تفسير سورة الكهف - 5 - من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.. ) الآية 21 إلى 24
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الكهف:
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
مساء الإثنين 12 ذي القعدة 1445 هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمدلله مُكرمنا وإياكم بالتنزيل، وما بلَّغه رسوله الجليل، للوحي الذي إليه أوحاه، وبه هدانا إليه تعالى في علاه، اللهم لك الحمد يا منْزل القرآن على قلب سيد الأكوان، ويا من أكرمتنا ببلُوغه إلينا كما أنزلته عليه على توالي القرون وممرّ الأعصار، لك الحمد فاجعلنا من أسعد أمته بالقرآن الذي أوحيت إليه، والتنزيل الذي أنزلت عليه، وأسعد أمته بفهم معانيه والقيام بحقه والعمل بما فيه، واجعله شاهدا لنا عندك بالصّدق في العمل بما دعانا إليه، واجعله أمامنا يقودنا إلى جناتك العُلى مع خيار المَلأ، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين..
اللهم وأدم صلواتك على صاحب الوحي المنزَّل، خير مُرْسل، من ختَمتَ به النبيين، وجَعلته سيد المرسلين، عبدك الصادق الأمين، سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطاهرين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين..
وبعد،،
فإننا في نعمة تأمُّلنا في كلام إلهنا وربنا وخالقنا الحي القيوم -سبحانه- أنزله على عبده المعصوم سيدنا محمد -صلى الله عليه وصحبه وسلم- تَدبّرنا معاني أوائل سورة الكهف حتى انتهينا الى قوله - جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- (وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا)
(وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ) كذلك كما حرسناهم بعنايتنا ورعيناهم في هذه المدة الطويلة، ودفعنا الآفات عنهم، وأيقظناهم بعد هذا النوم الطويل، وجعلناهم من آياتنا العظيمة، (وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ): أطلعنا عليهم وعلى أخبارهم؛ أهل قريتهم وأهل مدينتهم فجاءوا وعثروا عليهم واطلعوا، ويقال: عثرتُ على الشيء إذا اطلعتُ عليه، وأعثرت إذا اطلعتُ غيري عليه.
(وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ): دللنا عليهم القوم الذين كانوا بالمدينة، وكان عندهم خبر عنهم فيما تقدم، في أن فتيةً مضوا خوفًا من الملِك الظالم الذي كان يدعو إلى الشرك بالله تعالى وعبادة غير الله سبحانه وتعالى، ثم انقطع خبرهم عن أهل بلدتهم، ولم يأتِ إليهم أحد، وحالُهم في عناية الله بهم كما قال: (..لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) يُرْعب من قرُب من أماكنهم حراسةً لهم، فلم يعثروا عليهم، ولم يكن لهم خبر عندهم، حتى مرَّت المئة السنة الأولى والثانية والثالثة، وجيل بعد جيل.
(وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ) كذلك في توالي عجائب تصرُّفنا في الكون والوجود وأحوالهما، (وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ) أعثرنا على هؤلاء الفتية المباركين الذين قاموا من أجلنا في عبادتنا وتوحيدنا واتِّباع رسُلنا وأنبيائنا، وإنكارهم ما شاع في زمنهم من الكفر ومن الشرك بالله تبارك وتعالى.
وهكذا يختار الله تعالى من يختار على مدى الأعصار، ووعد نبيه المختار أن يجعل في أمته مختارين في كل قرن من القرون، لا يضرهم ما يدور في ذلك القرن من الفساد ومن الكفر ومن العناد ومن الإلحاد ومن الضلال ومن الدعوة إلى الانحراف ومن الدعوة إلى الإنجراف وراء الإسراف، وما يوجب التلف في البادي وفي الخاف، في الدنيا وفي الآخرة، فإن الأوقات لا تخلو من أثر دعوة إبليس وجنوده ونشر كثير من الأفكار ونشر كثير من الاتجاهات بين الناس، والدعوة إلى كثير من المساوئ ومن سوء الأخلاق ومن الضلال، فالأرض قائم فيها هذا إلى آخر الزمان كما حكم خالق الأرض والسماء -جلَّ جلاله-
ولكن في كل قرن من أمتي سابقون؛ "ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون، لا يضرُّهم من ناوأهم ولا من خذلهم ولا من خالفهم، ويحمل هذا العلم من كل خلَف عدُوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" صدق نبينا الكريم الصادق الناطق بالحق -عليه الصلاة والسلام- فوعده الله أن يبقَ في أمتهِ في كل زمان، مهما انتشر من الضلال والكفر والفسوق، أن يبقَ فتية، بل يبقى عدد، بل تبقى طائفة على الحق ظاهرين لا يحيدون عنه يمنة ولا يسرة بتوفيق الله تبارك وتعالى.
