قومه عما يقترفونه من الذنوب ويأمرهم بالاستقامة على الطاعة فكانت هذه أعلام نبوة الأنبياء في بلاغهم عن الله؛ أنهم الأمناء الذين اختارهم الله ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ويختاروا ويصطفي، كما قال اللَّهُ ( يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحج:75].
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ )؛ أن يعبدوا الله (أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا)، فاتقوا الله واعبدوه وأطيعون. يقول الرسول: "أطيعوني فكل رسولٍ لا تقوم لأمته طاعة الله إلا بطاعة ذلك الرسول". فاتباع الأنبياء شرفنا، فياأيتها العقول من بني آدم على ظهر الأرض، المتبعة لفلسفات من سواهم ولأفكار من سواهم، ولأنظريات من سواهم، إنما تقعون في ورطة الإنحدار، وورطة الإنحطاط عن شرف مقامٍ الإنسانية بتبعيتكم لما خالف منهج الله تبارك وتعالى فكراً وعملاً؛ وإنما حقيقة شرفكم وعزكم أن تطيعوا المرسلين وتتبعوهم؛ فهم المأمونون الذين اِئِتمنهم الله واصطفاهم لوحيه وتبليغ عباده، فلنا الشرف أن نقتدي بهم وأن نتبعهم وأن نطيع أمرهم؛ لذلك يقول كل واحد منهم أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون أطيعوني فيما آمركم وأنهاكم. قال الله عن خاتمهم (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) [النساء:80]، وقال سبحانه وتعالى ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65]، وهذه حقائق الإسلام طاعة للحق بطاعة رسله والانتماء إليهم والاقتدا بهم وتقديمهم على من سواهم وقال الله في تزكية خاتمهم وإمامهم (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3-4] صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وتقوم على ذلك حقائق عبادة الله مع توحيده جل جلاله، والرسل لا يطلبون من الناس أجراً على هذا البلاغ ولا يلتفتون إلى مال ولا جاه ولا ظهور ولا حُكم بين الناس؛ ولكن أداء لحق الأمانة في إبلاغ رسالة الله جل جلاله -وتعالى في علاه- ومن احتكم إليهم، حكموا بمنهج ربهم، لا بأفكارهم ولا بشيء مما يضعونه دون وحي الله وإرشاده وإلهامه لهم جل جلاله -وتعالى في علاه-.
فهذه حقائق الفرق بين الإسلام والكفر بين دين الحق وبين بقية الأديان التي تقوم فيها التبعيات لما نفاه الله بقوله في الإسلام (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64]، ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ) [آل عمران:64]، بل تكون طاعتنا لله، وعملنا بمنهج الله واتباعنا لرسل الله بأمرهِ تعالى في علاه. وبذلك نتحرَّر من كل هذا النقص والضعف والانقطاع عن الخالق جل جلاله وتعالى في علاه والإغترار بشيء من الفكر والنظر القصير إلى الدنيا الفانية وما يكون فيها، ننسى بذلك من خلقنا ومصيرنا إليه؛ فذلك هو الضعف والعجز والنقصان بل لمن بلغه دعوة الله ومنهج الله فأباه وأبى إلا أن يستعبد لنفسه أو لغير الله من بني جنسه؛ فالعذاب والشوم والنار في ذلك المسلك والعياذ بالله تبارك وتعالى. (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) وأمامكم ما يُقوِّي لكم هذا الإيمان ويُوضِح الحُجَّة والبرهان لكل ذي عقلٍ (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) لا عبثاً ولا لعباً، ولا ليأتي هؤلاء القوم وهؤلاء القوم ليعبثوا كما أرادوا، أو ليتطاولوا على من سواهم، أو ليسعوا لأن يكونوا الوحيدين في اتخاذ القرارات بين بني البشر والتحكم فيهم، ليس الأمر كذلك.
(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) وليس أحدٌ منهم شارك في خلق أرض ولا في خلق سماء بل كلهم جاءوا من النطف كما قال (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَة) [الانسان:2]، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) فهذا البرهان الصريح الواضع إذا أرادوا أن يتكلموا عن حقوق الإنسان فأعظم حقوق الإنسان أن لا يستعبد بغير حق لا بقانون ولا بنظام من غير الله -تبارك الله-؛ ليستبدُّ به دونه ليصبح به مؤتمراً ممتثلاً ماموراً من قبل بشرٍ مثله، يتصرفون فيه كما أرادوا؛ هذه إضاعة الإنسان وإضاعة حقوق الإنسان، بل إضاعة أهم حقوق الإنسان وأعظم حقوق الإنسان؛ أن يتشرب بالحرية عن العبودية لمن سوى الله ويتشرب بعبوديته لله الحق جل جلاله وتعالى فعلا (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [سورة النساء:172-173]، كيف استصغتم أن تعبدوا غيره وتستعبدوا لسواه؟ ولم يخلُقكم ولم يخلُقوا الأرض ولا السماء! واستنكفتم عن أمرٍ جاءكم من فوق وحمله خيارُكم في البريَّة وبلَّغوه إليكم عن الرب الذي خلق! فجزاؤكم إذًا العذاب ثم لا تجدون وليًّا ولا نصيرًا.
يقول تعالى (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) بالحكمة للمراد الأعظم؛ ليقوم عليها منهجه ودينه وشريعته ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم:31]، بالحق لا لعب ولا هزوء ولا عبث. يقول (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تعاظم وجل وترفع عَمَّا يُشْرِكُونَ بمن سواه كائناً من كان فلا شريك للإله الحق ولا معاوين له في خلق السماوات ولا في خلق الأرض جل جلاله كرر لنا هذا المعنى في الآيات فعجبًا لابن آدم عاقل كيف ينسى ذلك! ثم يستعبد لغير الحق تعالى متبعًا للشهوات والأهواء يقول تعالى (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَة) [الانسان:2]، أنت الإنسان من الذي كونك ومن الذي خلقك حتى تتخذ من بني الإنسان أمثالك إلهًا غير الله جل جلاله وتعالى في علاه وتطيعهم وتعصي الإله الذي خلقك خلقه هو الذي (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) [الانسان:2]، فإذا هو خَصِيمٌ مجادلٌ منازعٌ مبينٌ بين ظاهر الخصوم والجدال (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) وفي ذلك تثبيته أساسي أنه ليس الأمر بالفصاحة ولا بالبلاغه ولا بكثرة القول ولا بزخرف القول فكثير من الناس يتقنوا ذلك.
( فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) مخاصم منازع مجادل بَيِّن الخصام كأنه صاحب حق وهو في باطل من أوله إلى آخره فليست العبرة بتلكم المظاهر ولا بزخارف الأقوال وهو وحي إبليس لأوليائهم من الشياطين الإنس والجن ( كَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) [الأنعام:112]، ولكن القول الحق يوحيه الحق إلى من اصطفى من أنبيائه فيبلغوننا إياه (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ)، وهكذا قال بعض المشركين لرسول الله هذا عظم تزعم أن الله يعيدك قال له صاحب نعم وأنزل الله (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) [يس: 78]. وهكذا جاء في رواية الإمام أحمد وبن ماجه عليهم رضوان الله وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم بصق يوماً في كفه ثم قال: " يقولُ اللهُ : يا ابن آدمَ ! أنّى تُعجزنِي وقد خلقتكَ من مثلِ هذهِ ، أنّى تُعجزنِي وقد خلقتكَ من مثلِ هذهِ ، حتّى إذا سويتُكَ وعدّلتكَ مشيتَ بين عِطفيك تجمع وتمنع حتى إذا بلغتْ الحلقوم قلت : أتصدّقُ ، وأنّى أوانُ الصدقة؟! " عندما يجي الموت يقول برجع إلى ربي بعمل صالحا.
