تفسير سورة الطارق -2- تتمة السورة
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
نص الدرس مكتوب:
﷽
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17))
الحمد لله قوله الحق وله الملك ويوم يُنفَخُ بالصور، بيده تَصَارِيفُ وتَقَادِيرُ الأمور في كُلِّ بُطونٍ وكُلِّ ظهور، هو الحيُّ القيُّوم الذي لا يموت المَلِكُ العزيز الغفور، أرسل إلينا نورَ النُّورِ وبدر البدور محمدًا بالهدى، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه السُّعَدَاء، وعلى مَن اتّبعه واهتدى به واقتدى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم، وعلى الملائكة المقرَّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وفي موائد الفضل الإلهي، حيث التأمُّلُ لأسرار الأوامر والنواهي، والتَّعليماتِ الرَّبَّانِيَّات والإتحاف الإلهيِّ، بالمزيدِ من التنبيهاتِ والتوجيهاتِ على لسانِ خيرِ البريَّاتِ، وفي البُكَرِ من الأيّام الغَرَّاء في الشَّهرِ الأغر، نجتمع ونتَلَقَّى؛ لنتَرَقَّى بأن نَتَصَفَّى ونَتَنَقَّى وندخل دوائر مَن اِتَّقَى، ونسألُ مولانا توفيقاً ورِفْقَاً، وأن يُحقِّقنا بحقائق الإقبال عليه صِدقَاً.
وقد تأمَّلنا مَعَانٍ فيما أوحاه الله إلى نبيِّه في سورة الطّارق، وانتهينا إلى أواخرِها حيثُ كرَّرَ الله تعالى القَسَم والحلف بالسماء، والسماءُ في عظمتها وعظمة ما يكون فيها إلى أجلها المحدود عندما تنشقُّ وتمور؛
- (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) [الطور:9-10]،
- (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا) [الفرقان:25]،
- (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الإنشقاق:1-2]،
- و (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ) [الإنفطار:1-2].
مع عظمتها! ومع عظَمة ما يجري ويدور فيها والتدبيرات التي يجعلها الله -سبحانه وتعالى- لكل ما يجري على هذا الكوكب الأرضي من الشؤون والأحوال، وعِمارتها بالملائكة القائمين الراكعين الساجدين، ومع ذلك كلّه وبعد ملايين السنين وهي في الصُّنع المُتقَن؛ تدور وتمور وتتشقَّق وتَنفَطِر وتنتهي.. لا إله إلا الله! سبحان الدائم، سبحان القيوم، سبحان الباقي.
فَقُل للذين اغترَوا بشيءٍ على الكوكب الأرضي أو الكواكب من حواليه: ماذا رأيتم من مُلْكِ الله؟ ماذا رأيتم من كَونِ الله؟ على ماذا اطّلعتم من عوالم الله؟! فسبحان صاحب المُلك العظيم.. ليست الكواكب هذه وحدها! بل السماوات نفسها، كلّها ستنتهي والملك له (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام:73]، بل هو (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة:4]، وإنما يكون يوم الدين وقد تبدَّلت الأرض: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم:41]، برزوا، برزوا من أوهامِهِم ومن خيالاتِهِم ومن تصوّراتِهِم ومن حُجُبِهِم التي كانوا يحجبون بها أنفسهم عن عظمة هذا الإله؛ برزوا (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)؛ فبُرِّزت آيات جلالِ لكل مَن يرى:
- (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ) [النازعات:36]،
- وبُرِّزت الجنَّات والعرش لمن ارتضى، ولمن أحبّ.
وإنَّ قوماً من عباده المكلَّفين.. ليس فقط أنهم لا يرون الجنة! بل لا يجدون ريحها -والعياذ بالله- وإنَّ ريحها ليوجَدُ من مسيرة خمسمائة عام. وإنَّ قومًا من الذين اصطفى لا يسمعون للنار حسيسها، قال عن الكفرة: (لَوْ كَانَ هَٰؤُلَاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا) -يعني النار- (وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء:99-103] -اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم.
هذه الكواكب تَنتَثِر والأرض تُبَدَّل غير الأرض (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الإنشقاق:3-5] (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه:105-107] تمتدُّ وتتَّسِع، ويجدون أيضاً الآن الاتساع في الفضاء من وقتٍ إلى آخر.
والحق يقول -سبحانه وتعالى-: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا) فِرُّوا من مختلف البيوت والأوهام والخيالات.. إلى أين؟ قال: (إِلَى اللَّهِ)، (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) [الذاريات:47-50] يعني: لا تركنوا على جبل، لا تركنوا على أرض، لا تركنوا على سماء، لا تركنوا على نجم، لا تركنوا على شيء من هذه الكائنات؛ كلّها في قبضته وعُرضَة للتغيُّر والتصدع والانفجار والتَّنَاثُر.. تنتهي!.