وفي مرور الأشياء والحوادث على الأرض، لما جاء الوقت الذي كان فيه سيدنا الخليل إبراهيم كان وحده مؤمن موحِّد على ظهر الأرض (إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً) [النحل: 120] ثم هدى الله به من شاء، فآمن له لوط، ثم هدى الله به من شاء وجاء بعد كِبره الأبناء وكبروا، وبنى معه إسماعيل البيت الحرام وبقيت الملَّة الحنيفية ومِلَّة إبراهيم أسماها الله ورحمته، ونسبها إليه تكريما له على صبره وعلى صدقه وعلى ثباته، فكان أبو الأنبياء وكانت الملَّة منسوبة إليه.
وشرع لنا نبينا في كل مساء أن نقول، كما نقول في كل صباح، فنقول في المساء: "أمسينا على فطرة الإسلام وعلى كلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد ﷺ وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين". وقال في القرآن: (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) [الحج: 78]
وهكذا،، وسيدنا نوح عليه السلام ما آمن معه إلا قليل، لم يكن على ظهر الأرض من المؤمنين الموحِّدين إلا هؤلاء الثمانين الذين اجتمعوا مع سيدنا نوح على تسعمائة وخمسين سنة نحو ثمانين من الرجال والنساء فقط وحدهم، (وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود: 40]، ولكن هؤلاء القليل شأنهم شأن، اليوم لا يوجد على ظهر الأرض في هذه المليارات الموجودة من بني آدم إلا من نسلِ هؤلاء -القليل هؤلاء- الكثير ذهبوا ولا نسل لهم وخلقوا كلهم وبقي هؤلاء القليل، هذا ونحن في الدنيا مظهر عظمتهم، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وهكذا على ظهر الأرض، حتى يأتي الخبيث الدجال في آخر الزمان، وملايين يدخلون النار على يده، وملايين يرتدُّون -والعياذ بالله تعالى- ولكن لا تزال طائفة من أمتهِ، ويكون سيدنا المهدي عليه السلام ومن معه بالثبات على الحق ونصرة الله تبارك وتعالى، وتكون هناك الحروب والقتال حتى يسيح في الأرض ويدخل مختلف البلدان حتى ينزل عيسى بن مريم عليه السلام ويُؤمر بقتله، إذا أقبل عليه تذاوَب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لمات من نفسه، فيقتله وتنتهي هذه الفتنة الخبيثة الكبيرة التي يعصم الله منها من يقرأ أوائل سورة الكهف وأواخر سورة الكهف -عشر آيات من سورة الكهف- إذا واظب على قراءتها لا يقدر الدجال عليه لأنه يكون متصلا بالله وبرسوله، بنور هذا القرآن الكريم.
فهكذا لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، وفي زماننا الذي وصلوا فيه للفساد والإلحاد إلى التجرؤ على الإنسانية من أصلها وعلى الفطرة من أساسها، وأخذوا ينشرون الفساد وما سموه والشذوذ الذي يروِّجون له هناك.. إلى غير ذلك من هذا الفساد والأفكار المختلفة الكثيرة التي وردتْ على الناس في شرق الأرض وغربها، قال؛ هذا عِلمي وهذا فهمي وهذا متقدمي وهذا غير ذلك من الكلام الفارغ..
مع كل ذلك لا تزال في الأمة طائفة محفوفين بعناية الله تبارك وتعالى يُنزِل عليهم لطائفهِ، لا يزالون في قوة وعي للحق والحقيقة، هم خيار الخليقة وهم في هذه الأمة سُرُج منيرة يهديهم الله تعالى ويهدي على أيديهم من يشاء، الحمد لله على هذا الوعد من الرب لمحمد ﷺ والله يثبتنا ويعصمنا من الفتن والزيغ والضلال في الفكر وفي الأخلاق وفي السير وفي الوعي وفي الفهم وفي المعاملات، إنه أكرم الأكرمين.
(وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ..) هم يكونون في مراتب عين اليقين وحق اليقين، وهؤلاء الذين اختلفوا في مدينتهم التي كان يسكن فيها أجدادهم، وكانوا هم ساكنين فيها مع أعدادهم الذين قد مضوا -هؤلاء الذين في المدينة- فقد مرّ القرن الأول والثاني والثالث فهذا هو الجيل الرابع بعد ذلك بل الخامس بل السادس من توالي السنين، وموت هذا بعد هذا، فاختلفوا عن الحشر وهل يكونوا بالأجساد هل تعود أم لا؟! أو هو الحشر بالروح فقط؟! فأراهم الله أجسادا قد غابت عنهم ثلاثمائة وتسع سنين وعادت كما كانت، رأوها قائمة محفوظة ليبيَّن لهم قدرته أنه لا يعجزه شيء، ويرد الأجساد مَن صنعها ويحييها بعد موتها -جلَّ جلاله-، (قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِىٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ ۖ ) [يس: 79] -جل جلاله وتعالى- (لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ..) في إعادة الأجساد والأرواح، وبعْث الناس للوقوف بين يدي مولاهم سبحانه وتعالى.