من نطفة خلقتك وكونتك آيات عظيمة بصرك آية، وسمعك آية، وشعرك آية، وعظمك آية، ودمك آية، كلها آيات وتكفر بيَّ . يا إنسان! ( قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) [عبس:17]، من الذي كوّن عقلك وسمعك وبصرك ودمك وشعرك وعظمك؟ عسي ماهو الحزب حقك عسي ماهوالدولة هذا من الذي كوّن؟ هم نفسهم مكوّنين كما كوّنت أنت من قبله بيده جل جلاله كيف تنسى؟ ( خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ)، مُنازعات إلحاد وتكذيب بالأنبياء ورسله وتكذيب بالآخرة وتكذيب بالشريعة والمنهج منين جيتم؟ ومن أنتم؟ هذا كلام إله خلقنا وخلقكم هذا اصطفاء لخيار عبادة أوحى إليهم وأرسلهم إلينا منين جيتم أنتم؟ من أرسلكم إلينا؟ وفين تنزلون أنفسكم هذه المنزلة من أنتم؟! الله -لا إله إلا الله-. ثم لم يزالوا كل الذين خرجوا عن منهج الله من عهد آدم من أولاد آدم إلى أيامنا هذه، كلما رتبوا ترتيبًا وخطوا خطةً ظهر فيها الفشل وظهر فيها الاختلال، وإلى متى مستمرين على هذا؟ يرجعوا إلى منهج ربكم جل جلاله وتعالى في علاه فلا يزالون كذلك، وهاهو على الخصوص وعلى العموم؛ الأفراد والهيئات والدول، ما الذي يحصل بينهم؟ ما الذي يجري لهم؟ في خططهم وعقولهم وأنظمتهم ودعاويهم بأنهم وأنهم، ما الذي يحصل؟ سفك الدماء على أيديهم يحصل، انتهاك الحرمات على أيديهم يحصل، بالتطولات والسباب والشتائم على أيديهم يحصل، ايش-ما- الذي يحصل؟ هو هذا التقدم! هو هذا التطور! هو هذا الإنسانية! هو هذا الكرامة! ما الذي يحصل؟ ولكن إذا أرد الأمر سلبها العقول عقولهم، كأن الناس ما يعقلون لا إله إلا الله.
يقول سبحانه (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ) يخاصم ويجادل بالباطل لِيُدْحِض به الحق (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) [غافر:5]، (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ) [غافر:5]، بيقتلون رسولهم الذي جاء من عند الله (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ)، قال الله أخذتهم فكيف كان عقابي مع الأول والثاني والثالث؟ عاد باقي آل زمانكم! ما أقدر عليهم ولا إيش؟ أنا القادر حعمل بهم كما عملت بمن قبلهم يقول سبحانه وتعالى (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ)، ليقتلوه وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر:5-6]، اللهم أجرنا من النار اللهم أجرنا من النار يا كريم يا غفار يا أرحم الراحمين.
ثم ذكر ما سخر لنا من الأنعام والدواب على ظهر الأرض وجعلها لنا سبحانه (الْأَنْعَامَ خَلَقَهَا) - جل جلاله- ( لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ )، بيان الطريق الموصد القصد الحق عليه ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ )، من السبل الجائرة الضالة المنتشرة على ظهر الأرض ( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) [الأنعام:153].
فيأتي معنا إن شاء الله بعض المعاني فيما بسط لنا من الأنعام وما جعلنا فيها من الجمال والمنافع والمآكل وحمل الأثقال ورأفته ورحمة بنا، ثم ما جعلنا فيها من زينة، ثم ما أشار إليه بقوله ( وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) سبحان الخلاق العظيم رزقنا كمال الإيمان وكمال اليقين وكمال الوعي للحقيقة حتى نخرج من الأوهام ومن الظلام ومن الظلام ومن السوء بأصنافه ونستمسك بالعروة الوثيقة ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * للَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:256].
اللهم أجرنا من النار واجعلنا من أهل الجنات وثبتنا أكمل الثبات، ووفقنا بأعظم التوفيقات وأصلح أحوال المومنين والمومنات وزدهم إيمانًا ويقينًا على مدى الأوقات والآناء والساعات واللحظات ورد عنهم كيد أعدائك من شياطين الإنس والجن أهل الظلمات وأهل الإفك والإفتراءات اللهم رد كيدهم عنا وعن جميع المومنين والمومنات والمسلمين والمسلمات واجعلنا من الهداة المهتدين وممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين آمين.
28 صفَر 1444