تفسير سورة محمد -7- من قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ.}، الآية: 20 إلى 25

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثاني من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة محمد، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:

{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةٞۖ فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ مُّحۡكَمَةٞ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ نَظَرَ ٱلۡمَغۡشِيِّ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ (20) طَاعَةٞ وَقَوۡلٞ مَّعۡرُوفٞۚ فَإِذَا عَزَمَ ٱلۡأَمۡرُ فَلَوۡ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ (21) فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ (22) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمۡ وَأَعۡمَىٰٓ أَبۡصَٰرَهُمۡ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ (24) إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ (25) }

الثلاثاء 2 رمضان 1445هـ 

نص الدرس مكتوب:

الحمدلله الذي أكرمنا بتنزيل القرآن على عبده المصطفى سيد الأكوان محمد بن عبدالله صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه في كل وقتٍ وآن، وعلى آله الطيبين، وأهل بيته المطهّرين عن الأدران، وعلى صحابته الغرّ الميامين ومن والاهم واتّبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الصدق والإيقان وسادات أهل العرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 أما بعدُ،،،

  فإننا في نعمة تأمُّلنا لكلام ربنا -جلّ جلاله وتعالى في علاه- انتهينا إلى قوله سبحانه: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19))، وأشرنا إلى أن علم لا إله إلا الله أوسع العلوم، وهو رأس و باب ومفتاحُ وبذرةُ العلوم النافعات كلها وأنه يترتَّبُ عليه علومُ الإسلام والإيمان والإحسان، والمعرفة الخاصة والمحبة الخالصة، وما لا نهاية له من تلكم المعارف والأذواق والدلائل والعوارف واللطائف. 

وقال الله لحبيبه سيد أهل المعرفة به: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ… )؛ وعلمنا أن الاستغفار هو طلب الغفران..

  • والغفران أعظمه وأجلّه ما كان حائلاً وحاجزًا وساترًا بينك وبين الذنب؛ فلا تقع فيه ولا تقرب منه.
  • ثم بعد ذلك درجات الغفران فيمن وقع في ذنبٍ أو خطيئة، من سترها وعدم فضيحته بها، ومن عفو الله عنه فيها، وتجاوزه عن أن يعذبه أو أن يعاقبه عليها.
  • وما يتبع ذلك في الغفران من تحويل السيئة إلى حسنة، إلى غير ذلك من الغفران الربّاني لعباده الذين سبقت لهم منه الحسنى. 

(..وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ..) 

  • فلذاته الشريفة يطلب دوام ما آتاه من العصمة وهو سيد المعصومين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
  • ثم كثيرًا ما يُستعمل في لغة العرب نسبة عمل وحال أو وصف قرابة الرجل إليه، ومن ذلك ما جاء في التفسير من قوله: (…لِذَنبِكَ…)  أي: آلك والأقرب إليك من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
  •  ثم عمَّم بقية المؤمنين بطلب الغفران لهم، وقال: (…وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ…). وسمعنا قول سيدنا أبوبكر الصديق: إن الشيطان قال أهلكتُ بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلاّ الله والاستغفار. فأكثروا من لا إله إلا الله والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات.

 قال تعالى: (…وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19))،  وذكرنا في تفسيرها المتقلَّب:

  •  الذي كان في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ثم المجيء إلى الدنيا.
  •  وذكرنا وسط الدنيا تقلّب الإنسان في أعماله وأحواله وحركته، ثم مثواه إلى فراشه وإلى مضجعه ومحل نومه.
  •  ثم ذكرنا تقلّب الإنسان في هذه الحياة الدنيا بأنواع ما يسعى ويعمل ويكتسب وينوي ثم مثواه إلى البرزخ والقبر، إمّا روضة من رياض الجنة وإمّا حفرة من حُفر النار.
  • وذكرنا أيضًا متقلّب الإنسان في أهوال يوم القيامة ومواقفها وما يجري فيها، ثم المثوى الأخير الأكبر الدائم الجنة أبدًا أو النار أبدًا، (…وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19))،  اللهم اجعل مثوانا فردوسك الأعلى.