(.. وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ.. ) أنهم بعد أن جاء إليهم- وكان في قصة الذي خرج بالورِق -الفضة- من الدراهم التي يريد أن يشتري بهذه البضاعة- أنهم عجبوا لبُعد هذه البضاعة، وهذه العُملة وقالوا: من أين جئت وكيف جئت؟ فلما أخذوه الى ملِكِهم المسلم، قال: هل أنت من الفتية الذين ذهبوا في أيام الملك فلان؟!
ويُعرف أن الملِك فلان، أُولائك الذين خرجوا، وهو كان ملك في البلاد، قال: نعم، أين ذهب الملك فلان؟ قال قد جاء بعده ملِك وملِك وملِك، وقيل أنه ملِك رابع وخامس الآن والسادس جئت من بعده.. قال عجيب أنا منهم.. قال إني أسأل الله أن يريني إياهم، وإنَّا سمعنا خبرهم، ذهب فتية وما دروا أين هم وإني أسأل الله أن يريني إياهم، هل أنت منهم؟ قال: أنا منهم، والواقع كذا وكذا وكذا وكذا وأخبره.. قال: قوموا بنا إليهم، فجاءوا وأقبلوا عليهم، وقال: انتظروا حتى أدخل إليهم فيطمئِنون، فإنهم خرجوا والناس كفار ملحدون ويخافون، الآن إذا سمعوا أصواتكم أن يكون جاءهم قومهم ليقتلوهم، فدخل إليهم وأخبرهم الخبر فاستَقبلوهم وعانقهم ذلك الملك ثم أماتهم الله.. قصوا عليهم القصة وتعرَّفوا عليهم أنهم هم ثم أماتهم الله أمامهم مباشرة والكلب معهم، وكلهم الثمانية والكلب، توفوا في تلك الساعة..
فتنازعوا بينهم لما توفوا، قالوا ماذا نعمل؟ كيف نتصرَّف فيهم؟ (إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ..) فحتى منهم من قال: يمكن هؤلاء نائمين كما كانوا أول أمرهم، يمكن ما ماتوا، قال: لا لا الآن قد ماتوا؛ لأنه جاء الموت الحقيقي، نُزعت الأرواح منهم، قالوا الآن قد ماتوا.. فتنازعوا.. وتنازعوا أين ندفنهم؟ قالوا: نحملهم معنا إلى القرية، أونتركهم في محلِّهم، وقال جماعة: نبني عليهم بِناء يُعرَفون به، جماعة قالوا نبني المسجد..
قال: (إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ..) أمر هؤلاء الفتية، هم الآن قد ماتوا فعلا؟ أم هم في غيبتهم كالمرة الأولى؟ حتى أيقنوا أنهم قد ماتوا، فتنازعوا أين يدفنونهم.. (بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ..) فتنازعوا أمر هذه الفتيَة بينهم.
(فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ..) في هذا المبنى ولعلهم يرجعون مرة أخرى ويقومون كما قد قاموا بعد ثلاثمائة وتسعة سنين (قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ.. ): من الملِك ومن معه من المؤمنين والموحدين له، فالآن تُوفوا وجعلهم لنا آية، وحسبنا أن قد علِمْنا قُدرة الله وآمنّا به، وأنه يحيي الأجساد بعد موتها.
والآن: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا (21)) أي نبني بجوارهم، يعني مسجد يعبد الناس فيه ربهم -سبحانه وتعالى- يكون مباركا بالقرب من هؤلاء المباركين، والقرب من مكان قبور هؤلاء -عليهم سلام الله سبحانه وتعالى ورضوانه جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا (21)) وهذا يبين لنا ما كان عليه الأمم المؤمنة من أن القُرب، محل الصلاة من مكان صالحٍ أو وَّلي له معنى في القبول وفي القُرب من الله تعالى وفي رجاء الرحمة، وهذا الأمر الذي فعله سيدنا جبريل مع المصطفى ليلة الإسراء والمعراج؛ صلِّ هنا.. صلِّ هنا.. صلِّ هنا.. وذكر؛ هذا المحل كلَّم الله فيه موسى، هذا المحل ولِد فيه عيسى، أماكن.. هذا كلَّم الله فيه موسى.. ولِد سيدنا عيسى.. أماكن معينة صلِّ هنا، صلِّ هنا، صلِّ هنا.. عيَّن الأماكن التي وقع فيها خير كبير وفتح عظيم ورحمة منه سبحانه وتعالى ليصلُّوا حواليها.
ثم كثُر الكلام بالنسبة لهذه الأمة وخصوصا في العهود الأخيرة عن مسألة المساجد والقبور وهل يجوز أن يُصلَّى في مسجد فيه قبور هؤلاء! والمعلوم في فقه الشريعة الغرَّاء أن المكان إذا وُقف مسجدا لا يجوز أن يتخذ مقبرة ولا أن يُقبر فيه أحد، بعد أن وُقف مسجد..
وأن المكان إن وُقف مقبرة من مالكها فلا يجوز أن يتخذ فيها المسجد ولاغير المسجد ويبقى للقبور، وأما إذا كان هناك قبر ولم تكن الأرض حوله موقوفة؛ مقبرة وإلَّا غير شيء من ذلك من شؤون الوقف فيجوز أن يُتخذ فيها المسجد وغيره من كل ما أباح الله سبحانه وتعالى.
وكذلك إذا اتسع المسجد حتى جاء إلى أماكن فيها قبور كالحال في مسجده -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فإذا اتسع المسجد وهناك قبور تُركت القبور على حالها، وتوسّع المسجد من الجوانب حواليها، وهذا الذي أجمع عليه الصحابة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- عندما وسَّعوا المسجد النبوي الشريف فدخلت الحجرة الشريفة التي فيها قبر الحبيب ﷺ وقبر أبي بكر وعمر وسط الحجرة، فجعلوها في مكانها ووسعوا المسجد من جوانبها، فكان الناس يصلُّون من خلفها وعن يمينها وعن شمالها.
ثم ازدادت التوسعة من سيدنا عثمان من الأمام فكانوا يصلُّون أيضا أمامها؛ أمام تلك القبور كما عليه الحال الآن في مسجد زين الوجود محمد ﷺ، ولم يأتِ أدنى شك عند أحد من تابعي التابعين في عهد سيدنا عمر بن عبدالعزيز الذي كان واليا على المدينة المنورة، قبل ولايته الكبيرة، وكان واليا على المدينة قبل أن يأخذ الخلافة، وجاء الأمر بِهدِّ الغرف الكريمة، الحجرات هذه الكريمة لتدخل في المسجد وتتضاعف مساحة المسجد.
الحسن البصري كان هناك، كانوا يبكون في المدينة كثيرا في ذاك اليوم، حتى ورد أنه ما رؤيت المدينة أكثر بكاء بعد يوم موته من يوم هدم الحُجَر، هم يريدون أن يدخلوها في المسجد وأدخلوها في المسجد الشريف وتركوا القبور الثلاثة على حالها ولم يخالف أحد منهم.. ما يجوز،، مايجوز،، لا شيء من ذلك.. لا شيء من هذا الكلام الذي جُعلت عليه ضجة كبيرة في الأعصر الأخيرة؟! ومرْجعها إلى تدخُّل أصحاب الاتجاهات السياسية في أمر الدين والتقمُّص بإسم الدين للوصول إلى أغراض معينة، فوجدوا فينا معشر الأمة أصحاب مفاهيم إما منغلقة أو ضيقة أو بعيدة عن فهم المراد وعن السداد والرشاد، وجُعلت ثورة وسط الأمة في التحريم والتكفير والتبديع، وذلك من أنواع التحريش الذي هو مهمة إبليس في أمة محمد ﷺ.
وقد أيِس أن يعْبد المصلون غير الله -جلَّ جلاله- وطمِع في التحريش، فكانت مظاهر التحريش، وهذا من جملة أكبر المظاهر في التحريش ما ابتُدع في القرن الذي فات من هذا التشدد والتبديع والتخويف، والمسألة أكبر من ذلك.
(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا (21)) وهذا من الحق تعالى بيانٌ عن أولئك الذين لم يشِر من قريب ولا بعيد إلى خطأ لهم في نيتهم اتخاذ المسجد، ولا نيتهم إقامة المسجد في هذا المكان، (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا (21)) وقد رأينا جبريل مع الحبيب الأعظم يأت به إلى محل الصلاة، صلِّ في المكان الذي وُلد فيه عيسى، حتى ما قال في المكان الذي تعبَّد فيه عيسى ولا أوحي إلى عيسى، ولكن؛ وُلد، محل الولادة تشرّف، جبريل وقَّف البراق ونزل زين الوجود حبيب الخلِّاق يصلي في هذا المكان.. أتدري أين صليت؟ أين صليت؟ ببيت لحم حيث ولد عيسى، هنا ولادة عيسى بن مريم، وأنا أمرْتك أن تصلي في هذا المكان، والأرض كلها مسجد للنبي محمد ﷺ، لماذا هذا المكان؟ هذا المكان قُرْب من محل تجلِّي رباني..
وهذا الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في دعوة سيدنا زكريا -عليه السلام- دعا الله أن يرزقه ولد، في أي مكان كان سيدعوه ولكن قال (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ) أي هنالك؟ المحراب الذي تحصُل الكرامات فيه، (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ) [آل عمران: 37].
