(228)
(574)
(536)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة إبراهيم، من قوله تعالى:
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡۖ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (4) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ (5)}
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية بدار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية
الحمدُ لله مُكرمنا بالتنزيل، والوحي الجليل، وبلاغ وبيان عبده وحبيبه ورسوله الهادي والدليل، سيدنا محمد ختم الأنبياء، أحب الأحباب، و أصفى الأصفياء صلّى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء، وعلى من سار على سبيلهم إلى يوم الدين وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياءِ والمرسلين وآلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،،
فإننا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا وتدبّرنا لخطابه، وما أنزل في كتابه على قلب سيد أحبابه ﷺ. ابتدأنا في سورة سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فتذاكرنا في معاني الآيات الأُوَل منها، حتى وصلنا إلى قوله جلَّ جلاله وتعالى في علاه: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡۖ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (4)) جلّ جلاله وتعالى في عُلاه. (وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡ)، فكان من عظيمِ نعم الله تبارك وتعالى على هذا الصنف المكلّفين من العبادِ: الإنس - والجن تبعٌ لهم- أن الله يختار الأنبياء فيهم لأجل البيان.
وتكفّل الحقُّ تبارك وتعالى بالبيان على ألسُنِ أنبيائه فكان من تفضّله؛ أن يُبيَّن للناس حقيقة أمرهم، حقيقة خلقهم ووجودهم، وحكمة الخلق والإيجاد، وتفرُّده تعالى بخلقهم وإيجادهم، وحقيقة المرجع والمآب والمصير والمستقبل والغاية والنهاية التي ينتهون إليها، والمسلك الذي إذا سلكوه؛ سعدوا وفازوا بالنعيم وبالفضل العظيم من قِبل العظيم -جلّ جلاله- وسَلِموا من الشرور والآفات؛ منها في عالم الدنيا، والأكبر الأشدُّ الأخطر في عالم البرزخ، ثم في يوم القيامة، ثم في النار المُوقدة التي تطّلع على الأفئدة؛ فكان هذا البيان لهذه الحقائق سبب صلاح الإنسان وفوز الإنسان وسعادة الإنسان، ومن جَهِل ذلك ولم يتبيّن له وقع - والعياذ بالله- تعالى في الشقاء والعذاب.
ثم أن بعد هذا البيان تقوم الحجة؛ (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء:165]، فجعل الله رسالة كل رسول بلسان قومه، ولقد كان الرُسل قبل نبينا محمد يُبعَثون إلى أقوامهم خاصة، فـ(بِلِسَانِ قَوۡمِهِ ..(4)) لغته؛ ليخاطبهم بما يُوضّح لهم المراد ويُوصل الأفهام إلى أذهانهم. كان من لطفِ الله تبارك وتعالى ومن جُوده، ويُنزِل عليهم الكتب بلغة القوم الذين بُعِثوا فيهم وأُرسلوا إليهم. فلما جاء خاتم النبيّين مُرسَلاً إلى جميع العالمين: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ:28]، إختار الله له لوصول البيان اللغة العربية الجامعة الشاملة بخصائصها ومزاياها وتحدَّى فصحاء العرب، ومن أفصحِهم قومه وجماعته وعشيرته الذين بُعث فيهم، فلم يستطعْ أحد أن يأتيَ ولو بمثل سورة واحدة مما أُنزل عليه كأقصر سورة - سورة الكوثر- فلم يقدر أحد أن يعارضها ولا أن يأتي بمثل هذا الكلام.