 قال تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ …(20)) فقلوب المؤمنين تتشوّف لزيادة الآيات وتتولّع بالقرآن، وتفرح به، وتطمئن إليه، وتحب كثرة التلاوة، وتشتاق إلى التنزيل من حضرة الملك الجليل لسِرَ الصلة بينهم وبين هذا الإله؛ وليزدادوا بذلك إيمانًا وقربًا منه تعالى في علاه، ومعرفةً بأسرار تكوينه؛ فهم يحبّون نزول الآيات، ونزول القرآن، كما يحبّون تلاوتها وتأمّلها وتدبّرها كما ينتظمون في العمل  بمقتضاها والتطبيق لها. هذا وصف المؤمنين غير المنافقين الذين يشقّ عليهم نزول القرآن، وخصوصًا إذا فيه ذكر الجهاد في سبيل الله، فأشقّ ما يكون عليهم ذكر الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار، فإنهم إنما يظهرون الإيمان لأجل رغباتٍ في شيءٍ من مصالح الدنيا، لأجل رغباتٍ في شيءٍ من مطامعهم والمحافظة على أموالهم وأنفسهم فلا تقوى نفوسهم على بذلٍ ولا تضحيةٍ ولا قتال، لكن المؤمنين عكس ذلك. 

قال تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ …(20)) هلّا أُنزلت سورة! فعندهم تشوّف ومحبة لنزول السور، ولذكر الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لأنهم آمنوا بالله ورسوله، وباعوا للرحمن إلهِهِم أنفسهم وأموالهم فهم يحبّون حُسن صرفها فيما يرضيه عنهم استعدادًا للقائه جلّ جلاله. 

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ…(20))، ومن هذا نتبيّن واجبنا مع القرآن وعلى قدر إيماننا كيف نحب القرآن؟ وتلاوته عمومًا وفي رمضان خصوصًا، وما نصيبنا من التدبّر؟ وما فرحنا بالتلاوة لهذه الآيات؟ وإذا قد مرّ علينا اليوم الأول، والليلة الأولى، والليلة الثانية، وجئنا إلى اليوم الثاني من أيام رمضان، فكم قد تلونا من هذا الكتاب، وكم قد تدبّرنا، وكم تأمّلنا، وكم رتبنا على أنفسنا فيما بقي من الأيام والليال؟ 

  • فشأن المؤمنين مع القرآن يزيدهم إيمان.
  • شأن المؤمنين مع القرآن يطهّرهم عن الأدران.
  • شأن المؤمنين مع القرآن قوّة صلةٍ بمنزله الرحمن جلّ جلاله.

وفّر الله حظّنا من القرآن، وسرّ القرآن، والصِّلة بالقرآن، وجعل القرآن أمامنا يسوقنا إلى جنة الأعالي والرضوان، اللهم آمين.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ…(20))، فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ؛ أي: فيها الكلام الواضح البيّن الذي لا يحتاج إلى التأويل، والذي لا يُنسخ بتنزيلٍ آخر.

(...فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ مُّحۡكَمَةٞ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلۡقِتَالُ…) للمصادّين والمعاندين والخاذلين لدين الله تبارك وتعالى، ممّن يصدّ عن سبيل الله، (…وَذُكِرَ فِيهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ…) ومرض النفاق -والعياذ بالله تعالى- أشدّ الأمراض؛ مرض النفاق (…رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ…) نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ؛ من نَزَلت به السكرات ففتّح عينيه الى مسار روحه، قال فتراهم عند نزول هذه الايآت ينظرون إليك وأنت تتلو هذه الآيات بهذه الصورة من القلق و الحزن الذي في قلوبهم، والخوف من أن يُدعَوا إلى الجهاد في سبيل الله، فقال: (…رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ…) كمثل من نزلت به السكرات فاتح عيونه إلى مصعد روحه وهكذا ينظرون إليك عند تلاوتك لهذه الآيات. 