ومن المعلوم أن المؤمن يدعو الربّ في أي مكان كان، ولكن بعض الأماكن أقرب؛ لأن الدعاء فيها مستجاب، وهم حيث يلتقطون الرحمة وتنزل من الله تعالى السكينة ويوجد التجلِّي لمن أحب.. (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ).[آل عمران: 37].
(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا (21)) واتخذوا عليهم المسجد، ثم الحقُّ -تبارك وتعالى- يقول أنّ القوم تنازعوا في عددهم، وألمحَ إلى عددهم -جلّ جلاله - تعظيماً لشأن هؤلاء و تفخيماً، وإلَّا ما علينا منهم ومِن عددهم، قومٌ صدقوا مع الرحمن فكانوا مَحلَّ ولاءٍ لكل مؤمن يأتي من بعدهم، يواليهم في الله -تبارك وتعالى- وهكذا.. ومعرفة أخبارهم وشؤونهم مما يشرح الله به الصدور، ويُنوِّر به القلوب (لَقَدْ كَان فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِى ٱلْأَلْبَابِ ۗ) [يوسف:111] (كُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَ) [هود:120] وهؤلاء أتباعُ الرسلِ أيضا من الأولياء.
قال:(سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ..) يقول بعض الناس أنهم ثلاثة (رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَة) كانوا خمسة (سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ.. ) قال هذا الكلام قذف بالظنّ (رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ..) يرجمون الكلام، ويقول شاعرهم:
إنها هكذا الحربُ تعلمها*** كحديث الغيب المرجَّمي
سنُريك كيف الحرب هي تكون وليس ظنّ، وهكذا أيضا يقول الله؛ هؤلاء يتكلمون عن أعداد هؤلاء (رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ.. ) قذْفاً بالظن، من دون أن يعرفوا الحقيقة، ثم في ملمح عجيب أنه قدّم (رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ.. ) على قوله: (وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ..) ثم جاء "بالواو"، لماذا جاءت الواو؟ (وَثَامِنُهُمۡ) ويقول هناك (رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ..) و (سَادِسُهُمۡ..) هنا يقول (وَثَامِنُهُمۡ..) لم يقل ثامنهم قال: (وَثَامِنُهُمۡ..) لإمور:
- الأمرالأول هو ما قال بعضهم أن هذا للتأكيد، ما حقيقة التأكيد؟ كيف يعني؟ وأقول أنّ ثامنهم كلبهم ولا يكون الثامن إلا بعد سبعة. إذًا فهم سبعة، فأكّد القول أنهم سبعة .
- وقيل أنّ ذاك أيضا جاء على ميزان العرب فإن العرب عندنا في القديم كانت العقود عندهم في الأعداد سبعة، بعد السبعة يجددون "واو" وعلى هذا جاءت مظاهر في الكتاب العزيز، ويقول تعالى: (ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ) سبعة (وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ) [التوبة:112] جاءوا بـ "واو" كل هذه بلا "واو" ولكن عند الثامن جاءوا بـ "واو" يقول سبحان الله تعالى:(عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ) [التحريم:5] سبعة هؤلاء، عند الثامن، واو قال: (وَأَبْكَارًا) فكان قاعدة العرب أن السبعة عندهم هذا عقد في العدد، بعد السبعة يعطِفون بالواو (وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ..).
قال: (قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم..) يا من تُمارون في العدد كم هو، ربي أعلم بعِدَّتهم، وهو العليم بكل شيء -جلّ جلاله- (مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ) ما يعلم عِدتهم من الناس إلا قليلٌ من الناس، وكان سيدنا عبد الله بن عباس إذا قرأ قال أنا من القليل، أعلمُ عِدَّتهم (سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ..) قال أنا من القليل الذي استثنى الله (مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ..) وقليل من الناس يعرفون حقيقة عددهم.
(مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ) يقول الله -تبارك وتعالى- وهذه الأشياء وجميع الغيبيّات المَرجِع فيها إلى الحق وما يُوحي إلى رُسُله لا يُقدَّم عليه شيء، ولا يؤخَذ من ذا ولا من ذاك ولا من مجرد تفكيرات واستنباطات، إذا جاء خبر وإشارة من وحي منزّل انتهت المسألة؛ ولذلك يقول: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا..) واتركوا الجدال والمماراة بهؤلاء (إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا..) وهو تثبيت ما أُنزِل إليك أو الإخبار به من دون مُماراة ومن دون جِدال. كما قال سيدنا مالك -عليه السلام-: إن من السُنة أن تُخبر بالسُنة، لا أن تجادل بها، ليس من السُنة أن تجادل بالسُنة ولكن تخبر بها، من السنة أن تخبر بها تبيّنها، تُعلِّمها، أمّا تجُادل بها وإن كانت سُنة؛ لكن الجدال ليس سُنة وفي غير مَحلِّه وفي غير موضِعه، إنّما عليك البَيان (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ..) [الرعد:40].