فضلاً أنها تعتمد على قصر أو حكومة أو بيت أبيض أو بيت أسود، أو مكان فلاني أو فلاني! … تعتمد على ماذا!؟ (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) فرحانة ببيتها.. ترى فيه العظمة وفيه القوة.. عنكبوت اتخذت بيت! (..وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ) [العنكبوت:41] عنكبوت بالخيط الصغير تقول به كذا يذهب كله؛ وهكذا كل مَن اعتمد على غير الله كائنا مَن كان.
أقسَمَ بالسماء؛ السماء مع عظمتها هذا بعد ذلك تاريخها ونهايتها ويبقى في مُلكِ الله -تبارك وتعالى- مما أراد إبقاؤه: الجنة والنار. فشأنُها أعظم من السماء والأرض؛ الجنة والنار، وهي المسكن الدائم المؤبَّد لهذا ولهذا، فما يسمونه في الدنيا هذا "سجن مؤبد" لا يوجد سجن مؤبد.. ماذا يعني سجن مؤبد؟ هل يوجد سجن مؤبد؟! السَّاجن والمسجون والسجن ينتهي، لا يوجد سجن مؤبد..
- في النار سجن مؤبد، هناك السجن المؤبد..
- وفي الجنة نعيم مُخَلَّد..
أما هؤلاء لايوجد عندهم مؤبد.. ماذا يعني مؤبد؟ مؤبد! ماذا عندهم؟ كم هو وكم عمره؟ السَّاجن والمسجون، وربما الساجن والذي حكم بالسجن المؤبد يموت قبل المسجون! أو لا؟ لا يوجد مؤبد.. لا هم مؤبدين ولا سجنهم ولا مساجينهم؛ الأبد في الجنة أو في النار.
وساعة واحدة تأتي على أهل الجنة والنار: هي التي يُفكِّر العارفون فيها -في الدنيا- ويخافون منها كثيراً! ما هي؟ ما هي؟ ساعة ذبح الموت؛ حين يُبرِز الله الحقيقة من إرادته، ألا يموت أحد من أهل الجنة ولا من أهل النار! فيُصَوِّر لهم الموت؛ ذلك الأمر المعنويّ في صورة حِسِّيَّة يرونها في صورة كبش -كلّهم يدركون هذا المعنى- قال: أهل الجنة انظروا، أهل النار انظروا.. يعجَب أهل الجنة ما هذا؟ موت! وأهل النار!..
- فأهل النار يفرحون يقولون: إن يأتي الموت أحسن؟ يريدون أن يموتوا،
- (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ) [الأعلى:13] فيتعجَّب أهل الجنة، فنحن في أمان!
- "يا يحيى قُم خذ المُدْية اذبح"، فيذبح هذا الكبش،
- فينادي المنادي: "يا أهل الجنة خلودًا فلا موت، يا أهل النار خلودًا فلا موت"،
هذه اللحظة وتلك الساعة يفكَّر فيها العارفين كثير في الدنيا؛ لقوَّة نظرهم وطوله، مثل الذي يضيَّع فكره يفكر في صناعة، في زراعة، في هندسة.. مسكين! هو ذهب والهندسة والزراعة؛ لكن هذه الساعة الحاسمة الكبيرة مقبلة عليه..
ما الذي جعلهم يفكرون فيها؟ يقول: خشيَّة أن تأتي وأحدهم في النار! يقول: هذه المصيبة؛ لأنه بعدها لايوجد خروج من النار! فإذا نادى: "يا أهل الجنة خلوداً فلا موت، يا أهل النار خلوداً فلا موت"؛
- ازداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم واستبشارا إلى استبشارهم،
- وازداد أهل النار غَمَّاً إلى غمِّهم وحزنا إلى حزنهم.
ساعة ذبح الموت! وذلك بعد أن يخرج آخر مَن يخرج مِن النار، ثم تَمُر به السنين حتى يصل إلى الجنة، ثم يكون أدنى أهل الجنة منزلة -وليس فيهم دنيء- فيُعطَى مثل الدنيا عشرة مرات، ويقف على رأسه كل يوم ثلاث مائة من الولْدَان، ويُزَوَّج باثنتين وسبعين في الجنة -هذا أقلُّهم-!
يأخذ مدة، يخرج أول من النار ويبقى تحت النار، والحمد لله ما أحد أكبر نعمة منّي خرجت من النار، تمرُّ سنين،
- يقول: يا رب أريد منك طلب واحد ولا أطلب غيره. يقول: ماذا؟ قال: حَوِّل وجهي من النار هذه.. لا أريد أن أراها، ابعدني، يقول: لعلّك إن أعطيتك هذا تسألني غيره؟ قال: عليّ العهود والمواثيق لا أسألك غير هذا؛ فيُحوَّل وجهه إلى جهة الجنة،
- فيمكث ما شاء الله، يتحرَّك الشوق عنده؛ يقول: يا رب مسألة وحدة لا أسألك غيرها، ويحك يا ابن آدم! ما أغدرك، أما عاهدتني ألا تسألني شيء؟! قال: وحدة وحدة هذه فقط يا رب، بعدها ما أسألك أبداً -يمكن الطبيعة هذه المعجونة بالبشر باقية معهم.. سبحان الله! .. قرِّبني من الجنة قليلا، يقول له: لعلّك تسأل غيرها!؟ قال: لا ولك عليَّ العهود والمواثيق ألّا أسألك غيرها. اذهب ؛ فيقرَّبونه.
- وإذا قرّبوه صبر قليلا، زاد الشوق عليه، فهو الآن يشم رائحتها ويرى العجائب التي فيها، يقول: يا رب مسألة لا أسألك غيرها. يقول الله تعالى: ويحك ابن آدم! ما أغدرك ما أطمعك أمَا عاهدتني ألا تسألني غيرها!؟ قال: اجعلني على بابها -باب الجنة-، ويحك ما أغدرك لعلك تسألني، يقول: علي بالعهود والمواثيق ما أسألك غيرها،
- فإذا قرَّبه إلى عند الباب، صبرَ قليلَا ولكن زاد الشوق! يقول: يا رب لا أكون أشقى خلقك، أدخلنا وسط الباب، من داخلها، يقول الله: أترضى أن يكون لك في الجنة مثل مُلْك مَلِك في الدنيا؟ أووه يا رب نعم.. نعم يا رب. يقول: لك ذلك ومثله معه، ومثله معه، ومثله معه، أدخل فإنَّ لك في الجنة مثل الدنيا عشر مرات.
هذا أقلّهم منزلة! وأنت ستتحدَّث لي عن ماذا من هذا الموجود بين الناس؟ هذا هو الحديث عن الخبر الحق اليقين الصّدق؛ المستقبل الكبير!
يقول: يا رب وقد اقتسموه، فأين أحصِّل مثل الدنيا عشر مرات!؟ فقد دخل أهل الجنة من زمان واقتسموها وما فيها، يقول: ادخل.. فيدخل فيجد قصور وأنهار وأشجار يطوف يطوف يتفرَّج عليها ألف سنة حتى يكمِّل الدوران على هذا المُلك: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20] ، فقط هذا أقلّهم مُلْك.. أقل واحد فيهم!.
الله..! كيف الذي فوق؟ ماذا عند الصِّدِّيقين؟ ماذا عند المقربين؟ ماذا عند النبيين؟! ويأتي مسكين مغرور عنده بعض الرصيد في البنك ويضحك على الصِّدِّيق ويضحك على المقرب، يقول: مسكين.. ستعرف مَن المسكين! كما قال قوم ثمود -عن سيدنا صالح-: (كَذَّابٌ أَشِرٌ)، قال ربي: (سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر:25-26] انتم أم صالح؟ سَتَرون، الله الله..! وهكذا.
أقسم بالسماء:
- قال: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)) المطر الصَّبَّاب الذي يرجع مرة بعد أخرى، ويؤخذ مما يتبخّر من الأرض فيرجع إليها، وأحبّ العرب تسميته بـ "الرَّجْع" تفاؤلًا برجوعه، وهو يتكرَّر في السنة مرات ويرجع مرة بعد أخرى
- (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) ذات المطر الصَّبَّاب الذي يعود مرة بعد أخرى، ويُكَوَّنُ سُحُبُه من البُخَارَات الصاعدة من البحار والمحيطات وغيرها؛ فيرجع مرة ثانية إلى الأرض! (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) سبحان الله.
(وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)) الشَّقّ -التي أنتم عليها- تنشَقُّ لكم عن أنواع النبات والثمار، صغار وكبار، وعريضة وطويلة.. من وسط الأرض تنشق، تدفنونها وتغطّونها تترَبَّى وهي تشق الأرض
- (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) ثم أنها أيضاً تُصَدَّع؛ لاستخراج الماء ولاستخراج المعادن منها.
- (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) فيها عيون تتصدَّع وفيها تتفجر، وفيها وفيها.
ثم يأتي يوم القيامة والنفخة وتنشَقّ عمن فيها (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) [الزلزلة:2] تِتصَدَّع عن كُلِّ ما فيها من الكنوز والأجسام التي دخلتها؛ بعد أن تُكَوَّن ما بين النفختين تُرَدُّ الأجسام كلّها!.
- وتلك الأجسام لو اجتمعت في زمن ما وسعتها الأرض؛ لكن في ذاك اليوم وقد مُدَّت الأرض مَدَّا وانبسطَت وهُيِّئت لهم ولا عاد جبل ولا بحر.. تجتمع كل الأجساد..! كل الأجساد التي عاشت في الحياة -ولو لحظة- ترجع في ذاك الوقت، ما بين النفختين؛ النفخة الأولى يَصعَق مَن في السماوات والأرض.
- يُمطِرُ -الحق تعالى- مطر من السماء يغوص في الأرض لا يصل إلى عند عجب الذَّنَب من كل حيوان إلا عاد الجسد الذي كان عليه.
- أمَّا الأجساد التي لم تأكلها الأرض فهي في مكانها! والتي أكلتها الأرض تعود نابتةً من هذه البذْرَة الصغيرة -عجَب الذَّنَب- فيعود نفس الجسد على الهيئة التي مات عليها، ملايين الأجساد! في البقعة الصغيرة ملايين تطلع؛ فالأرض تتصدَّع عنها ترمي بها إلى الأرض؛
- فإذا تَصَدَّعت عن الأرض وأحيى الله إسرافيل "قم انفخ في الصور مرة أخرى" ينفخ، تطير الأرواح.. كل روح تعرف جسدها تماماً.
الناس في الدنيا يعرفون الآن في عصرنا: الشرائح يضعها في المحل الفلاني وتأتي القذيفة تعرفها، وتبحث عنها في أي مكان.. حتى في البئر تنزل لها! الأرواح تطير كل واحدة تعرف جسدها تماما.. ما في غلط؛
- تدخل كل روح في جسدها (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ) [القمر:7]، شاهد الجراد لمَّا يُقبِل يملي لك الفضاء..! وهؤلاء يخرجون من القبور هكذا (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ) الله!.
- ومع ذلك كله وطول الأرض وعرضها ودكدكة الجبال وانفجار البحار؛ زحمة، حتى يكون فوق القدم ألف قدم!
- والمُوَفّقين والمُقَرَّبين قد النجايب عندهم، عندما تثور أجسادهم وتنشق عنهم الأرض، يقول النجايب: اتفضّل اركب، ويطلِّعونه إلى ظل العرش (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا) [مريم:85]، والوفد راكب يأتون به.. تُرسَل لهم النجايب يركبون عليها، فيقوم عند انشقاق الأرض عمن فيها فيجد النجيب أمامه عنده
- يقول: تفضّل هذا عملك وما عملته والآن قُم وفدك إلى ربك اركب: (نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا) [مريم:85-86].
- عند اقتراب الساعة تخرج هذه النار، ومن جملتها من عدن، ومن جملتها من حضرموت من وادي برهوت، نار كبيرة.. والناس يهربون منها، وهي تمشي وراءهم وتمشّيهم إلى جهة أرض المحشر، إلى جهة فلسطين، وتظل معهم حيث ظلّوا وتَقِيل حيث قالوا، وراءهم ويمشون وهي تمشي وراءهم؛ تحشر الناس، هذا من أواخر علامات القيامة التي تكون في آخر الزمان، لا إله إلا الله.. سبحان المَلِك..!
ويقول: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ) ما حدّثتُكم به وأخبرتُكُم على لسان نبيّي (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) حَقٌّ يَفصِلُ بين الحق والباطل، (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)) مقطوعٌ به يقين؛ لا مرية ولا ريب.
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)) حَقٌّ فاصلٌ بين الحقِّ والباطلِ
- (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)) ما فيه ضحك، وما فيه لعب، ما فيه هزوء،جدّ، بيان بجد، ما نزل القرآن بلعب.. ولا بضحك.
- (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) وهنا يذوب كُلُّ قول يخالف هذا القول – كائنا ممن كان- وكل فكرة، وكل نظرية، وكل بحث، وكل تحليل.. هذا الذي يبقى وحده.
(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ)، يقول الله فيما يعيش عليه الناس على ظهر الأرض: (إِنَّهُمْ) معاشر الذين أُبتلوا بالكفر وتكذيب الأنبياء -في كل زمان- من أمثال قريش الذين آذوا النبي (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15))؛
- ساعة يتحدّون، وساعة يُشَكِّكون، وساعة يَسُبُّون، ويشتمون،
- وساعة يتجمّعون يتآمرون ويخططون،
- ساعة يقولون ساحر، ساعة يقولون مجنون، ساعة يقولون كذّاب،
- ساعة يقولون: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31]،
- ساعة يقولون: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص:5]،
وشيء من التَّشكِيكات وإرادة الرَّبكَة، ويُرسِلون أتباعهم يقفون على طرق مكة على الداخلين إلى مكة، ويقولون: يوجد هنا واحد ساحر لا تصدِّقوه يُفرّق بين المرء وأخيه وأبيه احذروا منه، وساعة يجتمعون في دار الندوة، ويقولون: نقتله وتنشأ حرب بيننا، نحبسه؛ يأتون جماعته يفكّونه، نُخَرِّجه من البلاد؛ له حلاوة في المَنطِق وحُسُن خُلُق فسيتبعونه ناس وسيرجع ويأتي ليقاتلنا.. ماذا نعمل؟! أبو جهل يقول: عشرة مُفَرَّقِين من قبائل قريش، كُلُّ شاب من قبيلة، يسنّون سيوفهم ويجتمعون عليه، يضربونه ضربة رجل واحد فيتفرَّق دمه في القبائل.. عشر قبائل لن يقدروا! جماعته بني عبد المطلب لن يستطيعوا أن يقاتلوا العشر قبائل! يطلبون دِيَّته نعطيهم دِيَّته ونَخلَص منه.. صفّق الخبيث -هذا إبليس- قال: هذا هو الرأي.. هذا هو الرأي، وأنزل (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال:30].
وهذا التصفيق الذي يُمثِّله كثير من التصفيقات اليوم هنا وهناك، يُصَلِّحون خطط كخطة إبليس هكذا.. نفس التفكير! يريدون يكيدون للدين والحق والهدى.. ونفَّذوا خطتهم، والحقُّ أوحى إلى نبيه قال: اجعلهم يُكَمِّلوا تنفيذ الخطة، لا تخرج، فهم مقررين الليلة، قد أعدّوا الشباب، وأعدّوا لهم السيوف والليلة يأتون الى بيتك، وأنت الليلة ابقَ في البيت.. يكملوا الخطة إلى النهاية.. وتفشل؛ حتى لا يقولون لو كان ما هرب ما عرفنا، ولو كان كذا سننجح؛ اعملوا كلّ الذي عندكم انظروا من ينجح؟ أكملوا الخطة.. أوحى الله إليه؛ امشِ الآن قبل أن يأتوا إلى عند البيت.. امشِ اخرج لك اذهب مافي.. ارجع إلى وسط البيت، ابقى وسط البيت واتركهم يحيطون بالبيت العشرة حسب الخطة، وفي الوقت الذي نقول لك: أخرج؛ اخرج، مرحبا، وجلس وسط البيت وجاءوا، يدخل عنده -سيدنا علي- يقول له: هذه أمانة فلان أعطه، هذه أمانة فلانة أعطه؛ ودائع عنده، يقاتلونه ويضعون ودائعهم الغالية عنده؛ لأنه الأمين! هم يعرفون هذا.
ومع ذلك..! كلَّف سيدنا علي ليؤدي الودائع عنه بعده، وقال: له نَمْ في موضعي تغطَّى ببردتي، ولن يَخلُص إليك منهم شر… ثم رُدَّ الودائع وإلحق بي، وفي الظهر رتَّب مع -سيدنا أبوبكر- جاء وقت الهاجرة، وقال له: سيكون خروجي في الليل، وأنا سأرجع إلى البيت والجماعة سيحيطون بالبيت وأنا سأخرج بعد ذلك، فانتظرني في وقت كذا، وبقي وسط البيت منتظر والشبّان جاءوا وكل شيء، ونزل الأمر، الآن اخرج.. بسم الله، خَرَج.
في لحظة خروجه من البيت، النوم أُرسِل إلى عيون العشرة كلهم، أكبّوا رؤوسهم بين أرجلهم.. لحظة! فتح الباب ونظر إلى العشرة بسيوفهم مُنَكَّسة رؤوسهم.. كان مقتضى البشرية فرصة فرصة اذهب.. اذهب؛ وقف يقرأ: (يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [يس:1-9]، أخذ التراب ووضع فوق رأس هذا، ووضع فوق رأس هذا، و فوق رأس هذا، ما الثقة هذه؟ مااليقين هذا؟ ما الطمأنينة؟! تضع التراب! سينتبهون ويقومون ويضربوك، يقتلوك!.. أبدًا، وضع التراب فوق هذا، حتى دار على العشرة كلّهم، ومشى..!
وهناك أبو بكر منتظر، جاء إلى عند بيت أبي بكر فخرج أبوبكر، وأقبل أبو جهل، وسيدنا أبوبكر يرى أبا جهل يقول: يا رسول الله! قال: دَعُه، فإذا خاطبك؛ فخاطبه فإنه يراك ولا يراني، وصل: يا أبا بكر أين صاحبك؟ -والنبي جنبه ولا يراه- وكلّمه سيدنا أبوبكر والنبي بجانبه ولا يراه..! ومشى.
وأبوبكر مشى مع النبي ﷺ وإلى غار ثور، طلعوا ذاك المطلع في الغار.. صعب! الآن مع تمهيده صعب طلوعه! كان من دون تمهيد! والآن يستغرق ساعتين! -لمَّا طلعنا مرة قبل سنوات -سنتين- من الأرض لمَّا وصلنا إلى الغار فوق، بعض الشباب معنا، يقول: أول مرة وآخر مرة، وهو في أثناء الطريق- قلت له: أسماء بنت أبي بكر تطلع كل ليلة وما قالت: أول مرة، آخر مرة!. هل رأيت؟! بيت الجهاد بيت الصِّدِّيق؟! بيت الجهاد! ولده عبدالله يأتي كل ليلة، وبنته أسماء تأتي كل ليلة وهي حامل، فيها حمل في بطنها! وحاملة الطعام! تحمل الطعام تُوَصِّله إليهم! الثلاث الليالي، كلّ ليلة تطلع -والطريق غير ممهَّدة-.
واليوم الرابع جاءت من أجل توديعهم، وما وجدوا حبل يشدّون به المتاع، خَرَّجت النِّطاق وقسّمته اثنين وسُمِّيت "ذات النطاقين" -وهي حامل-! ومشوا.. ثم هاجرت وهي حامل من ورائهم، وصلت المدينة كان أول مولود للمهاجرين هو الذي في بطنها -عبدالله بن الزبير- أول مولود للمهاجرين، ومرَّت السنين.. ولمَّا أَلِفَت الجهاد جاءت حَجَّة الوداع؛ خرجت وهي حامل! والنبي لايزال عند أطراف المدينة، أول المراحل في ذو الحليفة ولدت، ومشت هي وولدها، وهي نفاس، مشت إلى الحج! بيت جهاد هذا! بيت جهاد، سبحان الله.
يقول تبارك وتعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16))، وماذا بعد ذلك؟ وبعد ذلك خطتهم ام تنجح، ما أيقظ الشُّبّان إلّا حرّ الشمس! كلّ واحد يفتح عينه، هرب محمد! أين محمد؟ نظروا من شق الباب، فقالوا؛ لا لا، فَزِع فهو نائم، إنه مغطى ببردته، لازال في مكانه ببرْدته، -وإنما هو سيدنا علي- رموه ببعض الحجارة تحرَّك، قالوا: ليست حركة محمد.. هجموا على البيت رأوا سيدنا علي، أين محمد! قال: أين محمد؟ جاء بعض الأعراب كان مارًا في الليل ورآه يضع التراب فوق رؤوسهم فقال: ما لكم؟ قالوا: نريد محمد! محمد؟ ويحكم! وضع التراب فوق رؤوسكم! كل واحد يقول بيده كذا، يحصَّل التراب، قال: ويحكم أنتم لعَّابين انتم مجانين قد مرّ من فوقكم، ورأيته يحثو التراب فوق رؤوسكم! وانتشر الخبر.. دوِّروا وابحثوا، دوَّروا وبحثوا.
اسمع، دعْهم يتصلون بكبار الباحثين فيهم والأضداد إلى فوق الغار.. دعهم يأتون، وكان يقدر يصرفهم ويبعّدهم بعيد ولا أحد يقدر، ولكن اجعلهم يأتون إلى هنا، وينظرون؛ مَن الفاشل ومَن الناجح؟!
وصلوا إلى عند الغار؛ الغار منخفض؛ محل الجلوس منخفض، وسيدنا أبوبكر يرى أقدامهم ويسمع أصواتهم: رسول الله، لو نظر أحدهم موضع قدمه؛ لرآنا! .. تبسَّم النبي: "يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا"، وأبوبكر يقول: رسول الله، إن أَهلكَ فإننا إلّا -ابن أبي قحافة- رجل؛ ولكن إن تهلك تهلك الأمة من بعدك! "لا تحزن إن الله معنا" في نفس اللحظة، العنكبوت نَسَجَت على فم الغار، والحمام جاء عند الغار، وبعد ذلك يسمعون.. قال بعضهم: ربما أنهم وسط هذا الغار -وهم يسمعون داخل- عُقبَة بن أبي عتبة من أكبر الألدَّاء هذا-: يا مجنون! وسط الغار؟ أما ترى العنكبوت؟ هذا أقدم من ميلاد محمد هذا العنكبوت، أبله! امشوا لا يفوتكم امشوا.. مشَّاهم ورجعوا، حتى فوق الغار وصلوا.. الله أكبر! لكن الله مع نبيه.
بعد الثلاث الأيام وسَكَن الطَّلَب؛ خرج النبي من الغار، ومشى في طريقه.. وجلس أيام ﷺ، والطريق غير معتاد، يطلعون في جبل ينزلون محل.. بين الحجر يعدِّي في الصحراء، يجوع ويظمأ، يبحث له سيدنا أبو بكر شيء… يرى حجرة عندها ظل أو تحت الشجرة، يقول: رسول الله تجلس هنا، يبحث عن لبن، عن كِسرة.. أي حاجة يأتي بها للنبي ﷺ، أيام مرت عليهم في الطريق.
حتى وصل الى المدينة، كان وقت الظهيرة نازل على قباء.. والصحابة قد رجعوا إلى بيوتهم كانوا ينتظرون من الصباح، كل يوم يأتون إلى وقت الظهر يرجعون، رجعوا إلى بيوتهم وواحد في السَّطح من اليهود لمَّا رأى النور هذا؛ ما قدر يتمالك، يصيح من السَّطح : يا بني قَيْلَة هذا جدّكم -يعني حظكم ونصيبكم- هذا نبيكم.. سمعوا الصوت هرعوا إلى السلاح، وخرجوا نزلوا يستقبلونه وصاحبه أبوبكر ومعهم الدليل عبدالله بن أُريقط.. مرّوا في بعض البوادي يعرفون أبابكر من خلال بعض التجارة والأسفار.. قالوا: يا أبوبكر مَن هذا معك؟ .. يقول: هادٍ يهديني الطريق. يسكتون! .. هادٍ يهديني الطريق! يدلُّه على الطريق إلى ربِّه ﷺ.. هم يظنون أنه يريهم الطريق هذه، الجبال.. يقول لهم: هذا هادٍ يهديني الطريق.
(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16))، وهكذا حال الكفار في تلك المحاولات، وماعملوا بعد ذلك من متابعته وإيذائه؛ حتى تحزَّبوا في السنة الخامسة من بعد الهجرة، تحزَّبوا عشرة آلاف مقاتل وصلوا إلى المدينة، والخطة مبنيّة على الاستئصال هو وأصحابه لم يعد أحد يبقى، وجاءوا (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب:10-11].
والمنافقون يتكلمون يُصلِّحون كلام.. وكيف هذا؟ وكيف هذا؟.. والنبي في ثباته ﷺ ويُبَشِّر الصحابة عليهم الرضوان، وخطَّ الخطوط -هذا كان الخندق- عمقه في الأرض تسع أذرع والعرض أربعين ذراع، أضيق مكان فيه كان نحو الثلاثين -هذا الذي قفز فيه عمرو بن عبد ود- جاء يجري من الخيل وقفز مسافة ثلاثين ذراع إلى الشق الثاني قفزة واحدة؛ من قوة شجاعته.. وقتله سيدنا علي لما تقابل وإياه.
خط لهم خطوط يحفرون فيها، وأعطى كل مجموعة مكان يحفرونه -وهو الذي خط الخط بيده- فجماعة من الصحابة هناك كانوا جاءوا عند كُدْية من الأرض صعبة يدكّون يدكّون ما عَمِلَت فيها المعاول شيء، فقال بعضهم: نتقدَّم أو نتأخَّر؟ .. وقف الآخرون، قالوا: انظر الى الخط لا نتقدَّم ولا نتأخَّر هذا خط يخطه رسول الله… مكانك، نعمل؟ لم تؤثر فيها، يضربون يضربون، ما تحرَّكت..! كُدْيَة قوية، قالوا: نرجع إليه.. فرجعوا إليه ﷺ وأرسلوا إليه أنه اعترضتنا كُدية حيث خططتَّ لنا الخط وما عملتْ فيها المعاول، وقال للذي أبلغه: إني نازل.. خرج.. جاء إلى المكان، قالوا: هذه الكُدية يا رسول الله،
- قال: أعطني المِعول وحَمله وضَرب، ثلث الكدية تحوَّل إلى كثيب.. برقَت بَرْقَة منه عند الضربة، قال: الله أكبر! هذه قصور صنعاء تُفتَح،
- ضرب الضربة الثانية، فالثلث الثاني إنهال وصار كأنه كثيب بعد الشدَّة التي فيه، قال: الله أكبر هذه قصور الروم تُفتَح.
- والثالث مرة.. والباقي انتهى وبرقت برقة، وقال: هذه مدائن فارس تُفتَح لكم،
وازداد المؤمنين إيمان والمنافقين يقولوا: هذا! ما نقدر نحمي أنفسنا هنا وسط البلاد يُمَنِّينا بصنعاء وروم وفارس! هناك كيف هذا؟ كيف هذا ماذا؟ نريد أن نقضي الحاجة فقط، و نحن خائفين هناك -عندنا خوف-، وهذا يمنيهم بكذا! (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) [الأحزاب:12] (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب:22] وبعد أيام جلسوا ورجعوا خائبين، والخطة كلها فشلت (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)) الله الله الله!.
وإلى الآن؛ في حياته، وفي حياة الخلفاء الراشدين وفيمن بعدهم، حتى مع ضعف المسلمين وانتهاء الخلافة الراشدة وقيام المُلك العَضود والجبريّة التي نحن فيها اليوم أيضا، يُحاك للإسلام ويُضَاد ويُكاد.. وهو قائم.. والهدي قائم.. والصوت يُزَمجر في العالم؛ صوت زَيْن الوجود، وهدْيهِ ومنهاجهِ، ومثل هذه المجالس تُعقَد له على طريقته ومنهاجه، وما قدروا.. ما قدروا يُبيدون للإسلام ولا أهل الإسلام.. الله أكبر، ولن يقدروا على ذلك.