(…يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ (20)) وفي أولىٰ لهم معنيان:

  • المعنى الأول: أنه هلاكٌ لهم ودمار، أولى لهم؛ وليَهم ونازَلَهم ما يكرهون من الشدائد؛ فهي عتابٌ وعقابٌ وتوبيخٌ لهم (..فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ( 20))، كما قال في الآية الأخرى: (أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة:34-36]، وكذلك ينطوي في هذا المعنى يقول كما ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت من حالتهم هذه النفاقية المرضية القلبية الموت أولى لهم؛ يعني: من كانت حياته في هذا المرض وهذا الوصف، الموت خير لهم من الحياة! الموت أحسن لهم من الحياة! (..فَأَوْلَىٰ لَهُمْ) يعني: فالموت أولى لهم، وخير لهم أن يموتوا ولا يتمادوا في غيّهم وطغيانهم وكراهتهم للتنزيل والقرآن والنبي ﷺ وللجهاد في سبيل الله، قال تعالى: (..فَأَوْلَىٰ لَهُمْ).
  • والمعنى الثاني: (..فَأَوْلَىٰ لَهُمْ (20))؛ أنه مبتدأ لقوله: (طَاعَةٞ وَقَوۡلٞ …(21))؛ يعني: الأجدر والأحسن بهم والأفضل لهم: (طَاعَةٞ وَقَوۡلٞ مَّعۡرُوفٞ...)؛ طاعةٌ: انقياد واتباعٌ لك وقولٌ حسن لك يا نبيّنا، كما يتكلم معك السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وأرباب اليقين والإيمان بالقول المعروف والحسن، كان أولى لهم أن يكونوا بهذه المثابة وبهذه الصورة، ولكن الله -تبارك وتعالى- جعل الخلق فِرَق، وجعلهم طوائف، وجعلهم على درجات؛ هذا يرتقي ويعتلي ويتنوّر ويتطهر، وهذا يسفل ويسقط ويظلم ويتكدّر ويبعد -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، على هذه الأحوال خلق الله الخلق، فيا رب اجعل مرادك فينا خيرًا، ويا محوّل الأحوال  حَوِّلْ حَالَنَا إِلَى أَحْسَنْ حَالٍ. فجعل هؤلاء كذا وهؤلاء كذا.

قال تعالى: (...فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ (20) طَاعَةٞ وَقَوۡلٞ مَّعۡرُوفٞ…(21)) وعلى التفسير الأول أيضًا أنه معنى قوله: (طَاعَةٞ وَقَوۡلٞ مَّعۡرُوفٞ…) أي: يتكلمون قبل نزول الآيات وقبل القتال وقبل فرض الجهاد بأنهم مطيعين وأنهم يجيئون بكلامٍ ليّن وهم يُبطنون في قلوبهم غير ذلك. 

(طَاعَةٞ وَقَوۡلٞ مَّعۡرُوفٞۚ فَإِذَا عَزَمَ ٱلۡأَمۡرُ…(21)) جاء الأمر بالجهاد وجاءت العزيمة، ذهَبَ عنهم ما كانوا ينافقون به، (..فَإِذَا عَزَمَ ٱلۡأَمۡرُ…) وجاء الجدُّ، وجاء وقت الجهاد (..فَلَوۡ صَدَقُواْ ٱللَّهَ..) في القيام بالنصرة واتّباع النبي ومؤازرته ومناصرته (..لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ (21)) فإذا عزم الأمر وجدَّ الجِدُّ وحضر وقت الجهاد (..فَلَوۡ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ). ولكن قد يقولون بأفواههم قول معروف، ويقولون طاعة، (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ۖ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ..) [النساء:81]. فهكذا شأن هؤلاء؛ ذمَّ الله المنافقين، وشنّع عليهم؛ فويلٌ لأهل النفاق، ثم ويلٌ ثم ويل! وإنّ الله يطهّر كثيرًا من عباده من النفاق وبقية العلل والأمراض في مثل مواسم الخير وأشهر الخير بأعمال الخير والطاعات، طهِّر اللهمّ قلوبنا ونقِّها وأحيِّها بالمعرفة واليقين أبدا.

 يقول: (..فَإِذَا عَزَمَ ٱلۡأَمۡرُ فَلَوۡ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ (21))، قال الله في يوم الحكم الذي يحكم فيه بين الأولين والآخرين: (قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ..) [المائدة:119]، وقد وصف بهذا الوصف ساداتنا المهاجرين الأولين فقال: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر:8]، ويقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات:15]، "وَلَا يَزَالِ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا"؛ 

  • فاطلب الصدق وتحرّى الصدق بصومك. 
  • اطلب الصدق.. تحرّى الصدق بقيامك، بتلاوتك للقرآن.
  • بصدقتك، بأعمال البر، بالخلق الحَسَن، اطلب الصدق. 
  • اطلب الصدق وتحرَّى الصدق، حتى تُفتح لك أبواب الصديقية. 