وتنوَّعت أوجه الإعجاز بعد البلاغة والفصاحة والمعاني إلى الدلائل والإشارات، وإلى النبأ بالغيبِ، وإلى التحديث عن الكائنات وعن الأمم السالفة وعن أمورٍ مقبلة، إلى غير ذلك من أوجه الإعجاز في كلام الله جلَّ جلاله. أرسله باللغة العربية فاختارها وهو الذي خلقَ وعلّم جميع اللغات -سبحانه وتعالى- فاختار هذه اللغة ليُرسل بها محمدًا ﷺ؛ وليفوز من يفوز باستبيانِ المعاني التي أُودِعَت في القرآن الكريم، ويتعلّق قلوبُ من وصلتْ إليهم الرسالة من حَمَلةِ القرآن بألسُنِ القوم ولُغاتهم المختلفة، فتتعلّق قلوبُهم بلغة القرآن؛ فيتعلّمون ويبذلونَ الوُسع والاجتهاد في استبيان المعاني الشريفات في كلام الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
وكم برز ممّن أصلُهم أعاجم، ليس أصل لغتهم العربية، ثم أقبلوا عليها إيمانًا ومحبةً وتعمّقوا فيها وانكشف لهم من أسرارِ بلاغاته ﷺ ما لم ينكشف لكثير في دوائرِ، فَرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع، رُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع، فحصل من ذلك كثير في هذه الأمة المحمّدية التي اختار الله نبيّها ﷺ خاتماً للأنبياء مبعوثاً لجميع العالمين، كما قال في أوّل الآيات:
(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ ..(1))، ولم يقل لتخرج قومك، فإن قومه جزءٌ قليل من أمته، وأمّته الناس كلهم وهو المبعوث للعالمين، (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1]، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ فتبين بذلك فضل وخصائص هذه اللغة التي اختارها الله لأشرف الكتب المُنزلة من عنده- جلّ جلاله- وبعث بها المصطفى محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فكان من مُقتضيات الإيمان وعلاماته وجود تعلّق القلوب بهذه اللغة؛ تقديرًا واحترامًا ولأجل الوصولِ إلى خطاب الخالق البارئ المُنشئ المُوجِد -جلّ جلاله وتعالى في علاه- من خلال فهم هذه اللغة، كل على قدر ما يتهيّأ من الفهم ولن يحيط بمعاني وحقائق كلام الله إلا هو جل جلاله، (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) [الكهف:109]، ولكن السعادات الكبرى مُرتّبة على وعْيِ هذا التنزيل وهذا الوحي وما أُرسِل به النبي الجليل صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ..(4))، ليُوضّح لهم ويرفعْهم من الإشكال إلى جليّة الأمر رحمة من الله بالعباد، ومع ذلك فقد كُذّبوا وأُوذوا وقُتل من قُتل منهم وحُوربوا وصبروا. يقول سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام: 34].
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ..(4))، الحمد لله على نعمة الإسلام. اللهم كماأَنْعَمتَ عَلَينا بالإسلام فزِدْنا منه، وكما أَنْعَمتَ عَلَينا بالإيمان فزِدْنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزِدْنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه يا الله.
(فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ..(4))، يُوضّح الدلالة ويُقيم الحُجَج والبراهين، وقد جعل الكونَ وما فيه من آيات وعلامات؛ تدلُّ على عظمة الخالق الصانعِ وحكمته، وشفَع ذلك وأيّده بإرسالِ رسلٍ وإنزال آياتٍ مقروءاتٍ متلوُّاتٍ في الكتب المنزلة من عند الله جلّ جلاله؛ لتقوم الحجة. وقد قامت الحجة؛ فويلٌ للمُعرِض وويل للمُكابر وويل للمُنكِر وويل للجاحد ويل للمعاند كائناً من كان، أفرادًا وجماعات، شعوباً ودول، كل من بلغهم نداء الرب -الذي خلق- على لسان رسوله فولَّوا وراء أهوائهم وشهواتِهم وأنفسهم وإيثار الفانيات؛ ويلٌ لهم ثم ويلٌ لهم، كما قرأنا: (وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ..(3))، يبغون الدنيا على حالٍ أعوج وعلى حال تعدٍّ للحدود، يبغونها سبيل الحق المستقيم عِوَجًا، يبحثون عن ما يستطيعون أن يلمِزوا به فيها، أو أن يتكلّموا عليه فيها، أو(يَبْغُونَهَا عِوَجًا)، يريدونها مُنحرفة حتى لا تستقرَّ عليها القلوبُ ولا تهتدي إليها، (يَبْغُونَهَا عِوَجًا)، و(مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) [غافر:29]؛ (أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)).
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ..(4))، وقد أحسن البيان خاتم النبييّن المُنزَل عليه القرآن ﷺ، حتى قال: "تركتكم على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" فلا يوجد قلبٌ وعقلٌ على ظهر الأرض، تبْلُغه رسالة الحق لنبيِّه محمد ﷺ فيُريد مَن يهتدي ويتبيّن إلا تسهّل له ذلك بما يُترجَم له وبما يُوصَلُ إليه، ويجد في بلاغ هذا النبي بيانًا شافيًا تامًا كاملاً، كفيلاً بإنقاذه من وَرَطاته في نفسه أو مجتمعه أو العالم الذي يعيش فيه، في أي دولة كان.
