(228)
(574)
(536)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة إبراهيم، من السورة إلى قوله تعالى:
(الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ (1) ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ مِنۡ عَذَابٖ شَدِيدٍ (2) ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۢ بَعِيدٖ (3))
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية بدار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية
الحمدلله مُكرمنا بشرف التنزيل والإيحاء، ومُخصصنا بخاتم الأنبياء الذي بيَّن لنا به سبيل الهدى، وأنقذنا من كل عمى وزيغ وردى، اللهم صلِّ وسلم دائمًا أبدا على نبيك المصطفى سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن والاه وبهديه اقتدى، وعلى آبائه من الأنبياء والمرسلين سادات السعداء، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،
فإننا في منَّة تدبُّرِنا لكلام ربنا و تنزيله ووحيه وتعليمه وإرشاده على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، إنتهينا إلى سورة سيدنا إبراهيم عليه السلام. هذه السورة التي سماها الله باسم عبده وخليله سيدنا إبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وآلهم وصحبهم ومن تبعهم بإحسان، إثنان وخمسون آية مدنية إلا آيتان منها، نزلت قبل الهجرة: (۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29))؛ هاتان مكيتان وبقية آياتها مدنية.
يقول سبحانه وتعالى: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ، (الٓر ..(1))، في إشارات ورموز بدأ بها عددًا من السور توصل إلى فهم شيء مما ترمز إليه وتدل عليه، قلائل وأفاضل من أرباب العلم والذوق. يقول تعالى: (الٓرۚ كِتَٰبٌ ..(1))، أي هذا كتاب (أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ ..(1))، خصَّصناك بتنزيله وأنزلناه بواسطة الأمين جبريل إليك على قلبك لِتُبشّر ولِتُنذر ولتهدي بأمرنا.
(كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ ..(1))؛ وبذا نتبين عظمة هذا الكتاب وأنه لا يمكن أن يقرُب منه كتاب من هيئة ولا من جماعة ولا من دولة ولا من صغار ولا من كبار، ولو أن لدينا كُتبًا من الملائكة يكتبونها لكان هذا الكتاب فوقها وأعظم مِنها، فكيف بِكُتُبِ آل الشرق وآل الغرب من الأولين والآخرين، ماذا تساوي؟ وما قيمتها عند كتابٍ الله أنزله؟ الله أنزله -جل جلاله وتعالى في عُلاه-، العليم المحيط بكل شيء، خالق كل شيء؛ أنزله، فما قيمة الكتب إذًا؟ الله أكبر، ما أعظم القرآن، اللهم اجعلنا من أهله وألحقنا بخاصة أهله بمحض فضلك يا أكرم الأكرمين.
(كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ ..(1))، ومع ذلك فيُتحدى آل الشرق والغرب أن يأتوا بمثله في بلاغته، في عظمة معانيه، في ترتيبه، في أنبائه، في دلالاته، فما يقدرون! لا قدروا! ولا يقدرون!
(الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ ..(1))، فأنت المختار المنتخَب من قِبلنا لهداية عبادنا ولنشر الخير فيهم ولهدايتهم ولختم النبيين والمرسلين. (الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ ..(1))، وله مهمة عظيمة تقوم بها في تنزيله إليك؛ (لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ)، لتخرج النّاس، النّاس النّاس بكل أجناسهم؛
(أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ ..(1))، ظلمات الفِكر والتصور، ظلمات الاعتقاد، ظلمات المعاملة، ظلمات الأقوال، ظلمات الأفعال، ظلمات التخاطب، كل الظلمات؛ لا طريق لخروجهم منها إلا بنور ربهم جلَّ جلاله. (لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ ..(1))، أي تتم على يدك الهداية بإذن الذي يستقل بأمره، والذي أوحى إليك، والذي أرسلك، والذي مكنّك، والذي يهدي على يديك من يشاء، يعني إخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ كما نسبهُ الرحمن في آيات إليه فهو ينسبه هنا إلى نبيه وعبده ﷺ قال: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة:257]؛ هنا يقول: (لِتُخۡرِجَ)؛ أي محمد، (لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ). فلما كان المؤتمَن الأعظم والسبب الأقوى لإخراج الناس من الظلمات إلى النور محمد خاطبه الله بهذا الخطاب: (لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ)، الذي يهدي من يشاء.
(لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ)، فالذين لم يستجيبوا لداع الله ولا لدعوة الله ولا لتنزيل الله هم في الظلمات؛ ظلمات الفكر والتصور، وظلمات العمل والسلوك، وظلمات المعاملات. وما يعجُّ به الكون والأرض في زمانكم من هذه الظلمات من بُعدِهم عن كتاب الله جلّ جلاله، وإعراضهم عن تنزيله على خاتم رسله ﷺ، فهل يريدون من الخلق أن يُؤلِّهوا فكرة مفكر منهم؟ أم اختراع مخترع منهم؟ أم نظرية نظِّير منهم؟ كيف؟ كيف؟ الإله الذي خلق أنزل الكتاب، فكيف يهتدِي الناس بغيره؟ كيف يخرج الناس من الظلمات إلى النور؟ والذي خلقهم رتب إخراجهم من الظلمات إلى النور بالكتاب المنْزل والنبي .
(الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ..(1))، طريق ومسلك ومنهج (ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ (1)) -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، الذي لا يوجد له نظير، فهذه العزة؛
ومن رفْعتِهم وعزتهم وتميزهم أن يقال لجميع هؤلاء الذين كذبوهم وخالفوهم من الكفار؛ إذا نفخ في الصورة النفخة الثانية وقاموا بعد تلك الرَقْدَة وهي ما بين النفختين ما بين النفخة الأولى والثانية؛ صعقة سموها رَقْدَة. فإذا نفخ في الصورة بالنفخة الثانية وقفوا بين يدي الحق: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) [يس:52]؛ فتقول لهم الملائكة: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]؛ هذه العزة (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) فأين السياسيون؟ وأين المفكرون؟ وأين المخترعون؟ لا أحد منهم صدق!!. (صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، الأنبياء جاءوكم بالصدق والحق والهدى؛ (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
(إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ..(1))، والعزيز الذي تشتد الحاجة إليه؛
وهذا الصراط الذي يُبلِّغه الأنبياء وخاتمهم عن الله: (صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ..(1)). و(صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ..(1))، الذي لا يذل من والاه، من مسك بصراطه؛ فلن يُذل .. ولن يُخذل .. ولن يُهان؛ ولابد أن يُنصر؛ لأن الصراط صراط عزيز بعزة لا توجد في الأحزاب، ولا توجد في الهيئات، ولا توجد في الحكومات والدول، كلهم خلق. ومع كونهم خلق، العزة النسبية في الخلق بعيدة عنهم وذلّوا لأهوائهم ولشهواتهم وتخالفوا فيما بينهم وناقض بعضهم بعضا، لكن هذا الصراط صراط عزيز لا نظير له، الكل يحتاج إليه في كل شيء، ولا يحتاج إلى أحد ولا يمكن الوصول إليه إلا بصدق وإخلاص وجدٍّ واجتهاد ومجاهدة، جل جلاله.
(صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ..(1))، وصراط العزيز من قام بحقه عزَّ، وقد علَّمنا ﷺ في الدعاء في خطاب ربنا نقول: "وإنَّهُ لا يذلُّ من واليتَ، ولا يعزُّ من عاديتَ"؛ لا ينال حقيقة الذل أحدا واليتهُ، وإنما يوالي الله من والاه، وإنما يوالي الله من قام بمنهجه ومشى على صراطه ووالى أنبياءه ورسله وملائكته والمؤمنين؛ (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة:55]؛
(إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ (1))، الحميد، الذي له الحمد المحمود بكل المعاني فهو المتفضل بكل نعمة (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه) [النحل:53] جل جلاله وتعالى. "اللَّهُم مَا أَمسى بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ" على ذلك. من الذي جعل لنا السّمع والأبصار؟ من الذي كونّنا من النُطَف؟ من الذي يسَّر لنا السبيل؟ من الذي أنعم علينا بهذه النعم مستقلًا؟ جل جلاله -وتعالى في علاه-.