من تمسّك بحبل الصدق سموه صِدّيق: "وَلَا يَزَالِ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ.." -في أقواله وأفعاله وأحواله ووجهاته ونيّاته- "حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا"، "وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ.." -والعياذ بالله تعالى- يغشّ وينافق ويخادع ويُظهر ما لا يُبطن، ويُبطن ما لا يُظهر، "..حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا" ملعونًا في الكذّابين الملعونين، (..ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [آل عمران:61] والعياذ بالله تبارك وتعالى. ارزقنا الصدق يا ربّ معك في جميع الأحوال.

قال تعالى: ( ..فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ (21)) -يذكرهم الحق جل جلاله- (فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ (22)) ما عساكم أن تعملوا؟ لعلّكم إن توليتم عمّا يدعوكم إليه نبينا محمد وما نُنزله عليه إن تولّيتم؛ ما الذي يحصل منكم؟ كما كنتم في حالتكم تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم! ألم يكن هذا وصفكم؟ وكل من تولّى عن أمر الله ومنهج الله ما الذي يحصل منه على ظهر الأرض؟ يحصل فساد وقطيعة رحم؛ هذا الذي تدور عليه دائرة المنقطعين عن الله كائنًا من كان، من المخالفين لشرع الله تبارك وتعالى؛ يفسدون في الأرض ويقطعون الأرحام، (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة:205-206]. 

(فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ..) أعرضتم وأدبرتم عن وحينا وتنزيلنا وما بعثنا به نبينا (...أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ (22))، وقد جعل الله تبارك وتعالى للرحم مكانة، وجعل لهذه الأنساب بين الناس منزلة، واشتقّ لها اسمًا من اسمه؛ هو الرحمن وهذه الرّحِم، يقول: "من وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته". وإن الله لما خلق الرحم قامت على العرش، تقول: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الرحمن: أما ترضين أن أصِل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فإن لك ذلك. من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله -جل جلاله- فويلٌ لمقطّعي الأرحام! 

وهكذا تجد أكثر دعوات الشر والكفر والضلال تقوم على هذا الأساس عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام، ويقول في سبيل الحزب الذي تدخل فيه لا تبالي، ويصِل بهم الحد إلى أن يقول: لو قلنا لك تأتي برأس أبيك تأتي به تقتله وإلا ما تكون حزبي! يقولون هكذا ويعملون… فيقومون على الفساد وتقطيع الأرحام. كالشاذّين أيضًا من المنتمين إلى الإسلام يقولون اعمل برأينا هذا ومذهبنا ولو غضب أبوك وأمك، ولو أدّى ذلك إلى أن تدابرهم أو أن تقطعهم أو تعمل ما تعمل والعياذ بالله تعالى! فهذه صفة المنقطعين عن الله، والمضادّين لشرع الله، يقطّعون الأرحام ويفسدون في الأرض.

 لكن الأنبياء والمرسلين، يقول: (وَإِن جَاهَدَاكَ..) يعني: الوالدان (..عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا..) في الشرك والكفر لكن (..وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا..) [لقمان:15] وصاحبهما في الدنيا معروفا. يقول: (..وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ…) [الأنفال:75]؛ فكلّ واحد منّا عليه واجب تجاه الأمة، وتجاه ذوي رحمه وقرابته، حتى سيدنا حامل الرسالة في بلاغه لرسالته التي هي للعالمين، يقول له: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214] و(..لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا..) [الشورى:7]. 

فعلينا واجبات أمام الأرحام والقرابات في الإحسان، في المواساة، في السؤال عنهم، في أخلاقنا يكون أحسن أخلاقنا مصروفة لهم، في حسن معاملاتنا، في التفقد في السؤال وما إلى ذلك، نكون على أداءٍ لحقّ الرحم، قال ﷺ: "غير أن لكم رَحِماً سَأبُلُّها بِبلالها" ﷺ.

يقول: (أُوْلَٰٓئِكَ) -الذين أعرضوا عنك وتولّوا- (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمۡ وَأَعۡمَىٰٓ أَبۡصَٰرَهُمۡ (23))، وكذلك في معنى: (..إِن تَوَلَّيۡتُمۡ..): أي: تولّيتم الأمر، وصار الأمر إليكم ماذا تعملون؟ فهذا المنقطع عن الله إن ترأس أو تولى ما يحصل منه على ظهر الأرض إلا هذا الفساد، وإلا القطيعة، وإلا أن تكون نهاية ثقافته الحروب وبعثها، وإثارة الفتنة بين الناس وضرب بعضهم ببعض، وما إلى ذلك. وهكذا تنتهي شؤونهم إلى أنواع الفساد على ظهر الأرض، (..وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ..) [البقرة:22].

 (فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ (22)) وكلما تولى المؤمن على نفسه، على أسرته، على مالٍ، على بقعةٍ من البقاع، على هيئةٍ، على مؤسسةٍ، على إدارةٍ؛ يُحسن فيها ويتقّي الله، ويواصل الأرحام، ويعدل ويتقن ويبعد عن الغش، وكلما تولّى الأمر أحدٌ من أهل النفاق وأهل الشرك؛ غشّ وخدعَ، وكذب، ولعب بمهمته ومسؤوليته، إلى غير ذلك، فهذه الفوارق بين الأخيار والأشرار، بين الصالحين والفاسدين، بين الأتقياء والأشقياء، هذه فوارق في الصفات، فوارق في الأخلاق، فوارق في المعاملات بينهم. 

يقول: أولئك الذين يقطّعون الأرحام، ويخالفون خير الأنام، ويكذبون بإلههِم ذي الجلال والإكرام؛ (أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ..)؛ أي: طردهم عن رحمته ومنعهم منها، (..لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمۡ.. (23)) فلا يسمعون الحجج والبراهين والأدلّة والبيان الواضح الجيد المُرقِّق للقلوب .. ما يسمعون! عندهم صمم، ما يسمعون إلا الكلام القبيح والخبيث والباعث على الشر، هذا مفتّحين أذانهم له! ويسمعون كلام الله وكلام رسوله وكلام الصالحين ما يتأملون ولا يحبّون ولا يلتفتون إليه؛ أصمّهم عن الحق والهدى وسماعه. 

(..وَأَعۡمَىٰٓ أَبۡصَٰرَهُمۡ (23))؛ فلا يبصرون النور ولا الهدى، ولا يبصرون السناء الذي على وجه صاحب النبوة ﷺ؛ يغالطون أنفسهم، (وَأَعۡمَىٰٓ أَبۡصَٰرَهُمۡ) فلا يهتدون إلى الحق سبيلا، ولا يتخذون سبيل الرشد سبيلا،(فَأَصَمَّهُمۡ وَأَعۡمَىٰٓ أَبۡصَٰرَهُمۡ)، يقول الله: من تمادى في غيِّه وظلاله وإعراضه عني أبطلتُ مهمة سمعه وبصره، فلا يسمع الحق والهدى، ولا يبصر النور والرشاد والعياذ بالله تبارك وتعالى، (وَٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ زَادَهُمۡ هُدٗى وَءَاتَىٰهُمۡ تَقۡوَىٰهُمۡ) [محمد:17] كما قد قال، اللهم اهدنا في من هديت.

 يقول: ( أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمۡ وَأَعۡمَىٰٓ أَبۡصَٰرَهُمۡ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ ..(24))؛ أكبر وسيلة لفتح البصائر، وتنوير السرائر، ولسماع الحق والهدى، ولبصارة الرشد والسبيل القويم، يقول: 

  • (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ)، وهو أقوى الأسباب لإنقاذهم من عمل باطن، ومن صمم القلب.
  • (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ) وتدبر القرآن وسيلتهم الكبيرة لتنوير البصيرة وطهر السريرة. 
  • (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ) من اتصل بالقرآن وتدَبَّره، لا يرضى لنفسه بالخُلُق الخبيث السيء، ولايتمادى في الغفلة والبُعد والمخالفة لأمر لله ورسوله، ولاتنقدح فيه الصفات القبيحة، فإن القرآن مُطَهِّر ومصفٍّ ومنَوِّر. 
  • (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ) يتأملون معانيه وينظرون دلالاته وما فيه، معظمين له ناوين العمل. 

(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ (24))؛ بل تقفَّلت قلوبهم بشوم ذنوبهم وإعراضهم وتوليهم، ومخالفتهم لداعِ الفطرة وداعِ الحق، فأصبحوا يحتقرون المحبوبين والمقربين من النبيين والصالحين، ويميلون إلى الفجار والكفار، (أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ) تقفَّلت قلوبهم فلا يستطيعون أن يدركوا الحقيقة، ولا أن يتضح لهم البرهان والدليل والحجة، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ)

ولمَّا وَفَدَ وفدٌ من اليمن على رسول الله ﷺ، وتلى عليهم: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ (24))، كانوا ينصتوا مصغين، شاب وسط الوفد الذي جاء والنبي ﷺ يقرأها قال: بل عليها أقفالها حتى يفرجها الله ويكشف عنها فلا يهتدون إلا أن يتداركهم، مِن تأمله وفهمه للقرآن سمعه سيدنا عمر يتكلم هكذا مع النبي فأحبه وعَظُمَ في عينه، حتى كان في خلافته سأل عنه واستعان به للقيام بالأمر أيام الخلافة -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- لمَّا رأى من تفاعله مع الآية وتدبره لمعناها: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ (24))، وهكذا الاعتبارات عند المؤمنين والمستويات للناس بصور ألقوها إلينا ذا يقول لك شهادة، وذا يقول لك خبرة، وذا يقول لك كذا، ما مقادير إيمانهم ووعيهم لوحي ربهم؟ به يرتقون وبه يرتفعون، سَمِع منه هذا الكلام فوَقَّره في قلبه، وعظَّمه في عينه، وطلبه ليكون مساعدًا له في الولاية أيام خلافته بهذا الاعتبار، وهكذا يجب أن يكون في عقول المؤمنين وفي قلوبهم اعتبار المقادير للناس بالإيمان واليقين، وبوعي وحي رب العالمين، والصلة به؛ هذا الذي به يرتفع شأن الإنسان، (يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖ..) [المجادلة:11]. 

وهكذا فدخلوا على هذه الأسس، وذا يجعلون الاعتبارات بالحزبية، وذا يجعلون الاعتبارات بالقبلية، وذا يجعلون الاعتبارات كما هي عند الثقافة الموجودة عند من يدعون التقدم في زماننا، وجود القوة التدميرية التهديدية وأسلحة الدمار الشامل، ويجعلون الاعتبارات بها! وساعة يجعلون الاعتبارات بالنكت والضحك، وعندهم اللي منكَّت ما أحد كماهو-مثله-؛ وساعة يجعلون الاعتبارات العب لعبة يتقنها، هذا ماحد مثله عظيم! بسم الله الرحمن الرحيم! وهكذا موازين فاسدة باطلة، الاعتبار بالإيمان، الاعتبار بمعرفة الحق والحقيقة، الاعتبار بالصدق، الاعتبار بكريم الصفات، هذا يجب أن يقوم بها الاعتبار عند الله وعند رسوله وفي ميزان الحق، وهي أيضًا في ميزان القيامة وإلى الأبد لا اعتبار إلا لها، ولذا يقول الإمام الشافعي في كلامه: 

وَمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَــــةً *** تَجَرَّعَ ذُلَّ الْجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ

وَمَنْ فَاتَهُ التَّعْلِيمُ وَقْتَ شَبَابِهِ *** فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا لِوَفَاتِـــــهِ

وَذَاتُ الْفَتَى وَاللهِ بِالْعِلْمِ وَالتُّقَى *** إِذَا لَمْ يَكُونَا لَا اعْتِبَارَ لِذَاتِــهِ

هذا ميت ما هو إنسان حي. 

وَمَنْ فَاتَهُ التَّعْلِيمُ وَقْتَ شَبَابِهِ *** فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا لِوَفَاتِـــــهِ

وَذَاتُ الْفَتَى وَاللهِ بِالْعِلْمِ وَالتُّقَى *** إِذَا لَمْ يَكُونَا لَا اعْتِبَارَ لِذَاتِــهِ

 معه جثة كبيرة ولا ماذا معه؟ معه مال كثير ولا أيش يرجع؟ كما قارون ولا كما فرعون ولا كما النمرود؟ ولا إيش من اعتبار يبقى له إذا لم يكن علم وتقوى؟!

وَذَاتُ الْفَتَى وَاللهِ بِالْعِلْمِ وَالتُّقَى *** إِذَا لَمْ يَكُونَا لَا اعْتِبَارَ لِذَاتِــهِ

يقول: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ (24) إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم ..(25)) رجعوا إلى وراء، (..مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى..)، ببعثة المصطفى محمد، وبيانه عن الحق -جلَ جلاله-، (..ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأُمْلِيَ لَهُمۡ (25))، وفي القراءة الأخرى: (وَأَمْلَىٰ لَهُمْ)، ارتدوا على أدبارهم، رجعوا إلى وراء كمثل اليهود الذين كانوا يقرؤون صفات النبي محمد، ويستفتحون به، ويقولون للمشركين سيُبعَث نبي ونقاتلكم معه، (فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة:89]، وكثيرٌ علموا صدقه من المشركين فتحركت فيهم بواعث الحسد أو التشبث بالشهوات وعادوه ﷺ؛ (ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى..)، حتى فرعون هذه الأمة أبو جهل قبل وفاته بقليل، يسأله السائل وحده يقول: بيني وبينك أترى محمد صادق أم كذاب؟ قال: لا والله ما كذب محمد، قال: هو! وتعاديه هذي المعاداة؟! قال: كنا نحن وبنو هاشم فَرَسا رِهان، وجات فيهم النبوة، من أين تجي لنا النبوة؟ ما عندنا نبوة، وقام يعاديه لا حول ولاقوة إلا بالله! آمِن به وتعتلي أنت وقبيلتك كلهم، وترتفع في الدنيا والآخرة، ولكن هكذا الهوى وشغفهم! تبيَّن لهم الهدى ولكن ارتدوا على أدبارهم. 

(إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ ..(25)) زيّن لهم القبايح، وتكذيب الحق الواضح، تكذيب حق واضح زيّنه لهم، قال لهم: كذبوه، وهكذا قالت صفية أم المؤمنين -عليها رضوان الله تعالى- أنه رجع ليلة من عند النبي محمد أبي، أبوها حُيَيّ بن الأخطب وعمها، قالت: فلما رجعا سمعتهم يتكلمان، وكانوا يروني صغيرة عندهم، تحدثوا بما في نفوسهم، يقول له: كيف رأيت الرجل؟ قال: هو الذي بشَّر بهِ موسى، نفسه الذي عندنا أخباره في التوراة ووصفه هو هو، يقول: فما قررت في حقه؟ قال: معاداته، يعلم أنه رسول الله وموصوف عنده في التوراة، وقال يقرر معاداته، (إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ (25))؛ فباعوا أنفسهم لعدوهم فخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. 

(ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأُمْلِي لَهُمۡ (25))، وقراءة الأخرى: (وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ) للتمادي في الغي والطغيان، ووعدهم المواعيد الكاذبة، وغرهم وأعطاهم الأماني الباطلة، (وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ)؛ وهذه علامتهم: (..قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمۡ فِي بَعۡضِ ٱلۡأَمۡرِ ..(26)) ما بين المنافقين واليهود، وما بين المنافقين بينهم البين، وما بين المشركين وبعض المنافقين وبعض اليهود كذلك، يقولوا بنمشِّي معكم كذا، وبنمشِّي عندكم معكم كذا، وبنطيعكم في كذا؛ فأحبط الله بذلك أعمالهم، كما سيأتي شرح لذلك معنا إن شاء الله.

 رزقنا الله كمال الإيمان بالله، وقرآنه الذي أنزله، ونبيه محمد الذي أرسله، وجميع رسله وملائكته وكتبه التي أنزلها، والقدر خيره وشره، وباليوم الآخر، ارزقنا كمال الإيمان واليقين يا ربنا، وكمال حُسن التدبر لهذا القرآن والعمل بما فيه، واحشرنا مع خواص أهليه وأنت راضٍ عنا في خير ولطف وعافية، برحمتك يا أرحم الراحمين. 

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد ﷺ

 اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه 

الفاتحة


 

تاريخ النشر الهجري

02 رَمضان 1445

تاريخ النشر الميلادي

11 مارس 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام