(228)
(536)
(574)
(311)
الدرس الأول من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الزخرف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) }
السبت 27 رمضان 1445هـ
الحمد لله مُكرِمنا بأنوار الإسلام والإيمان وأنوار القرآن؛ الذي يقوم به الإسلام والإيمان، ويُوصَل به إلى رُتَب الإحسان وإلى منازل المعرفة الخاصة والمحبة الخالصة ذلك فضل الكريم المنّان، اللهم لك الحمد يا واسع الجود والإمتنان يا قديم الإحسان، نشهد أنك الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له أكْرَمتنا بتنزيل الفُرقان، ونشهد أنّ عبدك الذي أنزلته على قلبه أكرمَ خلقك عليك وأحبِّهم إليك، ختمت به النبوّة والرّسالة وجعلته المُقدّم في كل شان، فأدِم يا رب العالمين عليه صلواتك وعنا في كل لمحة ونفس وآن، وعلى آله وأهل بيته المُطهّرين عن الأدران وعلى أصحابه الغُرِّ الأعيان، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين ذوي المنزلة الرفيعة والمكان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المُقرّبين وجميع عبادك الصالحين أهل العِرفان، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا رحمن.
أما بعد..
فإننا في نعمة تأمُّلنا لخطاب الإله وما أكرمه من إله، تنزل إلينا فأنزل خطابه على ألسن رسله، ووصلنا الخطاب على لسان خاتم رسله وسيد رسله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، فها هو إلهنا متفضلا علينا متفضلٌ علينا بالخطاب والكلام عبر هذا اللسان النبويّ المُحمدي؛ فلك الحمد شكرا، زِدْنا اللهم نورا وهدى واتصالا بآياتك وما أنزلت على حبيبك أحمدا.
قد وصلنا إلى تأمُّل آيات سورة الدخان وننتقل إلى سورة الزخرف التي قبلها يقول الحق -سبحانه وتعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) قسمًا بالكتاب (القرآن)، (الْمُبِينِ) أقسم بالقرآن المبين (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ..(3))؛
(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) فهو خير بيان من الرحمن يُبين لكل مُتدبِّر ولكل مُنصف ومُقبل ومُتفكِّر سبيل الرُّشد والهدى والحقيقة العظيمة في الانتهاء والابتداء.
فهذا الكتاب مُعتَصَمُنا ومرجِعنا وملجَأنا؛ والمُنقِذ لنا من الضلالات وأنواع الزيغ والإنحراف في الفكر والسلوك والعلم والوُجهة وجميع الشؤون، فنسألك اللهم أن تربطنا بالقرآن ربطًا لا ينحلّ أبدًا، وأن تجعلنا سائرين على دربه، وأن تجعلنا واعِين لما فيه من خِطاب وتعليمٍ منك يا ربَّ الأرباب.
(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ..(3)) معنى جَعَلْنَاهُ: أنزلناه قرآنا عربيًا أو وصفناه بأنه العربي؛ جعلناه المقروء بلسان النبي محمد ﷺ ولسان قومه الذين أُرسل إليهم وإلى جميع من عداهم ولكن هم أوّل من يخاطبهم..
(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ..(3))، كما قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم:4]، وكان ﷺ قومه العرب ومُضَر، فنزل القرآن بلغتهم -لا شك أنّه بحكمة الحكيم- وقد جعل في الرسل أنواع من اللغات وكان يُنزل كلامه؛ أي: يُبيّن كلامه الأزلي القديم بألفاظٍ من لغة القوم. وشاء أن يكون الكتاب المُهيمن على الكتب كلها والمُوجّه لأهل اللغات كلها باللغة العربية، فلو لم يكن للغة العربية خصائص ومزايا ومنافع زائدة على بقية اللغات؛ لما اختارها الله أن تكون لغة كتابه المُهيمن على الكتب، ولغة حبيبه الخاتم للنبيين والمرسلين، ولغة الكتاب الموجّه للعرب والعجم، لجميع أهل اللغات بأي لغة، أي مُكلَّف من الإنس والجن يتكلّم بأي لغة الكتاب مُوجَّه له ولو عبر ترجمة معانيه إلى أن يفقه اللغة العربية.
وفقه اللغة العربية:
فعلى قدر التمكّن في هذه اللغة يحصل التأهُّل لإدراك معاني كلام الحق -جلّ جلاله-، وكلامه القرآن هو الدين وهو المنهج وهو الرسالة وهو البِعثة وهو المسار إليه -جل جلاله-.
(حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3))؛ ولذا كان من مُهمّات المسلمين أن يحافظوا على لغتهم العربية وأن ينشروها في الأوساط، ونجِد أرباب الأفكار المختلفة حَرَصوا على نشر لُغاتهم، ولما ظهر نورُ الله وانتشر الإسلام رأينا أصحاب اللغات المختلفة لما وَعَوا معنى الإسلام ودخلوا في دين الله؛ حوّلوا حروفهم التي ينطقون بها بلغاتهم إلى الحروف العربية، كما حصل:
كلها تُكتب الحروف العربية ليكون توطِئة لفَهم الحروف ولتعلّم اللغة العربية، وانتشرت بعض الانتشار فجاءت أفكار المُخالفين للدّين وللشريعة والإسلام، وعندهم مبادئ وثقافات يريدون نشرها ولا يمكن تَمكين نشر أيّ ثقافة إلّا بمعرفة اللغة التي صُنِّفت بها أو أُسِّست عليها؛ فلهذا زاحَموا العربية وحاول الكثير منهم مُعاداتها بأوجه مختلفة؛ لتنتشر ثقافاتهم ولئلّا تنتشر معاني القرآن وبيانه، ولئلا ينتشر دين الإسلام، ومهما عملوا في النهاية لابد أن ينشر الله دينه، ولابد أن يظهر دِيِنَهُ وإن أبوا؛ (..لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:33]، فإنها قضية متصلة بالحكمة الإلهية في الإرسال والبعث؛ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ..) [التوبة:33]، نعم يختار من سبقت لهم السعادة؛ فَيَصْدُقُون ويبذلون الوُسُع، والعقل والحكمة في نشر هذا الدين ونَصْرِه، وينتشر على يديهم، ولكن الأمر من عنده هو أولًا وآخرًا، يختار من شاء، كما أنه -والعياذُ بالله- يخذل من شاء، ليكونوا نَشَرَت كفر أو نَشَرَت فساد، أو نَشَرَت أذى أو نَشَرَت حرب وقتال بين الناس على غير صحة وعلى غير استحقاق؛ فتنتشر على أيديهم ونَشَرَت أنواع الفساد موجودين، ويختار من ينشر على أيديهم دِيِنُه، ووحْيُه وتَنْزِيلُه، والله يجعلنا منهم، يختارهم اختيار -جل جلاله-.
فكان واجب على أهل الإسلام من العرب والعجم أن يعظموا لغة القرآن وأن يعملوا على نشرها؛ لأنه بانتشارها يَسْهَلُ فهموا الخطاب الإلهي، ووعي الدين وإدراك حقيقة الدين، في أوساط الناس شرقًا وغربًا.
(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3))، لعلكم تعقلون:
(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3))؛ تعقلون ما يقول لكم نبينا محمد، وما يدعوكم إليه فتفهمون على وجهه وحقيقته، ولا تفهم نفس من نفوس بني آدم من أهل الفطرة السليمة؛ لا تفهم حقيقة هذا الدين إلا أشقته و عَظَّمَتْهُ، ودانة به وخضعت له، ولكن القواطع من الأهواء والشهوات والإنحرافات والميل إلى السوء هو الذي يقطعهم عن فهم حقيقة الدين، وإلا حقيقة دين ربنا إذا بدأ بجماله وكماله تخضع له النفوس، وتنقاد وتوقن أنه الحق ولا حق غيره، (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ..) [آل عمران:19].
قال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3))؛ تَعُون عظمة ما بعثنا به الأمين المأمون، تَعُون ما يدعوكم إليه من التعريف بنا، صفاتنا وأسمائنا وأفعالنا، ومن الهداية لنا والدلالة علينا، ومن أحكامنا التي أوحيناها إليه، وشرعناها لكم على يديه.
(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ) -هذا القرآن الذي أنزلناه إلى نبينا.
(فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا ..(4)) في أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ.
(..وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا ..(4)) عندنا بعظمتنا وألوهيتنا.
(..لَعَلِيٌّ ..(4)) رفيع القدر والمنزل والمقام،
(لَعَلِيٌّ..) عَلِيٌ لا يمكن أن يغيره أحد ولا يبدله، وكم حاولوا من أيام الرسول ﷺ ومن أيامنا هذه، وما قدروا يغيرون في القرآن ولا آية، ولا كلمة ولا حرف من كلمة، لا يزال يقرأ بالقراءات العشر التي نطقت بها لسان النبي ﷺ؛ كما هي ما يقدرون يزيدون حرف ولا ينقصون حرف؛ عظمة ومعجزة واضحة ظاهرة بينة، الكتب السابقة أنزلها الله على الأنبياء وأأتمن عليها أتباعهم، ولما دخلتهم الأهواء حرفوا وبدلوا واشتروا بأيته ثمنًأ قليلا.
لكن القرآن (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9] وَحُفِظْ عَلَى مَدَى الْقُرُونَ -سبحان الله-، حتى بما يتعلق باللهجات العربية التي أُنزل بها على رسول الله ﷺ؛ حفظ بمدوده، وكم يمد كل مدٍ من المدود؟ بكم حركات محفوظة، يمكن الحركتين .. يمكن بالأربعة هذا ما يمكن بالأربعة، هذا يمكن بالست، هذا ما يمكن بالست، ويمكن وجهين ويمكن وجه واحد بالضبط مضبوط. ما أحد يقدر يغيره عَظَمَة -سبحان الله- وطبعوا بعض النسخ من المصحف، حاولوا يحرفوا كلمة واحدة من آية وانكشفوا وأنهي، وثاني مرة وما قدروا، (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
يقول: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ ..(4)) رَفِيعُ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَة، عظيم الشأن لا يمكن تغييره ولا تبديله، ويهدي القريب والبعيد من كل متأمل منصف.
(..حَكِيمٌ (4)) المَامَهُ بالحكمة والأحكام النافعة المُبَيَنَة.
(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)): ذو حكمة محكم، (..أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود:1].
يقول الله: (وَإِنَّهُ) -هذا القرآن الذي تتكلمون عليه- (..فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)) بهذا الاعتبار وبهذه الرفعة، فما يضر كلامكم وما يضر تطاولكم، وما يضر اجتراؤكم عليه وهو بهذه المنزلة لدى المكون الفاطر الخالق؛ فلا بد أن يظل عظيمًا هكذا، ولا بد أن تدوم عظمته في الدنيا والبرزخ والآخرة، ومن عظمته أن يغار الحق عليه -تبارك وتعالى- إذا انحرفت القلوب عنه، وعن حقيقة معناه وأُرِيدَ اللعب به والإستهزاء فيرفعه من الصدور ومن السطور؛ حتى يصبح الناس ولا آية -والعياذُ بالله تعالى- وهؤلاء شرار الخلق في آخر الزمان، فالحمد لله على وجود القرآن بيننا.
ثم يوم القيامة يعرف قدر القرآن:
فيقول الحمد لله وهو يصلي في قراءة الفاتحة؛ فيكتب له بلفظة الحمد أربعمائة حسنة، ولله أربعمائة حسنة، قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ..) قد معه ثمانمائة حسنات (..ورَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة:2] كملت له الألف؟ يا الله (الْحَمْدُ لِلَّهِ..) قد معه أربعمائة حسنات، وكل حسنة لها ثواب مستمر دائما، ولذة في الآخرة باقية على الأبد، اللهم لك الحمد على هذا الربح والتجارة.
يقولُ: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا..) في أصل الكتاب، في اللوح المحفوظ (..لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)).
(أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ (5)) يعني: هل تحسبون أن لا نُذَكِرُكُمْ بواسطة هذا الكتاب بحقائق ما بعثنا به خير الخلايق؛ لكونكم مسرفين بل نرسله وننزل الكتاب.
(أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا..) أي: حسبتم أن نترككم بلا عقاب، ولا مؤاخذة أَنكم كنتم قومٌ مسرفين وقد أنزلنا عَلَيْكُم الكتاب يتلى عليكم! لن نترككم؛ بل: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) [طه:124] -والعياذُ بالله تبارك وتعالى-.
(أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا..):هل نسكت عنكم؟ أو هل نرفع العذاب عنكم ونبعده؟ بـ(..أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ (5)) لا يكون ذلك.
(أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ (5)) أو هل لإسرافكم واجترائكم نرفع القرآن ونمنع نزوله على نبينا؟ بل سننزله ونجعل له من نختاره له، ولحمله من خاصة عبادنا وإن كذبتم، كما قالوا: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا..) [محمد:38]، (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا..) كل هذا معاني.
(أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6))، قال الله: أنبياء كثير أرسلتهم، فالرسل وإن جاء في حديث أنهم ثلاثمائة وبضعة عشر وأن الأنبياء مائة ألف وأربعة عشرين ألف؛ ولكن الصحيح عدم حصرهم لقول الله تعالى: (..مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ..) [غافر:78].
(وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6)) أي: القرون الأولى والأمم السابقة.
يقول الله لنبيهم: (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7))، ما تتعجب في استهزاء قومك، كل الأنبياء الذين جاءوا قومهم فيهم من استهزأ بهم، في أقوامهم من استهزأ بهم، (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ ..) -كل واحد يوصي الثاني الدي بعده ويقول الأنبياء كذا!- (..بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:52-55]، اللهم اجعلنا منهم.
(وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7))، قال ربُّنا: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا .. (8))؛ أشدَّ قوة، ومَن أتيناهم من القوى والإمكانيات والوسائل في الحياة، ما ليس عند قومك هؤلاء. (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا ..(8))، كما قال له في الآية: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) [محمد:13]؛ قال له: لو أردنا أن نُهلِكهم في لحظة، من ينفعهم؟ ولهذا قال للمُغتَرين من النّصارى: (.. قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ..) [المائدة:17]؛ إله قادر فعّال لِمَا يُريد! ماذا توجبون عليه؟ هل أحد يوجب عليه شيء وهو ربُّ كُلِّ شيء -جلَّ جلاله/!
يقول: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8))،
(..مَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ):
نحن في آخر الزَّمان وآخر الدُّنيا نعرف قوم نوح، قوم كانوا قبل عاد مع هود، قوم ثمود مع صالح، وبعد ذلك النّمرود، ولفرعون مع موسى، وطوائف وأُمم مرَّت؛ نعرف خبرهم.
(فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8))، لمَن يعتبر ولمَن يَذْكِّر، (.. وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ..) [غافر:5]؛ كُلّ أُمّة فكروا يقتلوا نبيهم، كُلّ أُمّة فيهم ناس فكروا كيف نقضي عليه؟ كيف نقتله؟ (.. وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ..)؛ لكن النتيجة قال الله: ( .. فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) [غافر:5]، لا إله إلا الله.
كُلُّ أُمَّة هَمَّتْ بِرَسُولِهِمْ، وقد همّوا برسولنا أن يقتلوه ﷺ، خططوا في بعض المرات خطة قوية مُرتبة للقضاء عليه، وانتخبوا عشر شُبّان كُلّ شاب من قبيلة؛ يتفرّق دمه في القبائل، وأعطوهم السّيوف المشحوذة المسنونة المسمومة، وقالوا ضربة رَجُل واحد اضربوه، وجاءوا بهم إلى عند بيته، وتأكدوا أنه موجود وسط البيت؛ وذهب كيدهم: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ..) [الأنفال:30] أوحى الله إليه، ابقى مكانك في البيت، دخل عنده سيّدنا عليّ، قال: نُعمّي عليهم؛ تنام في فراشي، وتتغطى بالبُرد هذا -كان معه بُرد أخضر حضرمي يتغطى به- قال: تتغطى ببردي هذا؛ يظنون أنك أنا، قال: نعم، وقام ينام في محل النَّبي ﷺ ويفديه وتغطى ببرده. وانتظر حتى جاءه الإذن من الله يخرج، قال له: الآن أخرج؛ خرج. والشّباب موجودين، والسُّيوف معهم. في اللّحظة التي خرج فيها، سلّط الجّبار عليهم نّومًا؛ فناموا كُلّهم، خفقت رؤوسهم، فتح الباب وهو يقرأ من سورة يس: (يسٓ * وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيم * إِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ * عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ * تَنزِيلَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمۡ فَهُمۡ غَٰفِلُونَ * لَقَدۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَىٰٓ أَكۡثَرِهِمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ * إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ * وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ) [يس:1-9]. وخرج وشافهم نيام، وعشرة مرصودين للقضاء عليه، وقال: ما داموا نيام؛ يروح بسرعة يفرح بنومهم وقف ينظر عليهم، وحمل التُّراب؛ يحط فوق رأس هذا، فوق رأس هذا، ودار على العشرة كُلّهم وضع فوقهم تراب؛ فوق رؤوسهم ومشى، لا يوجد قلق لأنه حط التُّراب؛ يفتح عينه؛ سيقومون عليه؟ أبدًا.. وضع التُّراب وذرُّه.
وكان واحد أعرابي ينظر، ومشى ﷺ إلى حيث واعد أبا بكر الصِّديق، ومشى هو وإياه إلى غار ثور، وتعجّب الأعرابي ماذا جاء بهم هؤلاء؟ لماذا نايمين هنا في الشّارع تحت البيت؟ والرَّجُل خرج يحط التُّراب على رؤوسهم! فجاء إلى عندهم بعد ذلك ، ما أيقظهم إلا حر الشمس! قال لهم: ما لكم هنا؟ قالوا: ما لنا؟ نُريد مُحمَّد. مُحمَّد! خرج وذرّ التُّراب على رؤوسكم ومشى، كل واحد يحس التراب في رأسه، كُلّهم في رأسهم تراب. جاءوا يتفرجوا، قالوا: لا شوفوه لازال نائم خائف ما خرج شوفوه في البُرد، رموه بالحجارة؛ فتحرك؛ ليست حركة مُحمَّد، مُحمَّد ما كان يتحرك، ما يتحرك بضرب ولا برمي، هذا غيره يمكن، ودخلوا وإذا به سيّدنا عليّ، أين مُحمَّد؟ قال: أين مُحمَّد؟ ذهبوا وجاء الأهوج رئيسهم والشّدة؛ وانزعجت الدّولة كُلَّها بما فيها؛ وراحوا وراءه، وهو بجانبهم وسط الغار ثلاثة أيام.
وصلوا لعند الغار، كبار منهم من زُعمائهم، وصلوا لعند الغار حتى كان سيّدنا أبي بكر يرى أقدامهم، بكى. يقول له: لماذا تبكي؟ يقول: يا رسول الله لو نظر موضع قدميه؛ لرآنا. قال له: "مَا ظَنُّكَ … بِاثنَينِ الله ثَالِثُهُمَا"، (.. لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ..) [التوبة:40]. وهكذا حتى قال أحدهم: لعلّهم وسط هذا الغار، وأبو بكر يسمعه، وقد أنسج الله بالعنكبوت على فم الغار، وكبيرهم قال: ماذا تقول! ما ترى العنكبوت هذا؟! العنكبوت أقدم من ميلاد مُحمَّد يا أبله، والعنكبوت قديم.. اذهب، اذهب ولا يفوتكم، امشوا بعدهم، راحوا وهم وسط الغار (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ … ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ..) سنطلع، سننزل، سنعمل.. كلام فارغ (.. وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:40]، الحمد لله العليّ الحكيم.
قال: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)) ومع ذلك يقول: إذا سَأَلْتَهُم مَنْ الذي خلق؟ ما يقدرون ينكرون؛ يقولون: الله، الله الذي ( .. خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ .. الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف:9]؛ وتعبدون غيره؟! وتُعَجِّزونه في إعادتكم بعد الموت، وفي بعثكم ونُشركم؟! وهو الذي خلق هذا كُلّه؟ ما لكم؟! وتعبدون غيره، وتنكرون أن يبعثكم ويرُدّكم، وأنتم تقولون: هو الذي خلق! هذا كلام متناقض! إن كان هو الذي خلق، فما الذي يعجزه عن أن يرُدّكم؟ إن كان هو الذي خلق! فلماذا تعبدون غيره؟ وغيره ما خلق؟ والمُبطلون متناقضون؛ أنواع أهل الباطل متناقضين، ما لهم أساس صحيح، يقول: (.. قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام:148].
فالحمد لله على نعمة الإسلام، والعُبودية للإله الخالق، والتّبعية لخير الخلائق مُحمَّد؛ فلنا الشّرف نعبد الخالق، ونتبع أكرم الخلائق. ولا عزة فوق عزة فوق هذا، ولا تبعية لحزب، ولا لشرق ولا لغرب، ولا لصغار ولا لكبار، ولا لعرب ولا لعجم؛ تبعية المُسلمين -عربهم وعجمهم، إنسهم وجِنَّهم- للقائد الأعظم مُحمَّد، وعُبوديتهم للواحد الأحد؛ فما أعزّهم، وما أشرف مقامهم! ثبتهم الله على الإسلام، ألا يا حافظ، احفظ علينا دين الإسلام. الله يحفظ على المُسلمين دين الإسلام والإيمان حتى يتوفّى كُل منهم عليه، ويزيدنا في الإسلام.
اللَّهم كَمَا أَنْعَمْتَ عَلَيْنَا بِالْإِسْلَامِ فَزِدْنَا مِنْهُ، كَمَا أَنْعَمْتَ عَلَيْنَا بِالْإِيمَانِ فَزِدْنَا مِنْهُ، كَمَا أَنْعَمْتَ عَلَيْنَا بِالْعَافِيَةِ فَزِدْنَا مِنْهَا، كما أنعمت علينا بالعُمر فبارك لنا فيه.
وهذه السّاعات والأيام القليلة في خواتيم رمضان موسم الزيادة؛ يزيدك، يزيد كثير إيمان، يزيد كثير إسلام، يزيد كثير عافية، يزيد كثير قُرب، يزيد كثير محبة، مع كُل وقيت صغير ذا.. إغنم ولعلك تزداد، وعاد يخرج وأنت رفيع في قوة إيمانك، رفيع في قوة إسلامك، رفيع في قُربك من إلهك -جلَّ جلاله-.
الله يُكرمنا، الله يُكرمنا، يتفضل علينا، ويمُنْ علينا، ولا تحرمنا نفحات هذه السّاعات والليالي المُباركات الزّهية لأن ما عاد نقدر على أكثر من ثلاثة ليالي.. خلاص في رمضان ما تزيد على ثلاثة ليالي باقي، ما يمكن. الله يُكرمنا فيها، ويجعلنا عنده من خواص أهلها، ويرفعنا في مراقي القُرب منه والمحبة منه والمحبة له والرضا منه ورضا عنه رفعًا عظيمًا. اللَّهم أكرمنا بذلك، اللَّهم أكرمنا بذلك، اللَّهم أكرمنا بذلك في عافية، اللَّهم أكرمنا بذلك في عافية، أكرم بجميع الحاضرين والمُشاهدين وجميع من في ديارهم ومن في منازلهم وأحبابنا يا حيّ يا قيوم، خير مسؤول أنت، وأكرم مأمول أنت. سألناك؛ فاستجب لنا. دعوناك كما أمرتنا؛ فاستجب لنا كما وعدتنا إنك لا تُخلف الميعاد.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
27 رَمضان 1445