ولهذا يقول: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا (22)) فإنهم لم يُؤتَمنوا على ما أوحينا إلى أنبيائنا وبدَّلوا وحرَّفوا وغيَّروا -من اليهود والنصارى- وأنت غنِي عن الاستفتاء منهم وفي هذا بيان لنا من الله أن ما أوحيتُ إلى نبيّي في شؤون عقائدكم وأفكاركم ومسالككم وأخلاقكم، أنتم في غنى عن تفكير المُفكرين وأقوال المُتقوّلين من الشرق ومن الغرب والعرب والعجم، فلستم في حاجة إلى ما يطرحونه عليكم هؤلاء ولا الى ما يُوحون به إليكم هؤلاء بعد بيان من الخالق الذي خلق، وأمانةً حملها أصدق الخلق محمد الأصدق -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- لستم في حاجة إلى أحد يرتِّب لكم منهج ولا يُقوِّم لكم سلوك ولا يُقوِّم لكم فِكر، أنتم في غِنىً، من أين يأتي هذا بتقويمه!! يدّعي فِكرا، يدّعي اطلاعا (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۗ ) [البقرة:140] ظُنون وأوهام يأتون بها ويسمّونها نظريّات علميّة، تجد الواحد منهم بظُلُماته الكبيرة وخساسَته في اتباع الشهوات فكَّرَ في الليل؛ أصلُ الإنسان قرد يُصبح ثاني يوم يقول نظرية علمية، ما هذا اللعب؟! ما المَسخَرة هذه!! النظرية العلمية على أي حقيقة تقوم ! لسنا بحاجة في أمر الدين إلى صغيرٍ ولا كبيرٍ ولا جِنيٍّ ولا إنسي ولا شرقي ولا غربي ولا عربي ولا عجمي، نحن في حاجة إلى وَحيِ الله وبلاغ نبيه، وأغنانا الله عن تنزيل إنسان وعن بعثة رسول آخر بالسُنة الغرَّاء وبيانها للقرآن، وبأقوال العلماء من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن الخَلَفِ العُدول من كل خَلَف الذين يحملون هذا العلم، الطائفة الظاهرة على الحق.
فنحن في غِنىً عن تنزيل إنسان ووحي إنسان، فَضلا عن أفكار قاصٍ ودانٍ من شرقي وغربي، لسنا في حاجة لهذا؛ وإنما هم بشر مثلنا، بحُكم الوحي نتعامل معهم بالسِّلم إن سالموا، وإن اعتدوا وبغوا فبالحرب، وإن تعاملوا في أمور الدنيا بشؤونها من بيع وشراء وإجارة وما الى ذلك، في الشرع المصون عندنا نتعامل معهم ونتبادل المصالح بما يوافق الشرع المصون، منهج كامل نُحسن الجوار لمن جاور، نبرُّ ونُقسط لكل من لم يقاتل ولم يعتدِ (فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة:193] في الشريعة والمنهاج النبوي، لا عدوان إلا على الظالمين، ويريدون للناس نظاما أحسن من هذا! يريدون للناس منهاج أقوم من هذا! لا أقوَم من نهج الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه- ثبتنا الله عليه وجعلنا من القائمين به.
(فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا (22)) ولذا كان بقايا اليهود -وفيهم بعض علمائهم وفيهم بعض المنصفين- أسلموا، مثل؛ سيدنا عبد الله بن سلام ومن معه أفراد، وفيهم الذين أخذهم الحسد والبغي فكذبوا وكفروا وكان علمائهم وعوامهم يتعامل معهم المسلمون، وعقَد النبي معهم العهد أن لا يقاتلهم ولا يقاتلونه ولا ينصرون أحد يقاتله ولا ينصر أحد يقاتلهم -عليه الصلاة والسلام- وقام بشروطه ووفَّى بعهده ﷺ. وخانوا العهود بعد ذلك وعاشوا يبيعون من المسلمين، ويبيع منهم المسلمون، ويستأجرون بعض المسلمين، ويستأجرهم بعض المسلمين وعايشين.
فلما تعدّوا الحدود قام ﷺ، ولما رأى مرَّة ورقة، يدَّعون أنها من التوراة مع سيدنا عمر غضب ﷺ وقال له: يا عمر؛أهوّاكٌ أنت يا عمر؟! قد جئتكم بكتاب الله فيه البيان لكم، لو كان موسى حيَّا ما وسعه إلا اتباعي، وأخبرنا قال ﷺ إذا حدثوكم عن شيء يدّعونه من أمر دين لا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم. لا تصدقوهم قد يكون مما اختلقوه ومما ابتدعوه ومما حرّفوه فتكونوا صدقتموهم بتحريفهم، ولا تكذبوهم لأن إن كان شيئا جاء به الأنبياء من قبلهم فهو حق وأنتم قد آمنتم بكل ما بُعث به الأنبياء وكفاكم محمد ﷺ.