حميد: حمد نفسه سبحانه وتعالى. ووفق بالفضل من أحب من عباده؛ لأن يعرفوا منّته وفضله وعظمته؛ فيحمدوه ويشكروه ويثنوا عليه بما يستطيعون من ملائكة وإنس وجن. وهو محمود بألسنة الحيوانات والنباتات والجمادات؛ لأنه خالقها وبارئها مُعظمًا تسبح بحمده، فهو الحميد ومن كان كذلك؛
فالصراط؛ من آخر يوصِل إلى هذا الخير؟ وأي حميد آخر يأتينا بصراط، هو الحميد الحق جلّ جلاله؟ وإنما الحمد النسبي في الخلق على قدر ما يُحمدُ من أقوالهم وأفعالهم وأفكارهم وأخلاقهم، على قدر ما يُحمدُ من ذلك؛ هم محمودون بذلك؛ وتلك نِسب ونِسب ونسب حتى نأتي إلى أحمدهم فإذا هو محمَّدهم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-؛ وهذه القمة في المحمودية في العالم الخلقي الذي يحق أن يحمدوا، وحُمد جميع أقواله وجميع أفعاله وجميع خصاله في الأرض وفي السماء -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، نعم الحميد.
ولكن الحميد بكل المعاني من كل الوجوه واحد؛ هو الله وهذا (صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ (1))؛ فنتركه لأجل صراط من؟ لأجل سبيل من؟ لأجل فكر من؟ لأجل إملاء من؟ لأجل وحي من؟ نترك صراط العزيز الحميد جلّ جلاله وتعالى فعله، من هو العزيز الحميد؟ الله، (ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ (1))؛ الله. في قراءة أكثر القراء بدل من (الله) العزيز الحميد (الله) وفي قراءة أخرى (الله) على أنه خبر لمبتدأ هو الله أو هو مبتدأ والخبر، . وفي قراءة أخرى (الله) على أنه خبر لمبتدأ، هو الله أو هو مبتدأ والخبر: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [البروج:9]. الله الذي له ملكًا وخلقًا وإيجادًا له ما في السماوات وما في الأرض؛ فمن غيره بهذه الصفات؟ فنترك منهجه ووحيه وصراطه، من أجل صراط من؟ ووحي من؟ يريدون أن نتبعهم في فكر أو مسلك نُخالف منهج ربنا، ماذا عندهم؟ وماذا وصْفهم؟ من منهم عزيز؟! من منهم حميد؟! من منهم له ما في السماوات وما في الأرض؟! خلقًا وإيجادًا ومُلكًا ومِلكًا وتصرفًا؛ من منهم له هذا الوصف؟ هذا وصف الله وحده فيريدوننا نترك منهج ربنا لمناهجهم! نترك سبيل ربنا لسُبُلِهم! نترك صراط ربنا لأنظمة من عندهم تأتي! من هم؟ (صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ (1) ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ ..(2)) خلقًا.
(قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [الأحقاف:4]؟ نريد أن نعرف العلم الحديث والتكنولوجيا خلقت أي بُقعة من بِقاع الأرض؟ أوجدتها لنا؟ قولوا لنا نبئونا؛ أي مدينة؟ أي قرية؟ أي قارة؟ أي بحر؟ أي بر؟ أوجدوه هم؟ من منهم أوجد شيئا من الأرض؟ أي جبل خلقوه؟ أي حيوان خلقوه؟ أي حشرة خلقوها؟ (لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج:73]! نترك منهج الله، من أجل من؟ من هم هؤلاء؟ وماذا يساوون؟ (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [البروج:9]؛ هو أحق أن يُتّبع وأن يؤخذ صراطه وأن يؤخذ منهجه وأن يحكم به. فيارب ثبتّنا على الحق والهدى، يا من أنعمت علينا بالقرآن ومن أنزلته عليه، ثبت أقدامنا على الاستقامة على صراطك واتباع سبيل نبيك ظاهرًا وباطنًا، ولا تَخذُلنا ولا تَفتِنا ولا تُهنّا بأتّباع غيرك ومخالفة أمرك يا الله .
إذا كان الأمر كذلك؛ فاسمع: (وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2))، ما بقي لهؤلاء الكافرين الذين رفضوا منهج إلههم الذي خلقهم وكذَّبوا رسله وعاندوا وجحدوا وأرادوا أن يشاركوا الإله في التشريع ولم يشاركوه في الخلق والإيجاد ليس لهم خلق السماوات ولا خلق الأرض، (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ۖ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الأحقاف:4]؛ لا أحد منهم، لا أولهم ولا آخرهم خلق شِبر من الأرض ولا شِبر من كوكب من الكواكب، لا أحد منهم خلق شيء هم مثل الكواكب مخلوقون، الخالق الله - تعالى في علاه جلّ جلاله سبحانه.
يُبين لنا هذه الحقائق ويقول: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا) [فاطر:40]، هل أنزلنا عليهم وحي مقابل هذا الوحي الذي أنزلناه عليه؟.هل أنزلنا على أحد منهم وحي مقابله؟ (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَتٍ مِّنْهُ) أبدًا؛ وراء أهواء، وراء شهوات، وراء فكر خلقي بشري محصور؛ لا عندهم كتاب من عندنا، ولا خلقوا شيء من أرضنا، ولا سمائنا: (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَتٍ مِّنْهُ ۚ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا) [فاطر:40].
قل لهم أنتم الآن على ظهر الأرض تتحركون هذه الحركة، وتتفكرون هذا الفكر المنحرف الضال وتعادون أنبياء الله ورسله من الذي يمسك السماء من فوقكم! قل لهم: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) [فاطر:41]، أي قوة عندكم تمنع، إذا زالت سماء أو أرض أن تمسكها وتمنعها من الزوال؛ من؟ بأي قوة؟ أي قوة؟ هذه القوة التي معه! قليل زلزلة من الأرض غاصت فيها وانتهت، من دون زلزلة من الأرض؛ صاعقة تجيء وتروح، من دون صاعقة ولا زلزلة، عِرِق يضرب في رأس الذي يستخدمها؛ القوة لواحد اسمه الله .. الله هو القوي (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [البقرة:165] جل جلاله وتعالى في علاه.
ويقول لنا سبحانه وتعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [الأحقاف:4]؟ أرونا، قولوا لنا هاتوا خبر العلم الحديث خلق ماذا من الأرض؟ قل لي بالله عليك: خلق ماذا من الأرض؟ أي شبر .. أي ذراع .. أي بلد، هو الذي خلقها، (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) [الأحقاف:4]؟ في الأولى ولا في الثانية ولا في الثالثة معهم شِرك بيدهم شيء معهم شيء، (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ۖ ائْتُونِي بِكِتَابٍ قَبْلِ هَٰذَا) [الأحقاف:4]، هاتوا خبر أنبياء قد مضوا من عهد آدم إلى أن جئت، هل في شيء خبر؟ أنه أحد منهم ملك في السماء، هل معهم بينّة؟ (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الأحقاف:4]، آثار؛ قليل من العلم، العلم الصحيح. ما في غير الله خلق ولا غير الله أوجد ولا أنشأ ولا كوّن فلا يحق أن يُعبد إلا هو(إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) [الأحقاف:4-5].
يقول جل جلاله: (ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ مِنۡ عَذَابٖ شَدِيدٍ (2))، أنتم بأهوائكم تؤذون بعضكم البعض، وتعذّبون بعضكم عذاب تسمونه شديد، ما مقدار شدة عذابكم إلى مقدارِ ونسبةِ شدة عذاب الذي خلقكم وخلق ما تعملون؟ وهو على كل شيء قدير. اللهم أجرنا من عذابك، اللهم أجرنا من عذابك، اللهم أجرنا من عذابك في الدنيا والآخرة.
(وَوَيۡلٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ مِنۡ عَذَابٖ شَدِيدٍ (2))، من هم هؤلاء؟ ما وصفهم الذي استحقوا به الويل؟ -كلمة التهديد، إسم وادٍ في جهنم - ويل- ومن هم؟ (ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ ..(3))، أنظروا وصْفهم الدقيق، هذا هو وصْفهم يُكذبون بالآخرة .. يُكذِّبون بلقاء الله. و(يَسۡتَحِبُّونَ) يؤثرون الحياة الدنيا، يقدمون الحياة الدنيا، يُعظمون الحياة الدنيا، يطمعون في الحياة الدنيا، يرغبون في الحياة الدنيا؛ كلهم للحياة الدنيا، كل فكرهم للحياة الدنيا.
(ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ ..(3))، وفوق هذا الضلال وإيثار الفاني الحقير الزائل على الباقي العظيم الدائم أيضًا (يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ..(3))، يُدعون غيرهم إلى الكفر بالله، يُدعون غيرهم إلى مخالفة الرسل. (وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًا ..(3))، يفكّرون أن ينسبوا أي عِوَج للطريق والصراط المستقيم، ومهما تقوَّلوا ومهما قالوا؛ إنما هي دعاوي باطلة لا أساس لها من الواقع ولا من الحقيقة ولا من المنطق ولا من البرهان ولا من الحجة. (يَبۡغُونَهَا عِوَجًا)، المستقيم يريدونه أعوج ويريدون الناس يعْوجُّوا عن الصراط. و(يَبۡغُونَهَا عِوَجًا)، يردونها عوجا، هم يريدون هكذا، يريدون فساد، يريدون فتن، يريدون إضرار بالناس.
(وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۢ بَعِيدٖ (3))، يغترُّون بما يملي لهم الحق ويمهل وهو لا يهمل ولا يغفل؛ (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ (42)). يغترون بذلك ويضعون الخطط للإيذاء .. للإضرار .. لإثارة الحروب بين الناس .. لنهب ثروات الناس .. لهدم البُنى التحتية .. إلى غير ذلك من مفاسد على ظهر الأرض، (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة:205]، والعياذ بالله تعالى. (أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۢ بَعِيدٖ (3))، ويرون مع ذلك أنهم يمضون في خططهم ثم لايصِلون إلى غاية من إخماد نور الحق في رسوله وما جاء به من أيامه -عليه الصلاة والسلام-، وعقول على ظهر الأرض تفكر أن تطمُس نوره أن تبعد الناس عنه؛
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ) [الصف:8]. -طيب- المحاولة هذه؛ لها ألف وأربعمائة سنة لماذا مازلتم تستمرون؟ في ضلال بعيد (أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۢ بَعِيدٖ) عميق ما تنفع معهم النذرُ، ما تنفعهم الآيات، ما تنفعهم التجارب؛ غي وراء ما هم فيه، نحن ونحن و(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]، (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:29]، عنجهية وطغيان، هم يعيشون فيه ويقولون نحن المتحضرون ونحن المتقدمون، ما عرفتم من خلقكم، ولا لماذا خلقكم، فما أجهلكم! ما أجهلكم! أصل خلقتكم ما عرفتم من خلقكم؟ ولا لماذا خلقكم؟ فأين العلم عندكم؟ تعمل صناعات ولا تعرف من الذي خلقك؟! ولا لماذا خلقك وتموت ثم تذهب إلى النار، هل هذا ينفعك؟ هل هذا علِم ؟! (يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [ابراهيم:3]؛ لا يريدون إلا هي.
