(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدورة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5))
الحمدُ لله ربنا الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، عَدِمَت العقول ما تَصِفُهُ به، فلا والله، لا يُحيط بذاته ولا بصفاته ولا بأسمائه غيره. أرسل إلينا أَعْلَمَ الخلق به وأعرفهم بجلاله وعظمته، انكشف له من مكنونات أسرار العظمة والكبرياء والرفعة والألوهية ما لم يصل إليه أحد سواه، ولا غيره ممن عداه، فهو المقدم والحبيب للإله؛ ذاكم محمد بن عبد الله، صفوة الله وخيرته من أتقياه وأنقياه، اللهم أَدِم عليه الصلاة في كل لمحة ونفس وأدم عليه السلام الأقدس، وعلى كل من اتّصل به، خُصوصاً؛ آله وصحبه ومن سَلك دربه، ووالاه فيك وأحبّه، وعلى من بَشَّر به من أنبيائك ورسلك ونوّه بشأنه، من أهل وحيِك، وعلى آلهم وصحبهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان.
أما بعد،،
فإنّا في جِنَان التأمل في خطَاب الرّحمن، وفي رياض الأنس بتأمل معاني ما أنزل الله في القرآن، وبلّغه إلينا وحَمَلَه سيد الأكوان، نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإيّاكم التمكّين في فهم المعاني، والصدق معه فيما نُقبل عليه ونقوم به وله نعاني، حتى يجمع لنا من حقائق الفضل ما هو تعالى له أهل، فيَجلُّ ذاكم عن قول كل قائل وتخيّل كل متخيّل؛ (هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [ص:39].
ووا أسفَاه وحَسرتَاه على عُقولٍ ونفوسٍ وأرواحٍ لهذه الأمة خصُوصاً من مسلميهم تمر بهم الأعمار لا يعرفون الإتجّار في هذه البضائع الغاليات، ولا يدخلون هذه الميادين الرّاقيات الصّافيات، فتمرّ بهم الأعمار، مغترُّون بما يغرُّهم به الكفار، وبما يلفت منهم إليه الأنظار، عدوّهم المُتربّص القَاعد على الصّراط المُستقيم، صاداً ومُخَذِّلاً ومُبَعِّداً، أبعد الله عنّا شره وضره، ووفّر حظنا من دخول ميادين البضائع الغاليات الربَّانيات، حتى ترتاح أرواحنا بالتروّح بالإمدادات القُدسِيات السُّبحانيات التي يُمِّدُ الله بها أربابَ الطّهارة، وكل من بالدخول في ميادينها يُؤمِّلون، يقال لهم: (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة:79]، اللهم اجعلنا من التوّابين واجعلنا من المُتَطهّرين واجعلنا من عبادك الصالحين.
وفي سورة الإخلاص بدائع وعجائب من أوصاف الحق، راجعة إلى كمال التقديس والتنزيه، وأن ليس له مِثْلٌ ولا شبيه ولا نظير في شيء من أوصافه يُحاكيه، (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص:4]، بل استقت الأسرار والأرواح و القلوب منها سُقياها من مجرد الكلمات، فنجد العارفين يتكلمون ويقولون، كما يقول الإمام القُشيري، إنّ الله -تبارك وتعالى-:
أي أظهرَ من مُخَبَّآت ومَكنونات عَجائب عَظَمَته في ألوهِيته، ما هيّأ له أن يحمِله من هذه الأسرار والأرواح والقُلوب الحَاملون، أهل السّوابق منه تبارك وتعالى؛ وإلى هذا الإشارة يقول سيدنا جعفر الصادق رضي الله عنه: "إن الله تجلّى لخَلقه في كتابه أو في كلامه ولكنهم لا يشعرون أو لا يعلمون أو لا يُبصرون". فنسأل الرّحمن أن يَفتح لنا في رمضان هذا، باباً مع القرآن في القرآن ومن القرآن، ولا يَحرمنا النَّصيب من هذه المعانِي في حَضرات التدانِ.
ونَصِلُ إلى سورة المَسد، وسورة تبّت، وسورة اللَّهب؛ لنَرى ما يعرض علينا الرب، أن الأمر منوطٌ في القُرب منه والرّضا منه، والظَّفر بكُنوز ما خبأ من السَّعادات والنَّعيم واللذائذ والعِنايات والحَلاوات والمُتَع الرَّفيعات، منوطٌ بمعرفة قدر أهلِ حَضرَته، فمن كفر بمحمدٍ فلا حظّ له ولا نَصيب من كلّ ذاك العَطاء الرَّحِيب، بل يقول: (لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) [الفرقان:27]، (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) [النساء:42]، فيكفي أن يقول (كَفَرُوا)، لماذا (وَعَصَوُا الرَّسُولَ) [النساء:42]؟! ليُبيّن المكانة الخاصّة لمحمّد، ولنعلمَ أنّ دائرة الكفر تدور على التّكذيب بهذا الحَبيب والانقطاع عنه ﷺ.
وبذلك نزلت هذه الآيات في هذا المُنْكِر، وكانت هناك أسبابٌ كثيرة ومقوِّمَات ربما تدنيه من الرحمة، فبوقوعه في هذا الإنكار والمكابرة والإيذاء للحضرة النبويّة المشرَفّة، فَقَدَ كُلَّ شيء وحَقَّ له الخسران الأكبر دنيا وآخرة نعوذ بالله من غضب الله، فإنه سارع إلى الإنكار وبادر.
أوّل ما أظهر الحبيب شأن الرسالة عندما أُمِر أن يجهر، فقد مكث ثلاث سنين بعد نزول الوحي عليه وسط مكة المكرمة يدعو إلى الله سراً، رحمةً بالخلق ولطفاً وتلطفّاً وترفقاً بهم، فكان إذا رأى الثقةَ في أحدٍ، عرض عليه الأمر خُفيةً وقال: "أخبرك بخبر إن قبلته أو لم تقبله اكتمه عليَّ، رسولٌ من الله أرسلني إليك وأمرني بكذا وبكذا".
فخُصِّصَ السّابقون بما خُصِّصُوا -السّابقون- أما بيته وأهل بيته فالأمر فيهم عظيم، فإنّ:
ومرّت الثلاث سنين فأنزل الله عليه: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر:94]؛ وفي هذا بيان الحكمة الإلهية، فإن الموازين من حيث المواد والأسباب الظّاهرة، ما تَهَيَّأ لعباده بعد لأنْ ينتشر بينهم هذا الخبر، ومَن ذا الذي يقومُ مع هذا النبي في مثل هذا الوقت؟، والعالم كُله على الكُفر، وهو مُرسل إلى جَميع العَالم، والشأن وسَط مكّة لم يزل غير مهيّأ لقبولِ هذا الخبر، ولكن الله أمَره أن يَجهر، فإنه إذا أراد أمراً نفَّذَه وقضاهُ -سبحانه- ، وإن ترتّب على هذا الجَهر وجُود شَدائد أو أهوال أو أذايا، فكلّها كلّها داخلةً في دقيقِ حِكمَةِ الحَكيم التي لا يصلُ إلى مُنتهَى ما فيها عُقول الخلائق، لا أهل أرضٍ ولا أهل سماءٍ، إلا إنّهم يَختلفون في أن بعضَهم أعْلم بحِكمة الله وأعرَف مِن الآخر، أمّا أن يُحيطَ بالحِكمة أحد فلا أهلُ أرض ولا أهلُ السّماء يحيطون؛ لأن الألوهية فوق الكل: (وإِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم:93-95].
وعلى هذا أيضاً تجدُ في أحوال الناس ما يترتب على إظهار بعضِ الأشياء في شَيء من الأوقات، إن كان فيمَا يتعَلّقُ بالمَعارِف والعُلوم المتَّصِلة بالدّين، أو بعضِ شؤون السُّلوك، فما أُذِنَ لأربابها أن يُظهِروها لهم في أوقاتِها، فمَهما تَرتَّب على ظُهورها، فإنَّ الحِكمة فيها عَظيمة ووسِيعة وبديعة، والعَاقبة لها ولأهلها.
وما لم يُؤذن فيه بأمرِ الإظهار والإفصَاح، فإن في سِيرَته ﷺ دلالة واضِحَة أنَّه لا ينبغي الاسْتعجَال، وأنّه تكون نتَائجَ ذلك غَير طَيِّبة، فقد حَمل الرِّسَالة الكُبرى العُظمى للعالمين، وصَبر على التَّخفّي بها والإسْرار بها ثلاث سنين؛ وفي هذا تعليمٌ لمنْ يحملَ الأمانة مِن أمَّته، أنَّه ليس كل الحقِّ يُقال، ولا يُقال لكلّ أحد، وأنَّه عِندما يكون أمرٌ يُطلبُ فيه الجَهر، ويُحبّ الله فيه الجَهر وجاء وقته، فلا يُتأخر عن ذلك، وإن كانَ مَظهَر الظُّروفِ مِن حَواليك لا تُساعد، فإنّ الله هو المُساعِد:
أنت المُيسّر والمُسبب والمُسهل والمُساعد
يسّر لنا فرجا قريبا يا إلهي لا تُباعد
كن راحمي فلقد أَيِست من الأقارب والأباعد
سبحان مولى الملك والملكوت الحي الذي لا يموت، فَأُمِر أن يجهر فجهر فلما جاء الأمر له بالجهر، نظر ﷺ عند ذلك إلى أقوى ما يدخل تحت اليد من أسباب الإبراز والإظهار والنّشر، فكان أعلى ذلك في ذاك المجتمع وذاك الزمان النداء على جبل الصّفا، فإن أكثر ما يُراد إشَاعتُه و إذاعته والإخبار به فهذه الوسيلة الإعلامية المستخدمة في ذاك الزمان، يصعد على جبل الصفا وينادي بطون قريش ليجتمعوا من حواليه فينبئهم، فينتشر الخبر، فاستعمل تلك الوسيلة وخرج بنفسه إلى جبل الصفا وعلا على الجبل، ونادى. ونحن في درس السيرة ذكرنا أن له ذكريات كثيرة مع جبل الصفا.
يا بني فهر، يا بني فلان، يا بني عدي.. لبطون قريش وقبائلها، وسمعوا النداء من ثقة أمين يعرف الكل صدْقه وعقْله ورجحان عقله، والذي تعجَّبت عقولهم من حَلِّهِ مشكلة وضع الحجر الأسود قبل خمس سنوات، فلما كان النداء بهذه الصورة من هذا المعتبر تجمَّع الخلق، حتى كان من لم يتمكّن من الحضور مباشرة في تلك الساعة، أرسل من ينوب عنه ويحضر ويبلِّغه الخبر، فتجمَّع الناس حول سيد الناس، وكان ممن حضر عمه الشّقي أبو لهب، عبد العُزَّى بن عبد المطلب بن هاشم.
فلما تجمَّعوا ابتدأ بالتمهيد في إقامة الحجة وإحسان البلاغ في المهمة وأدائها، قال: "أرأَيْتُم معشر القوم، لو خَبّرْتُكم أنَّ وراء هذا الجبل جيشاً وخيلاً مقبلاً عليكم أكنتم مصدقي"، تصدقونني؟ والجمع كله صاح بكلمة واحدة: نعم نصدقك ما جرَّبْنا عليك كذِبًا قط، لا في طفولتك ولا في أيام مراهقتك ولا في شبابك يوم من الأيام ولا في كهولتك الآن، يوماً من الأيام كذبتنا؟ ما عرفنا منك كذب، فلما قَرَّرَهم بذلك ألقى إليهم الرسالة، وقال:
"أما إني نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، إن الله أرسلني إليكم لتعبدوه وحده لا شريك له، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا، إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غششت الناس جميعاً ما غششتكم"
فبادر إلى الإنكار أبو لهب، وأخذ بذاك الكلام القبيح، وقام يقول له: تبًّا لك يا محمد، التباب: الهلاك والخسارة، ألِهذا جَمَعْتَنَا؟ ما جمعتنا إلا لهذا؟ سكت الناس ولم يرد أحد، وقد قَرَّرَهم قبل قليل، وقالوا: مصدقينك، وما جربنا عليك كذبا، وتفرقوا يبلبِلون، ولكن هذا الذي قام في المواجهة. وبهذا يُعْلَمُ ما الذي حصل عليه في هذه السورة من هذه التهديدات العظيمة، وأنه خسر الدنيا والآخرة، فكذلك المبادرون للإنكار على أصفياء الله وأوليائه وأرباب الخصوصية؛ عواقبهم مُخيفة ويخسرون كل شيء، الحذر من إنكار ما لا يُنكر ومن الاعتراض على أهل حضرة الله جلَّ جلاله.
(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1))، نزلت الآية ونزلت السورة الكريمة، (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ..(1))؛ هلكت وخسرت ويعبِّرُ العرب عن الكل بالبعض، يقولوا تبت يداه يعني كله هلك، ذاته (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1))، وتب، أي وقد تبَّ فعلاً، -أي فوق هذا- كيف؟
لا يغرنك منها لا جمال ولا مال ولا مكنة ولا نسابة ولا شيء،
الأمر دائر على شؤون القلُوب والعَواقب من علّام الغيوب فقط؛ هنا الأمر دائرٌ على هذا، وأكثر الناس يقصُر نظرُهم عن الامتداد إلى هذه الحقيقة، فيغلب عليهم الأمر الظاهر، وذلك مثل أبو لهب، كنِي بأبي لهب لجمالٍ كان فيه ومال معه، حتى أنّ وجنتيه تضيئان، أو عليها شيء من أثر ذلك الجمال، فسموه لإشراقه بذلك في الظاهر، وكنوه أبا لهب، وكان عنده مال، وكان عنده أولاد، وكان نسبه مرتفع، وكان عنده شَعبيّة، وله من أعيان مكة خلفيّة،
وكل هذا ما حماه من الهلاك ولا أنقذه من خسران الأبد، فليست الأمور بظواهرها ولا بمسمياتها ولا بما تُعطي الصور، ولأجل هذه الحقيقة نقرأ: (إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى صُوَرِكُمْ، وَلا إِلى أَجْسامِكْم، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ ونِيَّاتِكُمْ)؛ لأن العواقب مرتبة عليها، فلما انطوى قلبه على هذه المكابرة، والمعاندة، وسوء المقابلة لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم استحق الهلاك الأبد: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)).
ويقول بعضهم: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍّ ..(1))؛ لأن اليدين هي اللتان يتصرف بهما الإنسان في أكثر أفعاله، وتبَّ كله
ولكن على المعنى الأول: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍّ ..(1)) أي ذاته كلها، وتب: أي وقد تبّ فعلاً أصلا، فالأمر واقع من الآن الهالك هالك، ولهذا يتكلم علماء التوحيد على الشقي والسعيد، ويقولون: ليست العبرة بالظواهر؛
إن الشقـــــــي لشقـــــيُّ الأزلِ *** وعكسُه السعيد لم يُبدَّلِ
حتى قالوا مَثَل بسيدنا أبوبكر الصديق أيام الجاهلية وقبل الإسلام:
لم يزل الصديق في ما قد مضى *** عند إلهــــــه بحالـــــــــة الرضـــــــا
قالوا: ما رضي عنه حتى أيام الكفر وأيام قبل الإسلام، كان مرضي لأن عاقبته هذه -الله-، ولهذا كان يتكلم العوام عن هذا المعنى مما حصل لهم من كلام الحق ورسوله من التأثير، وكلام الصالحين فيهم، ويقولون: السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه. الكتابة التي ظهرت من عالم الغيب في الملائكة أشقي أم سعيد؟ أيام مازلت في البطن، هذه هي الخبر عندها، فما تُغني الظواهر -لا إله إلا الله- ، وأكثر الناس يقومون مع هذه الظواهر. ولكن النبي تلا: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)) في وقت لا يزال أبو لهب ممتّع بكثير من هذه الظواهر، ولكن تلاشت واحدة بعد الأخرى وانتهت إلى الخسران الأبدي، إذًا فلا ينبغي أن نغفل عن هذه الموازين.
يقولُ: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1))؛ خسرت يداه وهلكت، وقد خسر فعلاً وواقعاً لما كان في سابقته، وتكون عليه خاتمته (وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وما كسب (2)) ؛ فإلى المغْترين بالأموال والكسب ومنهم الأولاد؛ اعقلوا، اعقلوا، اعقلوا، في زمنكم وكم أزمان مرَّت قبلكم كثير هلكوا، ولم تنفعهم الأموال وهلكوا، لم تنفعهم الأولاد، وكثير جمّعوا من الأكساب ما جمّعوا، ثم لم يكن لهم إلا التباب، فما معنى الإغترار؟ ما معنى هذا الاغترار؟ (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].
(مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ ..(2))؛ ثروته وما كان يملكه من هذا المتاع، (وَمَا كَسَب (2)) وما أغنى عنه ما كسب؟ ما أغنى؟ ما أغنى، نافية (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2))، واِسْتَفْهِمْ بها نفسك، ما الذي أغناه؟ فإن شابهتَ أبي لهبٍ في الإنكار للحق فمَوْرِدُك مَوْرِدُه، ومصيرُك مصيرُه، ولا يُغني عنك المال ولا غيره،(مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2))،والحق دائماً في القرآن ينبِّهنا إلى القضية الكبرى التي إليها المرجع، وهو الخلود والأبد في الجنة أو في النار، هناك الأمر الأخطر؛ ولهذا ذكر هذه القضية هنا،
وقال: (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3))، تناسقاً مع كنيته أبي لهب، قال: ولم يذكر اسمه، لأن اسمه عبد العُزَّى، العُزَّى، اسم صنم والاسم باطل، فما ذكر اسمه وجاء بكنيته، وفيها مناسبة للهب الذي سيصير إليه وهو لهب النار.
(سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)) بفتح الهاء باتفاق القُراء، أما أبو لهَب فبفتح الهاء وبإسكانها؛ أبو لَهْبٍ وأبو لَهَبْ، (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)) تتوقّد مشتعلة دائما لا ينقص اشتعالها، ولا يضعف، ولا يقل، لا يُطفأ لهيبها، في صورة من صور تكوين الله لهذا المصير الخطير، لمن كفر به من المكلَّفين، جاء الخبر أنه: "أُوقِدَ عليها ألف عام حتى احمرَّت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهيبها".
(سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)) باشتعال دائم، (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)) -اللهم أجرنا من النار-، (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ) [الذاريات:32,33]، حتى جاء في بعض الآثار: "لو أن شرارة من شرر النار وقعت على ظهر الأرض في المشرق لوجدَ حرَّها مَن بالمغربِ"، شرارة، فكيف بذات النار؟ -اللهم أجرنا من النار-.
(سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3))، وامتد الشر إلى أهله لمعاونتهم إيّاه على ذلك الشر، فالأُسر تختلف، وقَصَّ الله علينا أخبار الأُسر؛ منهم من يجتمعون على الشر ومنهم من يفْترقون، وذكر لنا امرأة فرعون وجعلها مثالاً للمؤمنين، وذكر لنا امرأة لوط وامرأة نوح، (فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) [التحريم:10]، أسر تختلف وأسر مباركة، (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) [مريم:28] -وكلهم ما شاء الله- (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم:33-30]، تختلف الأُسر.
فمنهم زوجته، وكانت يقال لها أم جميل، وهي أخت أبي سفيان بنت صخر، أم جميل بنت صخر قال: (وَامْرَأَتُهُ ..(4))؛ أي وتصْلى النار أيضاً امرأته، (سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ ..(4)) تصلى معه هذه النار -نعوذ بالله- (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4))، فكان فيه معان، ومن جملتها أنها أيضا هي كانت تحتطب، وكانت في كفرها تأخذ الحطب كل يوم وتأخذ من الحطب الشوك، وتأخذ بعض الأنواع المؤذية فتبثها في الليل في طريق النبي ﷺ وبعض أصحابه، فتضعها لهم في الليل حتى إذا خرجوا في الصباح تأثروا بها وآذتهم، فكانت تحمل هكذا، واستمرت في جمعها للحطب، وقد تحمله وتجعل في عنقها حبل تحمل عليه الحطب، وبهذا الحبل أخذها مَلَكٌ حتى هلكت، في ليلة كانت حاملة للحطب والحبل في حلقها وأعيت وجلست على حَجَرة، فأمر الله المَلَك أن يأخذها، فأخذها بالحبل في عنقها فماتت.
(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)) ومن معانيه حمَّالة الحطب، نمَّامة، وقد كانوا يسمون النمّام حمّال الحطب لأنه يحطب بين الناس، يُشعل الفتن بين الناس يجي لذا ويقوله كذا ويجي لذا يقوله كذا، كلام الناس لبعضهم البعض يثير الفتن مثل الحطب الذي يشتعل بالنار، (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)) النمامة.
(فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)) من ليف تستعمله في الدنيا، وفي الآخرة سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً تُلْوَى على عنقها ( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة:32]، -نعوذ بالله من غضب الله-، بل قيل أنها أيضاً في الآخرة تُحَمَّلُ حطباً على عُنقها مجازاة على ما كان في عالم الدنيا وتحملها في القيامة قبل دخولها النار.
(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَب (4))، وقد أقبلت بعد خبرهم بنزول الآية، وذهبت تستنجد بأخيها وكان لم يزل كافراً قبل إسلامه أبو سفيان، فما أسلم إلا عام الفتح، فجاءت إليه غضبى، فقال: مالك أيتها الشجاعة؟ قالت: ما فيك غيرة؟ أُهجى، يهجوني محمد ولا يكون لك شيء! قال: الآن، سأقتله وخرج بالسيف وعاد بعد قليل، قالت: أقتلته؟ قال: أيسرُّكِ أن رأس أخيك في فم حية التقمته، قالت: لا وما ذاك؟! قال: كاد أن يكون هذا الآن، أنا خرجت إليه لأقتله، فقابلتني الحية كما هذا، فأرادت أن تلتقمني، أنا فرجعت، فكانت مغتاظة.
وحَمَلَت يوماً حجراً وأرادت أن ترمي رسول الله ﷺ ودخلت المسجد، وعند النبي أبو بكر كان، فأقبلت رآها سيدنا أبو بكر حاملة الحجر، قال: إني أخاف عليك يا رسول الله، قال: إنها لن تراني ستراك وتكلمك فكلمها أنت، فأقبلت، أين صاحبك هذا يا أبا بكر؟ تقول: بلغني أنه يهجوني، والله لئن رأيته لأرمينّه بالحجر، والنبي بجانبها ولكنها لم تراه وترى فقط أبوبكر، أين صاحبك؟ وذهبت.
(فِي جِيدِهَا ..(5)) عنقها (حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)) ما قدرت على النبي.من المفسدين في ذاك البيت والذين أصابتهم ظلمة التكذيب بالحق ورسوله؛ إبنه عتبة بن أبي لهب، قال: هذا يهجو أبي وأمي لأفعلنَّ ولأوذينّه وخرج، وكانت معه رقية بنت النبي ﷺ تزوج عليها، فجاء بها وأخذ يقول: أنت الذي تهجو أبي وأمي؟ وأنا كفرتُ بالنجم إذا هوى وكفرتُ بمن دنا وتدلَّى، وخذ ابنتك هذه، ورماها وطلقها وتفل في مقابل وجه النبي ﷺ فقال: "اللَّهمَّ سلِّط عليهِ كلبًا من كلابِكَ"، ومضى
خرجوا في رحلة إلى الشام ومعه أبوه ومجموعة من قريش، ففي الطريق نزلوا في مكان بقرب صَومعة لبعض الرّهبان، فأشرف عليهم الراهب يقول لهم: أنتم تبيتون هنا إن هذا المكان مسبعة، تجي السباع فيه في الليل، فقالوا نحتاط لأنفسنا، قام أبو لهب، قال: يا معشر قريش أكفوني في ابني فإني أخاف عليه دعوة محمد؛ هم يعلمون أنه الصادق ويخافون دعاءه ﷺ ولكن يكابرون؛ (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام:33].
وهكذا ترى كثيراً من صحابته، من أهل وراثته في الأرض يُكابرون، وهم يعلمون أنهم أهل نور وأهل حق وأهل هدى، فهذا يقول: أنا أخاف على ولدي دعوة محمد، ولدي عُتبة، قالوا: لا عليك، اجعلوه في الوسط بيننا كلنا من حواليه، ومن ورائه المواشي والجِمَال وهو في الوسط داخل بين الناس، ترضى هنا ينام؟ قال: تمام، ناموا، فأقبل الأسد ويتخطّاهم ولا يكلم الحيوانات ويتشممهم كل واحد خائف وهو يشم، يترك ذا ويترك ذا، حتى جاء إلى عنده، إلى عند عتبة، أخذه قتله في مكانه أمامهم -"سلِّط عليهِ كلبًا من كلابِكَ"، - وما نفع أنهم يضعونه في الوسط ولا يكونوا من حواليه. يقاومون مَن؟ يقاومون مَن؟ ويكابرون مَن؟ ولا يُغني حذر من قدر، -الله يرزقنا التعظيم له ولأمره والاعتماد عليه وحده، وحققنا بحقائق الايمان ويقينا كل شر أحاط به علمه في الدنيا والآخرة-.
وهكذا، ومرت الأيام وهلكت هذه، والولد هناك هلك، ومرت السنوات وبعد إحدى عشرة سنة من هذه الوقعة، أصابت العدسة أبا لهب، نوع من الطاعون أو يشبهه، وظهرت فيه، وكان يخافها قريش كثير ويرون أنها تعدي، فتركه أهله وأقاربه حتى مات، ومرت عليه ثلاث أيام فأنتن، فاستأجَروا له من بعض العمال والخدام من يَحمله بعُفونته من أجل أن يدفنوه، حملوه، بقي أنهم لم يحفروا له ولكن وضعوه في طرف جبل، ورموا الحجارة عليه حتى غطوه، وقيل أنهم حفروا له حفرة ثم جاءوا بحبل وعود، رفعوه إليها من بعيد لم يقربوه، ودفنوه (سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)) -لا إله إلا الله-.
وفي صحيح البخاري رُوِيَ العباس ابن عبد المطلب أخيه، لأبي لهب رآه في العذاب، وقال: كيف حالك؟ قال: لم أزل بعدكم في شدة وخيبة، إلا أنه يُخفف عني شيء من العذاب في يوم الإثنين وامص في نقرة إبهامٍ كالماء، قال: وَلِمَ؟ قال: لأني فرحت بولادة محمد حين بشرتني ثويبة جاريتي، فأعتقتها فكُفيت بهذا، ولكن ما ينقطع عنه العذاب، وهذه الرؤيا أوردها سيدنا البخاري في صحيحه عن العباس ابن عبد المطلب
والرؤى الواردة في السيرة من جماعات من الصحابة عن أحوال من مات قبلهم متعددة وكثيرة، فشأن السنة فيها شأن واضح، ومن يأخذ بعموم أنه (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) [آل عمران:88]، ويرى هذه الرؤيا متناقضة مع هذه الآية، تكون تناقضت مع فهمه هو لا مع الآية، فإن كثيراً من أمثال هذه الآيات الواردة في العذاب على العموم، مخصصة، ومن مثل قوله تعالى: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) [النساء:132]، لا أحد يُغفر له أبداً؟ فإذا واحد اعتقد أن الله يغفر بعض السوء، في شيء؟ تناقض؟ ما تَنَاقَض مع الآية، ما تَنَاقَض مع الآية، فتأتي على العموم، وتكون هناك مخصصة.
فكذلك شأن هذه العمومات، وشأن هذه أيضا الإشارات إلى ما يحصل في البرزخ والآخرة، حتى جاء بعض الصحابة وكان معه أخٌ له في الله، ثم أنه أصاب هذا مرض شديد حتى تعب وتسبب في قطع شيء من عروق يده حتى استعجل الموت، فرآه صاحبه هذا بعد مدة من موته، ورأى عيناً تجري له عنده، ورآه مُغطي يديه، فسأله: "ما حالك؟ قال: إن الله تعالى غفر لي وتجاوز عني إلا موضع يدي، لما استعجلتُ على نفسي، وقيل لي ما أفسدته بيدك لا نصلحه لك"
فجاء يقص على النبي الرؤيا، قال: "أما العين الجارية فذاك عمله الصالح يجري له"، ثم رفع يديه وقال: "اللَّهمَّ ولِيَدَيْهِ فاغفِرْ، اللَّهمَّ ولِيَدَيْهِ فاغفِرْ، اللَّهمَّ ولِيَدَيْهِ فاغفِرْ"، دعا له ﷺ بالمغفرة، وفيه إثبات ما دلت عليه تلك الرؤيا من الواقع في الآخرة والواقع في البرزخ، فالفوز كله في طاعة الحق ورسوله.
ملأ الله قلوبنا إيمانًا ويقينًا، وبارك لنا وجعل لنا في قراءة هذه السور، اعتباراً فيمن اعتبر، وادّكارًا مع من ادّكر، حتى نصل إلى ما ورائها من الخبر، ويصير الخبر عندنا كالعيان ، اللهم أكرمنا بذلك واسلك بنا أشرف المسالك وزدنا ما أنت أهله يا كريم يا منان، وفّر حظنا من رمضان وليالي رمضان وأيام رمضان، ومن القرآن في رمضان فإنه الشهر الذي أنزلت فيه القرآن، فاكرِمنا فيه بالفهم في القرآن، والاطلاع على أسرار القرآن، واحشرنا غداً في زمرة أهل القرآن، الذين هم أهلك وخاصتك يا رحمن بوجاهة المصطفى وأهل قربه.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي
اللَّهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
11 رَمضان 1435