تفسير سورة الليل -2- متابعة التفسير من قولة تعالى: (وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ (3))

تفسير جزء عمَّ - 45 - مواصلة تفسير سورة الليل
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.

نص الدرس مكتوب:

(وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ (11))

الحَمدُ لله باسط موائد جوده ليَمنَّ بإسعاده، لمَن يشاء من عباده، وصلَّى الله وسلَّم على عبده الصَّفيِّ سيِّد أهل وداده، سيِّدنا محمَّد المَخصوص من الحقِّ -جلَّ جلاله- بأعلى إسعاده، وأعظم إمداده، والمبيِّن لهُداه ورشاده، صلِّ اللَّهم وسلِّم وبارك عليه في كلِّ لمحة ونَفَسٍ أبداً عدد معلوماتك يا مَن أحاط بكلِّ شيءٍ علماً، وعلى آله وصحبه وأهل محبَّته وقُربه، وارزقنا فيما أوحيتَ إليه فَهمَه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وآلهم وصحبهم ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، واجعلنا فيه من الفائزين بمرافقة حبيبك مِنَّة وكرماً.

وبعد،،

 فإنَّنا في نعمة التأمُّل والتَّفهُّم والتَّعقُّل لإرشاد وإمداد وإسعاد وتعليم وتبيين الحيِّ القيّوم الذي لا يموت -الإله الحق- بما بيَّن وأرشد على لسان المُصطفى الأصدق -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم- في شهرٍ في مثله نزل القرآن الحق؛ تأمَّلنا من معاني سورة اللَّيل: (وَٱلَّيلِ إِذَا يَغشَىٰ (1)) يُغطِّي بظُلمته الأشياء (وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2)) بان واتَّضح وظهر.

 (وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰٓ (3)) بمعنى: مَن خَلَق الذَّكر والأنثى؟ وهو الله، أو بمعنى (وخَلْق الذَّكر والأنثى (3)) فتكون (ما) مصدرية (وخَلْق الذَّكر والأنثى)، وقرأ عبد الله بن مسعود: "والذَّكر والأنثى". قلنا إنهما آدم وحوَّاء، ثمَّ كلُّ أنثى وذكر من جميع الأزواج في جميع الحيوانات.

(وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰٓ (3) إِنَّ سَعيَكُم لَشَتَّىٰ (4)) قسمٌ يُقسم الجبَّار أنَّ مَساعي الخلائق متنوعة، مختلفة، مُتباينة، مُتباعدة، ليست بشكل واحد ولا على وجهٍ واحد، فانظر مَسعاك في أيِّ المسالك! وفي أيِّ الوُجوه على أيِّ أصلٍ قام؟ قَصدُك ونيَّتك ومُرادك في الحياة على أيِّ أساسٍ قام؟ على وَهم؟ أو على خيال؟ أو على تأثير أصدقاء وأصحاب؟ أم على تأثير برامج في النِّت؟ أم على تأثير مسلسلات في التِّلفزيون؟ إلى غير ذلك..

في أيِّ مَسلك أنتَ؟ في أيِّ مَسعى؟ سَعيك في النِّيات، في المقاصد، في التَّصوُّرات، في الإرادات، في الوُجهة، على أيِّ أساسٍ قام؟ فإنَّ سَعي الخلق شتَّى؛ مُختلف مُتنوِّع، وأكثر سَعيهم يَؤول إلى الخُسران والبوار ودخول النَّار، فانظر على أيِّ أساس أنتَ تَسعى؟ مَسعاك على أيِّ أصلٍ قائم؟ بأيِّ شيءٍ تستنيرُ فيه؟ ما المرجعيَّة لكَ فيه؟ أمجرَّد فكرك القاصر؟ أم الفكر الذي استنار بنور الفاطر؟ وإذا استنار الفكر بنور الفاطر عُصمَ من الانزلاق وراء الأوهام والخيالات وضلالات الخاسر، وتعثُّرات الفكر القاصر، فإذا لم يَستنر بنور الله فهو محلُّ الخطأ، ومحل الزَّلل، ومحلُّ الوَهم، ومحلُّ الكذب، كما أنَّنا لا نرى أنَّ نور العين وبصرها يكفي من دون نور الشَّمس ومن دون الضَّوء، فإذا لم يكن ضوء فمهما كان بصرك حاد لا ترى شيء ولا تتبيَّن لكَ الأشياء مهما كابرتَ حتى يُشـرق نور، وإذا أشرق نور بانت لكَ المعالم والأشياء وعرفتَ الطَّريق، كذلك العقول لا تستبين الهدى إلا بنور؛ نور الوحي، نور القرآن، نور التَّنزيل، ومن دون هذا النُّور ما تهتدي له.

 قالوا لسيِّدنا عمر:" كيف كنتم تصنعون أصنام من الحلوى وتعبدونها؟ وإذا جاء أحدكم يذوق منها ثم يأكلها! ويقول: صار معبوده في بطنه! ما لكم عقول؟ قال: كانت العقول كأمثال الجبال ولكن أضلَّها باريها، والعقل ماذا ينفع إذا أضلَّه الله؟" فما ينفع البَصـر من دون نور، ولا تنفع العقول من دون وحي الله -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-.

