(228)
(536)
(574)
(311)
الدرس الثاني من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الزخرف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) }
الأحد 28 رمضان 1445هـ
الحمد لله مُكرمنا بتنزيل القرآن على قلب عبده المصطفى سيد الأكوان، محمد بن عبد الله رفيع القدر والجاه والشأن، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه في كل حين وآن، وعلى آله المطهرين عن الأدران وصحبه الغُرِّ الأعيان، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الرحمن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين الإله المنان.
أما بعد،،
فإننا في نعمة تأملنا لكلام إلهنا وخالقنا -جلَّ جلاله-، مررنا على آيات من سورة الزخرف تحدَّث فيها القرآن الكريم عن القرآن الكريم، وقال الحق: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)) والله يوفر حظنا من عقل الخطاب وفهم المعنى، (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ (5)) وذكر ما حصل في واقع هذه البشرية من توالي الرسل عليهم، و(يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [يس:30]، (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7)) فهذا الاستهزاء في حد ذاته واقع في البشر من خلال جهلٍ وتخيلٍ وظنونٍ وأهواء وشهوات.
ولهذا لمَّا قالوا أصحاب سيدنا موسى لسيدنا موسى عندما أخبرهم أنَّ الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة: (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ ..) [البقرة:67]، قال سيدنا موسى: (.. قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [البقرة:67] أهل الهُزُو: هؤلاء الناس جُهَّال، من عرف الحقيقة لا يستهزئ، من عرف الحقيقة لا يستخف بالحق، ولا يستخف بالناس ولا يكذب عليهم، فكان هذا الاستهزاء ديدن الكفار أمام كل رسول، وكذلك هو ديدن الغافلين من المؤمنين والمنافقين أمام كل ولي، أمام كل ولي في ناس مستهزئين، مثل المستهزئين بالأنبياء تمامًا، وما لا يوافق طباعهم وأغراضهم وهواهم يستهزئون به يضحكون وينكرون، وكذلك كان يفعل الكفار مع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
قال: (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7)) والعواقب والنهايات والنتيجة صارت واحدة ولكن لا يعتبرون، (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)) سُنَّة بعد سُنَّة، وأمَّة بعد أمَّة، وطائفة بعد طائفة، وقوم بعد قوم والنتيجة هي هي واحدة، ماذا حل بمعاندي الأنبياء ومنكري الرسالات والمؤذيين للأنبياء؟ أبادهم الله تعالى، قال في قوم النبي هود عليه السلام: (سَخَّرَهَا ..) أي: الريح (.. عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) [الحاقة:7-8] -لا إله إلا الله-.
قال ومع ذلك هؤلاء الذين يؤذونك ويعاندونك وقد: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا ..) في نموذج واثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وستة وعشرات النماذج من قبل وكلهم أهلكناهم، فماذا ينتظر هؤلاء؟ ومع ذلك (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ..(9)) لا يقدرون ينسبونها إلى آلهتهم التي يعبدونها دائمًا، هم بنفسهم ركبوها وصَلَّحوها، متى السماء ومتى هم ومتى الأرض؟ لا يقدرون ينسبونها لآلهتهم لَيَقُولُنَّ خلقهن اللَّهُ، عَبَّر أنَّهم يقولون خلقهن الله، فذكر الله من وصفه وأسمائه الاسمين الشريفين العزة والعلم؛ لأن هذا أوثق لمحاجتهم فيما هم بصدده وليمهد لهم ما بسط لهم من أثر قدرته وحكمته في هذا الوجود وتكوينه، فقال: (.. لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)) هم يقولون الله فقط لا يقولون العزيز العليم، هم يقولون الله، والحق عبر، هذا الله الذي تقولون أنَّه خلقهن هذا وصفه، تعرفوا عليه، ومن وصفه هكذا كيف يُجحد؟! كيف يُشرك معه غيره؟! كيف يُعبَد سواه؟!
وصاحب هذا الوصف انظروا ماذا عمل لكم؛ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ..(10)) فهم يَقِفُوا كلامهم هنا؛ عند قولهم: (.. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ..) [الزمر:38] فقط كما قال في الآية الأخرى، وهنا ذكر من أوصافه تعالى العزيز العليم: (.. لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ) الذي لا يحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كل شيء.
(.. الْعَلِيمُ (9)) صاحب الدراية بأبعاد الأمور وحقائقها وكيفية تركيبها وتدبيرها، هو العزيز العليم.
(.. لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)) يقول الحق: تقولون أنتم خلقهن الله، هذا الله عزيز عليم انظروا ماذا فعل لكم؟
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) [النبأ:6] فما الذي مهدها؟ هذا الإله الذي تقولون أنَّه خلق السموات الأرض جعلها لكم مِهادًا، (.. وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا ..(10)) في البر والبحر، غيره رتب لكم ماذا؟ (.. وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)) في حاجاتكم على الأرض، ولتهتدون إلى الحقيقة في عظمة الذي خلقكم وخلق الأرض، ومهدها وجعل لكم فيها السبل؛ الطرق (لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10))-لا إله إلا الله-، هذا الإله الذي تقول أنَّه خلق السموات والأرض جعل لكم في الأرض هذا.
(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ ..(11)) أنزل من السماء مَاءً بقدر: من غير قدر تقع مشكلة، مقدر، ترتيب على ما تحتاجه الأرض وعلى ما ينتفع به الناس.
ونادر إذا أراد أن يعذب به يُعذب؛ جاءت كمية إذًا مُقدَرة لكن كبيرة؛ لا تتناسب مع الأرض لا تتناسب مع المباني لا تتناسب مع قوة الناس هؤلاء، كما أنزله على قوم نوح (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر:11-12] إذًا قُدِر لهلاك هؤلاء؛ ولكن في غالب أحواله يكون مقدرًا لمنفعة العباد ومصلحتهم، وبحسب قدرة الأرض واستيعابها لهم؛ فهذا هو الغالب في أمطار العالم على مدى القرون.
يقول الله: أنا الذي نزلتها ولو شئت كثرتها عليكم، أو منعتكم إياها من يأتِ بها لكم؟ (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ) -أمام أعينكم- (بَلْدَةً ..(11)) أحيينا؛ أَنشَرْنَا: أحيينا؛ يعني أقمنا وأوجدنا حياة لزروع وثمار لم تكن، ألا ترون أمامكم زروع وثمار ما كانت موجودة من أين جاءت؟ ثم تقولون نحن إذا متنا من أين نرجع؟، أنت في عمرك كله ترى ما كانت شجرة وجاءت شجرة، ما كانت زرع جاءت زرع، ما كان… من أين جاء؟ قوة من هذا؟ وصاحب القوة ذا الذي يطلع لك شجرة بعد شجرة، لا يقدر أن يرجعك؟ أنت فكر، فكر مضبوط، أين عقلك؟.
(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ..(11)) بلدة كانت قاحلة، يابسة ما فيها شيء، وإذا هي مئات الأشجار وألوف، وشيء كبير وشيء صغير وثمر من نوع ذا ومن نوع ذا، ما هي القدرة هذه؟ ألا ترى هذا أمام عينك؟ ما هي مشكلة وعقدة البعث هذه عندك في رأسك ما قدرت تخرجها ببلادتك وبلاهتك وتناقضك مع نفسك، أنظر، أنظر القدرة.
(..فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ (11)) رجعتم من الأرض تراب، ما ترى أقمناكم مثل ما أقمنا هذه الأشجار، ما كانت أشجار طلعت أشجار، خلاص ذبتم في الأرض وأرجعناكم مرة ثانية قمتم، ماذا في القدرة واحدة! القدرة واحدة والقادر واحد، لا يعجزه شيء.
(فَأَنشَرْنَا..(11)) أحيينا ببلدة ميتة، (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا ..) [الحج:5-7]؛ فإذًا أدلة البعث والإحياء واضحة وجلية وأمام أعيننا، ولكن جاءوا هؤلاء مصمخين الذي يألفونه ويعتادونه وخلاص يسلمون به، والذي يألفونه آيات كبيرة، ومعجزات عظيمة، وقدرة باهرة، ما يعجزها أن تفعل الذي ينكرونه! وهو أهون عليه -سبحانه وتعالى-، ولكنهم يتناقضون مع عقولهم لا يُحسِنون النظر، لا يُحسِنون استعمال حاسة العقل التي أعطاهم الله إياها.
قال: (.. كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ (11)) هذا هو الذي كوَّن لكم الأرض في هذه الصورة، ومهدها بهذا التمهيد، وجعل لكم فيها سبل للزراعة وسبل للصناعة وسبل للمشي والسفر، وجعل لكم فيها -سبحانه وتعالى- سبل لاستخراج معادن وضعها لكم وسط الأرض -سبحانه وتعالى-؛ شيء ذهب وشيء فضة وشيء بترول وشيء غاز وشيء، وشيء… كله، كله وضعه هو، أم وضعها غيره لكم؟ أصحاب القوى الذين يسمون الذين مدوا أيديهم بوسائل من الأسباب أمكنهم الله منها لظلم المسلمين لأنفسهم بينهم وبين ربهم.
فعدّوا أنفسهم وهم كذلك في نظر أكثر المسلمين، أهل القوة والنفوذ في العالم ما في أكثر أماكنهم ومواطنهم هذه المعادن، موجودة عند البلدان التي يسمونها فقيرة، والبلدان التي يسمونها كذا، يأتون يأخذونها منها، لماذا لا يدعونها في بلادهم أحسن؟ لماذا يحتاجون إليها يذهبون يسرقون؟ يذهبو للنيجر ويأتون لليمن؛ خذوا من بلادكم؛ ليسوا هم الخالقين! ما هم -ليسوا- هم المقدّرين! ما هم -ليسوا- هم الموجدين! هو وضعه هنا، هو -جلّ جلاله- وضعها هنا ورتّبها، لكن قوم يجحدون وينكرون ويكابرون، وبغُوا نفسهم هم محل الإله، ما أسفههم!! وما أسفه عقولهم!! ولكن:
فالحمد لله على نعمة الإسلام، ولو لم يُنعم ربّ العرش عليك بهذا النعمة كنت واحد منهم، كنت بعيد الفكر عن إدراك الحقيقة وعن إدراك الإله؛ ومعرّض للنّار عن قريب -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. فالله الحمد على نعمة الإسلام، احفظها علينا يا ربّ وزدنا منها وثبّتنا عليها، حتى توفانا عليها؛
رب احينا شاكرين وتوفّـــــنا مسلمــين *** نُبعث من الآمنــــين في زُمرة السابقـــــين
بجاه طه الرســـــول جُد ربنا بالقـــــبول *** وهب لنا كل ســــول رب استجب لي أمــين
آمين آمين. الحمد لله على نعمة الإسلام.
(وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)) ومن الذي جعل لك السبيل؟ وجعل لك السبيل حتى في ذاتك ونفسك؛ وسبيل لما تأكل -وأين-؛ رتب لك موضعه ومكانه ومدخله؛ وللفضلات تخرج منك كذلك هو رتبها؛ وأحكم ترتيبها لك؛ (نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ..) [الإنسان:28]؛ كان يتعجب بعض الأعراب بمجرد عقله وفطرته؛ يقول هذا الإنسان يمشي ويجري ويقفز في الصحراء وغيرها؛ وما يتسرّب شيء من باطنه ابدًا ولا من مخرجه؛ إلا وقت ما يَأذَن هو ويُخرج ذلك، نحمل قرب على الجمال ونعصبها ونشدّد عصبها، ومع ذلك يتسرب الماء منها ويخرج، مع أن مخرج القِرب إلى الأعلى إلى فوق، صعب شيء يخرج، مع الاهتزاز يخرج، ومخرج الإنسان إلى أسفل يقفز وماشي يخرج منه!! قال: ما الذي ربطه بهذا؟! ما الربط الذي ربطه هذا وجعله تحت قدرة الإنسان وتصرفه؟! ولا شيء إلا لما يحسّه ويَأذن هو ويقوم هو ويفكّه، وإلا ما يخرج ولا يتسرّب شيء. قلت كنا نمشي وكان يحملونه على الجمال حقهم يركبون القِرب وقال: نشدّ العصب عليها ويتفلت علينا، ومع أنه الذي فوق نخليه، ما نخلي القرب منكوسة الى تحت ونخليها فوق، فمها إلى الأعلى ومع ذلك يتسرّب منه ما يتسرّب، وهذا الإنسان ما يتسرّب منه شيء؛ ما الضبط القوي هذا!؟ ومن دون خيوط، ومن دون حبال، ومن دون حديد؛ ترتيب من فوق، رباني تلقائي سهل يسير، ما هذا؟!.
(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ..) -جلّ جلاله وتعالى في علاه- (..وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ)، وبعد ذلك (جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِين) [السجدة:7-8]، أين الطين والسلالة من ماء المهين؟ وأين هي في الحكمة والتركيب لهذا السمع والبصر والعروق والأعضاء والخلايا من أين؟! في التراب ولا في النطف؟ في قدرة المكوّن في قدرة المُوجد، (..ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ..) [المؤمنون:14].
كنت أعمل معه قدامكم كذا، وقاعدين معكم عقدة، كيف نرجع بعد الموت؟ بسم الله الرحمن الرحيم، وما هذا؟ وما الذي أمامك؟ ما القدرة هذه؟ ما العظمة هذه؟ متى بتَعجَز؟ ما عجزت، ماسك لك السماوات من قبل أبوك وجدّك وجد جدّك ومئات السنين ماسك من فوق والآن بتقول له كيف بتردّنا؟ قل له كيف أنت ماسك السماء؟ ألوف السنين، (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ..) [فاطر:41] عندكم من دولة بتمسك الأرض ولا بتمسك السماء فيه؟! إذا قد زلزلة جاءتها روّحت، من؟ لا يقدرون يمسكوا الأرض ولا يقدرون يمسكوا السماء، تأتي صعقة من فوق تجيبه، ولا ينفع السلاح حقه ولا مضاد ولا بيروح -جلّ الجبّار، جلّ القوي-. ولكن الناس يجحدون، وقال: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات:6] جاحد، ولكن فطرته ثم انكشاف الحقائق في وقتها؛ (إِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ) [العاديات:6] مقرّ داري بنفسه، ويجحد بأمر واضح بيّن، منعم متفضّل بكل شيء؛ ويجحد ويكابر ويعاند، وبعدين يقرّ.
يقول تعالى: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ..(11))، بلدة ميتًا: يابسة قاحلة صارت خضرة مزهرة، (..اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ۚ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ..) [فصلت:39] (..كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ (11))، (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا..(12)) أي أنواع الكائنات، إنما سمّاها أزواج، لأنه كل شيء من الكائنات له مقابل:
كل شيء له مقابل الا الفرد الحق، لايوجد شيء يقابله، لا صفة كصفته، ولا اسم كاسمه، ولا فعل كفعله؛ (..لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ..) [الشورى:11]، هذا الفرد المطلق -جلّ جلاله- ما له مقابل، أما جميع الكائنات لها مقابل، ولها نظير، ولها شيء إما يرادفها، أو يضادّها من جهة، لكن هو وحده لا له مثل، لا له شبيه، لا له نظير، لا له مضاد، ما حد يقدر -سبحانه عزّ وجل- هو الفرد الحق الواحد الأحد.
هو (الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ ..(12))، يعني أرض وسماء، صحة وسقم، وغنى وفقر، وصحة ومرض، وقيام وقعود، وحركة وسكون؛ كل شيء مقابله؛ أزواج، خلق الأزواج كلها متقابلة، الكائنات المتقابلة يقابلة بعضها بعض، هذا مقابل هذا مقابل هذا، (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ..) [الذاريات:49]؛ كل شيء في مقابله نوعين؛ منوّع -سبحان الله-. وهكذا الكائنات والمخلوقات، وهذه صفتها اللازمة لها، وامتاز عنها الخالق الواحد الأحد -جلّ جلاله- لا مقابل له، لا نظير له، لا شبه له، لا مثل له، لا إله إلا هو.
قال: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ ..(12))؛ عزيز عليم -انظر- عمل هذه الأشياء كلّها بعزته وعلمه والذي (..وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ) -السفن في البحر والأنعام في الب-ر (مَا تَرْكَبُونَ (12)).
(..وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12))؛ فرتّب هذا النوع من المادة الخشب ما تغوص في الماء، والذي ما يغوص إذا التجأت إليه ما تغوص -سبحانه-، فهي تمشي في البحر، هاتوا المادة ذي التي أنا خلقتها، ما حد يقدر يغيّره، يقول: لا فقط نحن الآن سنطور، لانريد خشب، نأتي حديد يمشي في البحر من دون هذا الخشب! ما يقدرون! يغوصون هم وإياها! ما في إلا الحكمة هو الذي رتبها، هو هذا يغوص وهذا ما يغوص، وهم تحتها مقهورين كلهم -لا إله إلا الله-، وأحيانا بعض السفن ضعيفة تعبانة، وتوصّل إلى محلات بعيدة وأهلها سالمين، ووحدة قوية متينة تمشي قليل وتنقلب محلها -لا إله إلا الله-؛ كلها آلات! آلات تحت الجلالة، تحت الأمر.
في البحر وفي البر عندنا أنواع من الأنعام، (..وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [النحل:8]، بعد ذلك في البر خلق لنا دراجات، وخلق لنا سيارات، وخلق لنا طائرات -جلّ جلاله-، والذي (جَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12))، تركبون عليه وتمشون وتمضون، إما في البر وإما في البحر؛ (لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ..(13)) أي: تتوصّلون لقضاء مآربكم وحوائجكم بواسطة الركوب على ظهور هذه الأنعام وهذه السفن، مهيئة لكم من مراكب في البر والبحر، فواجبكم إذًا (..تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ..(13)) لا أنتم خلقتموه، ولا خلقتوا البر، ولا خلقتوا البحر، ولا السبل فيه، ولا جعلتم هذا القانون للبر ولا للبحر، فاذكروا؛ واذكروا نعمة المنعم، واذكروا الإسلام، واذكروا الخالق العظيم.
كان بعض الصحابة يقول: واذكروا النعمة محمّد ﷺ، الذي علمكم، فاذكروا إذا ركبت في السيارة ركبت في الدابة، فاذكر أن الله علّمك بمحمّد؛ وأنقذك بمحمد؛ وجاد عليك بمحمّد، فاذكروا نعمة ربكم هو نعمة كبيرة؛ هو النعمة الكبيرة، فيقول: "إنما أنا رحمة مهداة، ونعمة مسداة" ﷺ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ..) [إبراهيم:28] يعني: مشركي مكة، ومشركي كفار قريش، بدّلوا نعمة الله يعني: محمّد، بدلوا نعمة الله محمد الذي جاءهم بالهدى بدلوها كفر، بدل ما يتشرّفون بالإيمان، ويرتقون ويعتزون في الدنيا والآخرة، يقولوا ساحر .. كذاب .. مجنون، خاصموه.. (..بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ وَبِئْسَ الْقَرَارُ) [إبراهيم:28-29] -والعياذ الله تعالى-.
(..ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)) مُقْرِنِينَ: مطيقين ضابطين، ما نقدر نضبطها نحن، ولا نقدر نقوم لولا أمر الله وإرادته..
(..وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)) ما كنا مطيقين نسخّر هذا، انظر:
ولهذا كان يضرب المثال سيدنا علي لحقيقة ضعف الإنسان يقول: "تؤذيه بقه، تنتنه عرقه" -عرقه وتنتنه تغير ريحته كله - "تؤذيه بقة، تنتنه عرقة، وتقتله شرقة" -يغص يموت-؛ قال: هذا هو الانسان: "تؤذيه بقه، تنتنه عرقة، وتقتله شرقة"، (وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:28] مهما تكبر هو شخص ضعيف.
(سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)) وماخلق لنا أيضاً من سيارات وغيرها من عنده، وهو الذي كوّن هذه الحكمة والسببية في هذا الأمر وما شاء هو كان -جل جلاله وتعالى في علاه- وإذا شاء يوقف؛ يوقف؛ وإذا شاء يقلب يقلب؛ وإذا شاء يعطل يعطل؛ وإذا شاء يمشي يمشي بحكمته سبحانه وتعالى. وجعلها بُسط مبسوطة لخلقه في الأرض مؤمنهم، كافرهم وبرهم وفاجرهم ويجعل فيها آيات وإن قل المعتبرون، يقل المعتبرون لكن فيها آيات تحصل كثيرا.
يقول: (لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ..(14)) هيّأ لكم الاستواء على ظهورها وإن كانت أكبر منكم وأضخم، حتى الفيل تركب فوقه وتمشيه ويمشي معك؛ وهو لو يعطيك لطمه بالخرطوم حقه بيصرعك، سخّره -سبحانه وتعالى-.
قال: (لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ..(14))؛ إذًا عليكم تذكر نعمة ربكم، يعني: يا معشر المشركين تقولون: الله خلق السماوات والأرض، وأقول لكم: هو عزيز عليم وَجَعَلْ فِي الأرض كذا، وجعل لكم فيها السُّبُلِ، وَأنَزَّلْ لُكُمْ مِنَ السماء مَاء، وأَحْيَى بِهِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتَهَا، وَخَلُقُ الْأَزْوَاجَ التي هي أَمَامُكُمْ كُلها، وَجَعَلْ لُكُمْ فُلُكُ وَأَنْعَامُ تُرْكَبُونَ عَلَيَهَا؛ اذكروه، ارجعوا إليه، عظموه، آمنوا به. فوق أرضه وتحت سماءه ويأخذون رزقه ويجحدونه ويعاندون أمره؛ (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة:156]؛ (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) [عبس:17] ما حقّه هذا؟ قال: (..ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ..(14))؛
(..ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ ..(14))؛ لهذا يأتينا في جملة الأذكار:
إذا ركبنا بالصلاة على النبي ﷺ؛ نذكر نعمة ربنا علينا، لهذا كان بعض الصحابة و بعض التابعين يقول: إذا ركبت دابة قُلْ: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ وهدانا به"، ثم قُلْ: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13))، (..ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)).
وجاء أيضاً -الله- حتى سيدنا علي بن الحسين ايضاً رأى من ركب وبدا (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13))، قال: بهذا أُمِرت؟ قال: كيف أقول أقول؟ قال: قُلْ: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ وهدانا به"، ثم قُلْ: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)).
(..ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)) وما كنا نُطِيقُّه ونَضْبُطُه نَحْنَ، (وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14)) رَاجِعُونَ نَحْنَ وَالْكُونَ وَمَا فِيهِ، (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم:40]؛ فيتذكر هذا، يتذكر انقلابه إلى ربه ورجوعه إليه، يقول: أنت الآن ركبت في مركوب؛ في العادة في حياة الناس آخر مركوب يركبون عليه رحل اسمه جنازة، فإذا ركبت على أي شيء يوجد مركوب منتظرك بجيء؛ ولهذا تقول: (وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14)) نحن بنرجع، اليوم أركب فوق الدابة، وبعدين يركبونا فوق الأعواد من أجل يوصلونا إلى القبر.
(وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14)) رَاجِعُونَ إليه، ستتذكر بهذا الركوب ركوبك على العيدان فوق عناق الرجال -لا إله الا الله- لكي يوصلونك آخر مركبة لك إلى قبرك: ( وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14)) الله، ولهذ يقول لشاعرهم على لسان هذا الجنازة-النعش- يقول لابن آدم:
أنْظُرْ إلَيَّ بِعَقْلِك *** أَنَا الْمُهَيَّا لِنَقْلِك
ويركبونك علي من أجل يأخذونك إلى القبر: أنا المهيأ لنقلك،
أنْظُرْ إلَيَّ بِعَقْلِك *** أَنَا الْمُهَيَّــا لِنَقْلِك
أَنَا سَرِيرُ الْمَنَايَــــا *** كَمْ سَارَ مِثْلِي بِمِثْلِك
مثلي كم ركبوا؟ صغار و كبار، أولين وآخرين على مثل هذا وانت واحد منهم ستركب، بعد ذلك،
كلُّ ابنِ أُنْثى وإن طالَتْ سَلامتُهُ *** يَوْمًا على آلةٍ حَدْباءَ مَحْمـــــولُ
لا إله إلا الله
أنْظُرْ إلَيَّ بِعَقْلِك *** أَنَا الْمُهَيَّــا لِنَقْلِك
أَنَا سَرِيرُ الْمَنَايَــــا *** كَمْ سَارَ مِثْلِي بِمِثْلِك
يالله بحسن الخاتمة، يا رب بركة في العمر وطول في طاعة الله وتقوى وإخلاص، ونفع وانتفاع وارتقاء وارتفاع وموت على حسن الخاتمة آمين.
(وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14)) والكل منقلب إلى هذا الحق، (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم) [الغاشية:25-26]، فالله يرزقنا حسن الاستعداد لدار المعاد، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وهذا كان يأمر بالتذكر لهذا المصير والرجوع إليه ويقول:
تبلغ بالقليل من القليل
يعني الزاد القليل من هذه الدنيا، والدنيا كلها قليل: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) [النساء:77]،
تبلغ بالقليـــل من القليــــل *** وهيِّ الدار للسفر الطويل
ولا تغتر بالدنيا وذرهــا *** فما الدنيـا بدار للنزيل
ولا تحسب بأنك سوف تبقى *** فليس إلى بقـــاء من سبيل
إلا اليوم و بكرة النقل لابد منه..
ولا تحسب بأنك سوف تبقـــى *** فليس إلى بقاء من سبيل
ولا تحرص على المال المخلى *** خلافك للقريب أو السليل
وأنفق منه مهما كان مال *** وقدم منه لليوم الثقيــــل
وخير الزاد تقوى اللَه فاعلم *** وشمر واعد عن قال وقيل
وحق اللَه أعظم كل حق
لاشيء في الدنيا حق عليك أعظم من حق ربك الذي خلقك وخلق الدنيا وخلق ما فيها، وخلق أباك وأمك، وخلق السماوات والأرض:
وحق اللَه أعظم كل حق -إيمان وتوحيد وطاعة-
*** فقم بالحق للملك الجليل
وطاعته غنى الدارين ***
الدارين إثنين (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ..) -سبحانه- (.. وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء:134]
وطاعته غنى الدارين فالزم *** وفيها العز للعبد الذليــــل
وفي عصيانه عار ونــــــار *** وفيها البعد مع خزي وبيل
فلا تعصي إلهك بل أطعــه *** دواماً عل تحظى بالقبول
وبالرضـــوان من رب رحيــم *** عظيم الفضل وهاب الجزيل
وصلى ربنا في كل حين *** وسلم بالغدو وبالأصيل
على طه البشير بكل خيــــر *** ختام الرسل والهادي الدليل
ونعم الهادي ونعم الدليل، اهدنا به واحسن معرفتنا بك واستدلالنا بدلالته، وأوصلنا إليك بجاهه عليك، أوصلنا إليك بجاهه عليك، يا أرحم الراحمين.
وفي عدد من أمة النبي محمد بعضهم إنس، بعضهم جن، دخل رمضان وليسوا بواصلين إلى الله، ولكن هذا اليوم وفيما يبقى من الليلتين ما تخرج إلا وقد وصل أحدهم إلى الله، ونفحت باسط النعماء قريب تعرض يا فتى منها تقرب، "وإن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها"، (وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26] وهذا ميدان السباق.
أَلا إِنَّ السِباقَ سِباقُ زُهدٍ *** وَما في غَيرِ ذَلِكَ مِن سِباقِ
ما في غير سباق، كل المسابقة إلى غير هذا باطلة، نتيجتها ساقطة، لكن لسباق الزهد هذا السباق للوصول إلى الرب الوَصول -جل جلاله- برفع الحجاب، وفتح الباب، ودخول الرحاب، ووعي الخطاب، ولبس حلة الآداب، والصدق مع ربِّ الأرباب، والاستعداد للقاء؛ فيلقاه الواصل وهو راض عنه، يكاد روحه تطير عند موته شوقًا إلى ربه -جل جلاله-.
الله يوصلنا إليه في لطف عافية إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرحمن، يا رب لا يخرج رمضان إلا وقد مننت علينا بهذا المن يا منان، واكرمتنا بهذا الفضل والإمتنان، وأنعمت علينا بهذا الجود والإحسان، يا كريم يا منان يا قديم الإحسان، يا حي يا قيوم يا رحمن بوجاهة المصطفى وأهل قربه.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
28 رَمضان 1445