(236)
(536)
(575)
الدرس الرابع من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الزخرف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) }
الثلاثاء 30 رمضان 1445هـ
الحمد لله مُكرمنا بالقرآن الذي أُنزل في شهر رمضان، وبيانه على لسان خير إنسان، عبده المحبوب المصطفى سيد الأكوان. اللّهم أدِم صلواتك على المجتبى المختار، حبيبك الطّهر سيدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه ومن سار في منهجه الأرشد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمّا بعدُ،،،
فإننّا في تأمّل آيات ربنا وكلامه وخطابه لنا سبحانه وتعالى، وصلنا في سورة الزخرف إلى قوله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26))، وذلك:
(..إِنَّنِي بَرَاءٌ..) وجاء بلفظ المصدر:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26)) وذلك في أثناء تبليغهم الرسالة، وأنواع محاولاته معهم، واجتهاده أن يبيّن لهم الحق وأن ينقذهم؛ حتى انتهى إلى أن كسَرَ الأصنام، وجعل الفأس في رقبة كبيرهم، إلى آخر ما دار بينه وبينهم من الحوار، وانتهوا من عنادهم إلى أن قالوا: سننتصر لآلهتنا من إبراهيم! وحبسوه وجمّعوا له النار الموقدة، وجمّعوا من الحطب؛ ومن المشتعلات بالنار؛ والتي يبطئ فيها اشتعال النار أكوامًا كبيرةً في الصحراء، فأشعلوها ثم أدخلوه إليها، وكلما قرُبوا لهيبها يمنعهم من الاقتراب، وقالوا: فكيف نفعل به؟ ونريده أن يأتي إلى وسطها في الداخل! فتصوّر لهم إبليس، وجاء بطريقة المنجنيدوّر فيه الشيء فيفلخ ويضرب، يصل إلى بعيد، وأدخلوا خليل الله وسط المنجنيق. وكان تأييد الله تعالى له بعد صبره، وكانت أيام مرّت عليه وسط النار، ما بين أسبوع إلى أربعين يومًا، حتى انطفأت النار وخرج منها وقميصه لم يحترق؛ (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) [الصافات:98]، (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:69]، واستمر في الجهاد (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي..) [العنكبوت:26]، وبعد ذلك آمنت سارة زوجته، وبقي حتى هدى الله من هدى على يده -عليه سلام الله تبارك وتعالى وصلواته- وعلى نبينا محمّد وجميع الأنبياء والمرسلين.
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27))، وكان هذا هو المسلك الذي يجب على أتباع الحق؛ مَن أُكرموا بالإيمان بالإله -سبحانه وتعالى-؛ أن يعلموا أن من على ظهر الأرض ممن يخالف شرع الله تعالى، ومن يكذّب به أو بآياته أو بأحد من رسله، أو باليوم الآخر؛ فلهم طريقهم ولنا طريقنا، ولسنا على طريقهم، وكل ما خالفوا فيه الله ورسوله نحن براءٌ منه، نحن براءٌ منه، وهكذا دين الحق يجب أن يكون (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26)).
وقال سيدنا هود لقومه: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا..) [هود:55-56] -أنتم والآلهة حقكم- (..فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم..) [هود:55-56]، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون في كل زمان وفي كل مكان، يتبرؤون من كل ما خالف منهج الله، من كل ما خرج عن صحة الإيمان بالله، وعن شريعة الله، هم بُرآؤُ منه، نظامًا أو هيئة أو جماعة، أو سمُّوا قانونًا، أو حكمًا، أو أي شيءٍ في الوجود مخالف لحقائق الإيمان، مخالف للشريعة نحن براءٌ منه، (..إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ..) [الممتحنة:4]، فلا إله إلا الله.