قال: (وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا (22)) وأرشده إلى أدب من الآداب، يقول له؛ اظبط كلامك وإذا تكلَّمت عن شيء تريده فلا تغفل عن عظمة الفعَّال الذي لا يستطيع أحد أن يقدم أو يؤخر إلى بأمره (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ..) أي تستثني وتقول "إن شاء الله" تتذكر قدوتنا وقدوتك؛ معلِّم أمتك هذا، حتى لا يسري إلى نفوسهم أن غيري فعَّال في الوجود، وأنّ غيري سيستبيح بيضتهم ويهلكهم من دون أمر، لا يظنوا ذلك، ولا يظنوا بأنفسهم أنهم يُقدمون أو يُؤخرون إنما يتسببون ويكتسبون وأنا الخالق لهم ولما عملوا، وقديما قال سيدنا إبراهيم لأمته (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:96-97] وأنت ياسيد الوجود، إذا قلتَ أني أفعل ذلك غدا، أو أقول لكم كذا، أو أجيبكم عن كذا غدا قل: "إن شاء الله" .ثبِّت حقائق التوحيد في أمتك، وكُن على مقامك في الحضور معنا في كل أحوالك (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا (23))
قالوا إن السبب في ذلك، أنهم لما سألوه عن الفِتية وعن الروح قال نُجِيبكم غدا فتأخر الوحي عنه، حتى مرّت خمسة عشر ليلة، وجاء الوحي قال: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ..) قال الله؛ جعلتُ هذا لك يا سيدنا وحبيبنا، لتعتبر أمتك وتعلمَ أن الأمر بيدي، وأنت حبيبي وأكرم الخلق عليّ، لم تقل "إن شاء الله" فأخّرتُ الوحي عنك، ثم ذكّر ﷺ بعظمة هذا المعنى في أنّه لا يكون شيء إلا بأمر الله بقول "إن شاء الله" حتى قال إن سيدنا داود -عليه السلام - مرّ على زوجاته، منهن العدد الكثير ويقول؛ أمرُّ عليهن وتحمل كل واحدة منهن بولد يقاتل في سبيل الله، قال ولم يستثنِ، فما ولدت منهن واحدة، ولا حملت إلا واحدة لا تكاد تعدو بنصف ولد، أمَّا أنه لو قال "إن شاء الله" لحملن كلهن بالأولاد، ولقاتلوا في سبيل الله.
اذاً فتعديل القول وضبطه من آداب الإسلام، من آداب الشريعة المطهرة، من آداب الدين القويم، أننا نهذِّب ألفاظنا، ولا ننسى "إن شاء الله" لكل ما نعزِم على فِعله ونعزِم على القيام به في مستقبل أُمورنا، ونقول "إن شاء الله" فإنه متصرِّفٌ والغيبُ عنده -جلَّ جلاله-، ويُقدِّم ويؤخِّر وينفَع ويضُر، ويرفَع ويخِفض، والأمر له فلنكنْ مُرتبطين بالله -سبحانه وتعالى-.
ونعلم قوله أيضا في بيان الحقيقة لخير الخليقة ولأمته، يقول لهم (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ ) [الأنفال:17] وهم خرجوا معهم ثمانية سيوف كانت في بدر، والآية نزلت في بدر، وبثمانية سيوف فقط، والبقية معهم الرِّماح ومعهم السِّهام ولكن مع ذلك كله قال؛ لا أنتم ولا السيوف ولا الرماح ولا السهام؛ أنا الذي رتَّبتُ بقدرتي، أنا أُدبِّر بعِدَّتكم القليلة هذه، وإن تقتلوا منهم سبعين وتأسِروا سبعين (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) وجاء الى رأسهم يقول: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) [الأنفال:17] -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-
فعلى الصادقين من المؤمنين أن يَصْدُقوا في نُصرة الله ورسوله وخدمة هذه الأمة، وخدمة الخلق مع الأمة، ويعتمدوا على الله ويستنِدوا إليه ويثِقوا به، وبيده النتائج وبيده الثمرات وبيده العواقب وبيده المآلات -جلَّ جلاله- ونصدُق ونبذل ما في وِسعنا ولكن نستشعر أنه هو الفعَّال ونتَّكل عليه ونعتمد عليه، نبذل كل ما في وسعنا ونحن واثقين به وَحده -جلَّ جلاله- غير راكِنين الى جُهدنا ولا الى غيره، من جميع الخلائق حتى ينصرنا الخالق؛
- (..إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) كُن دائما، دائمَ الذِّكر لهذا الإله، وكلَّما تركت الذكر فارجع إليه (وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)، وإذا نسيتَ أمراً وأردتَ أن تتذكره فاذكر ربَّك.
- وقال بعضهم عند الغضب (وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) قد يُقال على الغضب أنه نِسيان. نقول: قالوا نسي بمعنى غضِب، فإنه أوحى كما جاء في التوراة: اذكرني ابن آدم، اذكرني عندما تغضب أذكرك إذا غضِبت، أُبعِد عنك غضبي.
- وإذا ذكرتني عندما تغضب ضبطْتَ حركاتك، وضبطْتَ تصرُّفك، وإلا فإن الشيطان يقول يوسوس على قلب بن آدم فاذا غضب طِرْتُ الى رأسه، ولعبتُ به كما يلعب الصبي بالكرة.
- (وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) قالوا أيضا من معانيه، إذا قلت يوما؛ افعلُ كذا فنسيت، فتذكّر، فألحِق، استثني. اه؟ (وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) إذا نسيت في وقت التلفُّظ فألحِقه متى ماذكرت وقل "إن شاء الله".
قالوا وإن كان المستثنى هذا يلحقُ بما حَلِف أن يفعله مثلا؛ جمهور العلماء يقولون لا، يقول الامام مالك، والامام الشافعي إن كان الاستثناء متصل بالكلام…. نعم يحصل به الحَنْث ولكن كلهم قالوا استُحِبَّ أن يقول "إن شاء الله" -وإن ما تُسقِط الحَنث عليه- إذا حنث ولكنها تُسقِط قلَّة الأدب، خروجه إلى الأدب، يتدارك الأدب الذي فاته بأن يقول "إن شاء الله" ولو بعد حين، مع أنه قال من قال من أهل العلم انه ما دام في المجلس الذي هو فيه فإن الاستثناء يلحَق. وقال من قال ما دام في اليوم الذي قال فيه فإن الاستثناء يلحق، وامتدّ قول بعضهم الى سَنَة.
ولكن المُعتَمد عند عامّة العُلماء والفُقهاء أن ذلك لا يصحَّ، الاستثناء، بحيث يُسقِط الحِنث الا إن كان مُتِّصلا بالكلام، بل شرطه أن يكون ناوي الاستثناء وهو متكلِّم من قبل ان ينقطِع او ان يقول الكلام، فبهذا اذا استثنى لا يسقط عنه الكفارة.
ولكن حتى الذين قالوا أن الكفارة لا تسقط بالاستثناء قالوا نستثني. ليخرج عن إساءة الأدب إلى أن يتأدَّب، يتدارك إساءة الأدب، بأن يستثني ثم إن حنِث فعليه أن يكفِّر ولا تنقطع الكفّارة بهذا الاستثناء.
(وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا (24)): ما بقي إلا قليل من قصّة أصحاب الكهف وهذا الطّلب (أن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا) في انواع الوُجهة والمُعاينة تأتي، إذ كَمُلَ الوقت عندنا. فإن شاء الله نلتقي على الخيرات ونتابع تأمُّلنا لكلام ربِّ الارض والسماوات، ونسعدُ بأنوار تنزيله على قلب رسوله لنكون على بيّنة على ظهر هذه الأرض لنسعَدُ بها في يوم العرض وننال بها شرف المرافقة لمن أُنزِل عليه القرآن.
شرح الله صدوركم ونوّر قلوبكم، وزادكم من الإيمان واليقين والبر والتقوى، وأخذ الله بأيديكم، وجمعنا وإياكم إن شاء الله في لطف وعافية. انه اكرم الاكرمين.
اللهم انظر لأهل الجلسة ومن فيها ومن يتابعها في مشارق الأرض وغربها واجعل لنا ولهم نصيباً وافراً من نور القرآن وسرِّ القرآن وحَنِية القرآن وعظمة القرآن وعلم القرآن وفَهم القُرآن والعمل بما بالقرآن. والاتّصاف بأوصاف أهل القرآن حتى تجعلنا عندك من أهل القرآن، الذين هم أهلك و خاصتك برحمتك يا ارحم الراحمين.
وعجِّل بالفرج للمسلمين اجمعين، وتدارك اللهم أهل رفح واهل بيت المقدس وأهل غزة، واهل الضفة الغربية والمسلمين في شرق الأرض وغربها. وتدارك أهل السودان وتمم لهم الفرج وارفع عنهم الضيق والحرج، وتدارك اللهم اهل العراق واهل ليبيا واهل الشام واهل اليمن. وأصلح ما ظهر وما بطن بالمسلمين في كل مكان وفي كل زمان، يا حي يا قيوم فرج علينا وعلى الامة واكشف الغمة وعاملنا بمحض البر والرحمة. ويرتب لنا الفاتحة الحبيب احمد بن حسن المحضار.
بسرِّ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
14 ذو القِعدة 1445