(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15))، يقول الله: (وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)) ما قال انتم يامَن آمن بي اذهبوا واعملوا كَيد كَكيْدهم، ولكن ماعليكم، دعْهم يكيدون، أنا الذي أكيد لكم.. الله أكبر! حتى يخاطب نبيه يقول: (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ ..(17)) لاتستعجل لهم كما قال له في الآيات الأخر، لا تستعجل لهم، لا بدعاء ولا بخطة ولا بترتيب.. اصبر قليلا؛ فكأنَّ الحق يُشير إلى أنَّ مع الرسول ﷺ قوَّة ووسائل ممكن يستعجل بها، قال: لا تستعجل اصبر اصبر، (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ) اصبر،
- وقال في الآية: (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم:84]. (وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ) الله أكبر..! لا تستعجل بدعوة ولا بغيرها.. عندي خطة كبيرة.
- (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم:84]
- (وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً..) [الأحقاف:35] هم وحياتهم هذه كلها ما تساوي شيء.
(فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)) قليلا قليلا، لن يطول أمدهم، والأعمار قصيرة والدنيا كلها قصيرة (رُوَيْدًا) قليلاً، قليلاً.. (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) أي قليلاً،
- وإذا جاءت "رويدا" من قَبَل "أمهلهم" فمعناها: تمهَّل،
- لكن إذا قال: (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) يعني: قليلا، (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)، أمَّا "رويدا رويدا" أي: تمهَّل تمهل، "أمهلهم رويدا" يعني قليلا.
(فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) وهكذا.. الكافرين كلهم في أيِّ وقت وأيِّ زمان؛ كل الكائدين للإسلام -بمختلف كيدهم- (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15)) والجبار من فوقنا يقول: (وَأَكِيدُ كَيْدًا(16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا(17)) خططُهم فاشلة، والأمر راجع عليهم، والذي يهربون منه وما يريدون تشويهه من الإسلام يظهر في ديارهم، ويقوم في بلدانهم وينتشر على رغم أنوفهم.. وهكذا شأن الجبَّار في هذه الأطوار، ولكن الناس يغترّون بزمجرة الكفار وما ينشرون ويَدَّعون الأباطيل.. مافي تحتها مافي تحتها، الحكم ليس لهم والأمر ليس لهم، ورب السماء والأرض لا سيَّبَ السماء ولا سيَّبَ الأرض، ولا وَكَّل غيره يلعب بها.. أبدا؛ هو الحاكم فيها؛ ولكن مقادير تجري من لدُنْ مقْتدر جلَّ جلاله؛
- لــ (يَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) [الأنفال:42]
- (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ) [الأنفال:37]
- (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد:4-6].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ) (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ)، فما الذي حصل؟ (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا). الذين نَاوَءوا وعَادوا ومَكَروا مع الأنبياء السابقين والرسل السابقين، ماذا عملنا بهم؟ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) [محمد:7-10]، كما قال في فرعون: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137]، (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) -في أي زمن- (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا).
ماهي الحكمة في هذا التسيير العجيب الذي يغيب عنه الأذهان ولا يكون إلا هو؟ (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ) [محمد:11]، وبعد ذلك فالنتيجة، لم يعد هو هذا الأمر الحاصل في الدنيا، فكله ينقضي؛ قال: والنتيجة مقبلة؛
- (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) -هذه النتيجة الكبيرة-.
- (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ * وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) [محمد:11-13].
فما هي الحقيقة يا رب ومن الفائز في هذه الحياة؟! (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم) [محمد:14] فأنت؛
- إمَّا تكون على بيّنة من ربك،
- أوتريد أن تلحق بالذين زُيِّن لهم سوء عملهم،
انظر إليهم كثير-مليان- في الدنيا؛ اتجاهات وأحزاب في بلاد المسلمين وبلاد الكفار (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) عمل سيء لكنه يراهُ ممتاز! (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم) والله ما يستوون..
اجعلنا على بيِّنَةٍ منك يا رب؛ في مقاصدنا ونيَّاتنا، وأقوالنا وأفعالنا، وفي ما تختم به رمضاننا هذا، وفي ما تصلح به أحوالنا وأحوال المسلمين.
اللهم فرِّج كروب أهل "لا إله إلا الله"، وادفع السوء والشر عن أهل "لا إله إلا الله"، واجمع شمل أهل "لا إله إلا الله"، واجمع قلوب أهل "لا إله إلا الله" على حقيقة "لا إله إلا الله"، وعلى مقتضى "لا إله إلا الله محمد رسول الله". اللهم رُدَّ كيد الكافرين في نحورهم، ولا تُبَلِّغهم مرادًا فينا، ولا في ديارنا، ولا في أهلينا، ولا في أولادنا، ولا في أخلاقنا، ولا في أدياننا، ولا في أراضينا، اللهم اقطعهم وامنعهم واردعهم بما شئت كيف شئت، وأيِّد أهل الحق والهدى بتأييدك الأكبر واجعلنا في خواصِّ أنصار حبيبك خير البشر في ما بطَن وفي ما ظهر بكل ما أوتينا على الوجه الأحب إليك والأرضى لك وله في عافية.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي محمد
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه
10 رَمضان 1437