قال: (..إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ..(27))، خلقني وخلقكم، وخلق السماوات والأرض، وأنتم تنكرّتم له، أنتم اجترأتم عليه، وهو خالقكم ومنشئكم الذي أعطاكم الأسماع والأبصار، ورزقكم هذا الرزق، ومهّد لكم الأرض، ورفع لكم السماء وجعلها لكم سقفًا، ورتّب فيهما وما بينهما أنواع من مصالحكم وخيراتكم، ما الذي يُغفلكم عنه ويصرفكم عن التوحيد والقيام بتطبيق شريعته؟ قال: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28))، (..فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)) في الإشارة إلى أن الهداية إذا صحّت لموفق مؤمن؛ فإنه لا تزال تزيد .. تزيد، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى..) [محمد:17]، (..سَيَهْدِينِ (27)) أليس قد هداه؟ قد هداه، جعله خليله، قال: (..سَيَهْدِينِ)؛ لأن هداية الله تعالى للعبد لا تزال تزداد.
إذًا فالهداية تستمر، وتتسع معانيها عند المؤمن.
وقال سيدنا الخليل: (..فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27))؛ يعني: كما أكرمني بهذه الهداية في الإيمان به وتوحيده، وما يجب عليّ عمله فيما مضى، فجميع ما سيقابلني ويطرأ عليّ من الأحوال، هو يتولى هدايتي فيها، ويدلّني على الحق، حتى قال الله لأهدى خلقه وأعرفهم به وأنورهم: (..وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا) [الكهف:24]؛ فإذًا الهداية شأن عظيم ولا نهاية لها ولا غاية، حتى قال الله تعالى في أهل الجنة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ..) [يونس:9].
ثم يقول عند دخولهم الجنة -سبحانه وتعالى جلّ جلاله وتعالى في علاه- في سورة سيّدنا محمّد ﷺ: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد:4-6]، هداية وسط الجنة! حتى عند دخول الجنة يعطيك هِداية، تعرف أين مكانك؟ الجنة ما هي أرض؛ ما هي قارة من قارات الأرض؛ ما هي مدينة، إذا دخلت مدينة كبيرة ما تدري وين الطريق، جنة كبيرة، ما تصل الباب إلا وأنت تعرف قصورك ومنزلك في الجنة الفلانية، في المكان الفلاني، والطريق إليها كذا كذا.
قال حتى عند دخولهم الجنة: إن أحدهم هو أهدى لمنازله فيها من منزله في الدنيا؛ أهدى من منزله، تعرف دارك في الدنيا ولا ما تعرف؟ أنت لمنازلك في الجنة عند دخولها أهدى منك لدارك في الدنيا، لا إله إلا الله، (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد:6]، فالهداية إذًا مستمرة. ولذا قال كثير من صلحاء الأمة: لو تكلمت على ما علّمنا الله في معنى قوله (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ) [الأعلى:3]؛ لأعجزت كتبة الدنيا، (قَدَّرَ فَهَدَىٰ..)، قدّر حيوانات.. نباتات.. جمادات.. إنس.. جن.. ملائكة.. أرض.. سماء.. قدّر كل شيء تقدير، وهدى كل شيء؛ الحيوانات لمصالحها، والحشرات لمصالحها، والأسماك إلى مصالحها، والعباد من الناس لمصالحها، وهدى كل شيء، ذبابة ما أصغرها تعرف كيف تمسح عينها، وكيف ترتب مسارها، وكيف تاكل أكلها.. مرتبة! (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ) [الأعلى:3]، جلّ جلاله وتعالى في علاه.
قال سيدنا الخليل إبراهيم: (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)) اللهم اهدنا فيمن هديت، يا أكرم الأكرمين. وإذا هداك وبلّغك رمضان فصمته؛ بهدايته وتوفيقه، قمته؛ بهدايته وتوفيقه، وحضرت مجالس الخير إلى آخر يوم من أيام رمضان هذا هداية منه، إذا قمت بحقّها سيهديك، في نتائج هذا القيام، نتائج هذا الصيام، نتائج هذه الجلسات؛ هدايات،
ولا تزال الهداية... اللهم اهدنا في من هديت يا كريم، وزِدنا هدى برحمتك يا أرحم الراحمين.
(إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ..(28))، وقال في دعاءه: (..وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم:35]، وقال له الحق تعالى لما أتمّ القيام بالكلمات التي اختبره بهنّ فنجح في الاختبار وصدق مع الإله الغفار، قال سبحانه وتعالى: (وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي..)؛ ومن الذرية -يارب- أئمة للناس يهدونهم إليك (..قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124]، عهد بيني وبينك:
فلم يزل في ذرية إبراهيم إلى اليوم أُمناء على الدين والحق والشريعة، ولم يزل فيهم أئمة يهدون بأمر الله -سبحانه وتعالى-، أئمة دين الله يدعون خلقه إلى بابه، طوبى لمن سمع النداء.
يقول: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ..(28)) حتى جاء من عقبه سيد المرسلين ﷺ. وكان يتأمل بعض أهل الذوق، ويقول أن النبي إبراهيم -عليه السلام- كانت تضحيته وصبره في جانب هاجر وإسماعيل أكبر من تضحيته في جانب سارة وإسحاق، وذا أُمِرْ يضعهم في الوادي وحدهم، وليس فيه أحد، ويروح ويخلّيهم، وبعد الإذن يجيء عندهم ويحصّله بدأ يكبر الولد، لما ترعرع وشب قال: اذبحه، انظر! قال: فلذا من سنّة الله أن كل تضحية له أكثر، وبذل له أكبر، تكون النتيجة حقه أكثر وأكبر. قال: فلهذا جاءوا أنواع الأنبياء وأصناف الأنبياء من ذرية إسحاق؛ لكن سيّدهم وإمامهم وخاتمهم من ذرية إسماعيل؛ لأن التضحية في جانب إسماعيل كانت أكبر؛ فلابد أن النتيجة فيه تكون أكبر؛ فجاء سيّد الوجود ﷺ من ذرية إسماعيل بن إبراهيم.
قال: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)) إلى إدراك الحقيقة والاستمساك بهذه الكلمة، وبقاء هؤلاء الأخيار فيهم قرنًا بعد قرن، بل واستقر أيضًا التوحيد كما أشرنا من صلب إسماعيل في أولاده إلى عبد الله بن عبد المطلب الذي كان والد النبي محمد ﷺ، فكلّهم موحدون لله -جلّ جلاله- ومؤمنون بالله إلى آدم على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة و السلام: (..اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ..) [الأنعام:124]؛ فتخيّر له الآباء والأمهات، وصرّح بقوله: "ما افترقت من شعبتي صهرٍ ولا نسب إلا كنت في خيرها" صلى الله عليه وصحبه وسلم، "حتى كنت من القرن الذي كنت منه، فأنا خيار من خيار من خيار"، صلوات ربي وسلامه عليه.
كان سيدنا الخليل إبراهيم -عليه السلام- نسب الحق تعالى ملة الحق إليه لكونه ضحّى في القيام بها، ومرّت عليه أيام في الدنيا وحده كان موحّد مؤمن وكل العالم متنكّر من حواليه، الذين جنبه والذين بعيدين منه .. لا إله إلا الله! (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً..) [النحل:120] وحده، صبر ودخلوه النار وعملوا وعملوا.. فنجاه الله تعالى، فكانت له تضحيات كبيرة فنسب الملة إليه قال: (..مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ..) [الحج:78] على نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام. وهكذا شؤون الأنبياء من عهد آدم كان يذكر مطالعة أحوالهم بالروح -سيدنا الحداد عليه الرضوان- ويقول في الإشهاد لما أخرج الذرية من ظهر آدم:
ومسح يد الرحمن ظهر صفيّه *** فأخرجهم كالذرِّ يوم الشهادة
صفيّه؛ يعني: آدم
فأشهَدهم والكلّ منهم موحّدٌ *** هناك وبعد الأمر نافٍ ومثبتِ
وسرًّا خفيًا حارَ فيه أولو النهى *** على صورةٍ لا الصورة الآدميــة
فنزِّه إله العالمين وقدّســـنْ *** عن الصورة الحسيّة البشرية
وغُصْ في بحار السرّ إن كنت *** عارفًا بساحاتها الدرّية الجوهرية
وإشهد للطف الفضل في كون آدم *** من الطين مخلوق اليدين النزيهــــة
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [آل عمران:59].
فسوّاه والنفخ الكريم معقّبٌ *** به ثم بعد النفخ أمر بسجدةِ
هذه قصتنا في الحياة..
وإبليس لم يسجد فأسخط ربه *** وحلّت به من مقته شرّ لعنةِ
لذلك احتال الصفيّ وزوجه *** بحيلته في حين كانا بجنةِ
وقال كُلا من شجرة النهي مطمعًا *** له ولها في الخلــــد والمَلَكيـــــة
فلما ألمّا بالخطيئة أُهبِطا من *** الجَنّة العَليَا إلى دار وحشة
وحلّ بهم كربٌ عظيمٌ وحســـرةٌ *** وحزنٌ مقيمٌ في انقطاع وغربة
إلى أن تلقى آدم من إلهـــــــه *** من الكلمات الموجبات لتوبة
فتاب عليه واجتباه وخصّـــه *** وأكرمه فضلًا بأمر الخلافة
(..إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…) [البقرة:30].
وأسرار أمر الله نوحًا وقد دعا *** على قومه أن يغرقوا بالسفينة
ليركبها والمؤمنون وأهلــــــــه *** وزوجان من كل الوجود لِحكمة
ولله في آل الخليل سرائــــر *** تَجِلُّ عن الإحصاء عدًّا لكثرة
-آل الخليل إبراهيم-
رأى كوكبًا في أول الأمر فانتهى *** به الحال تدريجًا لإفراد وجهة
وكسّر إبراهيم أصنام قومه وأبقى*** كبيـــــرًا كي يروحوا بخزية
إذا ما أُحيلوا في السؤال عليه لم *** يردّ وأنّى من جمـــادٍ وميّت!
(...فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) [الأنبياء:63].
وقامت عليهم حُجّةٌ، أي حجّة؟ ***
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ..) [الأنعام:83] صلوات الله عليه.
*** فكادوا له كيدًا بنارٍ عظيمة
له أوقدوها، ثم ألقوه، فانثنت *** عليه بأمر الله في مثل روضة
(..كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:69] وقعت روضة.. كأنه دخل في نهر، وقام يصلي في وسط النار، وجبريل يجيء له بالأكل من الجنة.. ما شاء الله! حتى سُئل آخر أيامه؛ في آخر أيام عمره سُئل عن أحسن أيام مرّت به في الدنيا؟ قال أيام كنت في نار النمرود! أيام كنت في نار النمرود تلك أحسن أيام مرّت به في الحياة الدنيا عليه رضوان الله وصلواته وتسليماته. قال:
وما لعدوّ الله نمرود يدّعي *** ربوبيةً فاسأله دفع البعوضة
ادّعى أنّه الإله.. وقال: أنا أحيي وأُميت.. جاءت له بعوضة ما أحقرها دخلت أنفه ما قدر يخرّجها وصياح وضرب ... إلى أن مات! قال:
وما لعدوّ الله نمرود يدّعي *** ربوبية فاسأله دفع البعوضة
وفي قصة الأطيار وهي عجيبةٌ ***
(..فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا..) وزعهن على الجبال (..ثُمَّ ادْعُهُنَّ..) [البقرة:260]، يريك كيف يحيي الموتى.. لا إله إلا الله!
وفي قصة الأطيار وهي عجيبةٌ *** وكم من أمورٍ في الوجود عجيبة
كأسرار موسى حين ألقته أمه *** رضيعًا بأمر الله في وسط لُجّة
وسط البحر؛ أوحى الله إليها إن خفتِ عليه ألقيه في اليم، والناس يخافون من اليم ولا؟ هم يخافون من اليم يخرجون للبر، قال: أنتِ في البر إذا خفتِ عليه دخّليه وسط اليم. وضعته في تابوت ووضعته وسط البحر لينجو.. لا إله إلا الله! (..فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادًّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) [القصص:7]، وكم لله من عجائب! الحمد لله رب العالمين، لا إله إلا الله!
في أرضنا هذه، في أكثر دول العرب، وفي كثير من دول العجم، مرّت ظروف وترتيبات وأحوال ظنوا أن لا تقوم قائمة للدين بعد! وقُتل ناس كثير، وسُجن ناس كثير .. بعض المواطن مثل عندنا وغيرها وصل إلى السحل-السحق- .. يسحلوهم بالسيارات وهم أحياء في الأرض ويقتلونهم. وكل هذه الخطط فشلت وذهبت.. وبلدنا وغيرها من البلدان تضاعف فيها أمر الدين، وقام الخير، وظهر الحق، من الذي يسيّر الوجود هذا؟ من؟ من الذي يدبّر الكون هذا؟ مسار التدبير مفاده أن النتيجة غير هذا تمامًا .. لكن تأتي نتيجة غير ما رتبوا، وغير ما كادوا!.. كم من عقليات كانت قبل خمسين سنة تقول: لا يمكن أن يقوم مثل هذا المبنى ولا هذا المجلس ولا هذه المجالس أبداً ولا عُشرها.. ما يتصورون! وقامت.. والخطط الأخرى ذهبت! سبحان المكوّن.. سبحان القوي، قال: (لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) [الفتح:2-3] ﷺ؛ فما من نصرٍ لذي حقٍّ على ظهر الأرض إلا وهو من نصر الله لمحمّد ﷺ.
يقول: (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ..) -أمددتهم بالعمر وتراتيب الحياة وشؤونها- (..حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29))، أخّرتهم وتأنّيت بهم؛ ومتعتم وآبائهم (..حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29)) جاءهم القرآن والمصطفى محمد ﷺ:
إذا مر بطريقٍ عُرف من طيبه أنه قد مرّ فيه، إن كان ليمشي في الشارع فيمرّ على الصبيان، يُسلّم عليهم، يضع يده على رأس بعضهم، فيميّز طول اليوم إلى اليوم الثاني من طيب رائحة رأسه، الولد يميز هذا الطفل يقول هذا وضع النبي يده فوق رأسه، رائحة الرأس تبقى طول اليوم من أثر يد محمد ﷺ؛ هذا مبين، كل شيء يبين لك، هو مبين في حد ذاته سراج، ما يقع نظرك عليه إلا تذكر الله، ما يقع نظرك عليه إلا تهتدي إلى الحق.
يقول سيدنا عبد الله بن سلام لمّا قدم المدينة ذهبت أنظر إليه، فحينما وقع نظري عليه علمت أنه ليس بوجه كذاب، قال: أول ما وقعت عيني على وجهه عرفت أن هذا ما يمكن يكون كذاب أصلا! فهو مُبين للحق والحقيقة من دون أن يأتي بالمعجزات، ومع ذلك جاء لهم بالقرآن وجاء لهم بانشقاق القمر، وجاء لهم بمعجزات فوق معجزات؛ وأبَوا! ورفضوا! وعاندوا! وتكبّروا، (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ..) [القمر:1-3]، (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [عبس:17]، كيف حال هذا الإنسان! فنحمده ربنا على الهداية والإسلام والإيمان فيا رب ثبتنا على صدق الإيمان، وصدق المحبة لك ولهذا الرَسُول.
قال: (..حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ..) -سحر متناقض مع الحق!- (..وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30))، الرسول مبين:
كل الدلائل تشير إلى أنه الصادق، ومع ذلك قالوا ساحر! لاحول ولا قوة إلا بالله العظيم.. (وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)) والعياذ بالله تبارك وتعالى. طيب هذا المصطفى، والقرآن هاتوا مثله؟ ما قدروا.. خلاص أعلموا أنه من عند الله! لا.. كيف لا؟ إذا كان من عند محمد أو أحد يعلمه كما تقولون هاتوا مثله! (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) [النحل:103]؛ نتحداكم هاتوا بمثله، روحوا عند الذي تعلّم عنده أو عند غيره وهاتوا مثل هذا الكلام؛ ما قدروا .. طيب -خلاص- آمنوا! (.. قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [هود:13]، ما نستطع.. اذهبوا لو أردتوا الطائف أو الشام.. هاتوا مثل ذا الكلام! (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) [هود:14].
(..قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)) إصرار وتصميم على التمادي في الضلال والباطل! وفوق هذا العناد والتصميم يريدون يصلحون هم ويقترحون الرسالة والنبوة! كأن الرحمن ما يعرف خلقه أو خلقهم غيره!! يقولون: لماذا ينزل على محمد؟! .. ينزل على واحد من مكة أو من الطائف أحسن من محمد.. ومن أحسن من محمّد؟!! قالوا: فلان فلان… اسمه المُغيرة بن أمية، ويذكرون واحد اسمه حبيب في الطائف وواحد اسمه ابن مسعود الثقفي وغيره، يذكرون رجال كذا! (..اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ..) [الأنعام:124]، الله يرسل أم أنتم؟! أنتم مُلوكُكم في الأرض إذا سيُرسلون لكم أحد هل يشاورُونكم تريدوننا نُرسِل مَن؟ يرسلون لكم الذي يختارونه هم أم الذي تختارونه أنتم؟ الذي يختارونه هم يرسلوه لكم وهذا كلام الملك.. قُلْ كذا ولا كذا وخذ لك الجواب، وهذا ربّكم رب كل شيء أنتم تقترحون عليه أرسل فلان وأرسل فلان؟!!
(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)) كان الوليد بن المُغيرة يقول: لو كان هذا حق، كان أُنزِل عليّ أنا! وكما قال عموم الكفار: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ..) [الأحقاف:11] نحن أسبق! يا قوم .. يا جماعة، تكلّموا بعقل، تكلموا بمنطق، هاتوا حجة، ليس هكذا نحن أحق.. نحن أولى..!!. (لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ..) مكة والطائف (..عَظِيمٍ (31)). يعني أعظم من محمد في نظرهم، وما أحد أعظم من هذا، لا في خَلقه ولاخُلُقه ولا في حُجّته ولا في مَسلكه ولا في مساره صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم.
قال الله: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ..(32)) يعني: وما أختار من نبوّة ورسالة تحت أمرهم تحت هواهم يعني؟ ما هذا الكلام هذا الذي يأتون به؟ (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ..)؟ قال: أنتم حتى في أموركم الدنيوية أنا الذي قسمت بينكم؛ أرفع هذا وأنزِّل هذا، واجعل هذا ملك، وقد يتأمر واحد عليكم وما تريدونه.
يقول: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ.. )؟ صاحب الخزائن والجُود أولى بخزائنه يقسمها كما يشاء، والقسمة له وحده. (..نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..(32)) انظر.. بعضكم أقل تجربة وأقل جهد واعتمال أكثر، وبعضكم أقل فهم وأقل... واجعل كلامه نافذ! لأن القاسم أنا.. يقول الله، القاسم أنا وليس أنتم، ما هذا التحكم؟! (لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ.. ) ما الكلام هذا؟! انظروا.. أنا قسمت كل شيء، وضعت كل شيء حيث أريد؛ (..نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ..(32)) لا بالسِّن ولا بالعِلم ولا حتى بالمال ولا غيره.. اجعل هذا فوق هذا، وهذا فوق هذا، وهذا ينفذ أمره على هذا، وهذا ينفذ أمره على هذا… (..وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ..(32)) يسخّره لحاجاته.
وهكذا، كان بعض أرباب الثروات والمال الكثير ما تعلَّم، اسمه يصعب عليه يكتبه ما يعرف يكتب اسمه سَواء. وكان البروفيسورات والدّكاترة في الشركة عنده مُوظّفين، يقول: اعمل كذا.. اخرج.. روح … هو يتأمَّر عليهم؛ وهو ما يعرف حتى يكتب اسمه! (..وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ..(32)) ويُوَلّي الفاسق، ويُولّي الصالح، ويُولّي الخيِّر، ويُولّي الشرير، "إن الله يعطي الدنيا من يُحِبّ ومن لا يُحب.." كما روى الترمذي، قال: "..ولا يعطي الدين إلا مَن يُحِب فمن أعطاه الدين فقد أحبّه."، يا رب وفِّر حظنا من الدين.
أما الدنيا يعطيها هذا ويعطيها هذا، بل الحق كما تسمع الآن في الآيات، يقول لك لولا أن الناس سيكفرون وكلّهم سيتعرّضون للنار، هذه الدنيا من حقارتها عندي سأجعل زينتها كلها للكُفار! لكن ستقع فتنة على الناس وسيتركون الإيمان والإسلام! فَـلَطَف الحق بخلقه، قال اجعلها عند ذا وعند ذا...
بل كثير مما يؤتيه للكفار يُسخّر فوائده ومنافعه للمؤمنين، لا إله إلا الله! قال: (..نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..(32)).
اعتبر (نحنُ قَسمنَا بينهم) *** تلقَه حقًّا (وبالحقّ نَزَل)
(..وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍلِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)) قال: من رحمته وأعطيته الإيمان بي والإسلام أعظم من الدنيا من أوّلها إلى آخرها؛ ذهبها وفضتها وبترولها وملكها وما فيها من قليل ومن كثير… رحمتي أعظم من هذا كله! (..وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)). قال: (..ولَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً..) يعني: سيرتدّون كلهم ويذهبون وراء الكفر (..لجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا..) وفي قراءة: (سَقْفًا) (..مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ..) درج، سلالم، مصاعد (..وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)) يطلعون فوقها. (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا..) يعني: ذهب (..وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ..) لو فعلنا مثل هذا، وأعطيناهم هذا كله (..لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..) كل هذا متاع الحياة القصيرة الزائلة (..وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)). اللهم اجعلنا من المتقين. (..وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)).
قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ..) يغفل، يُعرض، يتولى؛ يَعشُ: يعمى؛ ما يشوف الذكر، لا حول ولا قوة إلا بالله! (..فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46].
(وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)) وبالغفلة عن الله تنفق بضاعة الباطل، ويتأثر الناس بالضلال بحسب غفلتهم عن الله. ما داموا مع الذكر لله بحضور وتعظيم؛ فالضلال والباطل بعيد عنهم، ولهذا يقول: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ..) [المجادلة:19]؛ لأنه ما يجتمع الاثنين؛ ما يحصل استحواذ شيطان وذكر الرحمن ما يكون، بل الشيطان خنّاس؛ يعني: إذا ذكرت الله يخنس ما يقدر عليك، عندما تغفل عن الله يشتغل بوسوسته في قلبك. (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا..(36)) اللهمّ أعنّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، واجعلنا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات.
(..فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)) ومع أن مع كل واحد من بني آدم قرين من الملائكة ومن الشياطين؛ أما الشيطان هذا فيولد بولادته ويموت بموته؛ يوكّل به؛ عمره مثل عمره، هذا قرناء بني آدم، نراهم في القيامة بعدين، يظهروا (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق:21]، (وَقَالَ قَرِينُهُ هَٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق:23]، (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ) [ق:27-28]. وما من إنسان إلا وله قرين من الشياطين، ولكن ما يقدر عليه إلا عند غفلته عن الله.
(وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ..) -القويم الواضح الحق الصحيح- (..وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37)) يقولون نحن المتقدمون، نحن المتطورون، نحن المثقفون… بخروجهم عن سواء السبيل! (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا..) جاء وقت الموت وحُشروا وجُمعوا معًا (..قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)) والعياذ بالله تبارك وتعالى.
اللهم إنك سلّطت علينا عدوًّا بصيرًا بعيوبنا، مُطّلعًا على عوراتنا، من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، اللهم آيسه منّا كما آيسته من رحمتك، وقنّطه منّا كما قنّطته من عفوك، وباعد بيننا وبينه كما باعدت بينه وبين جنّتك وجميع أولياؤه ادفع شرّهم عنّا، فإن مَرَدتهم محبسين في الأيام الماضية، والليلة منتظرين يفتكون، ويحاولون مع أي واحد منّا يسمع كلامهم ويغفل.. يمسكونه ويحاولون يهدّمون ما بناه في رمضان وأصلحه… الله لا يبلّغهم مراد فينا ولا في أهلنا، ويجعلنا من عباد الرحمن الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، إنه أكرم الأكرمين.
ولهذا تجد بعض الناس ليلة العيد أو يوم العيد وإذا به يتخاصم مع قريبه، أو يطلق زوجته، أو يتناكف -يتنازع ويتشاجر- هو وأبوه!! هذا حصّلوه فرصة ودخلوا إلى قلبه ليُبطلوا عليه رمضان، وما كان في رمضان كله، ويضحكون عليه! الله يدفع شرّهم عنّا.
وما أعطيتنا من إيمان ومن نور زِده لنا، واحفظه علينا، واجعله لا يزال في تنمية حتى نلقاك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين. لازال معنا اليوم الركعة بألف، التسبيحة بألف، الدرهم بألف، الآية بألف… أي عمل تعمله إلى المغرب، ثم تعود إلى عشر، ما باقي معنا إلا هذه الساعات الآن إلى المغرب مضاعف فيها العمل الصالح، مضاعف إلى الألف، يضاعف إلى الألف فيه الثواب، الحمد لله رب العالمين.
الله يبارك لنا في خاتمة رمضان، آخر يوم. إذا كان من أول ليلة أعتق مليون أول ليلة، مليون ثاني ليلة… إلى قبل البارح؛ تسعة وعشرين مليون؛ فالبارحة وحدها تسعة وعشرين مليون مضافين إلى التسعة وعشرين مليون؛ يعتق مثل ما أعتق من أول الشهر إلى آخره، وهي ليلة المغفرة، ما يُبقي أحد مسلم إلا غفر له، إلا الأربعة هؤلاء الذين ما تنفعهم قربعتهم؛ -قربعة: الصوت بضوضاء وإزعاج-.
هؤلاء الأربعة ما يغفر لهم، ويُغفر لجميع المؤمنين. بعدها الليلة الآتية المقبلة علينا: ليلة الجوائز؛
ويوم العيد يُباهي الله بالخارجين للعيد؛ يباهي ملائكته بهم، ويقول لهم: إن عبادي فرضت عليهم الصيام فصاموا، وندبتهم إلى القيام فقاموا، ما جزاء الأجير إذا أدّى عمله؟ يقولون: يا ربنا الجزاء هو أن تعطيه أجرته، فيقول: أُشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم، ولا يسألوني اليوم في موقفهم هذا شيئًا لأمر آخرتهم إلا أعطيتهم إياه، ولا لأمر دنياهم إلا نظرت لهم؛ يعني: إن كان الخير لهم فيه أعطيتهم إياه، وإلا خبأت لهم مقابل ذلك، ودفعت عنهم من البلاء مقابله، والحمد لله رب العالمين..
يا خير رب كريم، بلَّغنا رمضان كله الحمد لله إلى أواخره إن شاء الله، ونبلغ ليلة الجوائز ونفوز مع كل فاز، ونكمل العدة ونكبّر الله على ما هدانا، ونصلي صلاة عيدنا، ونظفر بخيرنا من ربنا -سبحانه وتعالى- ويزيدنا من فضله بما هو أهله.
يا من وفّق أهل الخير للخير وأعانهم عليه، وفّقنا للخير وأعنّا عليه واقبله منا برحمتك يا أرحم الراحمين. وعجّل بالفرج لهذه الأمة، وعجّل بالفرج يا ربنا لهذه الأمة، يا ربنا، يا ربنا، يا ربنا، يا ربنا عجّل بالفرج لهذه الأمة، واكشف الغمة، وأجلِ الظلمة، وادفع النقمة، وعامل بمحض الجود والرحمة في خيرٍ ولطفٍ وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
اللهم صلِّ وسلم
30 رَمضان 1445