كلّ من أراد الهداية وأراد البيان وأراد وضوح الحقيقة فهو مُيسّر له بما خلّف هذا النبي، وبما ترك هذا النبي، وبما اجتهد هذا النبي، وبما بلّغ هذا النبي، وبما أدّى الأمانة هذا النبي، وبأسرار رعاية الله لفردٍ بُعِث للعالمين أجمعين -صلى الله عليه وصحبه وسلم-.
في وقت بلَغ حالُ البشريّة فيه إلى غايةٍ من التردّي والانحطاط وعُبِدَ غير الله،
واستقبل العالم نورٌ ساطعٌ مُضيء من أتباع هذا المرسَل الهادي التقيّ -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم-، آية من الآيات، لم يُعْرف في تاريخ الناس وتاريخ البشر على ظهر الأرض مؤثّر فرد مؤثّر هذا الأثر! لا من قبله ولا من بعده -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، فهو أعظم الناس نفعا للناس وأعظمُ الناس تاثيرًا إيجابيًا نورانياً على الناس -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-؛
وما مضى حتى أقام الدينا *** وصـــــــار سهـــــلاً واضحًا مُبينًا
فلم تخف أُمّتــــــه فتـــونًا *** بل عُصموا في الجمع عن ضلالِ
(فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ..(4))، مع وضوحِ الحُجَّة وإيضاح المحجّة وظهور البراهين والأدلة، يهدي من يشاء ويُضلّ من يشاء، يستقيم ويستجيب ويلبّي المنصِف، من سبقت له السعادة. ويتمسّك بشهواته وتردّده أو يُؤثر غيرَ الهُدى على الهدى؛ من أضلّه الله تبارك وتعالى ومن رضي لنفسه الهون والدون،
(فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ ..(4))، -جل جلاله وتعالى في علاه-، الذي لا يمكن لأحدٍ أن يُحيطَ به، وهو الذي يحتاج إليه كل شيء وهو الغنيّ عن كل شيء جلَّ جلاله، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4))، يضلّ بحكمة ويهدي بحكمة.
اللهمّ اجعل مرادك فينا خيرا، واهدِنا فيمَن هدَيت وزِدنا إسلاما وإيمانا ويقينا وبِرّاً وتقوى برحمتك يا أرحم الرحمين، ولك الحمد على ما أنعمت به علينا من الإيمان والتصديق بنبيّك محمد وما جاء به عنك. اللهم زدنا ولا تَنقصنا، نسألك زيادة في الدِّين، وبركة في العمر، وصحَّة في الجسد، وسَعة في الرزق، وتوبة قبل الموت، وشهادة عند الموت، ومغفرة بعد الموت، وعفواً عند الحساب، وأماناً من العذاب، وجوازاً على الصراط، ونصيبا من الجنة، وارزقنا النظر إلى وجهك الكريم.
يقول: (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4))، فيا من هُديتُم إلى لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ؛ استشعروا عظيم النّعمة عليكم من قِبَل الله العظيم، واقْدُروها حق قدرها وقوموا بشكرها ليزيدكم الله إيمانا، فتمرُّ حياتكم القصيرة على ثبات واستقامة وتلقَون الإله الحقّ وهو راضٍ عنكم وتسعدون سعادة الأبد لا شقاء بعدها أبدا، اللهم أكرمنا بذلك.
ما أعزّت العباد أنفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله ومهما تخيّلوا غيرذلك فلا يجدون في نهاية المطاف إلا أنّهم ذلُّوا بمعصية الله وخسروا والعياذ بالله تبارك وتعالى؛ (كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر:17-18]، وهذه مظاهر الطاعة التي بها العزّ والإكرام والشرف، (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا *وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:19-20]، وهذا الأسلوب من هذا التنافس البغيضِ ومن هذا السقوط و الدناءة، هوالمهانة وهو الذل.
كلّا ستدرِكون حقيقة الأمر؛ من أقبل ومن أعرض، من قَبِل ومن ردَّ؛ سيدرك الكل، (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا *وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ) [الفجر:21-23]، إذا لم يتذكّر في أيام حياته القصيرة وقت الاختبار و الابتلاء والتكليف، (وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ)، (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:24]، قدمتُ لحياتي. ما أنت كنتَ حيّ؟! قال: تلك الحياة حقيرة وفانية، هذه الحياة؛ (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:24]، (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64]، هناك الحياة، فيا فوز من سعد في تلك الحياة، ويا خيبة من شقِي في تلك الحياة هي الحياة للإنسان.
يقول سبحانه وتعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور (5))، فأُرسِل إلى بني إسرائيل والقِبط -جماعة فرعون- فكانوا هم قوم موسى عليه السلام. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا)، بما آتيناه من معجزات ودلالات وأوحينا إليه من التوراة وأنزلنا إليه من الصُّحف. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا)، وكان من جملة الآيات:
آيات من آيات قدرة القادر -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، الذي (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحديد:2]؛ لتهزّهم في إيمانهم، وتعظيمهم للسّحر الذي كان منتشرًا بينهم، واعلموا أن الأمر فوق السحر؛ حقيقة واقعة لا مجرّد تخييل صوري، ولكن حقيقة عظيمة و آيات من آيات الله الكريمة. ثم بعد ذلك، بهذه الآية آية العصا، آمن السحرة وعادوا الى مؤمنين صادقين مخلصين لله مع رسوله موسى عليه السلام.
ثم كانت بعد ذلك لفرعون آيات: الضفادع وآيات الدّم وآيات القُمّل وآيات السنين الشديدة والنّقص من الثمرات، إلى التسع الآيات التي ذكرها الله تبارك وتعالى، وظلموا بها كلها ولم ينتفعوا إلا من سبقت له السعادة، وهم هؤلاء الذين آمنوا معه من بني إسرائيل، وقليل من الأقباط الذين هداهم الله واتبعوا النبي موسى -على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام-.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ..(5))، من هذه الظلمات، يدّعي فرعون الألوهية فيهم، ويعبُدون غير ربهم جلّ جلاله، ولا يدرون من خلقهم؟ ولا إلى ماذا مرجعهم!!
(أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ..(5))، ولقد سمعنا في أول السورة ، (الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ ..(1))، لتخرج الناس يامحمد؛ (لِتُخْرِجَ النَّاسَ منَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، فطريق الخروج من كل ظُلمة فكرّية وسلوكيّة وإجتماعيّة وسياسيّة في العالم من كتاب الله الذي أنزله ربُّ العالم على محمد المرسل للعالمين، وعبثا يحاولون الخروج من الظلمات بغير هذا الكتاب، فلا يزالون في ظلمات بعضها فوق بعض -والعياذ بالله تعالى-، (كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) [النور:40].
ولا يزالون يجْنون ما ترون في حال البشر وبني آدم، حتى في دعوى التقدم والتطور، كيف تعيش الشعوب؟ كيف تعيش الأمم؟ بل كيف تعيش الدول التي تُسمّى بالمتقدمة بينها البين؟ كيف يتناوؤون؟ كيف يتعاندون؟ كيف يمكر بعضهم ببعض؟ كيف يهدد بعضهم بعض؟ كيف يتعالى بعضهم على بعض؟ هذا حالهم! وحال شعوبهم! كيف هو؟ وفي أي حال يعيشون؟ وكيف ما بينهم من ذلك التفرّق ومن ذلك التمزّق، ومن ذلك النصب لعبادة الشهوات؛ الأصنام وكسب المال في الدنيا والملذّات، وهي منصوبة كل منهم يسجد لها، ولا قيمة بعد ذلك لحقائق إنسانية ولا لحقائق عدل وإنصاف، فإن وُجد شيء من مظاهر ذلك ففي جزئيات وفي جوانب؛ إما بحكم الفطرة والطبيعة، وإما تظاهُرًا بها للوصول إلى أغراض وإبطان شيء آخر من غير ذلك.
لكن منهج الله تصفية البواطن و إملاؤها بالخير؛ حتى تكون هي المصدر للرحمة وللمحبة وللحرص على الناس وللإنصاف، فما يُبطنه المؤمن خير مما يُظهِره، ونيّة المؤمن خيرٌ من عمله، وأما على قدر النفاق والكفر قد يعطيك أحلى كلام وقد يعطيك أحسن مخاطبة! ويلسعك بعدها لسعة ويُسْقطك فوق السقطة ولا يبالي بشيء، ولكن المؤمن لا.
الخروج من الظلمات إلى النور بكتاب خالق الظلمات والنور، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام:1]؛ فلا طريقة لبني آدم أن يطلبوا الخروج من الظلمات بأنواعه إلى النور إلا من خلال خالقهم: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدون) [البقرة:257]، اللهم أجرنا من النور، ولك الحمد على نعمة الإسلام فزدنا منها.
(أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ..(5))؛ ذكّرهم بما جعل الله طيّ الأيام في الأمم التي سبقت؛ من إنعام أنعم به عليهم، من خلقٍ وإيجاد وإمدادٍ بأنواع من النّعم وتيسير هذه الأرض وتمهيدها لهم، من منهم مهّدها؟ من منهم أوجدها؟ من منهم هيّأها؟ (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) [النبأ:6]، فهل غيره شارك في تمهيد الأرض وخلقهم من النُّطف والعلق والمُضغ؟! من رعاهم في كل ذلك؟! ومن غذّاهم هنالك ويسّر لهم السبيل للخروج من بطون أمهاتهم؟! مَن غيره جل جلاله وتعالى؟ (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [الطارق:5-7]، (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ) [عبس:17-22]، عَمِل مع كل الطوائف قَبلنا، مع كلّ الأمم قبلنا، من عهد آدم خلقهم وحده؛ لم يشاركه في الخلق أحد، (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [فاطر:3]، في حَدْ خلق آدم غير الربّ؟ في حد خلق حواء غير الإله؟ وأولاد ابن آدم إلى يومنا هذا، من خلقهم؟
خلقهم سبحانه، وهيَّأ لهم ما يحتاجونه من تنفّس، ما يحتاجونه من أكسجين، ما يحتاجونه من أكل وطعام وشراب على ظهر الأرض، رتّبَ الأمر ترتيب -جل جلاله- أنعم عليهم بنِعَم، وأنزل كتب وأرسل رسل فيهم؛ ذكِّرْهم ذكِّرْهم، كم مِنْ نِعَم في شعورهم؟ كَم من نِعَم في أبشارهم؟ كم من نِعَم في دمائهم؟ كم من نِعَم في أعصابهم؟ كم من نِعَم في عروقهم؟ كم من نِعَم في عظامهم؟ كم من نِعَم في جهازهم التنفسي؟! كم من نِعَم في جهازهم الهضمي؟! كم من نِعَم؟ وكم من نِعَم ذكِّرهم؟، أعطاكم هذا كله، ثم تعاندون وتجحدون لماذا؟ وتُنكِرون الإحسان والفضل، أي هذا وجه من أيام الله؛ (ذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ..(5))، هذه المسالك المختلفة قد مضت عليه من قبلكم، تعالوا ننظر الخبر، ماذا حصل لأولاد آدم؟ ماذا حصل لقوم إدريس؟ ماذا حصل لقوم نوح؟ ماذا حصل لقوم هود؟ ماذا حصل لقوم صالح؟ (وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا) [الفرقان:38]، لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى إلى عهد إبراهيم ماذا حصل؟ وما هي النتائج؟
(وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ..(5))، ما كانت عواقب من اتّبع الرُسل وآمن بالله؟ وما كانت عواقب من عاند وكفر وكذّب؟ تريدون قارون، تريدون هامان، تريدون فرعون، تريدون النمرود، تريدون عاد، تريدون ثمود، تريدون من؟ انظروا! (ذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ..(5))، كيف كانت العواقب والنهايات؟ وكيف مضى الأمم من قبل؟ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) [محمد:10]. انظروا! من أيام نبينا محمد إلى اليوم، كيف عاشت هذه الأمة؟! مؤمنوها وكافروها، وأنواع الخسارة والشر، سواءً ممّن أُكرِم بالإيمان واتّبع، ومن كفر وعاند، ما نالهم ذاك الشر أوالمصيبة أو الخزي أو التعب في الدنيا أو في البرزخ؛ إلّا من مخالفتهم لمنهج هذا الهادي وخروجهم عنه. وأنواع ما كان لهم من التأييد والنصرة والخير الكثير كان باتّباعه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم-.
في عهده الشريف، قُوى على ظهر الأرض كافرة، قابلَ جيشٌ منها عِداده مئتا ألف في روايات أضاف إليهم خمسون فوق المئتين من الألوف المقاتلين، قابلوا. من أتباع نبينا جيشا عداده ثلاثة آلاف، ونصر الله الثلاثة الألاف واندحر المئتان الألف، وإن كان معهم الخمسون الألف وذهبوا هاربين وشاردين. ورجع الصحابة وقد قتلوا كثيرا من المُقاتلين المُحاربين من أعداء المصطفى ﷺ وأعداء الحق- جل جلاله-؛ وغنِموا كثيرا من أموالهم وأُكرِم بالشهادة أربعة عشر رجلا من الثلاثة الآلاف، لم يتجاوز عدد الشهداء أكثر من أربعة عشر!
أين راحت القوى هذه؟ العدد هذا عرفته، غير العدد، إيش من أسلحة مع الصحابة؟ وإيش من أسلحة مع أولئك الحديثة الفتاكة هناك، عند المئتين الألف، فين راحت ؟ بأي الموازين تقوم هذه المعركة؟ وكيف انتهت؟ في مثل هذا الشهر الذي أنتم فيه، في جمادى الأولى من السنة الثامنة من هجرة النبي محمد وربما في نفس مثل هذه الأيام، انتهت المعركة وقُتل الأربعة عشر شهداء، وقُتل الكثيرون من الكفّار إلى النار -والعياذ بالله تعالى-، ورجع خالد بن الوليد ومعه غنائم كثيرة غنِموها من أموال الكفار إلى المدينة المنورة -الله أكبر- وكم في حياته حصل!!
ووصل الإسلام في أيام سيدنا عمر بن الخطاب إلى موسكو -إلى روسيا- وصل المسلمون والإسلام هناك -الله أكبر-، بأيِّ طائرات ذهبوا؟ لايوجد طائرات، بأي سيارات؟ لاتوجد سيارات، بماذا من دراجات؟ لايوجد دراجات، بماذا راحوا؟ على السفن، وعلى الخيول، وعلى الجمال وعلى الأرجل عليهم الرضوان؛ ووصلوا وبلّغوا دين الله في السنة الخامسة والعشرين من الهجرة.
وقد وصل الإسلام إلى تلك الأماكن -الله أكبر- كان ما كان، قرون كثيرة. وفي القرن الماضي، ما قبل قرن وقرن ونصف، جاءت الحركة هناك لمضادة الإسلام؛ سواءً في موسكو أونحوها، وضادّوا الإسلام سواء في المناطق والدول التي دخلت إلى الاتحاد السوفيتي وتقتيل وذبح وحرق وطحن. تعرف طحن؟ أتوا بطواحين يطحنون العلماء فيها، يخرجون جثثهم مطحونة إلى ماء النهر حولهم، والى البحر، عَمِلوا كل ذلك وراحوا إلى عدد من الدول الأخرى ومنها إلى اليمن -جنوب اليمن- وإلى حضرموت، وجاؤوا وخطفوا على أيدي أُناس من عندنا خطفوا وسحلوا وقتلوا، ومنعوا مدارس الإسلام، ومدارس الدّين وتعليم القرآن، حتى وسط البيوت، وتابعوا على ذلك، واستهزأوا بالدين وأعلنوا الكفر في عدد من الدول.
واليوم يُؤذّنُ وسط موسكو -والله أكبر- أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، و أَشْهَدُ أن مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ويُصلّى في مطارِها وفي غيرٍها من الأماكن لله ولرسوله، ما النتيجة لهذه الأعمال والأفكار؟ عملتوا كل هذا بالبشرية وهذا التعدّي والتحدّي كله لمحاربة الإسلام، ثم بعد ذلك تُخذلون، ثم يبقى فيكم مفكّر أن يعاند أيضا؟ ويؤذي أيضا؟ ويجحد أيضا، وإلى متى؟ (وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ..(5))، ماذا عملوا؟
جاءوا إلى بلدنا (حضرموت)، وكان من جملة الأحداث التي تحت نظرهم بأيدي العناصر التي انتمت إليهم، سَحْل جماعة عندنا بالسيارات حتى قُتلوا في الشوارع، وخطْف الوالد -محمد بن سالم بن حفيظ- عليه رحمة الله تبارك وتعالى، إلى غير ذلك. مرَّت سنين وأوردنا إلى بعض بلادهم التي كانوا يطحنون فيها العلماء طحنًا، فقابلتنا المآذن والمساجد ودخلنا إلى المكان، طاحونة العلماء، بجامعة تدرّس حُكم الشريعة الإسلامية وفقه الدّين؛ هذا شيء ممّا أرانا الله إياه ونحن على ظهر الأرض في هذه الحياة القصيرة، (وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ..(5)).
ولا زالت عقليّات هنا وهناك تريد تمحق الإسلام تريد تعمل، عملوا لافتات ووضعوها عندنا في البلاد، لا صوت يعلو فوق صوت الحزب! تخرّبَ الحزب، اسمعوا الصوت؛ الصوت الآن في هذا البلد لمن؟ لهذا القرآن (رفع الحبيب القرآن) ولهذه الطريقة التي مضى عليها الأكارم وقالوا إلى الأبد!!.. ما وقع أبد، كل ساعة طائفة منهم قاتلت طائفة ثانية، و دقدقوا بعضهم البعض، ثم بعد ذلك تخلّت عنهم روسيا، قالت: اذهبوا وحسّنوا علاقاتكم مع جيرانكم وانتهينا؛ أصنام من دون الله تُعبَد، (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:41]. ولكن في الذين سُحِلوا والذين خُطِفوا والذين أُوذوا كانوا متصلِّي الحبلَ بالله؛ اليوم صوتهم مرفوع وأثرهم حيٌّ مُؤيدٌ منصور، والنصر في الآخرة مُقبل؛ (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:51-52].
إن كان في هذه الحقبة وفي قَرننا التفكير بهذه الصورة، وكانت العواقب كذا، فإلى متى تحمل التفكير بالصورة الثانية والثالثة والرابعة؟ الجزاء واحد، والعاقبة واحدة، والمصير واحد، والسنّة لواحد ليس معه خالق غيره، (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) [غافر:85]. قال سبحانه وتعالى: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح:22-23]، أليس هذا الواقع في حياة البشر؟ أو عندكم واقع ثاني؟ أرونا إياه! أرونا إياه! روّونا!! تزمجرون من وقت إلى وقت؛ فرعونيّة وعاديّة وثموديّة ونمروديّة، وبعد ذلك تتكشّف أن هذا غرِق وهذا هَلَك وهذا راح، وسبحان الله.
فيقول جل جلاله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ)، هذا الذي يلعب بهم؛ (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ)، خُطَط، مخابرات، ترتيبات و طلعوا ونزلوا، (وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ)، ينتظرون ويتوّقعون في الواقع الحال المُقبل عليهم، (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ)؟ لمن قبلهم؟ (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا) [فاطر:42-45].
(وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5))، مَنْ فيهِ الإنسانية وحقيقة من الإيمان يصبرْ عند الشداد ويشكُرْ ويعرفْ قدر النعمة من المُنعم، هذا الذي يتذكّر ويستفيد، والذي لا نصيب له من الصبر ولا من الشكر يبغيها عوجا، متغطرس وراء غروره، ووراء زُوره؛ ما ينتفع بالآيات ما ينتفع بالتذكير.
اللهم اجعلنا من المُقبلين عليك والمنخضعين لجلالك والمستقيمين على ما تحبّ والمُتّبعين لخاتم إرسالك عبدك المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه ومن سار في دربهم، وجعلنا الله وإياكم ممّن سار في دربهم وألحَقَنا بهم يوم القيامة، وفرج كروب المسلمين ودفَع البلاءَ عنهم، وأيقظ القلوب من الغفلاتِ والغرور وتصديقِ الزُّور، ورزقهم تصديق الوَحْيِ المُنزَّل وبلاغ النبيّ المرسل ظاهرًا وباطنًا. يا مُحوِّل الأحوال حَوّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، وعافِنا من أحوال أهل الضّلال وفعل الجُهّال، واختم لنا بأكمل حسنى وأنت راضٍ عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
اللهم صلِّ عليه وعلى آله محمد وصحبه وسلم
الفاتحة، آمين
17 جمادى الأول 1443