فالحمدلله على نعمة الوَحي والنُّور الذي فيه (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَد جَآءَكُم بُرهَٰن مِّن رَّبِّكُم وَأَنزَلنَآ إِلَيكُم نُورا مُّبِينا) [النساء:174]، ثمَّ إنَّ النَّاس في هذه العُيون يَحتاجون إلى سُرجٍ يُضيئونها ليَستدلُّوا على الطَّريق وليَعرفوا الأشياء طوال اللَّيل، لكن في أيِّ محلٍّ سطعت فيه الشَّمس انتهت المصابيح التي يفتعلونها ولو كانت كهرباء بأيِّ قوة، حين تسطع شمسُ الله، وكذلك يُقال للعقول: لكِ مجال المُباحات التي أباحها الله ولم يُحرِّم فيها ولم يُوجب، فإذا جاء الأمر من الله أطفئوا مصابيحكم فقد سطعت شمس الله، ما يمكن الاستضاءة بالمصابيح في ضوء الشَّمس السَّاطع أبداً، ولكن ضوء الشَّمس تُغطِّي كلَّ مصباح.

يقول جلَّ جلاله: (إِنَّ سَعيَكُم لَشَتَّىٰ (4)) فلا يَخرج رمضان إلا وأنتَ في مَسعى، مآله أن يكون مشكوراً عند الخالق في يوم الجمع الأكبر (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) [الإسراء:19]، -الله أكبر- قال سبحانه وتعالى: (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا* إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا)  [الإنسان:21-22]، (مَّشْكُورًا) مِن قِبَل مَن؟ مِن قِبَل مَن لا يموت، من قِبَل الحيِّ الدَّائم الباقي.

إذا صلَّحتَ "سعي مشكور" من قِبل حكومة، كم تبقى الحكومة؟ وبعد ذلك تذهب فيذهب السَّعي!! مشكور من قِبل وزارة، الوزارة تدوم كم؟ تبقى كم؟ بعد ذلك تسقط، سقط سعْيك! الله! مشكور من قِبل حزب، وبعد ذلك كم يدوم الحزب هذا؟ ويسقط الحزب، سقط سَعيك! لكن سعي مشكور من قِبل الدَّائم الحيِّ الذي لا يموت، الله، هذا هو السَّعي المشكور يشكره الله، قال تعالى: (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة:158]، تقبل رحمته ومنَّته وتعمل بطاعته بعد ذلك هو يشكرك! والشُّكر له، لكنَّه هذا فضله (فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)، (فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) [الإسراء:19]، (إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا) [الإنسان:22].

وبعد ذلك، والثَّاني: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [يونس:7] كحال أكثر الكفَّار الموجودين على ظهر الأرض اليوم، (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) وما فيها طمأنينة! حياة متقلِّبة والموت فيها، واطمأنوا هُم بها! هذا ما هو محل طمأنينة! يا عاقل، يا عاقل، لكن هُم اطمأنُّوا بها، متقلِّبة، متغيِّرة، المرض فيها، الهم فيها، الكدر فيها، التغيُّر فيها، والموت فيها، ويقوم يطمئن بها! لا حول ولا قوَّة إلا بالله، هذا عاقل هذا؟ هذا ما هو مكان طمأنينة ياعاقل! تطمئن لشيء يتقلَّب ويتنازع ويختلف وينتهي! إيش الطمأنينة هذه؟ طمأنينتك متقلِّبة متغيِّرة منتهية، خلاص.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ) [الرعد:28]، هذا ما يتغيَّر، هذا ما ينقلب، هذا ما يموت، فطمأنينتهم دائمة باقية قوية، وهؤلاء اطمأنوا بالحياة الدُّنيا (وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس: 8-7]، (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ) [الإسراء:18] جُوزوا، والذي يريده الله يجيء له فقط! ليس كل شيء، ومَن مِن ملوك الأرض الموجودين اليوم كلّهم، كل شيء يريده عنده؟ ولا واحد! ولا واحد! ولا واحد! ولا واحد!

كم من أفكار في أذهانهم ما قدروا عليها؟ وكم من آمال ما قدروا عليها؟ في أبسط الأشياء عندهم، وسط ديارهم، في نفوسهم ما قدروا عليها! آه، أمور تحدث في شعوبهم، في بعض الشَّيء الذي هم يخطِّطونه ويجي خلاف ما يريدون (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ) [الإسراء:18]  فقط! ما يحصِّل كل شيء يريده، (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا) [الاسراء:18] وهذه النَّتائج الحتميَّة مصيريَّة للكل، فيا فوز من اتَّقى الله، وصدق مع الله، وأطاع الله، نعم.

(إِنَّ سَعيَكُم لَشَتَّىٰ (4)) فلا تجعل رمضان يمرّ إلَّا وحكَّمت شؤون سَعيك، أين تَسعى؟ وإلى مَن؟ وإلى أين؟ أرباب العقل والمعرفة من الصَّالحين يجعلون أمام كل حركة لهم ثلاثة سؤالات: لماذا؟ وكيف؟ ولمَن؟ لماذا تفعل هذا؟ كيف؟ لمَن؟ مَن المقصود؟ ما المقصود؟ -الله أكبر-، قال: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110].

(إِنَّ سَعيَكُم لَشَتَّىٰ (4)) مُختلف، ولهذا كم في الدُّنيا أحزاب، كم في الدُّنيا اتَّجاهات، كم في الدُّنيا مذاهب، ما تُحصيها! (إِنَّ سَعيَكُم لَشَتَّىٰ)، وبعد ذلك هات الخُلاصة يا ربِّ لمسائل العباد على ظهر الأرض.

 (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى.. ( 5)) يعني: ما حُبِّب إلى النُّفوس ورُزِقَته من المال، من الحياة، من الوقت، من الفكر، والذي يُعطي هذه الأشياء لمعرفته ومحبَّته، لمعرفته بمَن خلق ولمَن قصد ومحبَّته له (أَعْطَى وَاتَّقَى(5))، اتَّقى الكُفر، اتَّقى المَعصية، اتَّقى البُخل، اتَّقى الله تعالى؛ اتقى سخطه وعذابه.

 (أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى  (6)): الجنَّة، لا إله إلا الله، الإيمان، الإسلام، مُحمَّد؛ هذه مظاهر الحُسنى: 

  • حُسنى المِلل: ملَّة الإسلام 
  • حُسنى الخِصال: خَصلة الإيمان 
  • حُسنى المآل والمصير: الجنَّة 
  • حُسنى الكلمات: لا إله إلا الله 
  • حُسنى الخلائق: مُحمَّد "كان أحسن النَّاس خُلُقاً وخَلقاً، وأوَّلَهم إلى مكارم الأخلاق سبقاً، وأوسعهم بالمؤمنين حِلماً ورِفقاً، برّاً رؤوفاً لا يقول ولا يفعل إلا معروفاً"، له الخُلُق السَّهل واللَّفظ المحتوي على المعنى الجزل، إذا دعاه المسكين أجابه إجابة معجَّلة، وهو الأب الشَّفيق الرَّحيم لليتيم والأرملة، وله مع سهولة أخلاقه الهيبة القويَّة التي ترتعد منها فرائص الأقوياء من البريَّة، ومِن نَشْرِ طيبه تعطَّرت الطُّرق والمنازل، وبعرف ذكره تطيَّبت المجالس والمحافل، فهو جامع الصِّفات الكماليَّة والمُنفرد في خَلقه وخُلُقه بأشرف خصوصيَّة، فما مِن خُلُقٍ في البريَّة محمود إلا وهو مُتلقٍّ عن زين الوجود.

هذا حُسنى الخلائق، لا تُكذِّب بالحُسنى! تجيء لأحسن شيء خَلقه الله وتُكذِّب! إيش تبغى؟ تبغى السَّيئات؟ قبائح؟ هذا أحسن مَخلوق، هو جاءك بلا إله إلا الله، هو جاءك بالقرآن، هو جاءك بالإسلام، هو جاءك بالإيمان، هو الذي دعاك إلى الجنَّة، أما تقرأ في الحديث الصَّحيح، في البخاري وغيره: "كل النَّاس يدخل الجنة إلا من أبى، من يأبى الجنة يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".

فهو باب الجنة، سبب الدُّخول إلى الجنَّة، وضرب المثل قال: «"كمثل ملكٍ ابتنى داراً وجعل فيها مأدبة، ثم أرسل رسولًا ليدعو الناس، فمن أجاب الرَّسول دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الرسول لم يدخل الدَّار ولم يأكل من المأدبة، قال: فالملك: الله، والدَّار: الآخرة، والمأدبة: الجنَّة، وأنا الرَّسول، فمَن أجابني دخل الدَّار وأكل من المأدبة ومن لم يُجِب لا جنة ولا نعيم". الله، فهو جامع معاني الحسنى.لا إله إلا الله محمَّد رسول الله.

 لا تُكذِّب بالحُسنى، وأصل الحُسنى في حق الله، الحُسنى كلُّه له، وما حُسنُ محمَّدٍ إلا من فضل الله، ومن جود الله، ومن كَرم الله، ومن حُسن محمَّد جاءنا بلا إله إلا الله، جاءنا بالقرآن، جاءنا بالإيمان، جاءنا بالإسلام، جاءنا بالصِّدق (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر:33] واجتمعت فيه المحاسن، لكن هذا أثر وذرَّة من حُسن الحقِّ -جلَّ جلاله-.

فالحُسنى لله، والجنَّة أثر من آثار الحُسنى ولكن إذا رأينا إلى هذه الآثار وجدناها متفرِّعات عن أصل؛ أصلٌ جعله الله في العالم الخلقيِّ للحُسنى حقيقته محمَّد، هذا أصلُ الحُسنى فجميع المحاسن في العلويِّات والسُّفليات، في الجسديَّات والرَّوحانيات، في الدُّنيا والآخرة فروعٌ عن هذا الحُسن. ومنها: الجنَّة، ما أحسنها حُسنى ولكنها فرع، ولهذا يقول لك: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" ولو كان في شيء سواهما أحسن سيكون هذا كلام غير صحيح، لا، هذا كلام صحيح، كلام حق، ونطق به لسان رسول الحق، بلسان ما ينطق عن الهوى، بس إذاً ما في أحسن من الله ورسوله؟ لا ما في أحسن من الله ورسوله، ولا جنَّة؟ ولا جنَّة، ولا عرش؟ ولا عرش، ولا كرسي؟ ولا كرسي، ولا سماء؟ ولا سماء.. ما في أحسن من الله ورسوله، ما في! ما في أجمل من الله ورسوله.. ما في! ما في أكمل من الله ورسوله أبداً "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".