قال سبحانه وتعالى: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [النجم:29]؛ فقال الله يبين حقيقة حقارتهم: (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ)؛ لا علموا الآخرة، ولا علموا السماء، ولا علموا سر التنزيل، ولا عرفوا مقدار الإنباء والإرسال ولا استعدوا للدار الآخرة. (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ) -حقير قصير زائل- (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ) [النجم:30]، (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28]، ضائعًا مُهملًا. (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)؛ لا يؤمنون بالرجوع إلينا؛ ونحن الذين خلقناهم من لا شيء ثم من تراب وطين، ثم من سلالة من نطفة من ماء مهين، (لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا)، المتكاثرة أمام عيونهم؛ (غَافِلُونَ) [يونس:7]، (أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس:8]، في ضلال بعيد ولهم عذاب شديد. اللهم أجرنا، واحفظ ذرارينا واحفظ رجالنا ونساءنا و صغارنا وكبارنا، ومن شاء الله هداه.
ونحن نرى هدايات في مختلف الأزمنه من عهده ﷺ، وإن ضل من ضل من المسلمين، فلم يخلُ زمن من إسلام كفار وهداية عصاه بإذن ربهم، وسنبذل وسعنا وجهدنا في أن نُقِيم أمر ربنا ونخدم شريعته ودينه وهديه وما بعث به نبيه وهذا الكتاب، وسيهدي من يشاء بإذنه سبحانه وتعالى، وسيُدخل من يشاء في الإسلام، وهو يتولى الأمر من قبل ومن بعد جلّ جلاله. نحب أن نفي بعهده ونلقاه على حال جميل، وهذا خير الحياة الدنيا وأعلى ما فيها وأحسن ما فيها؛ أن تعيش موفيًا بعهده ظافرًا بمحبته ووده وتلقاه وهو راضٍ عنك، لا شيء في الدنيا أكبر من هذا، ولا أغلى ولا أتحف ولا أشرف ولا أجمل ولا ألذ ولا أحلى ولا أكمل ولا أنعم ولا أعظم من كل ما في الدنيا، من دون استثناء، لا شيء مثل أن تعيش على صراطه موفيًا بعهده متقربًا إليه وتموت وهو راضٍ عنك.
لا يمكن أن تكسب شيء في الدنيا أكبر من هذا ولا أغلى ولا أدوم ولا أبقى ولا أنقى ولا أنفع ولا أرفع ولا أوسع ولا أجمع ولا أحسن ولا أبين ولا أزين؛ من أن تعيش على حال مرضية موفيًا بعهده ظافرًا بوده وتموت على محبته تحب لقاءه وهو يحب لقاءك، لا شيء أكبر من هذا. أكرمنا اللهم بذلك وانشر الهداية لنا وعلى أيدينا في الإنس والجن في المشارق والمغارب ولو كره الكافرون ولو كره المشركون، يا من يقول للشيء كُنْ فَيَكُون. اجعلنا في قوم يهدون بالحق وبه يعدلون يا أرحم الراحمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
(الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ (1) ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ مِنۡ عَذَابٖ شَدِيدٍ (2) ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۢ بَعِيدٖ (3))
نفعنا الله بالقرآن وبما فيه من البيان و رقّانا أعلى مراتب الإسلام والإيمان والإحسان، وزجّ بنا في بحار العرفان و رقّانا إلى أعلى رُتب الرضوان، و وفّر حظنا من القرب والرضوان والمعرفة والمحبة إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
اللهم صلِّ عليه وعلى آله محمد وصحبه وسلم
الفاتحة
12 جمادى الأول 1443