(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدروة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.
﷽
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6))
الحمد لله مُشرِّفنا بالتنزيل العظيم، والنبيِّ الكريم، والصراط المستقيم، والعطاء الواسع الفخيم، وصلَّى الله وسلم وبارك وكرّم على عبده ذِي الخُلق العظيم، سيِّدنا المجتبى مُحَمَّد من اؤتمن على الإنباء والإرسال والوحي والتنزيل والبلاغ لجميع المُكلفّين في زمنه ومن يأتي بعدهم جنًّا وإنساًّ إلى يوم الدين، أدِم يا ربنا صلواتك الكبرى وتسليماتك الزكيّاتِ على سيد أهل الدنيا والأُخرى، عبدك المصطفى سيدنا محمدٍ كما يليق بجودك وكرمك وما أنت له أهلٌ وما هو له أهلٌ وأَحْرى، وعلى آله من خصصتهم منك تشريفًا وطُهرًا، وعلى صحبه الذين رفعت لهم به قدرًا، وعلى من تبعهم بإحسانٍ فأحسن في اتباعهم سيرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك ياأرحم الراحمين.
وبعدُ،،
وقد مررنا على بعض معاني سورة النصر، التي خاطب الله فيها رفيع القدر، عبده سيدنا محمد، شرح لنا فيها من عجائب ما يحصل في الأقدار والأزمنة والأحوال والأطوار، أنَّه يمر على الأنبياء صلوات الله عليهم أوقاتٌ يَؤْذَوْن فيها، ورُبَّما أُخرِجَ بعضهم من بلدانهم وربما اشتد عليهم فيها أنواعٌ من الأذايا، بل ما من رسولٍ بُعِثَ إلا وَهَمَّ به قومه أنْ يقتلوه؛ قال تعالى: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) [غافر:5]، أي فكيف كان عقابي؟ لا في أمَّة ولا أمَّتين ولا ثلاث ولا أربع ولا عشر ولا عشرين ولا مئة ولا مئتين، ففيمَ الاغترار إذًا؟ ففيمَ الاغترار إذًا؟
الخيرُ كله في إتباع الحق والهدى والاقتداء بالأنبياء، ثبّت الله أقدامنا على حُسن متابعتهم؛ (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه) [الأنعام:90]. وقد شُرِّفْنا بإمامهم وسيدهم وخيرهم ونورهم نبي الله محمد؛
فيا ربِّ ثَبِّتنا على الحق والهدى *** ويا ربِّ اقبضنا على خير ملة
ومرَّت به ﷺ شدة بمكة ثم مرَّت عليه غزوات وسرايا ثم كان صلح الحديبية ثم كان فتح مكة، وهكذا تكون العاقبة للمتقين.
وأكَّد الحق لنا أنَّ الوظيفة الأساسية في شأن العبادة التي يتعلق الكلام عن السورة التي قبلها بها وهي العبادة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2))؛ أنَّ أساسياتها من تقديس هذا المولى وتسبيحه والإعتراف له والالتجاء إليه وطلب الغفران منه؛ أساس العبادة، يلزمه المبتدؤون ويرجع إلى التمكن فيه والإكثار منه المنتهون، فقال له عند النهايات: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر:1-3].
ولكن تعلمنا كثيرًا من أذكاره ﷺ: "سبحان ربيَ العظيمِ وبحمدِه"، "سُبحانَ ربِّيَ الأعلَى وبحمدِه"، "سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ"، والملائكة قالوا: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) [البقرة:30]؛ فدلَّ على أنَّ هذا التسبيح والتقديس مقترن بالثناء والإعتراف بالنعمة والمدح والإجلال والإكبار؛ (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) أي مع حمدنا لك حالة كوننا حامدين لك؛ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ).
وقد تعددت الروايات أنَّ نبينا بعد نزول هذه السورة كان يقول في قيامه وقعوده ومشيه وجلوسه كثيرًا "سبحانك اللَّهُمَّ رَبَّنا وبحَمْدِك، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي"، وكان يكرره في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللَّهُمَّ رَبَّنا وبحَمْدِك، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي"، يقول الصحابة: "يتأوَّل القرآن؛ أي يعمل به"؛ وفي هذا، الإرشاد إلى الذِكر من المذكور واستعمال الذاكر الصيغة المناسبة للأمر بالذكر من المذكور -سبحانه وتعالى- والحق خير مذكور، وخير ذاكرٍ له عبده محمد، فهو سيد الذاكرين وجاء في وصفه كان يذكر الله على كل أحيانه.
فنحتاج أنْ يقوم شأن التسبيح بحمد ربنا والإستغفار له في مشاعرنا حتى يغلبها، حتى تتأثر به -بعد المشاعر والأذواق مِنَّا- الأحوال التي حوالينا، فلا يزعجنا فيها شيء مما يقع ولا يُؤيُسنا منها شيء ولا يكبُر علينا منها شيء ولا يستغرينا ويجتذبنا ويُغرينا منها شيء، فإنَّ هذه الآفات وأنواع الأتعاب الواقعة في حياة الناس؛ من نقصان حقائق التسبيح بحمد الرب والإستغفار له في واقعهم؛ وإلَّا:
وقد كان بعض الناس جالسًا عند بعض أهل العلم فدخل عليه داخل:
فقال الجالس: يا شيخ ليس لديك إلا استغفار؟ هذه طلبات مختلفة متنوعة وجوابك واحد!! قال: أنت لا تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قال: فهذا في القرآن، قال: كيف في القرآن؟ فقال الله يقول: على لسان عبده نوح:
ألا تراها واضحة أمامك في القرآن؟!! ولكن هذا الوضوح على حسب صفاء القلب والفكر وقوة الصلة وعُمقها بالحق وما أنزل؛ هذا الذي نحتاجه وتحتاجه الأمة.
يتغلغل اليوم إلى مشاعر الأمة ما يُطرح في قِبل بعض النشرات وبعض الإذاعات وبعض الأجهزة الإعلامية وحتى الوسائل التواصل الآن الاجتماعي هذه، تتعمق في أذهانهم، أين قول الله؟ وعمقه في الشعور والذهن والإحساس؟
فصاروا معه كحالتهم مع الموت، يقين أشبه بالشك، يتيقنون وهو شك! كلام الله حق وكلام رسوله حق، أين ذوقه؟ أين التفاعل معه؟ أين التحقق به في الواقع؟ وقد كانت الكلمة يسمعها الصحابي فتفعل فيه الأفاعيل، ويُشرَب بها كأسًا يعيش به ثَمِلًا طول حياته، متأثرًا به طول حياته، من كلمة يسمعها من كلام الله ومن كلام رسوله ﷺ؛ ولأنَّ أبواب التلقي في بواطنهم بالإعظام والإجلال مفتوحة فيصادف إنسياب أنوار الوحي أبوابًا مفتوحة فيحلُ في قلوب أهلها؛ (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذلكَ هدىٰ الله يهدي به مَن يَشَاء) [الزمر:23]، اللهم اهدنا فيمن هديت.
(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [النصر:3]، نحتاج أنْ نُحيي هذا التسبيح، وقد سمعناه يقول: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) [طه:130]، وقال عن هذا الذكر الذي أتيتم به بعد الفجر: "سبحانَ اللهِ وبحمدِه سبحانَ اللهِ العظيمِ أستغفرُ اللهَ"؛ إنَّها صلاة الملائكة وبها يُرزق كل شيء، وبها يُرزق كل شيء، "سبحانَ اللهِ وبحمدِه سبحانَ اللهِ العظيمِ أستغفرُ اللهَ"،"سبحانَ اللهِ وبحمدِه سبحانَ اللهِ العظيمِ أستغفرُ اللهَ"؛ وأنَّ القائل لها مئة مرة في كل يوم يفتحُ الله عَلَيْه أبواب رزقه الواسع.
فالشأن في الإتصال بهذه المعاني والمداومة عليها، فتحُ المجال لها لتدخل إلى أعماق القلب والشعور والذوق والحس، فافتح باطنك لكلام ربك فهو خير ما فتحت له قلبك، قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) -إلى إيمانهم- (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة:124]، وقال تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَ شِفَاءٌ وَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت:44]، وكما قال: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ) [التوبة:125]، فالله ينفعنا بالآيات وينفعنا بالقرآن.
إنَّ اللهَ يرفعُ بهذا الكتابِ أقوامًا ومن رفعهُ الله لا واضع له- "وَيَضَعُ به آخَرِينَ"؛ ومن وضعه الله لا رافعَ له. ويبدو ويظهر ويبرز في الواقع حقيقة الرِّفعة لمن رفعه الله والوضع لمن وضعه الله في يوم الحُكم، يوم الفصل: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ) [الواقعة:1-3]؛ لا تُخفِض إلا من خفضه الله؛ يُخفض في القيامة، إذا خُفِض في القيامة ما ينفعه إنَّه كان في أيام الدنيا عنده رصيد مرتفع في البنك الفلاني، وبعد ذلك ماذا حصل؟ الرصيد في سويسرا يعني؟ وبعد ذلك ماذا حصل؟ مخفوض.. أنت الآن هنا ساقط هابط! خسرت كل شيء لك العذاب المخلّد فيه، وماذا حصل لرصيدك هذا؟. الآن أنت مرصود بنفسك (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ) [الهمزة:8]، أو له ما يُعْفَيِه عن هذا الخفض إنَّه كان يُدعى بالمفخّم المعظّم والرئيس صاحب السعادة وصاحب المعالي ولم يحصل على علو ولا سعادة مسكين! وبعد ذلك ماذا حصل له؟ هل يُعفيه عن هذا الانخفاض إنَّه كان يُقال له هكذا؟! هذا نوع من الزور من الغرور، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:208]، لكن ماذا قال لك ربك وماذا سمّاك؟ هل هو هذا اسمك؟!
بعض الناس اتخذ رقيق مملوك فقال له: ما اسمك؟ قال: ما سميتني، قال: ما عملك؟ قال: ما أشغلتني به -الذي تشغلني به- فقال: فما تحب؟ قال: ما تحبه، فأخذ يفكر قال: هذا مملوك وأنا مثله، وهو عبد اشتريته ويقول لي كذا!! وأنا مع ربي أجعل لنفسي أسماء يمكن لم يسمِّيني الله بها! أجعل لنفسي شغلا ما شغلني به! أحب شيء ما يحبه!! عيبٌ عليّ وعار. لابد أن أعتبر بكلام هذا الرقيق، فأعتقه وقال: اذهب أنت حر، دعني أُصلح نفسي مع ربي، رُبَّما أنا أُسمِّي نفسي سعيد وبعد ذلك أصبح شقي؛ لأنَّه ليس باسمٍ من عند ربي، أُسمّي نفسي كريم وأصبح لئيم بعد ذلك، فالاسم ما سمّاني به ربي، ولا ينبغي أنْ يكون شغلي إلا ما شغلني ربي، ولا أحب إلا ما يحب ربي؛ فهذا شأن العبد مع ربه، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر:3]، اطلب منه الغفران، (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر:3]، كثير التوبة على عباده -جل جلاله-، فتب علينا لنتوب يا توّاب.
سورة الكافرون، نزلت والنبي ﷺ في مكة بعد مخاطبات مع القوم ليؤمنوا بالله، وبعد إصرارات منهم وتَعَنُّداتٍ ثم عرض بعضهم؛ عدد منهم أربعة أو خمسة من كبار كفار قريش على النبي ﷺ قال له: تعال نتفاهم وإيّاك، أُعبُد آلهتنا هذا الشهر نعبد إلهك شهر؟ أو تعبد آلهتنا سنة نعبد إلهك سنة؟ هل في مفاوضة ومساومة على الدين؟ وهي لعبة؟ وأعرض النبي عنهم وأنزل الله له: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3))؛ فكان فيه تحدِّي عظيم وعظمة.
من جهة أنَّه بعد هذا الجهر بالدعوة وابتعاد وتكذيب الكثير منهم وعدم قبولهم له، أُمِر بأنْ يخاطبهم بهذا الخطاب، ولفظة كافر مُشمَئَز منها مُستَقبَحة حتى عندهم الكفار. ما يحب لفظة كافر؛ لأنَّ الكافر الذي يكفر الشيء أي يستره يغطيه، حقيقة واضحة وشيء واقع يغطيه ما يريده، فأصل كل فطرة تعرف أنَّ لها رب وإله وهذا الإله بعظمة ما يمكن أنْ يشابه بها المخلوقين، ولكنه يُنكِر ذلك ويُكابر ويغطيه فهو كافر، من الكفر وهو السَتر لأنَّه يستر الحقيقة، فخاطبهم بهذا الخطاب هذا من ناحية.
من ناحية ثانية تحدي أكبر يقول: (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3))، كيف استطاع أنْ يقول هذا الكلام؟ مع أنَّ القوم في معاندة له وتحدي معه، يمكن أنْ يُظهِروا أنَّهم آمنوا وعبدوا الله حتى نفاقًا، وكلامه كيف هذا؟ قال: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4)) لو نحن عبدناه سنبقى نتبعه وسيكون كلامه متناقض! وكيف؟ ولا واحد من هؤلاء الذين شافههم بالخطاب، الذين عرضوا عليه هذه القضية، ولا واحد منهم أسلم ولا فكّر أنْ يُسلم صورةً ولا نفاقًا أبدًا: (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(3))؛ ما هذا؟ هذه عظمة، هذا إنسان يأتي بالكلام من عند مقلّب القلوب متصرِّف فيها، أمَّا في جانبه يقول: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2))، سيقولون يمكن أنت متحكّم في نفسك متصرّف في نفسك، لكن قلوب الآخرين كيف تتصرّف فيها؟ ويتحدّاهم بشيء يرجع إلى فعلهم الاختياري، يقول لم لا تفعلون أنتم هكذا!! ولا واحد منهم فكّر، قال: أنا سأظهر الإسلام، أنا أسلمتُ لكي يكذِّب الناس بهذا الخبر، إنه خبر خبر خبر.. ولا تقدر لا أنت ولا أمية بن خلف والوليد بن المغيرة ومعهم أربعة وثلاثة وجاءوا عرضوا عليه هذا العرض؛ ولا واحد منهم فكّر هذا التفكير، من الذي صرف قلوبهم عن هذا الفكر؟
وهم يجتهدون على أنْ يُكَذِّبوا النبي ﷺ وأنْ يظهروا كذبهم للناس، فرصة كبيرة معهم، اليوم يتحدانا على شيء، نحن سنعمله على خلاف ما قال؛ من أجل يعلم الناس أنَّ الذي ينزل عليه هذا شيء غير صحيح، ولا شيء لا ظاهر ولا باطن، (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3))، ما أعظم هذا النبي: ما هذه التحديات؟ ما هذه المعجزات الواسعة الكبيرة؟ يقول: (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3))، كان حتى بيظهروها فقط، أبدًا يتكلم وهو واثق، كلام من عند الخالق -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- فَصَلَّى الله على حبيب الخَلَّاق.
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1))، حتى بعدها آيسوا منه فقالوا: فقط تعال إذا كان عندنا خير سنُشركك فيه، وإذا عندك خير فيما جاء فيك، فنحن سنُشاركك شهر بشهر، سنة بسنة. هل ممكن يكون دين هكذا؟! فهنا حقائق في الدين ما تقبل المساومة، كما يُلعب على كثير من عقول المسلمين؛ الدين هذا شيء ولكن تجارب الحياة الآن والتطوّر شيء ثاني، والناس في حال ثانية، دَع دينك لك، و شاركنا في كذا وكذا، واعمل معنا.. لعبة يعني الدين؟ أهو حق أو باطل؟ إذا هو باطل اتركه نهائيًا، وإذا هو حق لا تضحكون على ديني، هذا ديني؛ الله ربي ومحمد نبيو لاأحد منكم يدخل عليّ لا في عادتي ولا عبادتي ولا في فكري ولا..، أنا تابع لنور من الله؛ (..قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ..) [المائدة:15-16].
فيا مدعيين السلام، سلام، سلام!..، واليوم يدَّعون السلام ويرفعون رايات السلام، ويتضرر الأنام في أوقاتهم ويصيب الناس مشاكل وقتال وانتهاك للحرمات،لا أدري، تقدُّمنا هذا أحدث في واقع البشرية أي نوع من أنواع السلام؟! لكن المجتمعات التي انقادت للأنبياء وتبعت الوحي الذي نزل عليهم؛ هناك السلام. حتى إنه آمن، بل حاز السلام والإنصاف والعدل في دائرتهم من لم يكن مسلمًا، أَمِنَ على نفسه أَمِن على ماله أَمِن على عِرضه بين هؤلاء القوم.
كان قبل سنوات أقام في إندونيسيا بعض أهل الخير من سيئون، ثم عزم على الرجوع فكان جيرانه يتأثرون من مفارقته إيّاهم وخروجه من عندهم، وكان يبكي واحد جاره كافر، يقول له: لماذا تبكي على هذا وهو ليس على دينك؟ قال: هذا جاري كذا كذا سنة، ما يوم مَدَّ عينه إلى وسط داري، وأنا آمن على أولادي وأهلي ومالي عنده أكثر من أصحابي الآخرين، ولا أعرف منه إلا المواساة والإحسان طول هذه السنين، أنا مطمئن من لسانه، مطمئن من عينه، مطمئن من يده؛ هكذا يعيش المسلم، وهؤلاء أهل السلام (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ..) [المائدة:16]. فلو كان يعيش المسلمون هكذا، لاجتذبوا كل ذي فطرة سليمة وكل ذي عقل وروح من الكفرة ولعلموا أنَّ هذا هو الحق، ولكن كم يحجب المسلمون أنوار الإسلام؟ وحقائق الإسلام عن غير المسلمين؟ فيُسهِمُون في صدهم عن سبيل الله -والعياذ بالله تعالى-.هذا الذي جاء بالسلام ﷺ.
فكذلك يجب أنْ نفهم الدين، وأنَّه ليس بضاعة للبيع، لا يصلح أن يكون بضاعة تُعرض للبيع ولا للمساومة، قال هذا الملك لسيدنا عبد الله بن حذافة السَهَمي: ارجع عن دين محمد وأعطيك نصف مُلكي وأزوِجُكَ بنتي، ضحك. ما بك؟!! قال: لو تعطيني ملكك كله على أنْ أترك هذا الدين لحظة ثم ارجع إليه ما تركته، فهكذا الإسلام، هكذا الدين.
أحدهم يقول للنبي ﷺ، لمَّا ذكر أخبار الدجّال وما يفعل في الأرض وما يُهدد الناس بمسألة الطعام والنفقة، يقول: يا رسول الله، أرأيت لو جئتُ إليه فأظهرتُ أني كفرت وأني آمنت به حتى أشبع من طعامه ثم أكفر به؟ هذا السؤال يحكي طريقة تفكيرعند كثيرٍ من الناس أمام الدين، يقول في نفسه سأفعل كذا ثمَّ سأعود بعد ذلك؛ ولكن جاء ﷺ ليُبيّن المسالك قال: "لا، بَلْ يُغنِيكَ اللهُ بِمَا يُغنِي عِبَادْهُ المُؤمِنين"؛ أنظر الى المؤمنين في ذاك الزمان، بماذا الله أغناهم وكفاهم؟ سيكفيك مثلهم.
أمَّا أنك تفعل هكذا وتقول أنا سأُظهِر الإسلام فقط لأجل أن آكل، فسيأكلك هو بعد ذلك!! لن ترجع إلى الدين -والعياذ بالله-، كما جاء في الخبر أنَّ كثيرًا من الناس فضوليين، يقولون فقط سنرى هذا الدجال، نحن لن نؤمن به، نحن آمنا بالله. ولما يأتون ليرونه يَفتَتِنُونَ ويكفرون بالله ويقولون هذا هو ربهم -والعياذ بالله-.
لكنْ آخر واحد يقتله الدجّال من أهل الإيمان -ذكره النبي ﷺ في صحيح مسلم في المدينة المنورة- حتى يقول بعض شُرّاح الحديث أنَّه هذا هو عبد الله الخَضر، على كل حال، النبي ذكر ذاك الرجل أنه يخرج مع المؤمنين حين ترجف المدينة بمن فيها ثلاث رجفات ويخرج كل منافق وكل كافر، ويخرج بعض المؤمنين والدجال محبوس هناك لا يستطيع الدخول إلى المدينة، فيقول له: أتشهد أنَّي ربك؟ فيقول هذا المؤمن: أنت الأعور الكذّاب الخبيث الدجّال الذي حدثنا عنك رسول الله، يقول: الذي حدثنا عنك رسول الله؛ دليل أنَّ الرجل بمشاعره وأحاسيسه مربوط بالقائد، وهذا قائد قيادة ربانية رحمانية من عند الإله الخالق اختاره لهذه القيادة، فالمربوط به مربوط بالله.
لهذا يقول: أنت الأعور الكذاب الخبيث الدجّال، فيقول الدجال: اقتلوه، شقُّوه نصفين! فيشقونه نصفين، وعندما يريدون شقهُ، يقول: أيها الناس اثبتوا إنَّه لن يُسَلَّط على أحدٍ بعدي، فإذا شقوه نصفين يمشي بين نصفيه، ثم يقول للناس؛ أتريدون أن أرده لكم؟ أتعلمون أني ربكم؟ يجمع نصفيه فيقول: قُم فيقوم بإذن الله تعالى حي، ولما يقوم حي يُفتَن مَنْ يُفتَن، يقول: أرأيت؟! أَمَتَّك وأحييتك، الآن عرفت أنَّي ربك؟ يقول: أنت الأعور الخبيث الدجّال الكذاب، والله ما أزددت فيك إلا بصيرة! أنظر الى الثبات، أنظر إلى الصدق؛ هذا الإيمان هذا الإسلام. ما ازددتُ فيك إلا بصيرة، يقول ﷺ: فيريد أنْ يقتله مرة أخرى، لا يُسلط عليه، لا يقدر عليه. حتى يقول لبعض جنوده وأتباعه اقطعوا رقبته، فتصير مثل الحديد وهذا لا يمشي فيه لا السيف ولا سكين، عندها يعلم أنَّ وقته انتهى. أي قربت أيامه فيهرب من الحرمين، يهرب من حواليها ولا يقدر أن يدخل لا مكة ولا المدينة، فيهرب من تحت المدينة إلى الشام وهناك عند باب لُدْ يلقاه سيدنا عيسى بن مريم.
ينزل سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام في دمشق -شرقي دمشق يقول ﷺ عند المنارة البيضاء- ويجدهم أقاموا الصلاة مع الإمام المهدي فينزل على جناح ملكين، ويدخل بين الصفوف ويتأخر المهدي من أجل أن يتقدّم سيدنا عيسى، يقول: هذه أقيمت بإسمك، فصلِّ أنت وأنا وراءك، فيصلي سيدنا عيسى مأمومًا في هذه الفريضة -فريضة الفجر- مراعاة منه لخلافة محمد، وقد صلَّى خلفه مأمومًا في ليلة الإسراء والمعراج، وهذا خليفته الآن قد أقيمت الصلاة بإسمه. ثمَّ يتوجّه نحو بيت المقدس من أجل قتل الدجال، فبمجرد أنْ يقع بصره عليه يتثاءب ويتثاءب، يقول حتى لو تركه لمات، فيضربه ويقتله وتنتهي فتنة الدجال بعد ضجة طويلة في الأرض، بعد أن دخل كم مليون الى النار بسببه -نعوذ بالله-.هكذا افتتان الناس بشيء تافه حقير وله مدة قصيرة ولكن يفتتنون به الناس، وهذه من أعظم الفتن التي تكون، حفظ الله ذرارينا وأولادنا من شرها ومن ضُرها ومن بلاها "نعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال" خصوصًا وأمره دائر على مسألة الأكل والطعام والشراب والخبز، والناس يَشُقُ عليهم الجوع ، يريدونها من أي وجه كان، حتى تقع بالكفر -والعياذ بالله تبارك وتعالى- إلا من عصم الله وسَلِم.
فعرضوا علي النبي هذا العرض الباطل فلم يقبل منهم، ونزل القرآن يؤكد فيأتي بها مرتين (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)) إنتهى نهائيًا، مُقفّل الباب، ولا مراجعة، فيكون التكرار:
فلا يمكن وأنا أؤمن أنْ لا إله إلا الله أنْ تصدر مني عبادة لغيره بوجه من الوجوه، فلا أغالط نفسي وأقول لكم إني عبدته، لا تكون العبادة هكذا لأنَّها أصلًا ليست آلهة ولا يتأتى أنْ تكون لها العبادة على الوجه الصحيح، وأنتم فيما تقولون أنكم تعبدون إلهي شهر، ما يمكن تصدر منكم عبادة ثانية، لأنَّ عبادتكم مصحوبة بتصوّر باطل وبعقائد زائغة ليست عبادة أصلًا.
على كل المعاني، أقْفَلَ باب النقاش والجدل في هذا، حتى بعد ما نزلت السورة الكريمة، غدا ﷺ على جمعهم وهم في الحرم حول الكعبة فتلاها عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6))؛ عندها آيسوا من هذه المفاوضات والمحاولات، بعدها صاروا فقط يفكرون في الأذى له ولقومه ولأتباعه، أمَّا أنْ يحرِّفوا ويصرفوا الجبل الراسخ -أثبتَ الخلائق- هذا الأمر انتهى يئسوا منه، فصاروا فقط يفكرون؛ كيف يؤذونه؟ وكيف يؤذون أتباعه؟ ومن اتبع دينه، ويحاولون ألا يقوم هذا الدين، ومحاولات باءت بالفشل ذهبت!
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1))، الذين كذَّبوا بربهم وكفروا بإلههم وخالقهم وما أنزل؛
(لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2))، لا يمكن قطعًا أنْ يصدر مني عبادة ما تعبدون
(وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4))، تأتي "ما" هنا بمعنى "مَنْ"، ولأجل سياق الكلام (مَاتَعْبُدُونَ) و(مَاأَعْبُدُ) وإنْ كان عند خلوّ الجملة عن قرائن الأحوال تُصرَف "ما" لغير العاقل و"من" للعاقل، ولكن لقرائن الأحوال تدل على أنَّ المراد "بما: من"، أو "بمن: ما" فتجري على ما هي عليه في لغة العرب، فإذا ما هناك قرينة حال تدل فتصرف "ما" لِما لا يعقل.
كما قال ﷺ للذي اعترض من بعض الكفار وقال له إنَّك تقول: (ِإنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء:98] وأنَّ النصارى عبدوا عيسى، فهل عيسى في جهنم؟ فقال له: ما أجهلك بلغة قومك، "ما" لما لا يعقل (ِإنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ) أحجاركم هذه التي ما فيها العقل، فيأتي السياق هكذا إلا أنْ تدل قرينة على المراد بما مَن في مثل هذه الآية.
(لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)) في مستقبل الأمر، وهذا تحدي كبير. وما أحد منهم فكّر كيف يخرق هذا الكلام، ولو بالتظاهر بالإيمان والعبادة أبدًا. فهو يتكلم عن ثقة وعن قوة (وإنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل:6]، (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4].
اللهم ثبتنا على الهدى والحق والدين القويم (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ..) [آل عمران:19]، فثبتنا يا رب، اللهم كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها وكما أنعمت علينا بالعُمُر فبارك لنا فيه، برحمتك يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
جاء في الحديث أنَّه كان يأمر بقراءتها قبل النوم وكان يقرأها قبل النوم، وكان يقرأ بها مع الإخلاص في سُنة المغرب وفي سُنة الفجر، ويقول ابن عمر راقبته أربعين ليلة في غزوة تبوك فما رأيته يقرأ في سنة المغرب ولا في سنة الفجر إلا بالكافرون والإخلاص سُمع ﷺ يقرأ بها، وقرأ بها في الطواف كذلك، وقرأ بها في المغرب ليلة الجمعة الكافرون والإخلاص، الله يجعلنا من خواص أهلها ظاهرًا وباطنًا في لطف وعافية يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين.
أَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله نَستَغفِرُ الله نَسأَلُكَ الجَنَّةَ وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّار
15 رَمضان 1435