صَدِّق بالحُسنى تَلقى الحُسنى، وواسطة الحُسنى: الأخلاق الحسنة، والنيَّات الحسنة، والعيشة الحسنة، والطّمأنينة الحسنة، والاستقرار الحسن، كلُّه في الحُسنى هذا.. القول الحسن، والفعل الحسن، كلُّه في الحُسنى.. صدِّق بالحُسنى تَحصِّل نصيبك من الحُسنى.

(وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱستَغنَىٰ (8)) بَخِل بالعطاء لله، بَخِل على نفسه بالإيمان بربِّه، بخل بالحقير اليسير ممَّا عنده، (وَٱستَغنَىٰ) زهد في الجنَّة، في الآخرة، في المثوبة من عند الله، رأى أنه غني، رأى أنه غني! استغنى بنفسه، استغنى بعقله، استغنى بشيء مما عنده، مسكين!

(وَكَذَّبَ بِٱلحُسنَىٰ (9)) كذَّب بالحق، أو حُسنى الحقِّ في الخَلق أو ما تفرَّع عنه، لا إله إلا الله، إيمان، إسلام، جنَّة. (وَكَذَّبَ بِٱلحُسنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلعُسرَىٰ (10)) نُهيِّئه للعُسرى مُقابِل اليُسرى، ماهي اليُسرى وماهي العُسرى؟ 

نهيِّئه لليُسرى، هذا الذي (أَعطَىٰ وَٱتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِٱلحُسنَىٰ (6)) نهيِّئه لليُسرى، وخذ معانيها: نُيسِّر له السَّبيل إلينا، كلَّما فعل الطَّاعة حلَّيناها له ووفَّقناه لطاعةٍ أخرى، فتذلَّلت له الصِّعاب، وسَهُلت عليه المشاق، وتيسَّر له الطَّريق (فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِليُسرَىٰ (7))، ولا نزال نواليه بتوفيقنا ورعايتنا وعنايتنا وحفظنا له من الآفات ثمَّ نتوفَّاه على الحُسنى، على حُسن الخاتمة، ثمَّ نُلقِّيه اليُسرى في القبر والبرزخ، ثمَّ نُلقِّيه اليُسرى في المَحشر: هنا في حر شمس، اذهب إلى ظلِّ العرش، هنا في استلام كتاب باليسار، اذهب وخذه بيمينك، هنا في رجحان السَّيئات رجَّح حسناتك، يُسرى.. يُسرى.. يسرى.. ظمأ وعطش اشتدَّ على الحوض، رِدْ على الحوض واشرب "مَن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً"، طيِّب..

إلى أن تنتهي اليُسرى إلى قمَّة اليُسرى مرافقةٌ للأصفياء في دار الكرامة والبقاء خلاص انتهت اليُسرى، هذا يعني بلغ فيها قمَّة والعجب أنَّ هذه القمَّة يتزايد ما فيها إلى الأبد.. كيف؟ في كُلِّ وقت لهم فيها "ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر" لماذا؟ لأنه في كل وقت يتجدَّد للعين مَنظر جديد، يتجدَّد للسَّمع كلام جديد، يُشاهد ما لم يَخطر على بالهِ، هو اليوم في نعيم، وبكرة نعيم ما خطر اليوم على بالهِ، وهكذا.. إلى متى؟ انتهى إلى متى! إلى الأبد.. إلى الأبد.. إلى الأبد.. إلى الدَّوام..

كانوا يقرِّبون للعقول تتصوَّر عظمة الأبد وسعته، يقول: لو جمعنا من حبِّ السِّمسم ملأنا به كيس كبير، بعد ذلك طائر يجيء في كلِّ ألف ألف ألف سنة، مليون سنة، يأخذ حبَّة واحدة ثمَّ يذهب، متى بيكمِّل الكيس؟ ما هو كيس، لو ملآنا الأرض من أقصاها إلى أقصاها، وهذا يجيء في كلِّ ألف ألف سنة يأخذ حبة ويروح، سمسم! ينتهي هذا كلُّه وأهل الجنَّة في الجنَّة وأهل النَّار في النَّار، وعاد الأبد هذا قدَّامه كلُّه ملَّا ثاني وثالث ورابع.. أبد.. فوق العقل! تصوُّر أبد (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) [النساء:57] وأبد في جوار محمَّد، إيه؟ وجوار الأنبياء والأصفياء (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69] ما هذا؟ (ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ) [النساء:70]، اللَّهم تفضَّل به علينا، يا مُتفضِّل، يا كريم.

ذِكره يُحرِّك الرُّوح يُطربها، مع ضعفنا وعجزنا، مع أرواح أرباب الصَّفاء والصَّلاح طربها ثاني، في كل ليلة من ليالي رمضان تكاد تطير روحه! تكاد تطير روحه شوقاً ومحبَّة ورغبة وذوقاً، الله، نحن في ضعفنا الآن في ذكر هذه الحقائق يبدأ عند الرُّوح طَرب إن استقمتَ قُوي ذلك وبدأتَ تذوق لذَّة في القربة من الله والذِّكر له لا يوجد لها نظير في لذائذ العالم المادِّي والحسيِّ بأصنافه وما فيه.

كان يقول بعض الذين توفُّوا قبل سنوات، ومضى كثير من حياته تعلَّم لغات كثيرة، وسافر هنا وهنا، وكان في مجالس بعض الوزراء والأمراء والرؤساء، وأواخر أيامه وقد شاخ أقبل على الحق تعالى، لقيته ليلة في مسجد با علوي، قال: "والله ما رأيت مثل هذه المجالس في عمري! يعني: جلسنا على موائد الرؤساء والأمراء والملوك، ومرَّت حياتنا لكن والله مافي لذَّة مثل صلاتي في با علوي هذا! صلاتي في هذا المسجد، قيامي فيه، حضوري للتَّراويح، وحضوري للمديح، ما رأيت أحلى منه!" هذا شيء مما ظهر لك وما وراء ذلك أكبر.

أين ما يُقاس هذا بهذا ولكن النَّاس يَغترُّون! مَثَلهم تماماً مع مَن يُدرك مثل الصِّبيان، يتزاعلون ويتنازعون على لعبة أوعلى "نعنع" ولا هو داري بالجواهر ولا قدرها، ولا الرِّئاسات ولا مُلكها ولا الدِّيار، حتى دارٌ كامل بيروح ما هو داري، ولكن "نعنعة" ما تروح! أهم شيء، أيوا الشوكولات هذا أهم شيء عندهم، -لا حول ولا قوة إلا بالله- صبي!

عامَّة العقول هذه المشغولة بالدُّنيا عند العارفين هكذا،  إلى متى صبيان؟ إلى متى صبيان؟ واحد في الأربعين وواحد بالخمسين صبي! يُؤثر الحقير (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) [القصص:56]، (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) [النور:35]، ومَن لم يهتدي ما يُدرك إلى أن ترتفع السِّتارة، الكُل بعدين يندم! أووه يا ليت! راحت الفُرصة، غنمها مَن غَنِمها، وأُكرم بها مَن أُكرم بها، اللَّهم أكرمنا ولا تُهنَّا، أعطنا ولا تحرمنا، آثرنا ولا تُؤثر علينا، ورضِّنا وارضَ عنَّا.

يقول ربِّي: (وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱستَغنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِٱلحُسنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلعُسرَىٰ (10)) كان يقول بعض أهل المعرفة: "الحسنة بعد الحسنة جزاء الحسنة، والسَّيئة بعد السَّيئة عقوبة السَّيئة" يعني من مصيبة السَّيئة وعُقوبتها أن تُخذل إلى سيِّئة أُخرى، ومن بركة الحسنة وخيرها توفَّق إلى حسنة أخرى، فهذا يُيسَّر لهذا وهذا يُيسَّر لهذا، وهذا يزيد في المعاصي ويَسقُط أكثر.. لا حول ولا قوة إلا بالله! ويرجع من معصية إلى أكبر منها إلى أكبر منها وخلاص روَّح الرِّجال مسكين، مثل مَن تدلَّى وسط البئر، تقول له ارجع، كيف يرجع؟! يصيح عليه؛ ارجع، ارجع، نادِ عليه الى أن تشبع! كيف يرجع؟ هو هاوي ونازل مسكين!  خلاص يسقط مسكين!

وهذا يَرتقي في الحسنات، سبحان الله حتى يعجب من أهل الغفلة والمعاصي يقول: هذه مواطن موبوءة قذرة نتنة، كيف يرضون لأنفسهم فيها؟ والحين تذكَّر يقول: أنا ما ذُقت هذا الذَّواق إلا بعد ما صبرت، وهم ما صبروا، بعد ما جاهدت هم ما جاهدوا، آآه، لولا أنَّ الله هداني لكنتُ معهم! ويتعجَّب لطبيعة الحال الذي هو فيه، يقول: مال هؤلاء؟ رضوا لأنفسهم بالبُعد لماذا؟! بالحجاب لماذا؟! وهو ذليل، وهو حقير، وهو آسن آفن نتن، عاصي وسيِّئات، لماذا يرضى لنفسه بها؟ بعد ذلك تذكَّر يقول: إلَّا أصلاً أنا ما جئت لهذا الذُّوق إلا بعد ما جاهدت، وإلا كُنت في البداية أستحلي هذه الأشياء وأميل إليها، -الله الله- فيعرف أنه في عناية ويقول: يا ربِّ ثبتني.

وهذا الثاني: (بَخِلَ وَٱستَغنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِٱلحُسنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلعُسرَىٰ (10)) عُسرى؛ ذنب بعد ذنب، معصية بعد معصية، شرور تتوافد وتتوافر وتتكاثر عليه، وأتعاب ومشاكل في الدُّنيا،  يدخل من مشكلة يجي مشكلة أكبر، وقضية إلى قضية أخرى، وبعد ذلك سوء خاتمة! وبعد ذلك عذاب في القبر! يا الله! وبعد ذلك يوم الحشر تعب.. عُسرى (فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلعُسرَىٰ) حر شمس.. أغلال.. كتاب بيسار.. ميزان الحسنات يَخِف،  تثقل السيئات.. عُسرى.. عُسرى.. كلُّه عُسرى.. حوض مورود ما في..لا ورود على الحوض.. لا حول ولا قوة إلا بالله! نار آخر شيء.. هنا قمَّة العُسرى: دخول دار غضب الجبَّار (فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلعُسرَىٰ).

(وَمَا يُغنِي عَنهُ مَالُهُۥ إِذَا تَرَدَّىٰٓ (11)) إذا تردَّى، لها معنيان: 

  • (تَرَدَّىٰٓ) إمَّا بمعنى: هَوى وأُلقِي، إمَّا في القبر أو في النَّار سقط
  • وإمَّا من التَّردية بمعنى: الهلاك، (تَرَدَّىٰٓ) مات، بمُجرَّد الموت يُلقى في حُفرة بعد ذلك يدخل النار

 يقول: من عند الموت، ما ينفع المال؟ إما استفهام، كأن يقول: (وَمَا يُغنِي عَنهُ مَالُهُۥ إِذَا تَرَدَّىٰٓ (11)) هذا الإنسان لمَّا يموت إيش يصلِّح بالمال إيش؟ قال: ماله وحريص عليه، بسببهِ تعب وأتى به ومن حلال ومن حرام، بعدين يصلِّح به إيش من عند الموت؟ معه رصيد؟ إيش يصلِّح بالرصيد؟ هيا اصرف الرصيد الآن! وَصَلَت الرُّوح هنا بيموت! رصيد.. اصرف الرَّصيد.. مايفعل به؟ ماذا يعمل به؟ ماذا يفيده؟ ماذا ينفعه؟ (وَمَا يُغنِي عَنهُ مَالُهُۥ إِذَا تَرَدَّىٰٓ (11)) من عند الموت.

ولهذا كان يقول بعض الصَّالحين: "تُريد تعرف قدْر الدُّنيا؟ قال: اسأل عنها شخص في سكرات الموت! خبَرهُ، قل له: كيف الدُّنيا؟ سيعطيك خبر يقيني"! ها، اسأل عنها رجلاً في سكرات الموت (وَمَا يُغنِي عَنهُ مَالُهُۥ إِذَا تَرَدَّىٰٓ (11))  يأكل ماذا؟ بيشرب إيش؟ بيلبس إيش من ماله هذا كيف بيصرِّف ماله؟  ماذا سيعمل به؟ انتهى! ما عاد شيء إلا الحساب عليه وهو ما عاد له منُّه ولا شيء!لله. 

كثير في وقتنا هذا ماتوا عندهم ثروات في سويسرا هناك وأرقامها السِّرية عندهم ما يعرفها حتى زوجاتهم ولا أولادهم، لهفها شياطين آخرين من الذين صلَّحوا له النِّظام هو ذا، وهو ذهب في عذاب على ما أخذه من غير محلَّه ولا عاد نفعه شيء! والذي ترك قصوره، والذي ترك دوره، والذي ترك مُلكه، بعد ذلك ماذا ينفعه منه؟ و إلّا سيأتون له بشيء من الشِّيكات يدخِّلونها معه القبر! قليل منها؛ لكي بعد ذلك يكلِّم مُنكر ونَكير وإلا يصلِّح ويصرف شيك! (وَمَا يُغنِي عَنهُ مَالُهُۥ إِذَا تَرَدَّىٰٓ (11)) ما الذي يفيده؟

والمعنى الثاني: (ما) نافية، يعني: وماله لا يُغنيه شيئاً ولا ينفعه من حين التَّردي ثم الوضع في القبر، أومن حين الموت، أو عندما يوضع في النَّار، هات له الآن فائدة! كان هذا مليونير، نعم، وبعد ذلك!  لمَّا يدخل في النار احضر فلوسه، ماذا سيستفيد منها؟ (وَمَا يُغنِي عَنهُ مَالُهُۥ إِذَا تَرَدَّىٰٓ (11)) كلام واضح من الله، كلام واضح لأجل تعيش العقول المُنوَّرة، يَصدُّنا عنه إبليس وجنده، يقلِّبون الحقائق وما عندهم شيء! كذب، كلُّ كلامهم كذب في كذب.. هذا كلام الحق: (وَمَا يُغنِي عَنهُ مَالُهُۥ إِذَا تَرَدَّىٰٓ (11))

 يقول الله: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى( 12)) كيف؟ يقول الله: أنا الذي أتولى البيان لعبادي ما يُسعدهم، وما يُقرِّبهم، وما به يفوزون، وللسَّعادة يَحوزون، قَبل المَنون.. وعند المَنون.. وبعد المَنون.. في الدُّنيا وفي الآخرة؛

 (عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ) أنا أُبيِّن لهم الطَّريق، وأُرسل إليهم الرُّسل، وأُنزل الكتب، أيوا وأجعل للرُّسل خلفاء، فلا يَستهديني أحدٌ يَطلب منِّي الهداية إلَّا يَسَّرتُ له سبيله.

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12)) فكلُّ صادقٍ مع الله يُهدى، وفي هذا المعنى كان يقول الصَّالحون: "لو صدق المُريدون -يعني الذين يُريدون وجه الله- لو صدق المريدون لوجدوا المشايخ على الأبواب" 

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12)) يقول الله، فيفتح لك باب القرآن، وباب السُّنة، ومفاتيحه من أنبياء الله، من خُلفاء الأنبياء يضعهم أمامك، إهتدِ (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)) في أيِّ وقت وفي أيِّ مكان -واحد أراد بصدقٍ وجه ربِّه- الهدى حاصل، ما يُعدم! قال الإمام الحداد: "عند التَّناصف ما فُقد إلَّا الصِّدق"، إما إذا وُجد الصِّدق ماشي مفقود، الخير كلُّه موجود.

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12)) سنهديهم:

  • أولاً: البيان وهو مبسوطٌ للكل (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) -لكن- (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ) [فصّلت:17]؛ هذا هداية البيان
  • الثانية : ثمَّ هداية التَّوفيق كلُّ من قَبِل، يسَّر له الطَّريق، سهَّل له الأمر، يفعل الخير أكثر.. والنُّور أكثر، والتَّوفيق أكثر، والعناية أكثر، -الله أكبر- والقرب أكثر: "من تقرب إليَّ شبراً تقرَّبت إليه ذراعاً، ومَن تقرَّب إليَّ ذراعاً اقتربت منه باعاً، ومَن أتاني يمشي أتيته هرولة". -يا سلام-، هذه مُعاملة حَسنة من ذي الجلال والإكرام لكلِّ مُقبلٌ عليه.
    •  (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12)) ومَن أعرض ومَن تولَّى يضل! والهُدى من الله، والضَّلال من الله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) [النور:35]، ومَن يشاء يُضلله، ومَن يشاء يجعله على صراطٍ مستقيم، اللَّهم اهدنا فيمَن هديت، وفي الحديث القدسي يقول الله: "يا عبادي، كلُّكم ضالٌ إلا مَن هديته فاستهدوني أهدكم"، علَّمنا في كلِّ صلاة نقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6].
    • عندنا هداية بيان مبذولة للنَّاس كلَّهم، وهداية توفيق، وهداية انكشاف الحُجب ومعرفة سُبُل الرَّب على الخصوص، يقول الله تبارك وتعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12))، ففي البيان يقول: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ) [فصّلت: 17]، والثَّانية: هداية التَّوفيق لكلِّ مُقبلٍ على الله، (فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِليُسرَىٰ(7)).
  •  والثَّالثةهداية الكشف والفتح والبيان (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) [العنكبوت:69]، هؤلاء قد تجاوزوا مرحلة البيان ومرحلة التوفيق جاهدوا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) هو عاد باقي هداية؟ هذه هداية الفتح، هداية انكشاف الحقيقة، هداية نور البصيرة، هداية معرفة السَّبيل على وجه الخصوص؛ (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69]، قال تعالى في الآية الأخرى: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) [النساء:175]، ويهديهم إلى أين؟ إليه.. (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ) [النساء:175] تمام؟ أما على الطَّاعة فهم قد آمنوا بالله واعتصموا به، بعد ذلك (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 6-7].

يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ (13))، (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النساء:134]، يقول: فلماذا يطلبونها من غيرنا؟ ويلجؤون في تحصيل خيراتها إلى سوانا؟ وهي مُلكنا، وفي قبضتنا، تحت يدنا (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ(13)) سبحانه عزَّ وجل، فلِمَ تطلبونها من السِّوى؟

ولذا سمعتم قصة سَّالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، يحصِّله الأمير وسط الكعبة: ياسالم، ألك حاجة فنقضيها؟ التفت إليه، قال: "أستحي أن أسأل غيره وأنا في بيته"، قال: أنا في بيت الله وأسأل واحد ثاني، عيب! سكت الأمير استحى على نفسه، وتعرَّض له لمَّا خرج، قال: الآن قد صرتَ خارج المسجد ألك حاجة فنقضيها؟ قال: تعني من حاجات الدُّنيا أم من حاجات الآخرة؟ قال: الآخرة لا سبيل لي إليها، لكن من حاجات الدُّنيا، قال: يا هذا، أمَّا حاجات الدُّنيا فأنا لم أطلبها ممَّن يملكها! فكيف أطلبها من غير مالكها؟ قال: اللِّي يملكها وهي بيدُّه كلَّها ما طلبتها منه، فكيف أطلبها ممَّن لا يملكها من غير مالكها؟ -لا إله إلا الله-.

وهكذا.. ويُروى أن سيِّدنا الخليل إبراهيم احتاج أهله ليلة إلى عشاء ولم يجد شيء فخرج يستقرض من بعض النَّاس فردَّه، فرجع، أوحى الله إليه: "ما أخرجك؟ قال أستقرض عشاء لأهل بيتي، وقصدت فلاناً فردَّني، قال: أما إنك لو قصدتَ خليلك لم يردَّك، قال: استحييت منك ربي أسألك عشاء، قال: سَلني ولو ملح عشاك" حتى عشاء موجود وباقي ملح قل: يا ربِّ، أُريد ملح.

شاهدنا مَن قبلنا وشاهدنا من بعدهم الصَّالحون هذا في الحياة موجود، قال بما أوحى لبعض أنبيائه: "سلني ولو ملح عشاك، ولو علف دابتك"، دابّة ما في لها عَلَف قل: أُريد عَلَف للدَّابة، ستأتي.. بأيِّ وسيلة من عنده يُرسلها! سبحانه، ونِعمَ الغِنى بالله عن كل ما سواه.. وكان في أدعية سيدنا الإمام جعفر الصَّادق: "يا مَن يَكفي مِن كلِّ شيء، ولا يَكفي منه شيء، يا إلهي وإله آبائي يا حيُّ يا قيُّوم، اكفنا همَّ الدُّنيا والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين".

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ (13))، فيا ربَّ الآخرة والأولى هَب لنا خير الآخرة والأولى، ونعيم الآخرة والأولى، وبركة الآخرة والأولى، واكفنا شرَّ الآخرة والأولى، وعذاب الآخرة والأولى، وسوء الآخرة والأولى، وبلاء الآخرة والأولى، يا ربَّ الآخرة والأولى.

يا ربَّ كلِّ شيء، بقدرتك على كلِّ شيء، اغفر لنا كلَّ شيء، واصلح لنا كلَّ شيء، ولا تسألنا عن شيء، ولا تُعذِّبنا على شيء. نسألك خير الدِّين والدُّنيا والآخرة يا مالك الدِّين والدُّنيا والآخرة.. يا الله، عندك ثواب الدُّنيا والآخرة فلا تقطعنا عنكَ بدُنيا ولا بآخرة، وسخِّر لنا الدُّنيا والآخرة، واجعل قصدَنا أنتَ يا ربَّ الدُّنيا والآخرة، وهَب لنا نعيم الدُّنيا والآخرة، وخير الدُّنيا والآخرة، يا مالك الدُّنيا والآخرة، يا مَن بيده أمرُ الدُّنيا والآخرة، يا ربَّ الدُّنيا والآخرة، يا مَن في قبضته الدُّنيا والآخرة.

يا حيُّ، يا قيُّوم، يا الله، بوجاهة المصطفى وأهل قربه لا ينقضي رمضان إلَّا وَقَد ثَبَتَت مَساعينا على قدَم المُصطفى وأحبابك ظاهراً وباطناً، نعيش معهم، نُتوفَّى معهم، نُحشر معهم، ندخل الجنَّة معهم، نُخلد فيها معهم، بفضلك يا الله، يا الله، يا الله.

إن عَظُم السُّؤال فأنتَ أعظم، ولولا ما علَّمت قلوبنا من عظمتك ما اجترأنا أن نسألك هذا السُّؤال، ولا أن نطلب منك هذا الطَّلب، ولكنَّك يا ربِّ علَّمتنا على لسان الأطيب الأقرب الأعذب أنَّك أجلُّ وأطيب، وأوفى وأوفر، وأجمل وأكبر، وأعظم وأكرم، فسألناك.. وقَدر العُصاة أن يسألوك، وقدر المذنبون أن يطلبوك، ولولا جودك ولولا أنتَ هذا الإله بهذا الوصف الجميل ما كان للسانٍ عاصٍ مُذنبٍ أن يسألك هذا السؤال! ولا أن يطلبك هذا الطَّلب!

يا ربِّ نُلحُّ عليكَ، ويا ربِّ ننطرح بين يديك، ويا ربِّ نُقبل عليك، ويا ربِّ لا ملجأ ولا منجنى منك إلا إليك، فأقبل مَن لا لهم غيرك، وأقبل مَن لا ناصر لهم سواك، وافتح لهم أبواب رضاك، وأبواب عطاك، وأدخلنا في دائرة مَن قُلتَ عنه: (وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21))، واجعل اللَّهم لنا في رضى حبيبك منزلاً شريفاً نَدخُلُ وما تُؤتينا من الفضل الكبير في حقِّ حقيقة: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ) [الضحى: 5].

والطف بنا والأمة فيما يجري به القضاء، كُن لنا في الإحجام والإمضاء، واجعلنا ممَّن بنور حبيبك استضاء، يا برُّ، يا ودود، يا حيُّ، يا قيُّوم، يا مُبدئ، يا مُعيد، يا فعَّال لما يُريد، اكفنا كلَّ هولٍ شديد في الدُّنيا ويوم الوَعيد، واجمعنا بخير العبيد، وثبِّتنا على دربه ومَسلكه الرَّشيد، واجعلنا من أسعد السُّعداء به في الدُّنيا والآخرة.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي محمَّد اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

14 رَمضان 1436

تاريخ النشر الميلادي

30 يونيو 2015

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام